{الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، صلى الله وسلم على خير من صلَّى وصام، وتعبَّد وقام، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام، ثم أمَّا بعد:
فنرحب بكم أعزاءنا المشاهدين المستمعين في مجلس ثالث من مجالس شرح متن أخصر المختصرات، يشرحه الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، حياكم الله صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا، حياك الله، حيا الله طُلاب العلم وطالباته، حيا الله الجميع، أسأل الله أن ينفعكم، وأن يزيدكم، وأن يُبلغكم الخير، وأن يُبقيكم في هُدى وتوفيق، وصلاح وطاعة، وبرٍّ وقربةٍ يا رب العالمين، تفضل.
{اللهم آمين، نستدرك شيخنا في القراءة}.
استعن بالله.
{أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (طَهَارَةُ الْآنِيَةِ
فصلٌ، كُلُّ إِنَاءٍ طَاهِرٍ يُبَاحُ اتِّخَاذُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا أو فِضَّةً أو مُضَبَّبًا بِأَحَدِهِمَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: فأسأل الله جل وعلا أن يُبلغنا في العلم مَنزلة، وأن يُعلي فيه لنا درجة، وأن يُبقي لنا فيه الأجر والمثوبة، وأن يجعلنا وإيَّاكم فيه من المخلصين، وأن يَغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف رحمه الله تعالى بعدما أنهى ما يتعلق بأحكام المياه أقسامها على وجهٍ من الاختصار والتقليل من المسائل، وإلَّا فَثَمَّ مسائل وتفصيلات في كل نوع من أنواع المياه كثيرة جدًا، ولقد اقتصر المؤلف على أصول هذه المسائل وكبارها.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف بعد المياه هو في الآنية، وذلك لأنَّ الماء لابد له من ظرف يحويه وإناء يحمله؛ ليتوضأ منه المتوضئ ويتطهر منه المتطهر، فلذلك قال: (فَصلٌ، كُلُّ إِنَاءٍ طَاهِرٍ) فهو في الآنية، (كُلُّ) هذه من الألفاظ التي يستعملها الفقهاء وينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها، فهي دالة على العموم والشمول، فتكون له بمثابة الضابط والقاعدة؛ لأنَّ الأواني إن كانت من نحاسٍ أو كانت من زجاج أو كانت من حديدٍ أو كانت من سوى ذلك فهي طاهرةٌ، ولذلك قال: (كُلُّ إِنَاءٍ طَاهِرٍ) فالأواني الأصل فيها الطهارة، سواء صُنعت من الجلود أو صُنعت من المعادن أو ما سواها، هذا هو الأصل فيها.
(يُبَاحُ اتِّخَاذُهُ) للإنسان أن يتخذها فيجعلها زينة أو جمالا في مكانه أو بيته (إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا أو فِضَّةً أو مُضَبَّبًا بِأَحَدِهِمَ).
(وَاسْتِعْمَالُهُ): كذلك يُباح استعمالها في كل أحواله، سواء استعملها في طبخٍ أو غسلٍ أو أكلٍ أو سواها، أو كذلك استعمالها في الوضوء والغُسل من الجنابة.
فإذًا هذه الأواني يُباح اتخاذها واستعمالها كيفما كان، وهذا هو الأصل فيها.
قال: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا أو فِضَّةً) هذا استثناءٌ ودلَّ على أنَّ الممنوع إنما هي شيء يسير قليل؛ لأنَّ المستثنى دائمًا أقلَّ من المُستثنى منه، كما هو المشهور من المذهب عند الحنابلة وهو قول مشهور عند جمعٍ من أهل اللغة.
(إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا أو فِضَّةً) أمَّا أواني الذهب والفضة فقد جاء النصُّ بتحريمها وتغليظ التحريم فيها، فجاء في حديث حذيفة وحديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَلَا تَشربوا في آنِيةِ الذَّهَبِ والفضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِها؛ فإنَّها لَهُمْ فِي الْدُّنْيَا، وَلَنَا فِي الْآخِرةِ» ، وجاء عن أم سلمة في مسلم: «الَّذي يَشرَبُ في إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِه نَارَ جَهنَّمَ» ، فاستقرَّ القول عند أهل العلم أنَّ أواني الذهب والفضة محرمةٌ، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم.
قال أهل العلم: "لَمَّا كان الحديث دالٌ على تحريم الأكل والشرب وهو الأكثر والأغلب دلَّ على أنَّ ما سواهما أظهر في الحُرمةِ والمنع"، وهذا هو المستقر عند أهل العلم.
فبناء على ذلك، لا يجوز أنواع الاستعمالات؛ لأنَّ الأكل الذي هو الأهم ممنوع والشرب، فكان استعمالها في وضوء أو استعمالها عادة أو في طبخ أو في غسل أو في نقلٍ أو في حفظٍ أو في غيرها لا يجوز، وإذا لم يجز استعمالها فلا حاجة في اتخاذها؛ لأنَّ ذلك وسيلة للاستعمال، فَمَا حَرُمَ الاستعمال الذي هو الأصل حَرُمَ مَا كانَ طريقًا إليه وهو الاتخاذ، وهذا هو المستقر عند أهل العلم.
