الدرس الثالث عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

57304 18
الدرس الثالث عشر

أخصر المختصرات

{الحمد لله رب العالمين، وصلاةً وسلامًا على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم.
ثم أمَّا بعد؛ فأهلًا وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا وحيَّاك الله وحيَّا الله المشاهدين والمشاهدات وطلاب العلم والطالبات، أسأل الله أن يتمَّ علينا وعليكم نعمه.
{اللهم آمين، نستأذنكم شيخنا في استكمال ما توقفنا عنده.
توقفنا عند الشرط الثالث، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَيَجِبُ حَتَّى خَارِجِهَا، وَفِي خَلْوَةٍ، وَفِي ظُلْمَةٍ بِمَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد؛ فأسألُ الله جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من عباده الشَّاكرين، ومن عباده المتَّقين، ومن عباده الصَّالحين، وأن يغفرَ لنا حوبنا أجمعين، وأن يغفرَ لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
ابتداؤنا في هذا المجلس بالشرط الثالث من شروط الصلاة وهو ستر العورة مناسبٌ إلى أن نسألَ الله جَلَّ وَعَلَا- أن يسترَ عوراتنا وأن يعفو عنَّا تقصيرنا وأن يتجاوزَ عنَّا خللنا، فكم أخلَّ الإنسان وكم كشفَ لنفسه من عورة؟! وكم أفسد من أمر؟! وكم قصر؟! وكم نقص؟! والله يتولانا برحماته، وكم يحرص الناس على أن لا تبدو عوراتهم الظاهرة في أبدانهم ونحوها، وربما بدا مِن نقصِ صفاتهم وفُحشهم في كلامهم أو سُوءٍ في فعالهم ما هو أعظم من انكشاف عورة البدن وأشد، وقد كثر في هذا الزمان من الإهمال لعورات البدن وعورات النفس، وانكشف في ذلك ما انكشف، وحصل بسبب ذلك من البلاء ما الله به عليم، فعسى الله أن يسترنا وإياكم.
الستر هو فعل الستر، والسِّتر بالكسر وما يُستَر به من غطاء ونحوه.
والعورة: هي النقصان، وتطلق على الشيء القبيح، فكأن المكان الذي يُستَر قبيحٌ ظهوره ومحلُّ نقص بدوِّه، فلأجل ذلك أُمر بستره.
والأمر بستر العورات له متعلقان:
- متعلق عام وشامل.
- ومتعلق للصلاة.
وثَم تشابه بين هذين الأمرين في مسائل كثيرة لكن ربما كان بينهما فرق، والستر في الصلاة أخص من ستر العورة في النَّظر والمشاهدة والمجالسة ونحوها، فلابد أن يُعلم ذلك، وقد يَحكي الفقهاء المسألة على الأمرين، ويشير إشارة لطيفة إلى الفرق، فقد يدرك ذلك أو قد لا يدرك، ولذلك حتى المؤلف هنا كأنه أشار إلى ما يتعلَّق بالأمرين جميعًا، فقال: (وَيَجِبُ حَتَّى خَارِجِهَ)، فيجب أن يتنبه لذلك.
أمَّا اعتبار الستر العورة شرطًا من شروط الصلاة فهذا ظاهر، وقد نقلَ غير واحد من أهل العلم الإجماع عليه، كما نقل ذلك ابن عبد البر وغير واحد من أهل العلم، والله جَلَّ وَعَلَا- في كتابه لما قال: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4]، وقال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]، فالأمر بالطهارة والستر للثياب هو أمر بأن يكون الإنسان على أكمل حالٍ في صلاته، قال تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُو﴾ [الأعراف: 31]، فالأمر بهذه الزينة، منها الزينة الواجبة التي هي ستر للعورة وعدم انكشافها، تمام ذلك في ظهور الإنسان في أبهى حُلته وأكمل طلعته، ولا يختلف أهل العلم في اعتبار ستر العورة شرطًا من شروط الصلاة ولازمًا من لوازمها.
إذا تقرر ذلك؛ فانكشاف العورة ذهاب لشرط الصلاة وسبب لفسادها، لما ذكرنا من أن الشرط إذا عُدم عدمت عدم المشروط وهو الصلاة.
قال: (وَيَجِبُ حَتَّى خَارِجِهَ)، ستر العورة في النظر أيضًا جاء في ذلك أدلة كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: 30]، وقوله ﷺ: «غَطِّ فَخِذَكَ، فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» ، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة الآمرة بأن تستر المرأة نفسها ويستر الرجل عورته ويحفظ المرء نفسه.
ومسائل أحكام النظر وما يجب ستره وما لا يجب ستره تُذكر في موضعين عند الفقهاء:
- في هذا الموضع.
- وفي موضع آخر في أول كتاب النكاح عند أحكام النظر إلى المخطوبة، فيذكر الفقهاء في ذلك تفصيلات كثيرةٍ في النَّظر إلى ما يَحرم، وحدُّ ذلك للصغير والكبير والعبد والحر والأمة وتفاصيل ذلك، وللمحارم ولغير المحارم، تفاصيلٌ كثيرة في ذلك جدًّا، ولعل ذلك هو الموطن الذي يوضَّح فيه على وجه من التفصيل والتوضيح.
