{الحمدُ للهِ الملك العلَّام، القدوس السَّلام، وصلَّى الله وسلَّم على خيرِ من صلَّى وصَام، وتعبَّد وقام، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاةٍ وأتم سلامٍ.
ثم أمَّا بعد، فنرحبُ بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في المجلس الرابع من مجالس شرح (أخصر المختصرات) مع فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
حياكَ الله أهلا وسهلًا.
{أستأذنكم بالبداءة بالقراءة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ دُخُولُ خَلَاءٍ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامٌ فِيهِ بِلَا حَاجَةٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فأسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجنِّبنا الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، وأن يحفظَ علينا ديننا ودنيانا، ونسأل الله العفو والعافية لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا في أحكام الاستنجاء والاستجمار، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- قد ذكر حكم الاستنجاء ثم أردف ذلك بآداب دخول الخلاء، فبعدَ أن ذكرَ المستحبات عقَّب بما يُكره للإنسان حال دخوله للخلاء، فقال: (وَكُرِهَ دُخُولُ خَلَاءٍ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى)؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- يقول: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، وكان النبي ﷺ «إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ»[1]، كما جاء في بعض الأحاديث، ونقش خاتم النبي "محمد رسول الله" ﷺ، واستأنس بهذا أهل العلم في الاستدلال على ذلك، ودلائل الشريعة دالَّة على تعظيم الله وتعظيم ذكره، فتُنزَّه عنه تلك الأماكن، ويُتقى ذكره فيها.
قال: (وَكَلَامٌ فِيهِ بِلَا حَاجَةٍ) لا ينبغي للإنسان أن يتكلم حال قضاء الحاجة، ولذلك النبي ﷺ لَمَّا سُلّم عليه وهو يقضي الحاجة مع أنَّ رد السلام واجب؛ لم يرد حتى إذا انتهى ردَّ عليه كما في حديث جابر، فدلَّ ذلك على أنَّ الكلام فيما سواه من باب أولى ألا يُفعل؛ ولأنَّ ذلك مما ينافي كمال المروءات، يعني: أن يتحدَّث الإنسان حالَ قضائه للحاجة، وهذا معلوم معروف عند الناس أنه لا يكاد يتكلم بذلك مَن يُعرف بمروءته وكمال رجولته، وجاء في بعض الأحاديث لَمّا ذكر الرجلين يخرجان إلى الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان قال: «فإنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يمقُتُ على ذلِكَ»[2]، كان المقت متعلِّقٌ بمجموع الأمر وهو انكشاف العورة، لكن أيضًا الحديث مما هو محل للعيب وأن يُعاب على فعله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَفْعُ ثَوْبٍ قَبْلَ دُنُوٍّ مِنَ الْأَرْضِ، وَبَوْلٌ فِي شَقٍّ وَنَحْوِهِ)}.
من المعلوم أنَّ ستر العورة واجب، ولا يعرِّض الإنسانُ عورته للانكشاف، فإنَّ ذلك من أعظم ما يكون من الإثم، وجاء في بعض روايات الحديث في تعذيب الرجلين، قال: «كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ»[3]، والاستتار هنا إمَّا أن يحمل على انكشاف العورة كما هو نهج بعض أهل العلم من المحدثين، وبعضهم قال: إن "الاستتار" بمعنى التنزُّه من النجاسة، بمعنى أنه يعود إليه بوله فلا يطهره.
فعلى كل حال؛ فإنَّ رفع الثوب قبل قضاء الحاجة مدعاةٌ لانكشاف العورة بلا حاجة، فكان ذلك مكروهًا، أمَّا لو كان يعلم رؤية الناس له فذلك محرَّم، ولا يجوز لعدم حاجته إلى الاستعجال برفع ثوبه في تلك الحال.
والثوب: اسم لكل ما يُلبس، سواء كان سراويلًا أو إزارًا أو بنطالًا أو كان قميصًا -الذي يسميه الناس اليوم ثوب- أو غيره.
والمقصود هنا: الثوب الذي يلي العورة ويحصل به انكشاف العورة، أما إذا كان يرفعُ ثوبًا وتحته ثوبٌ آخر فهذا لا يدخل في الكراهة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبَوْلٌ فِي شَقٍّ وَنَحْوِهِ)}.
البول في الشَّق مدعاة لإيذاء هذه الدواب، ومدعاة لحصول الأذى عليه، فربما خرجت منه هذه القوارص ونحوها، فكان منهيًّا عن ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَسُّ فَرْجٍ بِيَمِينٍ بِلَا حَاجَةٍ)}.
إذا مسَّ الإنسان فرجه بيمينه فهذا تقذير لليمين، واليمين حقها التكريم وأن تُنزَّه عن ذلك، لكن لو احتاج إليه كما لو كان بيده اليسرى عارض كجرح ونحوه، أو احتاج إلى ذلك لئلَّا تتنجَّس ثيابه؛ فإذا احتاج إليه ارتفعت الكراهة، ولكن من حيث الأصل ينبغي أن لا يمس ذكره -أو فرجه- بيمينه؛ لأنها محل للتكريم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاسْتِقْبَالُ النَّيِّرَيْنِ)}.
النيرين: الشمس والقمر، وهذا ذكره الفقهاء، أنَّ استقبالهما منهي عنه لِمَا فيهما من نور الله -جَلَّ وَعَلَا، وهذا فيه نظر! خاصَّة إذا جاءنا بعد ذلك عدم استقبال القبلة واستدبارها، فقد يكون تركُ استقبالها استقبالٌ للشمس والقمر، فلا يخلو من ذلك، فينبغي أن يُعلَم أن هذا ذكره بعض الفقهاء اجتهادًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ اسْتِقْبَالُ قِبْلَةٍ وَاسْتِدْبَارُهَا فِي غَيْرِ بُنْيَانٍ، وَلُبْثٌ فَوْقَ الْحَاجَةِ)}.
استقبال القبلة واستدبارها قد جاءت الأحاديث في النهي عنه، قال ﷺ: «إذَا أتَيْتُمُ الغَائِطَ فلا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ، ولَا تَسْتَدْبِرُوهَ»[4]، ولَمَّا رَقَىَ عبد الله بن عمر على بيت حفصة قال: "رأيته قبل أن يموت يستدبرها"، فجمع أهل العلم في ذلك فقالوا: إنَّ محلَّ هذا هو في الفضاء، بمعنى أنه إذا لم يكن ثمَّ حائلٌ، أمَّا إذا كان في البينان فلا يكون فيه غضاضة ولا حرج، وإذا كان في الخارج -يعني غير البنيان- لكن حال دونه حائلٌ كجبلٍ أو صخرةٍ أو شجرةٍ، أو أرخى ثوبًا، أو استتر بدابته -كما جاء عن ابن عمر- فيرتفع المنع والتحريم من ذلك جمعًا بين الأدلة وتوفيقًا بين النصوص المتعارضة في هذا، وهي كثيرةٌ جدًّا، ولكن ليس هذا محل ذكرها وبسطها، هذا في دراسة الحديث، لكن هذا هو أقرب ما يكون الجمع فيه بين عمومات الأدلة.
يأتي على هذا ما جاء في حديث أبي أيوب، قال: (فقَدِمْنا الشَّامَ فوَجَدْنا مَراحيضَ قد بُنيَتْ قِبَلَ القِبلةِ، فكُنَّا نَنحَرِفُ عنها ونَستَغفِرُ اللهَ)، فظاهر هذا أنه كان في البنيان.
فقد يقال: إنَّ ذلك على سبيل التوقي والتورع، وقد يكون ذلك رأيًا لبعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم- فإذا تعارضت أقوال الصحابة ففيه سعة في القول هنا أو هناك باعتباره أنه جاء عن ابن عمر ما ذكرناه.
قال: (وَلُبْثٌ فَوْقَ الْحَاجَةِ)؛ لأنَّ هذا مدعاة لحصول الضرر على الإنسان في بدنه، وأيضًا انكشاف عورته بلا حاجة وتعريض لها للرؤية ونحوه، فلأجل ذلك منعوا منه.
قد يكون التحريم في هذا شديدًا لكنه محمول على تحقق حصول الأذى من جهة حصول بعض الأمراض يورثها طول البقاء بغير حاجة، وأيضًا إذا كان في الفضاء فتعريضٌ لانكشاف عورته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبَوْلٌ فِي طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ وَنَحْوِهِ وَتَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ ثَمَرًا مَقْصُودً)}.
هذا تقذيرٌ وتنجيسٌ على المسلمين، وتعريضٌ لهم للنَّجاسات وهذا لا يجوز، ولذلك جاء في الحديث أنَّ النبي ﷺ قال: «اتقوا اللَّعَّانَيْن، قالوا: وما اللَّعَّانَانِ يا رسول الله؟ قال: الذي يَتَخَلَّى في طريق الناس، أو في ظِلِّهم»[5]، فالطَّريق المسلوك لا يجوز البول فيه لئلا يعرض الناس إلى النجاسات.
قال: (وَنَحْوِهِ) يعني فيما كان ما ينتفع منه الناس فهو مثل: الطريق المسلوكة، ولذلك قال: (وَتَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ ثَمَرًا مَقْصُودً)، إذا كان الظل الذي الحاجة إليه أقل من الحاجة إلى الثمار، فمن باب أولى أن يكون الشجر المثمر يمنع من قضاء الحاجة تحتها؛ لأنها عرضة إلى سقوط الثمر، وجرت عادة الناس بالتقاطه فإذا وجدت النجاسات فإنها تقذرها عليهم وتفسد انتفاعهم بها، فكان ذلك ممنوعًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ اسْتِجْمَارٌ ثُمَّ اسْتِنْجَاءٌ بِمَاءٍ)}.
الاستنجاء: يطلق على الاستنجاء بالماء.
والاستجمار: استعمال الحجارة في قطع النجاسة.
فإذًا إمَّا استنجاءً -وهو قطع النجاسة بالماء- وإمَّا استجمارًا -وهو قطع النجاسة بالحجارة وما في معناها من خرق ونحوها- ويعبَّر عن هذا وهذا بأحد التَّعبيرين، فإذا حصل أحدهما فحصل المقصود والواجب، استجمر الإنسان بالحجارة أو بالمناديل أو بالخرق واستكمل ما يطلب استكماله على ما سيأتي من الشروط؛ حصل له النقاء الطهارة وجاز له الوضوء واستكملَ الأمر، أو استعمل الماء، فإذا استجمع الأمرين جميعًا -استعمل الحجارة ثم الماء- كان ذلك أكمل وأتم، فإن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالت لنساء الصحابة: "مروا أزواجكن أن يتبعوا الحجارة بالماء فإن النبي ﷺ كان يفعله"، ولأنَّ هذا أنقى بكل حال، وإذا كان يجمع بينهما فيبدأ بالحجارة لأن الماء يكون به تما النقاء وكمال الطهارة، والعكس لا يحصل به ذلك، فلو استعمل الماء ثم الحجارة فقد يُبقي بعض القذر من ترابٍ أو نحوه، وقد تبقى معه بعض نجاسةٍ أو سواها، فلأجل ذلك يجوزُ استعمال الحجارة ويجوز استعمال الماء، وإن اقتصرَ على أحدهما فالماء أفضل، وإن جمعَ بينهما فهو الأفضل ويبدأ بالحجارة ثم الماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَ)}.
أن يقتصر على الاستجمار مع اكتمال شروطه، أو أن يقتصر على الماء أيضًا بشرطه، لكن الماء أفضل لأن النقاء يكون به أتم بكل حال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا يَصِحُّ اسْتِجْمَارٌ إِلَّا بِطَاهِرٍ مُبَاحٍ يَابِسٍ مُنْقٍ)}.
الاستجمار لا يصح إلا بطاهر، فلو استجمر بنجاسة فلا، مثل: روث الحمار، فهذا نجس.
وأن يكون مُباحًا، فلو استجمر بحجارة مغصوبة لم يجز الاستجمار بها، أو كانت روثًا لِمَأكول لحم، فإنَّ النبي ﷺ نهى عن ذلك فلا يُباح لأجل أنه طعام الجن. فإذًا لابد أن يكون مباحًا.
وأن يكون يابسًا، أمَّا لو كان رطبًا فلا يحصل به التنقية، بل قد يكون سببًا لزيادة النجاسة وانتشارها، ويعبر بعضهم بـ "الجامد"؛ لأنه قد يُفهم من يابس أنَّ الخرق أو المناديل لا تنفع، لا، فالفقهاء نصُّوا على الخرق، والمناديل وما في معنى الخرق، وأن تكون "منقية" أي: يحصل بها الإنقاء، بعض الأشياء التي فيها نعومة تامَّة كزجاج أو نحوه إذا استُعمل على وجهه -يعني ليس بحده أو نحوه- فقد لا يحصل به التطهير، فإذا لم يكن به إنقاء فلا يصح به استجمارٌ كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ بِرَوَثٍ وَعَظْمٍ وَطَعَامٍ وَذِي حُرْمَةٍ وَمُتَّصِلٍ بِحَيَوَانٍ)}.
قوله: (وَحَرُمَ بِرَوَثٍ)، لما ذكرنا من النهي كما في حديث سلمان وغيره، ومثل ذلك العظم فإنه طعام إخواننا من الجن، والطعام لحرمته ولكونه محترمًا، فهذه نِعم لا يجوز ابتذالها ولا تقذيرها بالنجاسات وتلويثها به.
قال: (وَذِي حُرْمَةٍ)، ككتاب علم، أو شيئًا مثل ذلك؛ فهذا لا شك أنه لا يجوز ابتذاله، وكثيرٌ من الناس لا يعظمون مثل هذه الأشياء، وكثيرٌ ما يلقونها في أماكن القاذورات ونحوها، أو يلعب بها الصبيان في الشوارع، وقد تُجعل أيضًا مكانًا يجمع به الزبل والقذر ويلقى وفيها من أسماء الله -جَلَّ وَعَلَا- وفيها من الأمور المعظَّمة ما هو تعريض للإنسان للحصول في المكروه، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
قال: (وَمُتَّصِلٍ بِحَيَوَانٍ)، لو كان ذيل حيوان أو شيء مما جعل عليه من سرج متدلٍ ونحوه؛ فلا يكون لأن في ذلك تقذير له وللحيوان، متصل به عند الحاجة إليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَشُرِطَ لَهُ عَدَمُ تَعَدِّي خَارِجٍ مَوْضِعَ الْعَادَةِ)}.
هذا الشرط للاستجمار، شرط الاستجمار: عدم تعدي خارج موضع العادة. لماذا؟
هذه مسألة دقيقة للغاية عند الفقهاء، الأصل عند الحنابلة كما هو قول الجمهور: أن النجاسات لا تزال إلا بالماء، وأنَّ الماء هو الذي له قوة على إزالة النجاسة، وأن إزالتها الحجارة ونحوها إنما هو مستثنًى في الخارج من السبيلين بخصوصه لمجيء الأدلة به، فيقولون يبقى ذلك لمحل السَّبيلين، فإذا تعدَّى الخارجُ موضع سبيلين كرجل به إسهال، فينتشر الخارج على صفحتي إليتيه فهذا كما لو كانت النجاسة على يده، وسيأتينا في باب إزالة النجاسة أنه لو كانت النجاسة على يد الإنسان أو في ظهره أو في طرفِ قدمه فلا يحصل التطهير بالماء، فيقولون: إنه إذا انتشر؛ انتهى حكم الاستجمار، فبناء على ذلك : يكون الاستجمار لمحل الخارج، وأمَّا ما زاد فلابد من غسله بالماء، فإمَّا أن يغسل الجميع بالماء، لكن كان في حال ضاق به الماء وليس معه إلا ماء قليل؛ فنقول: استجمر في محل السبيلين وما زاد فاغسله بالماء، فإذا كان يضطر إلى الماء فهذه مسألة أخرى، فيتخلى من النجاسة بقدر ما يستطيع، ويستفيد من الماء في بقاء حياته ونحو ذلك إن كان الأمر كذلك.
فإذًا هذه هي المسألة التي هو مبناها، فلا يأتي شخص ويقول: إنَّ إزالة النجاسة لا بد فيها من الماء، ثم يقول هنا: إنَّ هذا تصرف من الفقهاء حتى ولو تعدى، هذا لا يمكن! هذا قول مُتضارب مُتعارض!
أمَّا من يقول بجواز إزالة النجاسة بما زالت به كما هو قول الحنفية واختيار ابن تيمية؛ فيُمكن أن يقول هنا بجوازه حتى ولو تعدى الخارج موضع الحاجة، فيكون القول مُطردًا والقاعدة عنده منضبطة.
قال: (وَثَلَاثُ مَسَحَاتٍ مُنْقِيَةٍ فَأَكْثَرُ)، هذا بالنسبة للأذى، فلابد فيه من ثلاث، «أوْ أنْ نَسْتَنْجِيَ بأَقَلَّ مِن ثَلاثَةِ أحْجارٍ»[6]، حتى ولو حصل الإنقاء بواحدة، فلابد من ثلاث كما جاء في ذلك الحديث، وهذا هو مشهور المذهب، خلافًا لبعض الفقهاء الذين يقولون: إذا حصل الإنقاء بأقل من ذلك جاز.
أمَّا الغسل، فالحنابلة يقولون: سبع.
وهذا أيضًا من الإشكال! كيف الآن الماء الذي يحصل به التَّطهير أكثر يشترط فيه السبع! لأنهم يقولون هذا مستثنى، والمستثنى على ما جاء، لكن الحقيقة أن اشتراط السَّبع في الغسل بالماء محل بحث، فمتى ما زالت النجاسة بالماء حصل المقصود.
طيب ما الذي يحصل به الإنقاء؟ أو كيف يُحكم بحصول النقاء؟
يقول الفقهاء: إنَّ النقاء الذي يحكم به في الاستجمار أقل من النقاء الذي يحكم فيه في الماء، ففي الاستجمار إذا بقي أثر لا يزيله إلا الماء فيحكم بطهارة ذلك الموضع وصحَّة طهارته وصلاته.
وأما إذا كان بالماء فيقولون: عودُ خشونة المحلِّ كما كانت، يعني لابد أن تعود خشونة المحل كما كانت، وهذه معلومة لكل أحد بحسبه.
فعلى الأول الذي هو في الاستجمار: إذا بقي أثر لا يزيله إلا الماء، فيقولون: إنَّ هذه النجاسة الباقية الموضع معفو عنها، لكن لو تحرَّكت وجبت إزالتها كما لو أصابها عرق فتحركت فأحس بها على صفحتي إليتيه فيلزمه إزالتها، أو لصقت سراويله داخل إليتيه، فوجد فيها أثرًا، فإنه إذا وجد هذا الأثر وجب عليه غسله في تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يُسَنُّ السِّوَاكُ بِالْعُودِ كُلَّ وَقْتٍ، إِلَّا لِصَائِمٍ بَعْدَ الزَّوَالِ فَيُكْرَهُ)}.
هذا الفصل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- عقد في مكملات النظافة والطهارة ومستحباتها، والسواك من مستحبات الطهارة، فذكره وذكر معه بعضَ أشياء هي مكملة لهذا الباب.
فيقول: (يُسَنُّ السِّوَاكُ).
السواك: اسم للعود الذي يُستاك به.
يقول المؤلف: (يُسَنُّ السِّوَاكُ بِالْعُودِ)، فجعله مخصوصًا به، فما كان من تنقية للأسنان بالأصبع أو بخرقة أو نحوها، فعندهم أن هذه تنظيف لكنها لا تدخل في اسم المستحب الذي يتعلق به حكم الباب.
والسواك مأمور به، فالنبي ﷺ قال: «السِّواكُ مَطهَرةٌ للفمِ مَرضاةٌ للرَّبِّ»[7]، وجاءت في ذلك أحاديث كثيرة من فعل النبي ﷺ تدلُّ على استحبابه وفضله.
يقول: (يُسَنُّ السِّوَاكُ بِالْعُودِ كُلَّ وَقْتٍ)، لِما فيه من النقاء ولِما فيه من الطهارة ولِما فيه من الاستنان بالنبي ﷺ، فإنه كان يَستاك في كل أوقاته كما جاء ذلك في الأحاديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يُسَنُّ السِّوَاكُ بِالْعُودِ كُلَّ وَقْتٍ، إِلَّا لِصَائِمٍ بَعْدَ الزَّوَالِ فَيُكْرَهُ)}.
السواك بالفرشاة هل يعتبر من السواك أو لا؟
إذا قلنا: إن الفرشاة عود فهو صحيح؛ لأنهم لا يشترطون أن يكون من شجر السواك نفسه، فيقولون: من عرجون، أو من بعض الأشجار، فيمكن أن يقال: إن استعمال الفرشاة كذلك، فإذا زيد إليها المعجون فيكون تمام في النظافة؛ لأنه يمكن أن يستعمل الإنسان الفرشاة بدون ذلك فتكون مزيلة لِمَا علق من طعام أو لحم أو شيء من نحو ذلك مما ينبغي التخلص منه، وتُذهب النتن الذي ربما يورثه بالمكث والبقاء واللصوق بهذه الأسنان، فيمكن أن تلحق بذلك وتدخل فيه، وإن كان يعني اشتراطهم العود فيه شيء، لكن لا شك لو نظف الإنسان أسنانه مثلا بخرقة أو بغير ذلك فتدخل في عمومات التَّطهر والتَّنظُّف والتَّخلُّص من الأقذار، فيكون ذلك داخلًا في العمومات التي جاء الشرع بالأمر بها، فيثاب الإنسان على ذلك بقدر ما أصاب من السنة أو من النظافة والنقاء.
قال: (كُلَّ وَقْتٍ، إِلَّا لِصَائِمٍ بَعْدَ الزَّوَالِ)، الصائم قبل الزوال عند الحنابلة يستحبون له الأداء على الأصل، وأما بعد الزوال فلا، وأصل ذلك عندهم أنه جاء فيه الحديث: «استاكوا بالغداةِ، ولاتَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ»[8]، ويقولون: إنه من جهة المعنى أن النبي ﷺ قال: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ»[9]، فيقولون: إن الخلوف هذا طيب عند الله -جَلَّ وَعَلَا-، وأنه يخرج إذا جاع الإنسان، وهذا بعد الزوال في الغالب، فاستبقاؤه طيب ومطلوب.
هذا الحقيقة اجتهاد من الفقهاء، والحديث الذي ذُكر فيه التفريق محلُّ انتقادٍ للمحدثين، واستطابة الله -جَلَّ وَعَلَا- تليق بجلاله لخلوف فم الصائم عند حصولها، لكن ليس المطلوب من الإنسان أن يستدعيها أو أن يستبقيها، وجاء في الحديث: «رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَستاكُ وَهوَ صائمٌ»[10]، وهذا يدل على بقاء ذلك الحكم على الإطلاق، فبناء على ذلك لا يختلف هذا بين أن يكون قبل الغداة أو بعدها، وإن قيده مشهور المذهب بما قبل الزوال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ صَلَاةٍ وَنَحْوِهَا وَتَغَيُّرِ فَمٍ وَنَحْوِهِ)}.
يعني الاستحباب يكون مؤكدًا عند الصلاة، وذلك لأمرين:
أولهما: أن النبي ﷺ قال: «لَوْلَا أنْ أشُقَّ علَى أُمَّتي لَأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ مع كُلِّ صَلَاةٍ»[11]، يعني أمر إيجاب وإلا فالاستحباب ظاهر، والنبي ﷺ كان يستاك عند صلاته.
ثانيهما: لأن حال الصلاة حال كمال، فكلما كان الإنسان على حال أكمل كان ذلك أتم في أجره وثوابه، مثلا تهيؤه بثيابه، كما قال تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]، فكيف إذا كان بمحل يكثر فيه بقاء روائح أو ما قد يخرج مع لعابه أو مع قراءته من بعض فضلة طعامه التي لصقت بأسنانه، وكذلك هو محل الذكر الذي هو أخص ما يكون بأن يُطيَّب ويُنقى، فلأجل ذلك كان استحباب ذلك ظاهرًا.
قال: (وَتَغَيُّرِ فَمٍ)، وأصل هذا عند الحنابلة ظاهر من حديث حذيفة: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يَشُوصُ فَاهُ بالسِّوَاكِ»[12]، فالنوم هو أكثر ما يكون به تغير الفم، ويقاس عليه غيره، وجاء أيضًا ذلك في حديث عائشة -رضي الله عنها-، فإذا أبطأ الإنسان في السكوت مظنَّة تغيُّر رائحة فمه فيستحب السواك، إذا أكل ما قد ينبعث له رائحة ليست بجيدة فكذلك، وهكذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (ونحوه).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ بُدَاءَةٌ بِالْأَيْمَنِ فِيهِ، وَفِي طُهْرٍ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ)}.
يعني أن يبدأ من جانبه الأيمن، من ثناياه إلى أضراسه، والفقهاء عندهم أنه يمسك السواك بيساره، ونقل ابن تيمية الإجماع على ذلك، وفيه بعض كلام، لكن نُقل شيء من الاتفاق في مثل هذا.
قالوا: ويستاك عرضًا. يعني عرضًا بالنسبة الأسنان بالنسبة إلى الأسنان، لكن عند أهل الطب أن يستاكُ طولًا رافعًا خافضًا، وهذا خلاف وماذا الفقهاء -رحمهم الله- والمعتمدين على بعض الآثار هي محل للنظر.
قال: (بُدَاءَةٌ بِالْأَيْمَنِ)، لما قلنا إنه محل نقاء فالبداءة بالأيمن أكمل للأحاديث ولما ذكرنا من قول الإمام النووي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
قال: (وَفِي طُهْرٍ)، يعني إذا أراد الإنسان أن يغتسل أو أراد الإنسان أن ينقي أجزاءه فيبدأ باليمنى واليسرى، حتى في أذنيه، قالوا من أنه يمسح اليمنى قبل اليسرى.
قال: (وَشَأْنِهِ كُلِّهِ)، يعني مما محله التكريم طبعًا؛ لأنه سبق أن نبَّه على أنه ما ليس كذلك فإنه يبدأ بالشمال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَادِّهَانٌ غِبًّا، وَاكْتِحَالٌ وَاكْتِحَالٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثً)}.
الادهان: هو استعمال الدهن.
وقوله: (غبًّ)، يعني يومًا ويترك يومًا.
والمقصود في هذا: أن الإنسان يعتني بنفسه فلا يتشعَّث، ولا يصيبه شيءٌ من يعني التَّقذُّر، أو الأذى لجسده والجفاف أو غيره، فالشَّرع جاء بالأدهان غِبًّا، قال أهل العلم: لأنه لو ادهن كل يوم لكان فيه ترفه، والإنسان منهي عن زيادة الترفه، وقيل: اخشوشنوا فإن النِّعم لا تدوم، وترك ذلك أيضًا فيه شيء من إهمال النفس، ولنفسك عليك حقًّا، فطُلب ما يكون فيه زكاء النفس ونحوها.
فيقولون: هذا هو الأمر المعتدل.
قال أهل العلم: والمقصود بذلك أن الإنسان يفعل ما يحتاج إٍليه، فبعض الناس قد يحتاج إليه كل يوم لتشعُّث شعره، أو نوع مهنته وعمله، وبعضهم قد لا يحتاج ذلك إلا في أكثر من يومين أو نحوه، فمتى ما احتاج الإنسان إلى ذلك فعله، والمعتاد أن يكون ذلك غبًّا، يعني أن يفعل يومًا ويترك يومًا.
بعضهم قال: أن يفعل حالًا ويترك حالًا.
فعلى كل حال ضابط هذا: متى ما احتاج الإنسان إلى ذلك فعله، لا يزداد في الترفه ونحوه، ولا هو أيضًا الذي يهمل نفسه يتركها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاكْتِحَالٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثً)}.
جاء عن النبي ﷺ أنه كان يكتحل، واستحب ذلك فقهاء الحنابلة وبعض الفقهاء، وبعضهم يقول: إن محل ذلك مما يُعتاد فلا يكون مستحبًّا.
على كل حال؛ هذا جاءت به السنة، فإذا اكتحل الإنسان فقد فعل ما يُستحب، وإن احتاج إلى ذلك فإن هذا مما يتداوى به أيضًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَنَظَرٌ فِي مِرْآةٍ)}.
لماذا نظر في مرآة؟
ليتفقد نفسه، فما كان منه يحتاج إلى إصلاح أصلحه، وإذا كان فيه تشعُّث في شعره أو غيره انتبه له ورجع إليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَطَيُّبٌ، وَاسْتِحْدَادٌ وَحَفُّ شَارِبٍ وَتَقْلِيمُ ظُفُرٍ، وَنَتْفُ إِبِطٍ)}.
قوله: (وَتَطَيُّبٌ)، التَّطيب من الأمور العظيمة المسنونة، ويستحب للإنسان أن يتعاهد ذلك، والنبي ﷺ كان يحب الطيب، فقال: «حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ»[13]، وفي هذا أحاديث وآثار كثيرة.
قوله: (وَاسْتِحْدَادٌ)، الاستحداد هو: أخذ شعر العانة، وهو ما نبت حول القبل لذكر أو أنثى، فإن هذا الشَّعر مما يحصل به تقذير ونحوه، فكان إزالته مما يؤمر به، وهي من سنن الفطرة، والحنابلة ذكروا ذلك من المستحبات، وبعضهم ذكر أنه على سبيل اللزوم والوجوب إذا احتاج إليه.
قوله: (وَحَفُّ شَارِبٍ)، وهو مما يستحب، لئلا يطول شاربه فيقذِّر مشربه ومطعمه، وجاء ذلك في الحديث النبي ﷺ قال: «أَحْفُوا الشَّوارِبَ وأَعْفُوا اللِّحَى»[14].
وأمَّا إعفاء اللحى فواجب لازم، ولا يجوز للإنسان حلق لحيته، وأخذ ما زاد على القبضة جائزٌ، وإذا أخذ ما تطاير أو ما ندَّ فهذا لا بأس به ولا يعارض الإعفاء، كما هو مشهور قول الأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- لكن لا يحلق ذلك لئلَّا يقع في الممنوع والمحذور.
قال: (وَتَقْلِيمُ ظُفُرٍ)، تقليم الأظافر مما يستحب، وجاء فيه حديث أبي هريرة في سنن الفطرة، فيستحب للإنسان فعل ذلك، ويبدأ بيمناه ثم يسراه.
وللحنابلة -رحمهم الله تعالى- تفصيل غريبٌ في ذلك، يقولون: إنه يبدأ بالخنصر، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم السبابة.
مجموعة في "خواصب" الخاء: للخنصر. الواو: للوسطى، وهكذا...
ذكروا فيها تفصيلًا عجيبًا ولا أدري ما أصله!
قال: (وَنَتْفُ إِبِطٍ)، إزالة شعر الإبط مما تستحب ويؤمر بها.
والنتف في ذلك أتم، لأن هذا يضعف العروق ويمنع زيادتها وكثافتها.
لماذا لم يرد النتف في العانة.
قالوا: لأن ذلك يضر بالآلة بخلاف نتف الإبط فلا ضرر فيه، فينبغي مراعاة ذلك فيما يحتاج إليه، فإذا احتاج الإنسان إلى أخذها بما جدَّ الآلات ونحوها فحسن، مثل بعض المستحضرات التي تكون فيها إزالة تامَّة، ومثل ذلك أيضًا ما يحصل به الليزر، وقد انتشر الآن بطريق كثيرة ويستطيع الإنسان أن يستعمله بنفسه ولا شيء فيه ولا غضاضة في ذلك.
لو احتاج مع كشف عورته لغيره، فبعض أهل العلم يشدد في هذا، وهي محل بحث، ونحن نقولها على سبيل التعلم والمدارسة لا على سبيل الإفتاء والتقرير: أن ما مُنع لحاجة فإنه يباح لسبب ولحاجة، وهي محل بحث ونظر، والله تعالى أعلم في هذه المسألة وفي كل شيء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كُرِهَ قَزَعٌ وَنَتْفُ شَيْبٍ، وَثَقْبُ أُذُنِ صَبِيٍّ)}.
القزع: هو أن يُحلق بعض الشعر ويُترك بعضه، فهذا فيه من المثلة، فيحلقون الجانب ويتركون فوق الرأس، أو العكس بأن يترك الجوانب ويحلق الوسط، فكل ذلك من القَزع المنهي عنه، وفيه من المثلة، فلأجل ذلك كان مَكروها، والنبي ﷺ قال: «احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ»[15]، لمن رآه على مثل هذه الحال.
قال: (وَنَتْفُ شَيْبٍ)، نتف الشيب كذلك مما يكره، وجاء في بعض الآثار أن حجَّامًا كان يحجم النبي ﷺ فأهوى إلى شيبةٍ لينزعها فأمر النبي ﷺ بتركها وقال: «إنَّه نُورُ المُسْلِمِ»[16]، وجاء: «ومَن شابَ شَيبةً في الإسلامِ كانت لَهُ نورًا يومَ القيامةِ»[17]، أو كما جاء في الحديث، فاستبقاء ذلك حسنٌ مع تغيير الشيب، فإن النبي ﷺ قال: «إنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ»[18]، وكره بعض أهل العلم أن يكون ذلك بالسواد، وبعضهم حمله على التَّحريم، والخلاف في ذلك راجع إلى قوله ﷺ: «وجَنِّبوه السَّوادَ»[19] هل هي مرفوعة إلى النبي ﷺ؟ أم أنها ليست كذلك؟ وإذا لم يكن فيه غش فالأمر في ذلك محل بحث، أمَّا إذا كان فيه غش وخداع كأن يبين للمخطوبة أنَّ هذا الرجل صغير قد شابَ وكبر، فلا شك أن هذا ممنوع ومحرم وفيه غش وتدليس.
قوله: (وَثَقْبُ أُذُنِ صَبِيٍّ)، خلاف الجارية، فالصبي المقصود به الابن، لأنه لا يحتاج إلى مثل هذه الزينة، وفيه نوع مثلة به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَجِبُ خِتَانُ ذَكَرٍ وَأُنْثَى "بُعَيْدَ بُلُوغٍ مَعَ أَمْنِ الضَّرَرِ، وَيُسَنُّ قَبْلَهُ، وَيُكْرَهُ سَابِعَ وِلَادَتِهِ وَمِنْهَا إِلَيْهِ)}.
النبي ﷺ أمر بالختان، واختتن إبراهيم -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ولما يتعلق بالختان من كمال الطَّهارة، فإنها جلدة أعلى الذَّكر، إذا لم يُختن الشخص فإنها يوشك أن تغطيه، فإذا بالَ تبقى النجاسة حول ذلك ولا تخرج، وهذا الجلد يجتمع بعضه على بعض فقد لا يستطاع في بعض الأحوال إزالة تلك النجاسة وتنظيفها، وهذا يختلف باختلاف الناس، فبناء على ذلك أُمر به وتعلق به كمال الطهارة، فلأجل ذلك كان لزومه ووجوبه، ولأنه من سنن الفطرة كما في حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه. هذا بالنسبة للذكر ظاهر.
أما بالنسبة للأنثى: فالحنابلة أطلقوا هذا الحكم لمجيء النُّصوص بذلك؛ ولأنَّ النبي ﷺ قال: «إذا مَسَّ الخِتانُ الخِتانَ»[20] مما يدل على أنَّ النساء كنَّ يختتن، والختان بالنسبة للمرأة هو قصُّ أعلى البظر الذي يوجد على المرأة كعرف الديك في فرجها فيؤخذ منه شيء، فقال النبي ﷺ: «أشِمِّي ولا تُنهِكي»[21]؛ لأنه إذا بقي بقيت غلمتها شديدة وهذا يؤثر عليها، وإذا قُطعت من أصلها أيضًا ذهبت رغبة المرأة فيما ترغب فيه النساء عادة، فيكون ذلك فيه ذهابٌ لأنسها وتلذذها بزوجها، فأُمر في ذلك بما يكون فيه الوسط.
فالحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- قالوا: الأدلة في ذلك على حدٍّ سواء، فأوجبوا ذلك، وإن كان بعض أهل العلم قال: إنه في حق المرأة مستحب، وهو واجب في حق الرجل وهو محل للبحث محتمل؛ لأنه لا يتوقف عليه في النساء ما يتوقف عليه في الرجل من كمال الطَّهارة، لأجل ذلك كان القول بأنه يمكن أن يكون في حق المرأة مُستحب له وجه وجيه في مثل هذه الحال، وابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- بحث هذه المسألة وأطال فيها في كتابه (تحفة المودود في أحكام المولود) وبحثها كل الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في هذا الموضع من كتبهم على اختلاف مذاهبهم فيها.
إذا قيل: إن الختان محله الوجوب، والوجوب محله البلوغ، لأن البالغ إذا بلغ وجب عليه وتعلق به، فيكون هذا محله، لكن لو فُعل قبل ذلك فهذا مستحب ومسنون، لأنه أسهل وأيسر وأسرع في التئام الجرح، وأيضًا لئلَّا لا يؤدي ذلك إلى انكشاف العورة ونحوه.
بعض الفقهاء كرهوه في أول الولادة إلى سابع، وبعضهم قال لأنه مشابه باليهود، وبعضهم قال لأنه يسيل الدم وربما يفضي ذلك إلى موت الطفل وذهاب روحه، لكن في هذه الأوقات تجددت من أنواع الطب والتئام الجروح ورعايتها ما هو معلوم؛ فكان أخذه في صِغَرِ طفل أسهل عليه وأمكن لالتئام الجرح ونحو ذلك؛ فلما كان الأمر كذلك فيستحب التبكير به، ولو كان في السَّابع فلا يكون مكروهًا وإن ذكر المؤلف والفقهاء كراهية ذلك.
وبعضهم قال: إنه وقت لا يندمل فيه الجرح فيسيح الدم ويسيل، فيكون فيه ضرر على الطفل فيموت، فلأجل ذلك كره في مثل هذه الحال.
{نكتفي بهذا القدر أحسن الله إليكم}.
نكتفي بهذا، أسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد، ونجعل بداية الفصل في بداية المجلس القادم، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{إخوتنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان نستكمل ما بقي في مجالس قادمة، نشكر لصاحب الفضيلة، ومع أمل اللقاء بكم نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه والسَّلام عليكم ورحمة الله}.
------------------------------
[1] ضعيف الترمذي: (1746).
[2] السلسلة الضعيفة (6006).
[3] البخاري (216) واللفظ له، ومسلم (292).
[4] البخاري (144)، ومسلم (264).
[5] مسلم (269)
[6] مسلم (262).
[7] أخرجه النسائي (5 )، وأبو يعلى (4569 )، وابن خزيمة (135 )، وعلقه البخاري في ((باب سواك الرطب واليابس للصائم)).
[8] السلسلة الضعيفة (401).
[9] البخاري (1904)، ومسلم (1151).
[10] ضعيف أبي داود (2364).
[11] البخاري (887).
[12] صحيح البخاري (245).
[13] صحيح النسائي (3949).
[14] مسلم (259).
[15] أبو داود (4195)، والنسائي (5048).
[16] سنن الترمذي (2821).
[17] صحيح الترمذي (1634).
[18] صحيح البخاري (3462).
[19] صحيح ابن حبان.
[20] ابن عبد البر في الاستذكار (1/313).
[21] أبو داود (5271) بنحوه، والطبراني (8/358) (8137)، والحاكم (6236).