فإذا حرمت المعازف وآلات الموسيقى ونحوها استعمالا، فلا يجوز لإنسان أن يشتريها فيتخذها عنده زينة من باب أولى؛ لأنَّ ذلك وسيلة إليه، فكذلك أواني الذهب والفضة.
التحريم متعلق بالذهب والفضة بخصوصهما، فلو كان عندنا إناءٌ ثمين للغاية، كما لو كان مثلا من الألماس أو من الكريستال الغالي أو من أنواع المعادن الثمينة جدًا، فلا يَدخل في تحريم الذهب والفضة لخصوصهما، فهي باقية على الأصل وراجعة إلى قوله: (كُلُّ) فهي داخلة الطهارة، قد يمنع منها لأمر خارج عنها لا لذاتها، يعني: قد يكون محرم على شخص أن يشتري آنية من الألماس لكونها إسراف في حقه، لكونه ذا دَخْلٍ يسير؛ لأنَّ الإسراف كل بحسبه. نعم.
فبناء على ذلك يمنع أي يحرم، لكن ليس لأجل أنَّ هذا الإناء ممنوع، لكن لأنَّ هذا الشراء لا يليق به ولا يُناسبه، فإذًا كل ما نحن بصدده هو الأواني من حيث ذاتها، فإذن جاء النهي عنها في السنة الصحيحة، وهو مستقر عند أهل العلم، فإذا تعلق الحكم بالأكل والشرب الذي هو الغالب دلَّ على أنَّ ما سواها داخل في ذلك من باب أولى.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أَوْ مُضَبَّبًا بِأَحَدِهِمَ) الضبّ هي في الأصل كانت في الباب مثل: كهيئة الضب، يعني: القطعة، فيكون الْمُقَطَّع مِن الذهب أو الفضة في الأواني كحكم آنية الذهب والفضة الخالصة، فكيف مَا ُوِجَد فِيهِ فَهُوَ مُحَرَّم، فإذا كان مُموهًا، فجعل فيه ماء الذهب الذي يبقى معه أجزاؤه، أمَّا لو كان لون (فقط) فهذا لا يعتبر آنية ذهب وفضة؛ لأنَّه لا جُرمَ يبقى للذهب والفضة فهو اكتسب من لون الذهب والفضة، ولون الذهب والفضة ليس ذهب ولا فضة، لكن لو كان حيث لو استخلص لبقي جزء ولو يسير من الذهب والفضة، فهذا فيه آنية ذهب وفضة.
فإذًا المضبب بضبة كقطعة أو الْمُكَفَّت الذي جعل على أنحائه أو الذي جعل مَطليا بها أو نحوها كلها في أواني الذهب والفضة داخلة في حكم المنع منها.
وليعلم الآن أن كثيرًا من المحال خاصة الفارهة في بعض الفنادق والمطاعم ونحوها؛ فإنهم يُكثرون من استعمال آنية الفضة على وجه الخصوص، وقد يوجد ما طُعِّمَ بآنية الذهب، فليحرص المرء الذي يخاف على دينه ويخشى الله جل وعلا أن ينتهك أمره، أن يتعاطى ذلك أو شيئا منه، وَلِيُحَذِّرَ غيره؛ حتى لا يستشري الشر وينتشر هذا البلاء الذي جاء التحريم والتغليظ فيه.
قال: (أَوْ مُضَبَّبًا بِأَحَدِهِمَ) يعني: بذهب أو فضة، فكل ذلك لا يجوز ولا يحل، وكما قلنا: المضبب أو المكفت أو المطلي كلها كشيء واحد، فما فيه شيء منهما محرم.
قال رحمه الله: (لَكِنْ تُبَاحُ ضَبَّةٌ يَسِيرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ لِحَاجَة) هذا مُستثنى من المستثنى، فإذًا آنية الذهب والفضة محرمة، لكن لو احتيج كإناء انكسر وَلُحِمَ بفضة وجعلت فيه؛ كان ذلك جائزًا ما دام أنها أولا من فضة ولحاجه ويسيرة، فلا تكون غالبة، ولا تكون كثيرة، ولا تكون لغير حاجة، ولا تكون من غير الفضة. هل هذا واضح؟
لأنَّ قدح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث انكسر فاتخذ مكان الكسر أو الشعب سلسلة من فضة، كما جاء في الحديث الذي في الصحيح. واضح؟
وقولنا: (لِحَاجَة) يعني: إذا احتيج إليه، و (الحاجة) أدنى درجات الحاجة، بمعنى أنه لو كان عنده إناء انكسر من فضة -إناء عادي انكسر- ويمكن أن يلحم بفضة ويمكن أن يلحم بغيره، فلو لحمته بفضة لجاز ذلك؛ لأن الحاجة داعية إليها، لكن بهذه القيود:
أن تكون يسيرة.
وأن تكون لحاجة.
وأن تكون من فضة.
{نعم، أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَمَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهُ مِنْ آنِيَةِ كُفَّارٍ وَثِيَابهمْ طَاهِرَةٌ)}
أواني الكفار ما المقصود بها؟
ليس المقصود بها الأواني التي يصنعها الكفار، كما تأتي الآن من مصانع كثيرة من الشرق أو الغرب، لكن المقصود بآنية الكفار: الآنية التي يستعملها الكفار، وذلك لأنَّ الكفار لا يتورعون من استعمالها في النجاسات، كطبخ خنزير أو كلبٍ أو خمرٍ أو سواها في ذلك.