لكننا هنا ما دام أن المؤلف قال: (وَيَجِبُ حَتَّى خَارِجِهَ)، فيجب على كلِّ امرأة وكلِّ رجل وكلِّ مكلف أن يحرص على عورته سترًا لها، وحفظًا من بدوها وأنَّه مكلَّف بذلك مسؤولٌ عنه، فإنَّ النبي ﷺ قال في الحديث الذي في الصحيح لَمَّا مَرَّ بالقبرين: «يُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ: بَلَى، كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ» ، بعض شراح الحديث حمل ذلك على انكشاف عورته عند قضاء الحاجة وعدم مبالاته بسترها والحفاظ عليها، فبناء على ذلك يجب الحرص خاصة في وقت تباهى الناس في تتبع الغرب، ومشاكلتهم والسير وراءهم، وفعل ما يفعلون، وهم ينكشفون كما تنكشف البهائم، ولا يعتبرون للعورات اعتبارًا خلافًا لما جاء به الله وجاء به نبيه ﷺ، وكُرِّم به ابن آدم من الحفظ والصيانة كما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- ذلك في كتابه، ودلَّت على ذلكم الأحاديث والدلائل.
قال: (وَفِي خَلْوَةٍ، وَفِي ظُلْمَةٍ بِمَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ)، حتى في خلوة الإنسان وظلمة بحيث لا يراه أحد، وهذا وإن كان ظاهره الوجوب لكن المقصود هو الاستحباب والندب والحرص على ذلك، وجاء في الأثر: "فاستحِ من ربك".
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أبان مهمة، وهو ما الذي يحصل به ستر العورة؟
قال: (مَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ)، فإذا كانت بشرة الإنسان توصَف فعورته منكشفة، فإذًا لو صلَّى شخص وفخذه منكشفتان أو إليته ظاهرة، فهنا نقول: صلاته غير صحيحة، ولو صلَّى شخص وعليه ثوب كهذا الثوب لكنه خفيف يبدو إذا رآه الإنسان من الخارج وعرف أن بشرته بيضاء، أو أن بشرته سوداء، أو أنها بين هذا وذاك: فهذا وإن كان في ظاهره أنه لابس لكنه في حقيقته أنه غير ساتر؛ فبناء على ذلك لم يحقق شرط الصلاة، فلا تصح صلاته في تلك الحال.
قال: (مَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ)، ومثل ذلك أيضًا في النَّظر، فإذا كان الإنسان قد لبس لباسًا لا تُرَى بشرته فيه فقد سترَ، أمَّا إذا كان الناس ينظرون إلى ما لبس فيرون ما وراء ذلك مِنْ إِلْيَةٍ وغيرها، أو بالنسبة للمرأة ما يحرم عليها إبداؤه؛ فهنا قد انكشفت العورة، وحرُمَ النظر وحرُم الكشف؛ فيلحق بكل إنسان إثمه ووزره.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعورة رجل)}.
المقصود بالرجل هنا: هو الرجل البالغ، فعورته في الصلاة ما بين السرة والركبة، وبناء على ذلك فإنَّ الركبة غير داخلة فيه؛ لأن الركبة كبيرة وبعض الناس يظن أنها لابد من ستر الركبة كاملة، فإذا كانت الركبة بادية أثناء الصلاة فنقول: صلاته صحيحة، لكن بشرط ألا تنحسر الثياب عن الركبة فيبدو الفخذ في أوله، فعند ذلك تكون قد انكشفت عورته؛ فيدخل فيه أحكام انكشاف العورة، كما سيأتي تفصيل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لذلك بعد مسائل قليلة.
ويلاحظ هنا أنَّ بعض ما يلبس الشباب من الملابس القصيرة التي تصل إلى الركب هي في الحقيقة ساترة من حيث إذا مشى فيها أو جلس ونحوه، لكنه إذا صلى باعتبار أنه يسجد ويجلس فتنحسر كثيرًا فتبدو العورة؛ فيجب عليه أن يتوقَّى ذلك، وأن يحرص على ثيابٍ يضمن أنه إذا صلى فتحرَّك ساجدًا أو راكعًا أو جالسًا أنه في كل حال من تلك الأحوال لا ينكشف شيء منها.
وهنا يقول الفقهاء: إنَّ الانكشاف يكون من الجنب أو من الجهات أو من فوق لا من تحت، أما من تحت فلا يمكن ستر ذلك في الأحوال المعتادة.
قال: (وَحُرَّةٍ مُرَاهِقَةٍ)، المراهقة التي عند الفقهاء غير المراهق عند أهل علم النفس وغيره، هنا يعتبرون ابن ثمان عشر وخمس عشر وسبع عشر مراهق، أم المراهق عند الفقهاء هو الذي قارب البلوغ ولم يبلغ، فقال: (وَحُرَّةٍ مُرَاهِقَةٍ)، أي التي لم تبلغ، فعورتها ما بين السورة إلى الركبة، فلو صلت في تلك الحال فصلاتها صحيحة، لأن النبي ﷺ قال: «لَا تُقبَلُ صَلاةُ حائِضٍ إلَّا بخِمارٍ» ، دلَّ على أن المقصود بقوله «حَائِض» أي التي حاضت، لأن الحائض ليست ممن يؤمر بالصلاة، فهي لا تصلي مثل ما مر بنا، لكن المقصود مَن بلغت سن الحيض لا تقبل صلاتها إلا بخمار، فدلَّ على أن مَن دون ذلك فإنه يصح صلاتها ولو لم تختمر، وإن كان الأولى والأكمل أن تؤمر بذلك البنات ويحرص عليه، لأن ذلك أعودَ لهن على الستر، وأعون لهن على الاعتياد ذلك وسهولته عليهن.
قال: (وأَمَةٍ مُطْلَقًا)، يعني: أَمَة سواء كانت مراهقة أو كبيرة؛ فإنَّ عورتها ما بين السرة والركبة، كما جاء ذلك في حديث عمرو بن شعيب؛ ولأنَّ عليًّا -رضي الله تعالى عنه- جاء عنه أنه قال: "تصلي الأمة فيما تخرج فيه غالبًا"، يعني: إذا كانت تخرج مُبدية وجهها أو مبدية شعرها أو أطراف يديها فكذلك صلاتها، ولا تعتبر عورة في انكشاف هذه الأشياء منها، وهذا هو المشهور عند الفقهاء، وأيضًا اعتبارًا بما جاء في حديث عمرو بن شعيب، وما جاء عن علي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَابْنِ سَبْعٍ إِلَى عَشْرٍ الْفَرْجَانِ)}.
الصغير من سبع إلى عشر عورته الفرجان، يفهم من هذا أن ابن عشر إلى البلوغ أيضًا يجب عليه ستر ما بين السرة إلى الركبة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلُّ الْحَرَّةِ عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا فِي الصَّلَاةِ)}.
الحرة البالغ يجب عليها أن تستر جميع بدنها إلا وجهها، وسألت أم سلمة النبي ﷺ عن الصلاة في الدرع، فقال: «إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَ» ، فبإجماع أهل العلم أن المرأة البالغ لا يجوز لها أن تصلي مبدية شعرها، ولا يجوز لها أن تصلي مبدية ساقيها أو شيئًا من أجزائها، وأجمعوا أنها يجوز لها أن تصلي كاشفة عن وجهها، بل لا يجوز لها أن تغطي وجهها إلا بحضرة الرجال، فتصلي وهي كاشفة عن وجهها.
يبقى الحكم الكلام في الكفين وظهور القدمين، فظاهر كلام المؤلف هنا أنَّ الكفين والقدمين يجب سترهما اعتبارًا بحديث أم سلمة وهو قول لجمع من الفقهاء، ومن أهل العلم من قال إنها لو بدت كفَّاها فلا غضاضة عليها، أو فلا يمنع ذلك صحة صلاتها، وحصول ستر عورتها. ومثل ذلك أيضًا الخلاف وإن كان اقل في مسألة ظهور قدميها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنِ انْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهِ وَفَحُشَ أَوْ صَلَّى فِي نَجَسٍ أَوْ غَصب ثَوْبًا أَوْ بُقْعَةً أَعَادَ)}.
فيما مضى مع حصول الستر ليس كما الآن تتأتى للناس ثياب كما يريدون، ويلبسون كما يشاؤون وعنده مع اللباس الواحد آخر وثالث ورابع وسادس، فلم يكن الناس في الأحوال المتقدمة يجدون إلا ما يسترون به عوراتهم، ولذلك قال النبي ﷺ لَمَّا سئل عن الصلاة في ثوب واحد، قال: «أوَ كُلُّكم يجِدُ ثوبَيْنِ؟» ، ما كان يجد أحد منهم إلا ثوب.
فبناء على ذلك: لو انكشف شيء من العورة فهل يكون ذلك مُؤدِّيًا إلى فساد الصلاة وفساد شرطها أو لا؟
فالمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- يقول: (وَمَنِ انْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهِ وَفَحُشَ)، فإنه تبطل صلاته، ظهرت مثلًا عورته المغلظة وكَثُر، ما هو بدو شيء قليل أو نحوه، أمَّا لو بدت ثم لفَّها مرة أخرى فحفظها فلا بأس وصلاته صحيحة.
والدليل على ذلك: أنَّ تلك المرأة لَمَّا رأت الإمام وهو يصلي بهم، قالت: «لَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ» ، وكان قارئًا صغيرًا، فاشتروا له جُبة ففرح بها، يقول: «فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ»، فإذًا إذا انكشف بعض عورته وفَحُش -يعني: كثر وظهر، أو ظهرت مدَّة طويلة، كما يحصل لكثير من الذين يُحرمون فينزل الإحرام عن السرة، فيبقى طيلة صلاته على الحال، فنقول: ما دام أنه طال هذا الوقت وفَحُشَ في ظهوره؛ فبناء على ذلك تفسد الصلاة.
ومَن كشف عورته تعمُّدًا ولو وقتًا قليلًا فإنه كأنما قصدَ إفسادها والإخلال بشرطها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ صَلَّى فِي نَجَسٍ أَوْ غَصب ثَوْبًا أَوْ بُقْعَةً أَعَادَ)}.
إذا صلَّى في مكانٍ نجسٍ فإنَّ صلاته غير صحيحة، كما لو صلَّى كاشفًا لعورته، أو غصبَ ثوبًا فصلَّى فيه، فعند الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- وعند الحنابلة على وجه الخصوص، يقولون: إنَّ هذه السترة المغصوبة منهي عنها، والنَّهي يقتضي الفساد، فهذه السترة التي استتر بها وجودها كعدمها، فبناء على ذلك كأنه كما لو كان كاشفًا لعورته.
وهذا خلاف عند الأصوليين مشهور، وهو هل النهي يعود إلى محل واحد، فبناء على ذلك تبطل الصلاة ونحوها؟ أم يمكن أن نقول: إن هذا الذي تُرى عورته صحَّت له الصلاة من جهة لكونها مستورة، وتعلق به إثم الغصب واستعمال المغصوب فيكون آثمًا من جهة أخرى؟
- فمن الفقهاء مَن لم يَفرِق بينهما فجعلها شيئًا واحدًا، وهم فقهاء الحنابلة، وطردوا ذلك في مسائل كثيرة.
- ومنهم من فرق كما هو مذهب جمهور أهل العلم، واختار ذلك بعض محققي الحنابلة كابن تيمية وغيره.

{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لَا مَنْ حُبِسَ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ أَوْ غَصْبٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ)}.
لا مَن حُبس في محلٍّ نجسٍ، أما من احتاج إلى ذلك واضطر إليه فاتقوا الله ما استطعتم، وهذه المسائل فيمَن صلى بثوب نجسٍ أو غيره محلها في الشرط الذي بعده -في الشرط الرابع- لكن ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- على سبيل طرد المسألة فيما يتعلق بمن انكشفت عورته.
قال: (لَا مَنْ حُبِسَ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ أَوْ غَصْبٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ)، فقوله (لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ) قيد ليصدق عليه قول الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ، وهذا لا يستطيع إلا الصلاة في هذا المكان، فهو إما أن يصلي في النجس، وإمَّا أن يترك الصلاة، فيُخَفَّف عنه اشتراط الطهارة، ويصلي حسب حاله، ويكون في ذلك معذورًا، ويستكمل ما قَدِر عليه من الشروط، أما مَن أمكنه فكأنَّه تقصَّد وتقحَّم الصلاة في المكان النَّجس وفعل المحذور؛ فبناء على ذلك لا تصح منه الصلاة وتجب عليه الإعادة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الرَّابِعُ: اجْتِنَابُ نَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي بَدَنٍ وَثَوْبٍ وَبُقْعَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ)}.
اجتناب النجاسات هذا مأمور به في الصلاة، كما ذكرنا قول الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ ، فلا يجوز للمسلم أن يدخل صلاةً وهو حاملٌ لنجاسةٍ لا يُعفا عنها.
ودلائل السُّنة في ذلك أيضًا كثيرة، أشهرها لَمَّا صلَّى النبي ﷺ وفي نعليه نجاسة فخلعهما؛ فخلع الصحابة نعالهم ، فدلَّ على أنَّ المصلي يتخلَّى عن النجاسة، وأمر النبي ﷺ مَن دخل إلى المسجد أن يحكَّ قدميه وأن يمسحهما بالتراب ثلاثًا، إلى غير ذلك من الأحاديث.
فاجتناب نجاسة غير معفوٌ عنها هذا شرط من شروط الصلاة في القول الأشهر، طبعًا هو أخف مما قبله؛ لأنَّ بعض أهل العلم يرى أنَّ ذلك واجب وليس بشرط، وأردت أن أبيِّن حتى يتبيَّن للمشاهدين الطلاب ما ذكرناه من التفاوت بين الشروط، لما جاءوا ونظروا إلى عموم الأدلَّة تدل على أن الإنسان يتوقَّى النجاسة في صلاته، لكن لِمَا جاء في حديث جبريل أنَّه أخبر النبي ﷺ أنَّ في نعليه قذرًا، فأتم صلاته ﷺ ؛ فبعض أهل العلم قال: هذا دالٌّ على أن اجتناب النجاسة واجب وليس بشرط؛ لأنَّه لو كان شرطًا لأُمر بإعادتها كما لو شرع في الصلاة قبل دخول الوقت.
فعلى كل حال؛ الحنابلة أبقوا هذا شرطًا من شروط الصلاة واعتبروه بمجموع الأدلة كلها، وإن كان هذا الشرط في بعض مسائله أخفَّ اعتبارًا من شروط قد تقدَّم ذكرها وبيانها.
وهنا قال: (غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَ)، هل في نجاسة معفو عنها؟
نعم، وهذا ذُكر في اجتناب النجاسة أو في كتاب الطهارة وغيره.
فعلى سبيل المثال: من استجمرَ فبقِيَ في موضع الاستجمار شيء لا يزيله إلا الماء، فهذه النجاسة في محلها معفو عنها، فلو صلَّى الإنسان والنجاسة في محلها لم تنتقل ولم تسل بعرق فتصيبه ثيابه أو تصيبه فخذيه أو نحو ذلك، فهي نجاسة معفو عنها، فصلاته في ذلك صحيحة، وإتيانه بالشرط حاصل.
ومثل ذلك الدم اليسير، وله أمثلة تقدم أيضًا بيانها ويذكرها أهل العلم على سبيل التفصيل في باب اجتناب النجاسة.
قال: (فِي بَدَنٍ وَثَوْبٍ وَبُقْعَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ)، إذًا اجتناب النجاسة في البدن، وهذا ظاهر مثل ما قلنا، وفي الثوب فإن الثياب يُؤمر بتطهيرها، وكذلك البقعة مع القدرة، فإنَّ النبي ﷺ لَمَّا بالَ ذلك الصحابي في المسجد أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه طلبًا لطهارة المكان والبقعة، ولقول الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]، فطُلب التطهير للبقعة، وإذا طُلب تطهير البقعة فهو دالٌّ على تطهير الثياب والبدن من باب أولى، وما اعتبار الطهارة من الحدث إلا شيء من ذلك ظاهر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ جَبَرَ عَظْمَهَ أَوْ خَاطَهُ بِنَجَسٍ وَتَضَرَّر بِقَلْعِهِ لَمْ يَجِبْ، وَيَتَيَمَّمُ إِنْ لَمْ يُغَطِّهِ اللَّحْمُ)}.
فيما مضى كانت الأمور يسيرة، وربما احتاجوا إلى أن يجبروا العظم بأشياء قد يكون فيها نجاسة كعظمِ ميتةٍ أو نحوها، المهم أن لهم فيه التَّطبُّبِ في ذلك ما قد يدخل فيه النجاسة.
قوله: (أَوْ خَاطَهُ بِنَجَسٍ)، أيضًا بعض الشعر الذي يخيطون به قد يكون نجسًا، فهنا لا يخلو، والأصل أنَّ هذه نجاسة وأنه مأمور بالتَّخلص منها، فإذا أمكنه التَّخلص وجب، لكن إذا لم يُمكنه كأن يكون طال عليه الزمان أو تماهى بها الوقت، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إذا تضر بقلعها لم يجب إزالتها، لأن النبي ﷺ قال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، ولأن الله جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]، فما دام أنه يلحق الإنسان ضرر في ذلك -والضرر عن المرء مرفوع- فخفَّف الفقهاء في ذلك طلبًا لاتِّباع ما جاءت به السنة وما وردَ في الكتاب عن الله جَلَّ وَعَلَا.
قوله: (وَيَتَيَمَّمُ)، لأن هذه نجاسة غير مقدور على إزالتها، وعند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ- أنَّ التيمم كما أنه لطهارة الحدث فإنه يكون لاجتناب النجاسة في البدن، فبناء على ذلك يتيمم لأجل ذلك.
قال: (إِنْ لَمْ يُغَطِّهِ اللَّحْمُ)، أما إذا غطاه اللحم فهذا يكون كما دخلَ في داخل البدن، فهي ليست بظاهرة يجب إزالتها، وليس بمقدور إزالتها، وليست بظاهرة يجب غسلها وتطهيرها، فبناء على ذلك كما يكون في أحشاء الإنسان وباطنه من نجاسة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا تَصِحُّ بِلَا عُذْرٍ فِي مَقْبَرَةٍ وَخَلَاءٍ وَحَمَّامٍ وَأَعْطَانِ إِبِلٍ وَمَجْزَرَةٍ وَمَزْبَلَةٍ وَقَارِعَةِ طَرِيقٍ وَلَا فِي أَسْطِحَتِهَ)}.
هذه مواطن ولا تصحُّ الصلاة فيها، والعلة في ذلك عند أهل العلم مختلفة، فبدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- قال: (وَلَا تَصِحُّ بِلَا عُذْرٍ فِي مَقْبَرَةٍ)، المقبرة هي مكان دفن الموتى بشرط أن يكون فيها قبران فأكثر، أمَّا قبرٌ واحد فلا تعتبر مقبرة، فإذا كانت فيها قبور تكون مقبرة، فإذا صحَّ اسم المقبرة عليها فإنه لا تصح الصلاة فيها.
واختلف أهل العلم في علَّة المنع:
- منهم من يقول: لأجل أنها تكون فيها نجاسات ورمم الآدميين ونحوها، وما تحلل منها.
- ومنهم من يقول: إن العلة تعبدية، لا ندري ما السبب.
والظاهر كما غير واحد من أهل التحقيق: أنها وسيلة من وسائل التَّعلق بغير الله جَلَّ وَعَلَا-، فلأجل ذلك قال النبي ﷺ: «وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» ، وكما في حديث جندب أنه نهى عن الصلاة قبل أن يموت، لئلا يكون وسيلة إلى الشِّرك والتَّعلق بغير الله جَلَّ وَعَلَا- كما كان في الأمم السابقة.
قال: (وَخَلَاءٍ)، أي: مكان الخلاء التي تقضى فيه الحاجات.
والحُش: الذي هو مكان النجاسات، وهذا ظاهر في منع الصلاة فيه، ولو كان هذا الحشُّ كبيرًا فيه موطن للحُشِّ وغيره، فما دام أنه واحد فهو داخل في الحكم متساوٍ في العلة، فبناء على ذلك: لا يخرج عن كونه منهيًا عن الصلاة فيه.
قال: (وَحَمَّامٍ)، الحمام هو مكان المستحم، وقد كان في الأوقات الماضية مكانُ استحمامِ الناس الذي تحضَّر فيه المياه الدافئة في وقت البرد ونحوه، وهي أماكن خاصَّة كما كان في الشام وفي المدينة وفي غيرهما من البلدان.
لِمَ نُهي عن الصلاة في الحمام؟
كما قلنا: إنَّ بعضهم قال: إنَّ العلة تعبدية.
وبعضهم قال: إنَّ هذا مكانٌ مبتذَلٌ، تُكشف فيه العورات كثيرًا، وتحضره الشياطين، فليس بمكانٍ يليق بالصَّلاة ويناسب تعظيم الله فيها، فعُظِّمت الصلاة وحُفِظَت أن تكون في مثل الأماكن المبتذلة القذرة، ولا تخلو أيضًا من وقوع نجاسة ونحوها؛ لأنها أماكن نظافة، يُلقي الإنسان قذَرَه وما فضلَ مِن شعره ومُخاطه وغير ذلك، وربما دخلَ مع ذلك ما دخل.
قال: (وَأَعْطَانِ إِبِلٍ)، أعطان الإبل نهي عن الصلاة فيها، وإن كانت عند الحنابلة أن فضلتها طاهرة من بول وروث؛ لأنَّ النبي ﷺ أمر العرنيين أن يشربوا من أبوالها، لكن الصلاة في (أَعْطَانِ إِبِلٍ) منهي عنها، وابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتابه: (العمدة) أطال في العلة في ذلك، وكذلك شُرَّاح الأحاديث.
وأقرب ما قيل في هذا: أنها أماكن تحضرها الشياطين، كما جاء في بعض الآثار «عَلَى ظَهْرِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ» ، ويعرف ذلك مَن صلَّى في هذه المواطن، فإنه يكون للإبل من الهيجان والتَّسلُّط على الآدميين خاصَّة إذا لم يكونوا أهلها ومَن لا تألفه هذه الإبل فإنها قد تتسلط عليه، فلأجل ذلك نُهي عن الصلاة فيها.
قال: (وَمَجْزَرَةٍ)، المجزرة هو المكان التي تذبح فيها بهيمة الأنعام، ومكان الجزارة لا شك أن النجاسة فيه واضحة، لأن فيها دم مسفوح ونحوه، فنُهي عن الصلاة فيها.
قال: (وَمَزْبَلَةٍ)، وهي مكان الزبل الذي يلقى فيه زبل الناس ونفاياتهم وما يستغنون عنه من حاجاتهم، فهذا أيضًا مكان مبتذل، فنُهي عن الصلاة فيه، ولا يخلو أيضًا أن يكون فيه شيء نجس، ولأننا لا نقطع أن الأصل فيه الطهارة، فإذًا لم نهي عن الصلاة فيه؟
قالوا: لأنه مكان مبتذل، توجد فيه من قذر الناس وأوساخهم شيء كثير، فلا يناسب أن يكون ذلك محلًّا للصلاة.
وهذا راجع إلى الحديث «نهى النَّبيُّ ﷺ عن الصَّلاةِ في سَبعَةِ مَواطِنَ» والحديث هذا تُكلِّم فيه، ولذلك بعض هذه المواطن لا إشكال في النَّهي عنها، لأنها جاءت أيضًا من أحاديث أخرى، كالنهي عن الصلاة في المقبرة، وأيضًا الحشوش وهي أماكن النجاسات، والمجزرة، وقد يريد الخلاف في نحو المزبلة وغيرها.
قال: (وَقَارِعَةِ طَرِيقٍ)، الطريق المقروع هو الذي يُسمع فيه قرع النِّعال، فأيضًا هذا يُنهى فيه عن الصلاة فيه لِمَا فيه من أذية الناس؛ لأنَّه يحملهم على أن لا يمروا بين يدي المصلي، فيؤذي الناس، وقد جاء النهي عن أذية الناس في طرقاتهم.
واستثنى من هذا أهل العلم ما يكون من صلاة الجمعة إذا امتدَّت الصُّفوف ونحوها، فقالوا: إنَّ ذلك للضرورة ولحاجة الناس للجمعة والائتمام بالإمام، ولكونها لا تُقضى في غير ذلك الموضع وغيره، فبناء على ذلك استثنوا هذا هذه الحال.
قال: (وَلَا فِي أَسْطِحَتِهَ)، لأنهم قالوا من أن الهواء كالقرار فأسطحة هذه الأماكن كهي، لكن إذا قلنا من أن العلَّة ليست هو ما جاء في الحديث وليست تعبدية، وإنما علة ظاهرة فسيختلف الحكم باختلاف هذه المواطن وباختلاف ما قيل فيها، فإذا كانت المزبلة لها سطح فسطحها لا يدخل فيها، ولا تدخل فيه القذر، ولا يتعلق به ما تعلق بالمزبلة من العلَّة فبناء على ذلك لم يكن في ذلك نهي وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الْخَامِسُ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَلَا تَصِحُّ بِدُونِهِ إِلَّا لِعَاجِزٍ وَمُتَنَفِّلٍ فِي سَفَرٍ مُبَاحٍ)}.
استقبال القبلة هذا هو الشرط الخامس من شروط صحة الصلاة، قال تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144]، فهذا دليل من كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- في وجوب استقبال المصلي للقبلة، وكذلك كان حال النبي ﷺ في دلائل السنة الكثيرة، والأمر بالاستقبال القبلة، قال ﷺ: «مَن صَلَّى صَلَاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَ» ، وقوله ﷺ: «ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ» أحاديث كثيرة.
فإذا لا يختلف أهل العلم في أنَّ استقبال القبلة شرط من شروطها.
قال: (وَلَا تَصِحُّ بِدُونِهِ إِلَّا لِعَاجِزٍ)، مَن عجز عن استقبال القبلة صحت صلاته على حسب حاله، فإذا كان مريض وليس عنده من يوجهه إلى القبلة، وليس به قدرة ولا حركة، فإمَّا أن يُصلي على حسب حاله وحيثما كانت وجهته، وإمَّا أن يترك الصلاة لعدم وجود شرط استقبال القبلة، فيقول أهل العلم: إن الله جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، فيسقط عنه شرط الاستقبال، وتصح صلاته كيفما استقبل وأينما توجه.
قال: (وَمُتَنَفِّلٍ فِي سَفَرٍ مُبَاحٍ)، السفر يباح فيه ما لا يباح في غيره، وباب من أبواب الرُّخص، فمن الرُّخص التي رُخِّص للمسافر فيها أنَّه إذا أراد التَّنفل فإنَّه يتنفَّل حيثما كانت وجهته.
والفرق بين النافلة والفريضة:
أن الفريضة وقتها قليل وقصير، فلا يقطع المسافر عن سفره، ولا يمنعه من سلوك طريقه، فبناء على ذلك لو صلَّى الظهر أو صلَّى العصر أو صلَّى غير وقت، فهو وقت قليل.
لكن النافلة وقتها طويل، فأَذِنَ الشارع للمسافرين أن يُصلي على راحلته، كما جاء ذلك في الحديث الذي في الصحيح عن النبي ﷺ، فيصلِّي الإنسان في الطَّائرة، يُصلي الإنسان في السيارة، يصلي الإنسان على الدابة، كيفما كان وهو مسافر إذا كان نفلًا إلى الوجهة التي هو فيها، بشرط أن يكون السفر مُباحًا، والمباح هو أن لا يكون سفر معصية، والمقصود بسفر المعصية: ألا يكون عاصيًا لله بسفره، كأن يُسافر لقطيعة رحم، أو أن يضرب أو يقتل أو يفعل، أو لإجراء معاملة محرمة كربا ورشوة ونحوها، أو غير ذلك من الأمور المحرمة.
وأُطلق هنا السفر، فهل يُقصد السفر الطويل أو السفر القصير؟
أمَّا السفر الطويل: فلا إشكال في أنه محل لرخصة.
لكن لو كان السفر قصيرًا بأن يكون خرجَ من بلده ولم يبلغ حدَّ السفر الذي تقصر فيه الصلاة وهو أربعة بُرُدٍ أو ما يقارب من سبعين كيلو إلى ثمانين، فبعضهم ينيط ذلك مُطلقًا بالسفر الطَّويل وهذا هو الأصل، وبعضهم ربما ألحق حتى السفر القصيرة بذلك، فأجاز التَّنفل على الراحلة فيه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفرْضُ قَرِيبٍ مِنْهَا إِصَابَةُ عَيْنِهَا، وَبَعِيدٍ جِهَتِهَ)}.
القبلة هي الكعبة، إذا كانَ الإنسانُ قريبًا فليس عليه حرج في أن يستقبل القبلة أو أن يصيب عينها، لكن لو كانَ في العراق أو كان في الشام أو كان في مصر أو كان في غيرها من الديار، فهل يمكن أن يصيب عين الكعبة؟
لا، بل لو كان الأمر كذلك لكان مسجد النبي ﷺ الذي في المدينة ليس مستقيمًا، ولوجب أن يكون فيه شيء من الانحراف حتى يصيب عينها، فالمشهور عند الفقهاء أن البعيد فرضه الجهة، لأن النبي ﷺ قال: «مَا بَيْنَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» ، فأخذ من هذا أهل العلم أنَّ البعيد فرضه استقبال الجهة.
ما حدُّ القريب الذي يجب عليه استقبال العين وحدُّ البعيد الذي يجب عليه استقبال الجهة؟
- بعضهم يقول: مَن قدر، يعني في نحو المسجد وما قاربه، وإذا بَعُدَ استقبل الجهة.
- وبعضهم قال: من في المسجد يستقبل عينها، ومن كان خارج المسجد من أهل مكة في الحرم فإنه يستقبل المسجد، ومَن كان خارج ذلك فإنه يستقبل الجهة.
على كل حال؛ من تباعد وشق عليه أو صعب عليه استقبال عينها فإنه يكون بعيدًا، فيكون تعلق الحكم به استقبال الجهة، ويكفيه ذلك في تحصيل الشرط الذي هو من شروط الصلاة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُعْمَلُ وُجُوبًا بِخَبَرِ ثِقَةٍ بِيَقِينٍ وَبِمَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ)}.
يعمل وجوبا بخبر ثقة، إذا قال له شخص ثقة: القبلة في هذا الاتجاه فيلزمه ما دام ثقة، أما إذا كان غير ثقة فلا يلزمه قبول قوله.
قوله: (وَبِمَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ)، المحراب في الأصل هو ما يكون وسط المجلس ونحوه، لأن المحراب الذي في المسجد فيه الإمام يكون في وسطها، فمحاريب المسلمين دلالة واضحة على جهة القبلة، فيكتفي بذلك ولا يتكلف يقول: لعلها انحرفت لعلها مالت لعلها كذا...، هذا كله لا ينبغي أن يكون، فيستدل بهذه المحاريب ويكتفي بها، ويكون قد حصَّل الشرط المشروط والأمر المطلوب؛ فتصح صلاته في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنِ اشْتَبَهَتْ فِي السَّفَرِ اجْتَهَدَ عَارِفٌ بِأَدِلَّتِهَا وَقلَّدَ غَيْرَهُ)}.
لا يخلو الحال:
- إما أن يكون في بلد: فليس له إلا طريقان: خبر الثقة ومحارب المسلمين، لأنه لا يتعذر عليه معرفة القبلة.
- أما إذا كان خارجها فيجتهد، فليس ثم محاريب وقد لا يجد أحدا، فبناءً على ذلك يجتهد، بأن يكون عارف بأدلتها، فإذا كان عارفًا بالجهات ومطالع النجوم ومغيبها وحركة الأفلاك وتغيرها، فيستدلّ بذلك إلى الى الجهات فيعرف بذلك جهة والقبلة، أو يستدل بالشمس، أو ببعض ما جدَّ من الآلات فإنه لا حكرَ في ذلك ولا حصر، وقد ذكر الفقهاء من أنواع ما يستدل به مما وُجد في الأعصار ما وُجد، وقد وُجِد في هذه الأعصار من الأدلة الكثيرة المتيقَّنة القريبة أسهل ما تكون في الاستعمال، وأدق ما تكون في الثقة والتوضيح والبيان.
فبناء على ذلك: إذا كانت هذه الدلائل موجودة وهو عارف بها، يعرف يستعمل أيقونة البوصلة والجوال وما فيه من دلالة، ويعرف أن هذا الموقع أو هذا البرنامج موثوق أو مجرَّب فيستدل به، مَن عرف بالنجوم كذلك، سواء الأشياء القديمة أو الحديثة اعتبرها، فيلزمه الاجتهاد، وهذا فرضه ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ .
قوله: (وَقلَّدَ غَيْرَهُ)، أما من لا يعرف فعليه التقليد، فبناء على ذلك لو اجتهد المقلِّد الذي لا معرفة له بالأدلة فيكون مخطئًا، نقول: اعمل مثل فلان، لأنه ما يعرف النجوم، حتى ولو وافق فإنه لم يفعل ما أمره الله به مما يلزمه وهو الاقتداء بغيره، لكونه ليس أهلًا للاجتهاد ولا عارفًا به.
فبناء على ذلك: يلزمه التقليد لا غير، فلو اجتهدَ لفعلَ ما ليس له فعله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِنْ صَلَّى بِلَا أَحَدِهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ قَضَى مُطْلَقً)}.
كما أنَّ مَن يعرف وله قدرة على الاجتهاد لو صلى بدون اجتهاد لفسدت صلاته، ولم يؤدِّ شرطه الذي اشترط الله عليه، فإذا كانوا في السفر فكل واحد منهم يناظر كل واحد ويدقِّق، لأن هذا يعرف يستعمل وهذا يعرف يستعمل، فيتيقنان جميعًا الجهة حتى يعتبرانها، فلو لم يجتهد حتى ولو أصابها فصلاته غير صحيحة لأنه أخل بما أمر الله به إذا كان عنده آلة الاجتهاد والقدرة عليه.
قال: (إِنْ صَلَّى بِلَا أَحَدِهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ قَضَى مُطْلَقً)، صلَّى القادر على الاجتهاد بدون اجتهاد أو مَن يلزمه التَّقليد صلى بدون تقليد، توجَّه إلى جهة وقال: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ، وهذا يوجد كثيرًا في هذه الأوقات، أنَّ أناسًا يتساهلون يرددون عبارة صحيحة في غير وجهها، ويقولون: الدين يسر، لا تشدد علينا! نقول: صحيح، لكن التشديد أن يُطلب منك ما لا تطيق، وأن يطلب منك ما لا تستطيع، أمَّا ما تستطيعه فحق أن يُعظَّم، وحق الله جَلَّ وَعَلَا- أن يُجتهد فيه ويطلب، وحق الله جَلَّ وَعَلَا- يُمضى فيه الوقت، أما أن يذهب الناس لمتعٍ وتنزُّهات فيُمضون الساعات حتى إذا بقيت هاتان الركعتان أرادوا أن يؤدوها كما كيفما شاءوا! ووجدوا من الثقل ما وجدوا! فلا ينبغي للإنسان أن يتساهل في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
نكتفي بهذا القدر نظرًا لضيق الوقت}.
ما دام أنَّا قد انتهينا إلى الشرط السادس، لعل فيه كفاية وفائدة، أسأل الله جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من الموفَّقين، شكرَ الله لزملائنا في هذه الجادَّة (جادة العلم) وطريقه الهادي إلى سلوك سبيل أهله، نسأل الله جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من أهل العلم وأن يرفعنا بذلك، وأن يوفقنا لتفصيله، وأن يجزي كل من سعى في ذلك خير الجزاء، وأن يغفر لنا ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، صلَّى الله وسلَّم وبارك على النَّبي الأمين.
{اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد.
بارك الله فيكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة بإذن الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك