{الحمدُ لله، الحمد لله الملك العلَّام، القدوس السَّلام، وصلَّى الله وسلم على خير من صلَّى وصام، وتعبَّد وقام، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام، ثم أمَّا بعد:
فنرحب بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. أهلًا وسهلا بكم صاحب الفضيلة}.
حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات طلاب العلم وطالباته، حيَّاكم الله جميعًا.
{بارك الله فيك ونفع بكم، استأذنكم القراءة}.
استعن بالله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ رَفْعُ بَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَوْلُ مَا وَرَدَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أَمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُنقينا من الذنوب والمعاصي، وأن يجعلنا من أهل الوضاءة والطهارة والنظافة والكمال والتَّمام في الدنيا والآخرة، وأن يحفظنا من كل سوء ونقيصة معنويَّة أو حسيَّة.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- بعد أن ذكر ذكرًا مختصرًا فيما بالوضوء وأحكامه، ولعلكم تلحظون أنَّ المؤلف إنما ذكر الفروض والمستحبات واقتصر على ذلك، وأمَّا الكتب التي هي أطول من هذا قليلًا تذكر بعد هذا صفة الوضوء، يعني شيئًا فشيئًا، فلعلَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- اكتفى بذكره للفروض والسنن وما يتبع ذلك من الصفة، ونحن عرَّجنا على الصِّفة على شيء من الاختصار جمعًا بين ما ذكر المؤلف اختصارًا وما ذكر غيره تطويلًا.
قال: (وَسُنَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ)، يعني: بعد الفراغ من أعمال الوضوء.
قوله: (رَفْعُ بَصَرِهِ)، جاء ذلك عند أحمد، ولعلكم تلحظون أنَّ الفقهاء -رحمهم الله- سواء في الحنابلة أو الحنفية أو المالكية أو الشافعية هم أعظم ما يكونوا تتبعًا للسنن واقتداءً بالنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في قليل الأمور وفي كثيرها، فهذه فريضة من الفرائض، كم من المكملات التي ذكرها الفقهاء لها؟ وكم دققوا في ذلك؟ وكم حرروا؟ حتى رفعُ البصر إلى السماء، فكما أنه يُستحب هنا رفع بصره إلى السماء كما جاء في الحديث، ذكروا أنَّ رفع البصر في السماء أثناء الصلاة من المنهيات؛ لقوله ﷺ: «لَيَنْتَهينَّ أقْوامٌ يَرْفَعُونَ أبْصارَهُمْ إلى السَّماءِ في الصَّلاةِ، أوْ لا تَرْجِعُ إليهِم»[1]، فلاحظ دقَّة الفقهاء في كل موضع أن يذكروا ما يليق به وإن كان أمرًا تفصيليًّا دقيقًا -رَحِمَهُم اللهُ تعالى ورضي الله عنهم وأرضاهم.
قوله: (رَفْعُ بَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ)، يعني: إلى جهة العلو؛ لأنَّ السماء من حيث هي: كل ما سماكَ ما علاكَ، فهذا يسمى سماءً بالنسبة لنا في هذا المكان وهو السقف، والمقصود: أن يرفع بصره للأعلى سواءً كان في مكانٍ مكشوف أو في غيره؛ لأنَّ المقصود برفعه إلى جهة السماء.
قال: (وَقَوْلُ مَا وَرَدَ)، جاء في ذلك غير ما حديث فيما ورد الانتهاء من الوضوء، وأشهرها ما رواه مسلم في صحيحه: «أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ»[2]، جاء في بعض زيادات الحديث: «اللهمَّ اجعلْنِي مِنَ التَّوَّابينَ، واجعلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ»[3]، فسواء اقتصر على الجزء الأول فذلك يحصل به المقصود مما ورد في ذلك، وإن زاد فقد جاءت هذه الزيادات عند بعض أهل السنن، كما ورد أيضًا أحاديث أخرى أن يقول عقب وضوئه كما يقول في كفارة المجلس: «سبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ أشهدَ أن لا إلهَ إلَّا أنتَ أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ»[4].
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، هي قليلًا أن تذكر خاصة وأن المؤلف لا زال يسترسل في الفصول وفي المسائل، لكن على كل حال ذلك مناسب جدًّا في أن طالب العلم بين الفينة والأخرى أن يردَّ العلم إلى عالمه وهو الله -جَلَّ وَعَلَا-، ويشعر نفسه بفاقته مهما اجتمع له من العلوم ومهما ظهر له من التفنن في الفنون، فإنه لا شكَّ أنه تفوت عليه المسألة اليسيرة، ويصعُب عليه الحكم الظاهر، وذاك سنة ماضية، والإمام ابن عبد البر -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- لما جاء عند حديث النبي ﷺ في تفلُّت القرآن في قوله: «لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِه»، قال: "مع أن الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ "، يعني مع ما يُسِّر من القرآن هذا تفلته، فكيف بما سواه من علوم الشريعة وغيرها؟! فإنها أكثر تفلُّتًا وأحوج ما يكون المرء إلى مراجعتها وعدم الاستعجال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ وَنَحْوِهِ)}.
هذا الفصل مكمِّل للفصل الأول، فالفصل الأول هو في الوضوء من حيث أصله، ولَمَّا كان المسح على الخفاف، مما يحتاج إليه الناس كثيرًا وهو متعلق بالوضوء في غسل القدمين وما ينتقل منه إلى بديل لذلك؛ أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يذكره عقيبه، ويفصل الأحكام التي تليق به.
قال: (يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ)، أصل المسح على الخفاف ثابت في السنن والأحاديث الكثيرة المتواترة، وقال به الحنابلة كما قال به الجماهير، ولا يختلف في ذلك أحد من أهل العلم لاستقرار السنن بذلك، ولم يخالف في ذلك إلا أهل الأهواء من بعض أهل البدع، ومَن يقدمون العقول وغيرها من أهل الرّفضِ وغيرهم، فبعض أهل الأهواء يُنكرون المسح على الخفاف، فلأجل ذلك أكَّدَ عليه علماء أهل السنة، فيُتنبَّه إلى أهمية المسح على الخفاف على ما جاءت به السنة.
إذًا؛ المسح على الخفاف جاءت به السنن الكثيرة المتواترة عن النبي ﷺ ولم يخالف في ذلك إلا أهل الأهواء.
وجاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "لئن تقطع رجلي بالسكاكين أحب إلي من أمسح عليهما" فهذا عند أهل العلم أنه قد فُهِمَ من قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ﴾ [المائدة: 6]، أنها ممسوحة، فكأنَّ عائشة أرادت أن تُبين أنَّ الرجلين من حيث الأصل مغسولة ولا يجوز مسحهما، وأمَّا المسح عليهما إذا لبست الخفاف فذلك شيء آخر لم يكن مقصودًا لعائشة -رضي الله تعالى عنها؛ فإذًا استنكار عائشة إنما هو في مسح القدم إذا لم تكن مغطاة بخفٍ ونحوه، فلا يخالف ما جاء من استقرار السنن بذلك عن النبي ﷺ.
لكن هنا ينبغي أن يفرق بين مسألتين:
- مسألة المسح على الخفاف، فإنَّ هذه مستقرة.
- ومسألة المسح على الجوارب، فإنها َمقيسة عليها وفيها خلاف كثير، وسيأتي الكلام عليها بعد قليل.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ).
الخف: هو ما يلبس على القدمين مما صنع من الجلود ونحوها مُغطيًا للكعبين، فيصل إلى نصف الساقين أو ينزل قليلًا، وربما نزل إلى ما فوق الكعب وهي التي تسمى الخفاف الصَّغيرة كالموقِ ونحوها، فكلها تدخل في اسم الخفاف، وكلها جاءت السنة بها، وكلها يجوز المسح عليها.
لماذا فسرنا الخف بذلك؟
هذا عند أهل الأصول الذي يسمى: "بساط الحال"، يعني: جاء عن النبي ﷺ المسح على الخفاف، فذهبنا فبحثنا عن هذه الخفاف في وقت النبي ﷺ فوجدناها تلك، فعرفنا أنَّ النبي ﷺ قصد ذلك؛ لأنَّ النبي ﷺ جاء بالتيسير على أمته والتوضيح، فلا يمكن أن يحيل على شيء لم يكن معلومًا، بل يحيل على شيء معلوم معروف عندهم يتعاطونه ويبيعونه ويشترونه ويلبسونه وينتفعون به.
قال: (عَلَى خُفٍّ وَنَحْوِهِ)، المسح على الخف هو المقصود الأول الذي جاءت به النصوص، أمَّا "نحو الخف" فهو المسح على الجوارب، والجوارب هي ما تُلبس على القدمين مما صنع من الكتَّان ونحوه، يعني: كتان، صوف، قطن، ما يصنع الآن من بعض الأشياء الأخرى، كله داخل في الجوارب.
والمسح على الجوارب هل هو داخل في المسح على الخفاف؟
نعم، هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، لكن ما نقول هو مستقر كالمسح على الخفاف، لا إنما هو مقيس عليه كما هو عند الحنابلة وعند الجمهور الشافعية والمالكية والحنفية، يقول الإمام ابن المنذر: "فيه قول تسعة من أصحاب رسول الله ﷺ"، إذًا من أين قال الصحابة بذلك؟
قياسًا على الخف، ولأجل ذلك تجد أنَّ الفقهاء الذين قالوا بالمسح على الجوارب قيدوا هذه الجوارب بقيود تفاوتوا فيها، لكنهم قيدوها بالتي تشبه الخفاف التي يمشى عليها والتي لا ينكشف معها الخف، والتي لا تكون خفيفة، والتي تثبت بنفسها، إلى غير ذلك.
بعضهم يقول: من أين جاءت هذه القيود؟
نقول: لأن هذه القيود هي نظرٌ إلى الجوارب التي تشبه الخفاف التي جاء النَّص بالإذن بالمسح عليها، فنحن نمسح على الخفاف وما شابهها، والذي شابهها هي الجوارب التي كذلك، ولأجل ذلك تجدون أنَّ الحنابلة والحنفية هم أسهل المذاهب في هذا، يقولون: الجوارب الثقيلة التي لا يبدو منها شيء حتى ثقب الإبرة، أما المالكية والشافعية بعضهم يقول: لابد أن تكون منعَّلة -يعني كهيئة النعال- يمكن أن يمشى فيها، أو المبطنة -التي لها بطانة واقية لها- يمكن أن يُمشي فيها، لماذا هذه القيود؟ مثل ما قلت لكم.
فبناء على ذلك لم يشتهر ولم يظهر عند أحد من الفقهاء المسح على الجوارب الخفيفة، ولذلك وإن قال بعض المعاصرين من أهل العلم الراسخين بجواز المسح على الجوارب الخفيفة استنادًا إلى الإطلاق؛ فهذا فيه نظر ولم يقل به أحد من أهل العلم، صحيح أنه جاء في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على الجوربين، لكن الحديث ضعيف وإلا فإنَّ كل الأحاديث واردة في الخفاف لا غير، ونقلَ النووي في المجموع قول بعض الشافعية أنه يُروى أنَّ بعض الصحابة قالوا بالمسألة على الجورب الخفيف، لكن لم يصح في ذلك شيء ولم يُحفظ في هذا أثر.
فبناء على ذلك: هذه الجوارب التي يُمسَح عليها لم يأتِ بها نص صحيح يُعتمد عليه، وأكثر ما فيها ما جاء عن الصحابة، والذي جاء عن الصحابة هو قياسٌ على ما جاء في الخفاف، فينبغي أن تُقيد بما يكون شبيهًا بالخفاف، على أقل الأحوال الجوارب الثخينة -أو الصفيقة- التي ليست بخفيفة يبدو منها شيء، أو شفافة للقدمين ونحوها، فهذا من الأهمية بمكان العلم به.
إذًا قوله: (ونحوه)، يعني: من الجوارب وما يتعلق بها من حكم المسح مما أُلحق بالخفاف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعِمَامَةِ ذَكَرٍ مُحَنَّكَةٍ أَوْ ذَاتِ ذُؤَابَةٍ)}.
قوله: (وَعِمَامَةِ ذَكَرٍ)؛ لأنَّ العمائم للرجال، والنبي ﷺ مسحَ على العمامة، فبناء على ذلك قالوا بجواز المسح عليها.
وتخصيص الرجال هنا؛ لأنَّ النساء لسن من عادتهن أن تلبس العمامة، ولو لبست العمامة لكانت متشبهة بالرجال، وهذه حال لا يجوز فيها الترخيص لها في المسح عليها.
قوله: (مُحَنَّكَةٍ)، هي التي لها ذيلٌ يأتي من أسفل الحنك ثم يُربط، وهذه مثل ما قلنا: "البساط الحالي" التي كانت موجودة، ولأنها هي التي يشقُّ نزعها.
قال: (أَوْ ذَاتِ ذُؤَابَةٍ)، التي لها طرف متدلي، أمَّا الصماء -التي ليس لها طرف متدلٍّ- فهذه عمائم أهل الكتاب ولا يجوز المسح عليها، ولم يكن عادة أهل الإسلام أن يلبسونها، وإنما جاء المسح على العمامة، فبناء على ذلك نأتي إلى العمائم التي كان الصحابة يلبسونها، فهما هاتان: أما محنَّكة، وإما ذات ذؤابة -على ما ذكرنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَخُمُرِ نِسَاءٍ مُدَارَةٍ تَحْتَ حُلُوقِهِنَّ)}.
كنَّ النساء فيما مضى لا تنفك الواحدة من أنها لابسة عليها خمارٌ طيلة وقتها، وقد لا تخلعه إلا إذا أوت إلى فراشها، أو خلصت إلى خاصَّة أهلها، لعموم حشمتهن وطلب السَّلامة، وهذا الذي يلبسنَه ربما يكون عليهنَّ فيه كُلفة في نزعه، وهو يُدار من تحت حلوقهن، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: إنه يقاس على العمامة في جواز مسح النساء عليها؛ ولأنه جاء عن أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- أنها مسحت على خمارها، والقاعدة عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ- أنهم يأخذون بقول الصحابي فكيف إذا كان له أصل من السنة؛ فيكون آكد في اعتباره، فلأجل ذلك قال: (وَخُمُرِ نِسَاءٍ مُدَارَةٍ تَحْتَ حُلُوقِهِنَّ)، على ما ذكرنا من:
أولًا: أنَّ هذا هو الذي كان يوجد.
ثانيًا: ولأنَّ هذا هو الذي فيه صعوبة في نزعه.
ثالثًا: لمجيء ذلك بالأثر وهو مقيس على العمامة فيتعلق بها هذه كلها حكم المسح على ما دلت عليه السنن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلَى جَبِيرَةٍ لَمْ تُجَاوِزْ قَدْرَ الْحَاجَةِ إِلَى حَلِّهَ)}.
الجبيرة: ما يجعل على ساق أو يد إذا انكسرت طلبًا لأن تنجبرا ويلتئم العظم ويعود كما كان، ولهم في ذلك طرائق مختلفة تتنوع وتتطور باختلاف الأيام، إلى ما وصل الناس إليه اليوم من تطبُّبٍ فيه مما فيه من الظهور والتطور، فعلى كل حالٍ؛ إذا لبس جبيرة بأن تكون خشبتين متوازيتين تربطان، أو كان بهذه المواد المستحضرة حديثًا مع الشاش الذي يثبت ويتصلَّب ويقوى فيحصل به عدم حركة لهذا العظم فيعود ويلتئم بعضه إلى بعض، فهذه جبيرة والنبي ﷺ أذن في المسح على الجبيرة، وهي من حالات الاضطرار فيجوز عليها إذا احتاج.
قوله: (لَمْ تُجَاوِزْ قَدْرَ الْحَاجَةِ)، أي: لم تجاوز قدر الحاجة يعني بالنَّظر إلى أهل الاختصاص، الذين هم أهل الطب والعلم بذلك.
فعلى سبيل المثال: إذا انكسر نصف ذراعه، فجعل جبيرة انتهت إلى أعلى يده ولا حاجة إلى ذلك: فلا يصح أن نقول من أنه يمسح عليها، بل ننظر إلى ما الحاجة إليه، فإذا كانت يكفي إلى هنا فمعنى ذلك أن ما بقي من حال الذراع حقه الغسل فلا يجوز أن يُمسح، فلأجل ذلك قال: (لَمْ تُجَاوِزْ قَدْرَ الْحَاجَةِ)، وكأن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أراد أن ينبه أن من يُعني بذلك لا يلتفتون إلى الحكم الشرعي وأهمية اعتباره، فعليك أيها المكلف إذا نزلت بك مثل هذه الحاجة أن تسأل هذا المختص بألا يزيد فيها عن قدر الحاجة، وإذا كان ذلك لابنك أو بحضرة أحد منك فيجب على الإنسان أن يكون بمثابة لئلا يعوزه إلى كسرها أو حلها وما يترتب على ذلك من إشكال، فينبغي أن يؤكَّدَ على أن لا يتجاوز ذلك، خاصَّة إذا كان بعضُ من يلي ذلك أحيانا غير مسلمين، فلا يدقق ومع كثرة الشُّغل يريد أن يخلص كيفما حصل بذلك القدر، فلابد من التأكيد على القدر الذي يحتاج إليه، لأن هذا هو الذي اضطر إليه والله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، ولا حاجة لنا إلى ما زادَ فلم يجُز أن يُمسح أو ينتقل من حكم الغسل إلى المسح بدون ما حاجة.
قال: (إِلَى حَلِّهَ)، يعني لا وقت لها ينتهي، فسواء بقيت شهرًا أو شهرين أو احتاج إلى أن تبقى خمسة أشهر فيجوز له أن يمسح هذه المدة كلها، أما ما تقدَّم فسيأتي أنَّه مخصوصٌ بأوقات محدودة وسيشير المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ جَاوَزَتْهُ أَوْ وَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لَزِمَ نَزْعُهَ)}.
أما إذا كانت مجاوزة لزم نزعها ثم إعادتها بالقدر الذي يحتاج إليه، لئلا يفوِّت غسل ما يجب غسله، ولا عذر له في تركه، فبناء على ذلك قال: (وَإِنْ جَاوَزَتْهُ أَوْ وَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لَزِمَ نَزْعُهَ).
قوله: (أَوْ وَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ)، يعني: لابد أن توضع على طهارة، وهذا من الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ- قياس على الخفاف؛ لأنها كلها ممسوحات، فالخفُّ قد جاء به النص أنَّ النبي ﷺ لَمَّا لبسهما فكان من يعينه في الوضوء المغيرة بن شعبة قال: «ثُمَّ أهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقالَ: دَعْهُمَا؛ فإنِّي أدْخَلْتُهُما طَاهِرَتَيْنِ»[5]، فدلَّ على أنَّ الخفاف إذا أدخلت على طهارة جاز عليها، فقالوا: إنَّها كالخفاف في كونها ممسوح، فلا بد أن تكون على طهارة كتلك، فأوجبوا أن يكون لبسها على طهارة، فمن احتاج إلى ذلك تطهَّر ثم لبسها، وهذا هو مشهور المذهب وإن كان عند بعض الحنابلة كقول بعض المحققين وعليه فتيا كثيرة معاصرة: إن ذلك غير لازم؛ لأنه قد لا يتأتَّى، ولمخالفتها أحكام الخف في الوقت وفي أشياء أخرى في أنها لا تختص بالقدم؛ فبناء على ذلك لم يلزم أن تكون مساوية لها في لزوم الطهارة عند ابتداء المسح عليها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ خَافَ الضَّرَرَ تَيَمَّمَ، مَعَ مَسْحِ مَوْضُوعَةٍ عَلَى طَهَارَةٍ)}.
معنى خاف الضرر: يعني هذا الذي صُنع له شيء جاوز الحد، ما عاد يقدرون ينزعونها، إما لكون ذلك طبيب قد ذهب وخشوا أن يصلحوه على غير وجه، فعندنا في هذه الحال جبيرة زائدة عن القدر، وعندنا شخص خائف أن يتضرَّر، فبناء على ذلك يقولون من أنه يمسح للاضطرار، لكن الزائد فيه شيء من التَّجاوز فلزمه أن يتيمم له بعد ذلك مع المسح، لأنه لم يُبح له من حيث الأصل أن يترك غسله إلا لمحل الاضطرار، فلزم التيم لأجل ذلك.
قوله: (مَعَ مَسْحِ مَوْضُوعَةٍ عَلَى طَهَارَةٍ)، يعني: القدر الذي وضع على طهارة يُمسح والزائد يُتيمم له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَمْسَحُ مُقِيمٌ وَعَاصٍ بِسَفَرِهِ مِنْ حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً)}.
هذا شروع من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- فيمن له حق المسح والمدة التي يمسحها.
فالمقيم وإن لم يكن مسافرًا جاز له؛ لأنَّه في حديث علي: «كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ يأمرنا أن يمسحَ المقيمُ يومًا وليلةً والمسافرُ ثلاثً»[6].
قال: (وَعَاصٍ بِسَفَرِهِ)، عندنا "عاص في سفره" وعندنا "عاص بسفره".
العاصي في سفره: لا ينفك منه أحد، وهو أن يتلبس الإنسان بمعصية في أثناء السفر -عسى الله أن يعفو عنا وعنكم- فمن ذهب مثلا لحجٍّ وهو في أثناء سفره زاغت عينه فرأى ما لا يحل له نظره من العورات، أو تجاذب أطراف الحديث حتى وقع في غيبة، هذا عاصٍ في السَّفر، هذا لو قلنا من أنه لا يترخص بالرخص؛ فلم يترخص أحد برخصة!
أمَّا العاصي بسفره: يعني الذي أنشأ سفرًا لمعصية، كمن سافر للزنا أو أراد أن يقتل شخصًا أو سافر لعقد معاملة ربوية - نسأل الله السلامة والعافية- فهذا عاصٍ بالسفر.
فيقول المؤلف: (وَعَاصٍ بِسَفَرِهِ)، يعني: العاصي بسفره له أن يمسح مسح مُقيم، بمعنى أنه لا يأخذ أحكام المسافر فيترخص فيمسح ثلاثة أيام بلياليها، باعتبار أنَّ الرُّخصة لا تُناط بالعاصي، وهذا عاصٍ بسفره، فلا نحتسب أنه مسافر بل نحتسب أنه مقيم، فلم يستحق من المسح أكثر من مسح المقيم، فلم يجُز له أن يمسح أكثر من مسح المقيم، وهذا مبنيٌّ عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- على أنَّ المسح على الخفين رخصة، والرخصة لا تُناط بالعصاة؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا أباح أكل الميتة قال: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: 173] فالمعتدي بسفره أو الباغي فيه لا يحق له أن يترخَّص.
فكذلك قالوا: مَن كان عاصيًا بالسفر في ذلك لا يحل له أن يترخص بتلك الرخص.
أمَّا من قال: إنَّ المسح على الخفين عزيمة، فيقول: إنه حتى ولو كان عاصيًا بسفره فإنه يمسح ثلاثة أيام بلياليهن، لكن المؤلف مشى على قول جمهور الفقهاء من أنها رخصة، وأنها لا تُناط به إلا أحكام المقيم، ولا يترخص برخص السفر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مِنْ حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً)}.
أمَّا كون المسح مدته يوم وليلة فهذا لا إشكال فيه، وقد جاء في ذلك غير ما حديث، حديث عليٍّ وحديث صفوان وغيرهما، لكن متى يبتدأ في حساب اليوم والليلة؟ هل هو من أول اللبس؟ أو هو من المسح؟ أو هو من الحدث؟
المشهور عند الحنابلة: أنه من الحدث، لماذا من الحدث؟
قالوا: لأنَّ الحدث هو أول أوقات إمكان المسح، يعني الذي أحدث يمكن أن يتوضأ بعدها بدقيقة ويمكن يتوضأ بعدها بخمس ساعات، فنحمله على أنه توضأ بعدها بدقيقة أو في نفس الوقت؛ لأننا ما ندري هل لو تأخر هل يحتسب أو غيره، فنحن نحتاط، ولأنه في حديث صفوان لما ذكر أنه قال «كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ يأمُرُنا إذا كنَّا سُفْرًا أن لا ننزِعَ خِفَافَنا ثلاثةَ أيامٍ ولياليهِنَّ إلَّا مِن جنابةٍ ، ولكن مِن غائطٍ وبَولٍ ونَومٍ»[7]، فقالوا: جعل الغائط هو أول ابتداء المسح، فكأنهم أشاروا إلى ذلك، وجاء في بعض الآثار «مِنْ حَدَثٍ إِلَى حَدَثٍ»، لكن لا يصح.
فعلى كل حال؛ هم جاءوا إلى جهة المعنى قالوا إن هذا أحوط، يعني لما جعل النبي ﷺ له المسح يمكن أن يكون من الحدث يمكن أن يكون من أول المسح، فنحن أخذناه من الحدث لأن هذا أحوط، ولأن هذه المدة قد لا تكون داخلة، وهذه متعلقة بالعبادات فنحتاط لها، فبناء على ذلك قالوا: يبدأ المسح من الحدث.
وبناء على ذلك: لو أنَّ شخصًا لبس الخفين ولم يُحدِث ثم مسحَ عليهما لإعادة طهارته لصلاةٍ لأنه أُمر بالتَّجديد لكل صلاة في حديث «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ بِوُضُوءٍ»[8]، فعند أهل العلم أنه يُستحب ذلك، فلو أعاد الوضوء فمسح بدون أن يكون انتقض وضوءه لم يعتبر ذلك ابتداء لليوم الليلة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمُسَافِرٌ سَفَرَ قَصْرٍ ثَلَاثَةً بِلَيَالِيهَ)}.
المسافر من حيث الأصل: هو كل من أسفر وأبعد عن المدينة، والسفر الذي تُناط به أحكام هو السفر الطويل عند الفقهاء، فيعبرون أحيانًا بالسفر الطويل وأحيانا بالسفر القصير لأنه أشهر ما فيه، فالسفر الطويل هو الذي في الأشهر عند أكثر أهل العلم، خلافًا لطريقة شيخ الإسلام، وإن كانت طريقة شيخ الإسلام أشد من طريقة الجمهور، لكن كثيرًا من الناس ما ينتبه لها، فالحنابلة جعلوا السفر أربعة برود، أي ما يقارب مسيرة يوم وليلة، مثل: من مكة إلى جدة القديمة وليست ما توسعت الآن، الآن تداخلت وما يعتبر بينهما قصر، ومسافة أربعة بُرد بعضهم يحددها بثمانين كيلو، وبعضهم يقول: اثنين وسبعين أو نحوها. فعلى كل حال هي أربعة برد، وسيأتي تفصيل ذلك في صلاة المسافرين، فيقولون هذا هو السفر الطويل.
قوله: (وَمُسَافِرٌ سَفَرَ قَصْرٍ)، يعني: يجوز له القصر، وممن تجوز له الرخصة وممن لم يكن عاصٍ بسفره؛ فبناء على ذلك له أن يمسح ثلاثة أيام بلياليها؛ لأنَّ المسافر أحوج إلى الرخصة، وقد لا يتسنى له الماء، ويطول به المشي، ويشق عليه النزع، فلأجل ذلك جاء الشَّرع بالتَّخفيف عليه أكثر من المقيم الذي كل شيء بقربه وهو في تأهُّل من أهله ولا يشق عليه ذلك مشقة بالغة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ مَسَحَ فِي سَفَرٍ ثُمَّ أَقَامَ أَوْ عَكَسَ فَكَمُقِيمٍ)}.
يعني: واحد مسح في السفر فالأصل له ثلاثة أيام بلياليهن، فإذا أقام فيكون حكمه حكم المقيم، فإذا كان حكمه حكم المقيم لا يخلو من حالين:
- إمَّا أن يكون قد مسح أكثر من يوم وليلة قبل أن يقيم: فبناء على ذلك يلزمه النزع.
- وإمَّا أن يكون لم يمسح إلا بعض يوم -يعني ما كمَّل يوم وليلة- فنقول: أكمل يوم وليلة ثم انزع.
هذا بالنسبة إذا قلنا إنه كمسح مقيم.
قال: (أَوْ عَكَسَ فَكَمُقِيمٍ)، كذلك أيضًا من مسح في إقامة ثم سافر، يعني أنت الآن مسحت في صلاة الظهر ثم سافرت العصر، سواء كنت مرتب أو عرض عليك السفر، فبناء على ذلك يقولون: هذا مثل الحالة الأولى، هذا الشخص اجتمع فيه حقه حالان: حال سفر وحال إقامة، فنحن نبني على الأحوط، والأحوط أن نعامل هذا على أنه مُقيمٌ، فبناء على ذلك لا يمسح إلا مسح مقيم يوم وليلة ولزمه أن ينزع، ثم بعد ذلك إذا لبس جاز له أن يترخص برخصة السفر فيكون حكمه حكم مسح ثلاثة أيام بلياليهن في تلك الحال؛ لأنها في كلا المسألتين اجتمع عليه حال سفرٍ وحال إقامةٍ، فالفقهاء يغلِّبون جانب الإقامة وجانب الاحتياط، فلا يحكمون له بأكثر من يوم وليلة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَشُرِطَ تَقَدُّمُ كَمَالِ طَهَارَةٍ وَسَتْرُ مَمْسُوحٍ مَحَلَّ فَرْضٍ وَثُبُوتُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِمْكَانُ مَشْيٍ بِهِ عُرْفًا وَطَهَارَتُهُ وَإِبَاحَتُهُ)}.
هذه شروط المسح على الخفين، ويدخل في ذلك ما ألحق بها مما يجوز المسح عليه من الجوارب.
قال: (تَقَدُّمُ كَمَالِ طَهَارَةٍ)، يعني لابد أن يلبسهما بعد كمال الطهارة؛ لأنَّ حديث المغيرة بن شعبة «دَعْهُمَا؛ فإنِّي أدْخَلْتُهُما طَاهِرَتَيْنِ».
بعض الفقهاء يقول: لو غسل رجله اليمنى ثم لبس ثم غسل اليسرى ثم لبس؛ يقولون: هذا لبس قبل كمال الطهارة! ويكون خالف الحديث «دَعْهُمَا؛ فإنِّي أدْخَلْتُهُما طَاهِرَتَيْنِ»، فبعضهم يتحفظ لئلا يحصل من الإنسان مخالفة، ويكون على سبيل الاحتياط، ولا يقال من أن هذا تكلف أو تعنت؛ بل هو من الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- وقوف على النصوص، واستسلام لأمر الشارع، وانقياد لأمر النبي ﷺ وأيضا اتهام للنَّفس بقصور علمها وفهمها، فلأجل ذلك قالوا: لابد من كمال الطهارة ولُبس ذلك بعده.
قال: (وَسَتْرُ مَمْسُوحٍ مَحَلَّ فَرْضٍ)، يعني ما يمكن أن يمسح على خفاف قصيرة، أو بدا معها نصف الكعبين أو شيء منهما كما هي خفاف الناس اليوم، فأكثر الخفاف اليوم التي يسمونها "الجزم" كلها إلى الكعبين، فهذه ليست محلًّا للمسح، وكذلك الجوارب التي كثيرًا ما وجدت الآن والتي إلى الكعب وبعضها تنزل عن الكعب حتى ولو شيئًا قليلًا، فإذا كانت على هذا النحو لم تكن ساترة لمحل الفرض تمامًا فلا يجوز المسح عليها. لماذا؟
قالوا: لأنه إذا بدا بعض محل الفرض فهنا اجتمع في العضو هذا حالان: حال غسل وحال مسح، ونحن لم نعلم في الشَّرع إلا حال واحدة، إما مكشوفٌ فيغسل وإما مغطًى فيمسح، وهذا ليس لا ذا ولا ذاك فلا يجوز إلا أن يكون قد سُتر محلُّ المسح.
قال: (وَسَتْرُ مَمْسُوحٍ مَحَلَّ فَرْضٍ)، فإذا كان كذلك جازَ المسح عليه وإلا فلا.
ثم قال: (وَثُبُوتُهُ بِنَفْسِهِ)، إذا كان لا يثبت بنفسه فهذا ليس كالخفاف، ثم هو لا مشقة في نزعه، وأما الخفاف التي جاءت كانت تثبت بنفسها، فتعلَّق الحكم بها، فلا تحتاج أن تأتي بشيء تمسكها بها حتى تمسح عليها.
قال: (وَإِمْكَانُ مَشْيٍ بِهِ عُرْفً)؛ لأنَّ المقصود بذلك أن يُمشى بها، أمَّا التي لا يمشى بها كأن تكون من زجاج أو نحوها، أو إذا مشيت بها انكشفت أو سقطت أو انكسرت أو نحوها، فلا يجوز في مثل تلك الحال مسحها.
قال: (وَطَهَارَتُهُ)، لابد أن يكون هذا طاهرًا، فلو كان غير طاهر كما لو كان الخف نجسًا أو نحوه فلا يجوز المسح عليه.
كيف يكون الخف نجسًا؟
كما لو كان مثلًا: من الجلود غير المدبوغة، أمَّا إذا كان فيه نجاسة فتُزال، أو كانت الجوارب مصبوغة بالبول، فكان فيما مضى يُستعمل البول للصبغ؛ لأنه مما يمسك معه الصبغ تمامًا، ولا يتغير اللون بعد ذلك، فكانوا يستعملونه للصِّباغة، فإذا كان الخف ليس بطاهر على ذلك النحو فلا يجوز المسح عليه.
قال: (وَإِبَاحَتُهُ)، فلو كان غير مباح كما لو كان من حرير، أو كان فيه ذهب، أو كان مغصوبًا فلا يجوز المسح عليه، لأن هذه رخصة ولا تُناط بمَن عصا في ذلك وفعل ما لا يحل له فعله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَجِبُ مَسْحُ أَكْثَرَ دَوَائِرِ عِمَامَةٍ، وَأَكْثَرَ ظَاهِرِ قَدَمِ خُفٍّ، وَجَمِيعِ جَبِيرَةٍ)}.
هذه صفة المسح. فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ:(وَيَجِبُ مَسْحُ أَكْثَرَ دَوَائِرِ عِمَامَةٍ)، دوائر العمامة يمسحها لأن العمائم تكون كبيرة، فبناء على ذلك تعلَّق الحكم بغالبها، والنبي ﷺ مسح مقدم رأسه وعمامته، وذكروا المسح عمومًا، فقالوا: إن هذا يتأتى بالأكثر.
قال: (وَأَكْثَرَ ظَاهِرِ قَدَمِ خُفٍّ)، ظاهر الخف يعني: أعلاه وليس أسفله، يعني: ليس الذي يلي الأرض الذي هو باطن القدم، ليس هذا مما يمسح، بل ظاهر الخف، فإذا كانت هذه القدم على هذا النحو فيمسحها على هذا النحو، ولا يمسح أدناها أبدًا، ولا يؤمر بذلك وليس هذا مشروعًا، وأصل ذلك حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لو كان الدين بالرأي لكان اسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"، يقول أسفل الخف هو الذي يتقذر ويلحق به كذا فمع ذلك نحن نمسح ظاهر الخف لأننا لسنا بعقولنا ولا بنظرنا وإنما باقتدائنا بنبينا وما جاء في سنته -صلوات ربي وسلامه عليه-، فلأجل ذلك قال: (وَأَكْثَرَ ظَاهِرِ قَدَمِ خُفٍّ)؛ لأنه لا يتأتى أنه يمسح كله.
قال: (وَجَمِيعِ جَبِيرَةٍ)، أما الجبيرة فإنها تمسح من جميع جوانبها، فإذا الجبيرة هنا فيمسحها هكذا وهكذا، ومثل ذلك إذا كانت على أصبعه مسحها هكذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُ مَحَلِّ فَرْضٍ أو تمَّتِ الْمُدَّةُ اسْتَأْنَفَ الطَّهَارَةَ)}.
إن ظهر بعض محل الفرض فإنه تعلق به حكم الغسل، فإذا تعلق به حكم الغسل فيعتبر هذا كما لو نزعها فبناء على ذلك لا يجوز له أن يمسح، بل عليه أن يخلع الخفين وأن يغسل القدمين ومثل ذلك الجوربين.
قال: (أو تمَّتِ الْمُدَّةُ اسْتَأْنَفَ الطَّهَارَةَ)، مثلًا: بدأ وقت المسح على الخف الساعة الخامسة، ولما جاء من الغد في صلاة العصر الساعة الرابعة توضأ ومسح على خفيه وهو وقت للمسح، كان في ذلك فاعل لِمَا يجوز له فعله فهو على طهارة، فجلس في المسجد أو في مجلس علم كمثل هذه المجالس أو غيرها، حتى جاءت الساعة الخامسة والنصف، فانتهت المدة، فهل تنتفي طهارته؟ أو ينتهي حكم المسح له؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة كما هو قول الجمهور: انتهاء حكم المسح وتعلَّق برجليه الغسل، وكذلك انتهت الموالاة؛ فبناء على ذلك لزمه أن يعيد الوضوء من تمامه؛ ولأن هذا أحوط للعبادة.
ومنهم من قال: انتهى حكم المسح ولا يصح له أن يمسح، لكن ليس هذا بناقض من نواقض الوضوء، وهذا قول وجيه قال به ابن تيمية، وقال به جمع من أهل العلم، لكن عند جمهور الفقهاء على سبيل الاحتياط يقولون بانتهاء المدة ينتهي حكم مسحه، فانتهت طهارته التي رُبطت به، فلزمه أن يغسل رجليه ولا يتأتَّى له غسل رجليه حتى يتوضأ وضوءًا كاملًا، فلزمه الوضوء من أصله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ ثَمَانِيَةٌ:
خَارِجٌ مِنْ سَبِيلٍ مُطْلَقًا وَخَارِجٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ وَكَثِيرِ نَجَسِ غَيْرِهمَا وَزَوَالُ عَقْلٍ إِلَّا يَسِيرَ نَوْمٍ مِنْ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في مفسدات الوضوء، متى تذهب طهارة الإنسان؟ متى يُحدث؟
قلنا إن الحدث: هو وصف قائم بالبدن، وهذا الوصف جاء به الشرع وبيَّن أن مَن فعل كذا فقد أحدث، ومَن فعل هذا فقد ذهبت طهارته، فذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ما يحصل به انتهاء الطهارة وانتقاضها، فيسمونها (نواقض الوضوء)؛ لأنها تنقضه فتنتهي الطهارة، أو تفسده فيجب عليه إعادة الطهارة في ذلك.
يقول المؤلف: (نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ ثَمَانِيَةٌ).
كما قلتُ لكم: هذا التَّعداد بناء على ما اجتهد فيه فقهاء الحنابلة وعدوه مما ينتقض به وضوء المسلم، فقد يختلف في ذلك الفقهاء باختلاف مذاهبهم في هذا.
قوله: (خَارِجٌ مِنْ سَبِيلٍ مُطْلَقً).
هذا أول النواقض، وهو الخارج من السبيلين، سواء من القُبُل أو من الدبر للرجل أو للأنثى.
قوله: (مُطْلَقً)، يعني: سواء كان الذي خرج منه طاهرًا أو نجسًا.
أمَّا النجس: مثل البول والغائط والمذي والودي والدم ونحوه، وهذا كثير.
الطاهر: مثل الولادة العارية من الدم.
وقلنا: إن المني لو خرج بغير لذة فيعتبر نجسًا.
فيه شيء آخر وهو ما تبتلى به النساء كثيرًا، والسبيل بالنسبة للمرأة يدخل فيه مخرجيها: أي: مخرج الدم الذي هو الحيض وهو مسلك الذكر ومخرج البول أيضًا، وكذلك الدبر على حد سواء، فمسلك الذكر أحيانًا يكون فيه رطوبة، هذه الرطوبة هي بمثابة العرق، وتختلف النساء في ذلك كثرة وقلة في هذا، فإذا خرجت هذه الرطوبة -التي هي عَرَق- فهو عند الفقهاء بمثابة البصاق والعرق ونحوه من حيث الطهارة، يعني: أنه ليس بنجس، لكن خروجه ناقض للوضوء؛ لأنه خارج من السبيلين، وهذا داخلٌ في قول المؤلف وهو مشهور عند جمع من الفقهاء، فيلزمها أن تتطهر -يعني: أن تتوضأ- وإن لم يلزمها أن تغسل ماء أصاب ثيابها في ذلك. هذا بالنسبة للخارج من السبيلين.
والخارج من السبيلين من البول والغائط ونحوه فإجماع أهل العلم على أنه ناقض من نواقض الوضوء، والأدلة في ذلك كثيرة كما جاء في حديث صفوان: «ولكن مِن غائطٍ وبَولٍ ونَومٍ»، وغيرها كثير.
قال: (مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ وَكَثِيرِ نَجَسِ غَيْرِهمَ).
أمَّا الخارج من غير السبيلين فلا يخلو إمَّا أن يكون طاهرًا أو لا، فإذا كان طاهرًا كمثل العرق، مثل اللعاب الذي يخرج من الفم، مثل البصاق أو المخاط الذي يخرج من الأنف؛ هذا لا ينقض الوضوء، لكن حتى ولو كان قذرًا ليس بنجس.
أمَّا إذا خرج نجسٌ فلا يخلو:
- إمَّا أن يخرج بول وغائط كما لو كان للإنسان فتحة للمصابين ببعض العمليات أو نحوها، إذا خرج بول أو غائط فسواء كان قليلًا أو كثيرًا فينتقض وضوءه؛ لأنهما نجاسة مغلظة، فإذا خرجت من البدن لزم حكمها قياسًا على الخارج من السبيل.
- أمَّا غيرهما مثل التَّرجيع، فإذا قاء شخص فيعتبرون هذا نجسٌ، ومثل ذلك الصديد، لو فقع شخصٌ دُمَّلة كبيرة، فيقولون: والخارج من غير البول والغائط إذا كان من غير السبيلين إذا كان كثيرًا فإنه ينقض الوضوء، فإذا قاء الإنسان فيتوضأ؛ لأنَّ النبي ﷺ في حديث ثوبان: «قَاءَ فَتَوَضَّ»[9]، وهذا في الأشهر من قول الفقهاء أنه يجب به الوضوء.
وألحقوا به مثل ما يخرج من صديد ونحوه، ولذلك قال: (وَكَثِيرِ نَجَسِ غَيْرِهمَ)، أي: غير البول والغائط، فإذا كان كثيرًا فيكون بمثابة النجاسة التي خرجت من السبيلين، فيحكم بالوضوء، وأصل ذلك حديث ثوبان: «قَاءَ فَتَوَضَّ»، فبنوا عليها كل ما ماثله من النجاسات التي تخرج من غير السَّبيلين من الإنسان، فتكون ناقضة للوضوء فيجب عليه أن يتوضأ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَزَوَالُ عَقْلٍ إِلَّا يَسِيرَ نَوْمٍ مِنْ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ)}.
هذا في أحكام النوم، وهي ناقضة من نواقض الوضوء، واعتبارها ناقضة من نواقض الوضوء باعتبار المظنَّة، يقولون: إن النائم في الغالب ينتقض وضوءه، ولما جاء من الحديث عن النبي ﷺ: «الْعَينَانِ وِكَاء السَّه»، أي: رباط السَّه، والسَّه: هي حلقة الدبر، قال: «فَإِذَا نَامَتْ الْعَينَانِ اسْتُطْلِقَ الوِكَاءُ»، ولذلك يكثر من النائم أنه يَخرج منه ما لا يشعر به من رائحة ونحوها، فقالوا: إنه ناقض للوضوء.
على كل حال؛ بما أن الحديث في النوم ربما يسترسل قليلًا، والوقت أزف كما أشار إليَّ المقدِم -قدَّم الله له كل خير ووفَّقه ومَن يسمع لذلك- نكتفي بهذا القدر، أسأل الله لنا ولكم كل خير وهدى وتوفيق وأن يجعلنا وإيَّاكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلِّين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{بارك الله فيك ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستأذنكم إخوتنا المشاهدين في استكمال ما بقي في مجلس قادم، هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين}.
-----------------------
[1] صحيح مسلم (428).
[2] صحيح مسلم (234).
[3] سنن الترمذي (55).
[4] تحفة الأحوذي (1 / 137)، أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (9909) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1455)، والحاكم (2072).
[5] صحيح البخاري (5799).
[6] أخرجه مسلم (276)، والنسائي (129) واللفظ له، وابن ماجه (552)، وأحمد (780).
[7] صحيح الترمذي (96)، صحيح النسائي (126).
[8] حسنه الألباني في "صحيح الجامع" (5318).
[9] صححه الألباني في إرواء الغليل (111).