فبناء على ذلك، هل هذه الأواني يجوز لنا استعمالها أو لا؟
فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: إنَّ الأصل بقاء استعمالها صحيحة وطاهرة، فلذلك قال: (وَمَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهُ)، ولَمَّا سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن آنية الكفار قال: «لَا تَأْكُلُوا فِيهَا، إِلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا وكلوا فيه» ، فالأصل أنها طاهرة ويجوز استعمالها لكن تُتقى.
فإذا كان الإنسان لا يحتاج إليها لِمَا عُلِمَ من كثرة استعمالهم للنجاسات وعدم توَرُّعهم منها، فينبغي ألا يستعملها، لكن من حيث الأصل يجوز ذلك، وإذا لم تعلم النجاسة فالأصل بقاء طهارتها، فإذا كان فيها نجاسة أو نحوه فغسلت ذهبت وجاز استعمالها، وتطهرت بتطهيرها.
أمَّا قوله: (وَثِيَابُهُمْ) المقصود بذلك ثياب الكفار التي يلبسونها، يعني: لو افترضنا أنَّ شخصًا الآن كان عنده صديق يهودي أو نصراني أو سواهما من الملل غير المسلمة، فنزع ثيابه فألبسك إياها؛ جاز لك أن تلبسها وأن تُصلي فيها؛ لأنَّ الأصل أنها طاهرة، وما لم تعلم النجاسة فالأصل بقاء الطهارة، واليقين لا يزول بالشك، فكذلك الطهارة لا تزول إلا بيقين النجاسة.
فبناءً على ذلك يقول الفقهاء: حتى ولو وليت عوراتهم، يعني: لو كانت ألبستهم التي يلبسونها كسراويل وغيرها، فإنها كذلك طاهرة إلا أن تعلم نجاستها، هذا هو الأصل، وكما قلنا: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَذِنَ في استعمال آواني الكفار.
{أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (وَلَا يَطْهُرُ جِلْدُ مَيِّتَةٍ بِدِبَاغٍ)}.
لَمَّا كانت الجلود كثيرًا ما تُستعمل في الأواني احتاج أن يُنبه المؤلف رحمه الله تعالى إلى أحكام الجلود وما يتعلق بها، خاصة فيما مضى من الأزمنة كان أكثر ظروفهم وما يحفظون فيه الودك والسمن واللبن والماء إنما هو في ظروف الجلود وقربها ونحوها، وكذلك بعض الجِرار ونحوها.
فيقول المؤلف رحمه الله: (وَلَا يَطْهُرُ جِلْدُ مَيِّتَةٍ بِدِبَاغٍ) الميتة كل ما مات حتفَ أنفه أو ذُكِّيَ ذكاةً غير شرعية، يعني: يكون ذَكَّاه من لم تَصِحُّ تذكيته، كالبوذي والمشرك، أو أنه مات حتف أنفه على غير وجهٍ صحيح فيعتبر ميتة، فبناءً على ذلك، هذه الجلود -جلود الميتة- لا تطهر بدباغ، وعند الحنابلة -رحمهم الله- الحكم بنجاستها للجلود كلها سواء كان جلد مأكول اللحم -طاهرٍ في الحياة- أو سواها؛ لأنهم يقولون: إنَّ حديث عبد الله بن عكيم كان آخر ما أمَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت: «أَنْ لَا يَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيتةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ»، وإن كان هذا الحديث فيه اختلاف كثير، لكن هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة.
الدباغ ما هو؟ الدباغ هو عملية يُستعمل فيها نوع من القرظ والنباتات، وقد تطورت الآن ببعض الأشياء الكيميائية لذهاب عفونة هذه الجلود، ونقائها وترطيبها وتليينها، فتبقى لينة ولا عفن بها، فهذا هو الدباغ.
فإذًا هذه الميتة تكتسب هذه الجلود من العفونة ونحوها، فإذا أرادوا أن يستعملوها يدبغوها، فهل يمكن للمسلم أن يستعملها أو لا؟ هذا هو محل الكلام.
فمشهور المذهب هو هذا، لكن الخلاف في هذه المسألة من المسائل التي اشتد فيها الخلاف، ولذلك جاء في الحديث الآخر: «أيُّما إهابٍ دُبِغَ فقد طَهُرَ» ، وجاء في الحديث الآخر: «دِباغُ الْأدِيمِ ذكاتُهُ» ، يعني: أنَّ الأديم الذي هو الجلد دباغه بمنزلة زكاته، الحيوان الذي ذُبح ذبحًا شرعيًا جلده طاهر، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الدباغ لجلد هذه الميتة بمثابة الذكاة للحيوان في الحكم بطهارة جلوده؛ فلأجل ذلك ذهب جمع من أهل العلم إلى أنَّ ما يُؤكل لحمه إذا مات فدبغ جلده فإنه يُحكم بطهارته.
فبناء على ذلك، ما يأتينا من جلود عند الكفار مٌصنعة سواء في حقائب أو في غيرها، هل هي ميتة أو لا؟! وبعضها تأتي من دول ليست ممن تصح زكاتهم، يعني: ليسوا يهودا ولا نصارى، فبناء على ذلك إذا قلنا: إنَّ الدباغ ينفع ويكون بمثابة الذكاة جاز استعمالها، وحملها ولو في صلاة أو في حج أو في طواف أو في غيره، وإذا قلنا: لا، فتبقى نجاستها، وكثيرًا ما يُبتلى الناس بمثل ما يلبس من الساعات، وأساورها مصنوعة من الجلود، ومثل ذلك أيضًا المحافظ التي تجعل في الجيوب، قد تكون في بعض الأحوال من هذه الجلود الميتة.
على قول الحنابلة أنها لا تطهر إلا أن تكون مُذكاة، فإذا لم تكن مُذكاة فهي ميتة ودباغها لا ينفع؛ فتكون نجسة.
أمَّا على القول الوسط، فـ (ما كان مأكولاً لحمه) كما هو المذهب عند الشافعية، وقول عند جمع من أهل العلم أو (طاهًرا في الحياة) فتنفع فيه الذكاة لحديث «دِباغُ الْأدِيمِ ذكاتُهُ»، «أيُّما إهابٍ دُبِغَ فقد طَهُرَ» والإهاب هو الجلد، فيمكن أن يكون ذلك فيه سعةٌ وفيه تيسير على الناس، وحظه من الدليل ظاهر، وهو قول عند جماعةٍ كثيرة من الحنابلة، والخلاف في هذه المسألة شهيق، ولذلك احتجنا إلى الإشارة إليه وبيانه، وأيضًا لتعلقه بالواقع وعمل الناس.
أمَّا الجلود التي لا تطهر في الحياة، كجلود السباع والحيات والثعابين، فعند جمعٍ كبيرٍ من أهل العلم أنها لا تطهر، وبناء على ذلك لا يجوز أن تُحملَ في حال صلاةٍ، ولا في طواف ما دام أنه تُشترطُ له الطهارة، ونحو ذلك ممَّا يعتبر الطهارة فيها.
{أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (وَكُلُّ أَجْزَائِهَا نَجِسَةٌ إِلَّا شَعْرًا وَنَحْوَهُ)}
قوله: (وَكُلُّ) يعني: وكل أجزاء الميتة نجس؛ وذلك لأنَّ العفونة التي بالموت تتخلل أجزاءها وتُداخلها، فلا يجوز الانتفاع بالميتة، وهذا قول عامة أهل العلم.
استثنى من ذلك ما لا نفس له سائلة، ما معنى لا نفس له سائلة؟
يعني: البعوض والبق مما لا يسيح دمه، وكذلك الحشرات الصغيرة، وهذه لا أثر لها، لكن الميتة سواء كانت غنمًا أو إبلاً أو حصانًا أو غيره فهي إن ماتت حتف أنفها فهي نجسة وكل أجزائها نجسة، وبناء على ذلك لا يجوز الانتفاع بها.
لو أخذ قرنها نقول: القرن تنبت فيه الحياة فيكبر فكان تبعًا لها، كما أنه تسري فيه حياة هذه البهيمة، وتنتشر فيه عفونة موتها، وبناء على ذلك لا يبقى طاهرًا.
قال: (إِلَّا شَعْرًا وَنَحْوَهُ) لكن الشعر قالوا: إنه منفصل، وجرت العادة على أنه يُقص وَيُجَزُّ وينتفع به الناس، ولأجل ذلك كان لا إشكال عند أهل العلم في أنه يجوز الانتفاع به، وتعتبر طهارته حتى ولو أخذ من ميتة، لكن يشترطون في هذا ألا يُنْتَف؛ لأنه إذا نُتِفَ فإنَّ أصول هذا الشعر يكون فيه من أجزاء الميتة من جلدها ونحوه، الذي هو متعفن بالنجاسة، فلا يجوز.
أمَّا إذا قُصِفَ فهو في حكم المنفصل ولا يعتبر له حكم الميتة، ولا تنتشر فيه عفونتها، وبناء على ذلك يُحكم بطهارته.
{أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (وَالْمُنْفَصِلُ مِنْ حَيٍّ كَمَيْتَتِهِ)}.
قال: (وَالْمُنْفَصِلُ مِنْ حَيٍّ كَمَيْتَتِهِ) هذه كالقاعدة، وجاء بها أثر، وهو: «وما أُبِيْنَ من حيٍّ فهو كميْتتِهِ» فيحكم بالنَّجاسة، فإذا افترضنا مثلا أنَّ رِجْلَ ذِئبٍ، فميتته نجسة فهو نجس، كذلك لو كان قطعة جلد من شاة، فالشاة ميتتها نجسة، فبناء على ذلك لو حملت هذا الجلد أو عظمها أو سنها فهو نجس، فبناء على ذلك يكون نجسًا، فـ «ما أُبِيْنَ من حيٍّ فهو كميْتتِهِ» أي: لا يجوز استعماله.
استثني من ذلك مُستثنيات، استثني من ذلك البيضة إذا صلب قشرها؛ لأنها إذا لم يصلب قشرها وانفصلت تكون نجسة، أمَّا إذا تصلب قشرها يقولون: إنها تكون طاهرة، ومثل ذلك الولد للبهيمة يولد، فميتة البهيمة نجسة، لكن لا يمكن أن نقول: إنَّ ولدها نجس، ومثل ذلك المسك وفأرته، المسك يُستخلص من نوع من الغزلان إذا اشتد جريانها، فتتحجَّر في بعض أجزائها مثل القطعة ثم تنفصل، وينتفع الناس به كثيرًا، ويستعملونه في الأطياب، وهو من أنفسها وإن كان لا يستعمل وحده، ولهم طرائق فيه، فهذا المسك وفأرته، الأصل أن يحكم بنجاسته، لكن عند أهل العلم أنه مُستثنى من ذلك، ومحكوم بطهارته، وجائز استعماله؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استطاب المسك وتطيب به، فكان ذلك دالٌ على جوازه وطهارته.
والطريدة، ما الذي يقصد بها؟ يعني: لو تم مُطاردة صيد فَأُمسِكَ برجلها فانقطعت، ميتة الصيد نكون ماذا؟ ميتة الصيد طيبة وحلال أكل لحمها والانتفاع بها، فهذه الرِّجْلُ التي انقطعت كذلك، لكن هُنا شرط مُهم للغاية لابد أن يُتنبه له، وهو أنه لابد إذا انقطعت رجلها مثلاً أن تكون هي قد ماتت، أمَّا لو بقيت في حال حياتها فلا يُنتفع بهذي الرجل.
لكن مثلا افترضنا أنها في رأس جبل، فاجتروها وهي في مضيق فانقطعت رجلها فسقط جزؤها أو اكثرها فتدهده في الجبل فيراه الناس ميتة لكن لم ينتفعوا به، لأنهم لا يستطيعون الوصول إليه، فنقول: هذه الرجل التي اصطدتموها هي جزء من هذه الميتة، وميتة الصيد جائز الانتفاع بها، فيجوز الانتفاع بهذه الرجل، هل هذا واضح؟
والطريدة يظنونها على الإطلاق هي الصيد انه ما قطع منها، لا، بشرط أن تكون قد ماتت، أمَّا إذا بقيت على قيد الحياة فلا يُنتفع بها.
{نعم، أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (فَصْلٌ، الِاسْتِنْجَاءُ وَالِاسْتِجْمَارُ، الِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ مِنْ كُلِّ خَارِجٍ إِلَّا الرِّيحَ وَالطَّاهِرَ وَغَيْرَ الْمُلَوَّثِ).
انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد المياه والأواني إلى التخلص من النجاسة، وهو مقدمة للوضوء والطهارة، فهذا الفصل في (الِاسْتِنْجَاءُ وَالِاسْتِجْمَارُ) والاستنجاء: السين والتاء دالة إمَّا على الوجدان وإمَّا على الطلب، إمَّا أن نقول: إنه طلب القطع النجاسة، وقد نقول: وجود الخلاص من النجاسة وقطعها، فإذا قلنا مثلا: استكبر فلان، يعني: وُجِدَ منه الكبر، وليس معناه طلب الكبر، بل هو وجد منه الكبر، وإذا قلنا: استغفر فلان، يعني: طلب المغفرة، فالسين والتاء تُطلق على هذا وهذا، وأكثرها تكون دالة على الطلب.
فالاستنجاء هنا من النَّجو وهو القطع، فالمقصود منه: قطع النجاسة، وهو في الاصطلاح: ازالة الخارج من السبيلين بالماء أو بالحجارة ونحوها، على وجهٍ تحصل به الطهارة، واضح؟
يقول المؤلف رحمه الله: (الِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ مِنْ كُلِّ خَارِجٍ) قطع النجاسة من السبيلين واجب، ولا تتأتى الطهارة إلا به، والنبي صلى الله وسلم قال في حديث الرجلين: «إنَّهما ليُعذَّبانِ وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ ثمَّ قال: بلى أمَّا أحدُهما فكان يسعى بالنَّميمةِ وأمَّا الآخَرُ فكان لا يستنزِهُ مِن بولِه» ، فأمر المسلم بالتنزه من البول وقطع النجاسة، وهو شرط للطهارة -للوضوء والغسل- لا تتأتى إلا به.
قال: (مِنْ كُلِّ خَارِجٍ) وهذا إشارة إلى ما تقدم، (كُلِّ) أي خارج من السبيلين، فيجب غسل السبيل منه، فلو خرج من الإنسان بول أو خرج منه غائط أو خرج منه دم أو خرج من سبيليه، والسبيلين هو مخرج البول ومخرج الغائط، أو خرج منه مذي أو خرج منه ودي، والودي وإن كان لا يخرج كثيرًا لكنه قد يخرج، فكل هذه الأشياء يجب أن يَستنجي الإنسان أو يستجمرَ عقب عقيبها.
قال المؤلف رحمه الله: (إِلَّا الرِّيحَ) أمَّا الريح فُساءً كانت أو ضراطًا، والفرق بينهما أنَّ الفُساءَ بدون صوت، بينما الضراط يكون بصوت، وكلها ريح ولكنها غير مُوجبة لغسل السبيل؛ لأنها لا جرم لها.
ويقول أهلُ العلم: لو أنَّ شخصًا كان جالسًا على إناء ماء، فأصاب فساؤه أو ريحه هذا الماء، فإنَّ الماء يبقى على طهوريته، لماذا؟
لأنه لا جرم للريح، لا جرم لها، هي عرض شيء يتطاير لا يبقى، فبناء على ذلك يكون خروج الريح ليس بموجب لغسل السبيلين.
(وَالطَّاهِرَ) مثل ماذا؟
(وَالطَّاهِرَ) مثل: المني، فعند الفقهاء -رحمهم الله- أنَّ المني لا يوجب ماذا؟
لا يجب غسل السبيل إذا خرج منه؛ لأنه طاهر، لكن هل يتصور هذا؟
في الغالب أنَّ المنيَّ لا يخرج إلَّا بعد خروج مذي، هذا كثير جدًا فيتوجب لأجل غسل المذي، نعم، لكن لو خرج مني بدون دفق ولا لذة، وهذا ممكن في بعض البرد أو لمرض، لكن عند أهل العلم أن المنيَّ إذا خرج في غير هذه الحال لا يُعتبر طاهرًا.
إذن، إذا خرج المني دفقًا بلذة وتصور أن لا يكون معه شيء آخر كمذي ونحوه، لا يوجب استنجاء ولا غسل السبيل الذي خرج منه.
فإذًا (الطَّاهِرُ) يقولون: الولد العاري من الدم، إذا وجدت ولادة عارية عن الدم، هذه يمثل بها الفقهاء كثيرًا، هل وجدت أو لم توجد؟ الحقيقة أني سمعت مشايخنا يقولون: إنها لم توجد، إلا أنه اتصل بي شخص وسأل مرة عن أنَّ امرأةً ولدت ولم يخرج معها دم، هل عليها نفاس أو لا؟ فالمهم أنَّه ذكر لي، ولَمَّا أغلقت السماعة جاء في بالي أنني أتحقق منه فلم أصل إليه بعد ذلك، هل هذا وقع أو هو كما قال الفقهاء إنه لم يتصور في الواقع كثيرًا! لكن على كل حال ذُكِرتْ لي هذه الواقعة دون التحقق من تفاصيل الأمر، هل فعلا لم يكن معه أي دم، فيكون مثالاً صحيحًا عند الفقهاء أو أنه مجرد مثال فقط للتعليم، فيقولون الولادة العارية من الدم لا توجب استنجاء.
قال: (وَغَيْرَ الْمُلَوَّثِ) غير الملوث مثل ماذا؟
مثل الشيء الناشف، الذي لا يبقى له أثر، كما لو نزل قطعة حجر من الإنسان أو غيره، فإذًا إذا كان غير ملوث، فالمقصود بالاستنجاء وإزالة النجاسة فما دام ألا نجاسة فلا يلحق به حكم إزالتها، أمَّا إذا وجدت النجاسة وشيء بقي على أحد السبيلين فيجب إزالته وتطهيره.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف رحمه الله: (وَسُنَّ عِنْدَ دُخُولِ خَلَاءٍ قَوْلُ: «بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ») نعم، قال: (وَسُنَّ) هذا ذكر من الفقهاء رحمهم الله تعالى لمستحبات دخول الخلاء، فيقول: المسنون هو المستحب الذي يُثاب المرء عليه ولا غضاضة عليه أو لا إثم عليه لو تركه، والخلاء: هو المكان الذي يتخذ عادةً لقضاء الحاجة، والمقصود بالخلاء هنا: المكان المعد ذاته لقضاء الحاجة، فإذا كان مكانًا للاغتسال أو نحوه فلا يعتبر خلاء تتعلق بهذه الأحكام أو مثل ذلك أيضًا مُقدمة دورات المياه التي يجعل فيها مغاسل يتوضأ فيها الناس، ويغسلون وجوههم، أو ينظفون أيديهم أو نحوها، فهذه ليست أماكن الخلاء التي يتعلق بها الحكم، أمَّا مكان الخلاء الذي يُعد فيه مجرى للبول أو الغائط والنجاسات ونحوها فهذا هو الكلام عليه.
فيقول: «بِسْمِ اللَّهِ»؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه ذلك، وكان يقول: «بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» وقد ورد بتسكين الوسط «الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» وتحريكه «الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» كما سمعنا في القراءة، والتعوذ من الشياطين أو من الشرك وأهله كما يقولون، وبعضهم يقول: إنَّ المقصود ذكور الشياطين وإناثهم، وعلى كل حال هو يشمل الشر، فهذا أيضًا ثابتٌ في الحديث كما عند أهل السنن أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول الخلاء قال ذلك، وإذا كان الإنسان يقضي حاجته في الخلاء -في المكان الفضاء الذي ليس فيه ما يُهيئ لهذا المكان، فيقولون: إنَّ محل قول هذا الدعاء عند رفع ثوبه ونزوله لقضاء حاجته.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف رحمه الله: (وَبَعْدَ خُرُوجٍ مِنْهُ: «غُفْرَانَكَ»، «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي»).
نعم، هذا أيضًا جاء عند الخمسة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء يقول: «غُفْرَانَكَ» يعني: أسألك المغفرة، ويقول أهل العلم: إنَّ هذا مناسب؛ فإنه لَمَّا تخلى من النجاسة الحسية، سأل الله جل وعلا أن يُخلصه من النجاسة المعنوية.
ويقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي» أيضًا هذا جاء في بعض الأحاديث، فإذا قال هذين الدعائين فحسن، وإن اقتصر على أحدهما كذلك، والأول أثبتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف رحمه الله: (وَتَغْطِيَةُ رَأْسٍ وَانْتِعَالٌ)}.
وتغطية رأس، يعني: هذا ذكره الفقهاء أنه عند قضاء الحاجة يغطي رأسه، وأصل ذلك حديث عند أظنه عند البيهقي أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يغطي رأسه عند الخلاء وإذا أتى أهله، وعلى كل حال جاء في بعض الآثار الضعيفة، والفقهاء عادتهم أنه ما دام أنه فيه زيادة تحوط وتحصيل للأجر يعتضدون بما جاء من الأثر وإن كان فيه ضعف.
قال: (وانتعال) الانتعال يعني لبس نعلين، وهذا ظاهر من المعنى، بأن لا تلوثه النجاسة وتصل إليه.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف رحمه الله: (وَتَقْدِيمُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى دُخُولًا وَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهَا جُلُوسً)}.
تقديم الرجل اليسرى، هذا ثابت عند دخول مكان الخلاء -الحمام ومكان الاستحمام في الأصل- وإن كان يُطلق عند الناس الآن على مكان قضاء الحاجة؛ لأنها اشتركت في بيوتات الناس، لكن الأصل أنَّ الحمام هو موضع المستحم، والخلاء هو موضع قضاء الحاجة، فاذا كان يدخل مكانًا غير مرغوب فيه فيدخل برجله اليسرى تكريمًا لليمنى، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب تقديم اليمنى فيما هو طيب، وضد ذلك ما كان مَكروهًا، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: جرت قاعدة الشرع الشريفة أنَّ ما كان مُستحسنًا طيبًا فيطلب به اليمنى ويُبتدأ بها، وعكسه بعكسه، أو كما جاء عنه رحمه الله تعالى.
فلأجل ذلك عند أهل العلم أنَّه يُدخل الحمام مكان الخلاء باليسرى ويخرج باليمنى، والمسجد يُدخل باليمنى ويخرج باليسرى، وهكذا في اللبس يبدأ بالجزء الأيمن وفي النزع يبدأ بالأيسر وهكذا.
قال: (وَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهَا جُلُوسً) يعني: يقولون إنه يعتمد على اليسرى فيكون مائلًا أكثر إلى جهة اليسار، وهذا جاء في بعض الآثار وفيه ضعف.
والفقهاء عللوا من أنَّ ذلك أسهل لخروج الخارج، وهذا محل نظر، وإذا كان الأمر كذلك فبعضهم يقول: هذا يوافق الطب في أنَّ المعدة تميل إلى الجهة اليسار، فاذا اعتمد عليها كان ذلك كأنه ضغط على هذا الموضع فيكون أسهل في الخروج للتخلص من القذر ونحوه.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف رحمه الله: (وَالْيُمْنَى خُرُوجًا عَكْسُ مَسْجِدٍ وَنَعْلٍ وَنَحْوِهِمَ).
قال: (وَالْيُمْنَى خُرُوجً) أمَّا إذا أراد أن يخرج فإنه يعتمد على اليمنى مثل ما قلنا؛ لأنها تكريم لها، وتخليص لها من هذا المكان الذي لا يحبذ البقاء والمكث فيه.
قال: (عَكْسُ مَسْجِدٍ وَنَعْلٍ وَنَحْوِهِمَ) هذا إشارة إلى هذه القاعدة التي ذكرناها، فانَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن، يعني: البداءة باليمين في تنعله وطهوره وفي شأنه كله، كما جاء في الحديث، ولذلك إذا كان الإنسان يلبس نعليه أو يلبس ثوبه فالبداءة باليمين؛ لأنه أكرم لها، ولذلك قال: (وَنَحْوِهِمَ) ومثل ذلك دخول المسجد يبدأ بيمينه بينما في الخروج يبدأ بيساره.
{أحسن الله إليكم، قال المؤلف رحمه الله: (وَبُعْدٌ فِي فَضَاءٍ)}
قال: (وَبُعْدٌ فِي فَضَاءٍ) يعني: إذا كان الإنسان لا يدخل خلاء مُغلقًا فالأحسن البعد، وهو من المستحبات.
ويقولون: ويُستحب استتاره أيضًا، ليس المقصود أنه يجوز له أن يكشف عورته، لكن استتاره يعني: في هيئة الجلوس، فلا يراه الناس، فإذا رأى الناس شخصًا جالسًا لقضاء حاجته ولو لم تنكشف عورته فإنَّ هذا مما لا يُستحسن أن يرُى عليه الانسان، فينبغي أن يستتر في جسده كله، يعني: أن يكون خلف حجر أو شجر ونحو ذلك.
أيضًا البعد في الفضاء حتى ولو كان مستترًا؛ لأنها عرضة خروج صوت، وهذا من عدم المروءة أن يسمع صوت الانسان وما يخرج من فضلته ونحوه.
وأيضا شمُّ رائحته، وهذا في العذرة أكثر منه في البول، البول أمره أيسر، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه انتهى إلى حائط أو نحوه، وهذا يعني -لا شك- أنَّ البُعد في الجملة أتم، لكن يتأكد في حال الحاجة إلى ذلك، كما هو في حال قضاء الحاجة من الغائط والعذرة ونحوها.
قال: (وَطَلَبُ مَكَانٍ رَخْوٍ لِبَوْلٍ) لماذا؟
لئلا تعود إليه النجاسة؛ لأنَّ الإنسان إذا بال في مكان صلب فربما يرتدُّ إليه رشاش البول، فلأجل ذلك قالوا: لابد أن يكون فيه رخو، والنبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه أنه كان يرتاد لبوله، كما عند أهل السنن.
فإذا تيسر ذلك فحسن، ولأنه لو لم يفعل ذلك حتى ولو لم يرجع إليه رذاذ البول ما دام أنَّ رذاذ البول يتحرك أو يرتفع قد يجلب له الوساوس، فيخاف إن رجع اليه، فبعض الناس تجد انه يبدأ ويغسل رجليه أو بعض أطرافه خوفًا من أن يكون هذا الرشاش رجع إليه، فيحرك عنده الوساوس فيفتح باب الشيطان.
أمَّا إذا قطع ذلك بمكان يعلم يقينًا أنه لا يرتد بوله ولا يرتفع أثره، فبناء على ذلك يكون أطيب لنفسه وأبعد لشيطانه من وسوسته.
{أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (وَمَسْحُ الذِّكْرِ بِالْيَدِ الْيُسْرَى إِذَا انْقَطَعَ الْبَوْلُ مِنْ أَصْلِهِ إِلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا وَنَتْرُهُ ثَلَاثً).
قال: (وَمَسْحُ الذِّكْرِ بِالْيَدِ الْيُسْرَى) طبعًا الأيادي اليمنى مُكرمة، وقد جاء النَّهي عن ذلك، فانَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُمْسِكَنَّ أحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بيَمِينِهِ وهو يَبُولُ» وللاحاديث المتقدمة في تكريم اليمنى، فإذا انتهى مَسَحَ الذكر بيده اليسرى، والفقهاء يقولون: إنه يجعل الوسطى تحت ذكره والإبهام عليه، ثم يجذبه ليخرج ما تهيأ للخروج، فإذا كان قريبًا من خروجه شيء يريد أن يخرج اذا هو قد خرج؛ لأنه في بعض الأحيان إذا قام الإنسان ولم يكن قد فعل شيئا من ذلك، ففي حركته يحس بخروج شيء، فيصيب ثيابه أو يشك في ثيابه، فإذا قطع دابر ذلك انتهى، وهم يقولون: إنه يبدأ من حلقة الدبر إلى أن يصل إلى أصل ذكره أو رأس ذكره، ويكون ذلك ثلاثًا باعتبار أنَّ هذا يحدث به اليقين.
قد يقول قائل: هذا لا دليل عليه، ومثل ذلك النتر -والنتر هو الجذب يعني يحركه حتى إذا كان في شيء متهيء للخروج خرج-، قد يقول القائل: هذا تكلف من الفقهاء، وليس الأمر كذلك.
هذه أدوات لتحقيق مقصود شرعي صحيح، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَولِهِ» يدل على التنزه من البول. كيف يتحصل التنزه من البول؟
يذكر أهل العلم والفقهاء والعلماء ما يتأتى به ذلك عادة، كان بعض أهل العلم كأنه علق على هذا كابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان أنَّ النَّترَ ونحوه، يعني: كأنه استعظم هذا واستنكره، لكن قد تكون هذه صور في المبالغة التي فيها وسوسة أو أذية للعضو، أمَّا من جهة ما يحصل به التنزه فهذا دالٌ عليه الحديث.
فكيف ما حصل فهذا هو المطلوب، والفقهاء يرشدون طريقة يثقون بحصول المقصود منها، ويكون ذلك تحقيقًا للمقصود الشرعي، وتكميلاً للطهارة على وجه التمام. واضح؟
أظن أنه بمثل هذا يكون موقفا جيدا باعتبار أنَّ الوقت انتهى.
هل عندك شيء مما مضى أو نختم؟
{نستأذنكم بالإكمال في المجلس القادم}.
طيب، جزاكم الله خيرًا أيُّها الإخوة، أيُّها الطلاب، أيتها الطالبات، وأسأل الله جل وعلا أن يجزيكم خير الجزاء، وأن يزيدكم من العلم والهدى، وأن يكتب ذلك في ميزان حسناتكم، وأن يعوضكم فيما فاتكم في جلوسكم لهذه المجالس، وأن يفتح لكم الخيرات حيثما كانت وجوهكم، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{بارك الله فيكم، وفي علمكم إخوتنا المشاهدين نستأذنكم في الاستكمال لِمَا بقي في مجلس قادم، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله.