الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

76418 18
الدرس الثاني عشر

أخصر المختصرات

{الحمد لله رب العالمين واصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاةٍ وأتم تسليمٍ.
أما بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا حياك الله.
{فتح الله عليك وبارك فيكم.
نستأذنكم شيخنا في استكمال ما توقفنا عنده، توقفنا -حفظكم الله- عند قول المؤلف: (فصل عند شروط الصَّلاة)، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلاة سِتَّةٌ:
طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَتَقَدَّمْتْ فصل شروط صحة الصَّلاة ستة، طهارة الحدث وتقدمت)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فاسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُفيض علينا وعليكم من رحماته، وأن يبلغنا طاعته وأن يجنبنا أسباب معاصيه، وأن يحفظنا من البلاء والفتن وسوء المحن ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هو شروع في شروط صحة الصَّلاة، ولذلك قال: (شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاة سِتَّةٌ).
والكلام تقدم شيء من الإلماحة إليه، والفرق بين الركن والشرط، وأن الركن: هو جزء منها العبادة بخلاف الشرط فإنه معتبر لها وليس من حقيقتها أو من كنهها كما يقول أهل العلم، فاستقبال القبلة أو دخول الوقت معتبر للصلاة لا محالة، لكنه ليس من أجزائها فليس ركوعًا ولا تكبيرًا ولا سجودًا ولا قراءة للتَّحيات ولا جلوسًا ولا تسليمًا.
وقلنا إن الشرط يستمر في العبادة كلها بخلاف الركن، فإنه ينتقل منه إلى غيره، ولذلك كانت الصَّلاة مُشتملة على أركانٍ في حقيقتها، فينتقل من قيام إلى ركوع ومن ركوع إلى سجود ومن سجود إلى جلوس وهكذا.
وهنا مسألة مهمة للغاية يجب على الطالب أن يعلمها في المسائل والأحكام: وهي لَمَّا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاة سِتَّةٌ)، لو نظرت إلى الأدلة لم تجد في أدلة الشريعة أن هذا شرط أو أن هذا ركن أو أن هذا واجب وهكذا، لكن هذا من أهل العلم هو سبرٌ تقسيمٌ ونظرٌ وترتيبٌ، فلما كان ذلك طريقًا إلى التسهيل على الطالب وتبيينِ مواطن الأحكام نظروا إلى اعتبار الشرع لها، وما جاء من التأكيد على ذلك الأمر، فقد يكون في بعض الأحوال مستحبًّا، قد يرقى إلى الوجوب في بعض الأحوال، وقد يكون وجوبًا مؤكدًا وقد يرقى إلى أن يكون ركنًا، وقد يكون فمن أهم الأمور، لكن لما لم يكن من حقيقة العبادة صنفوه شرطًا، وهكذا..
الشروط: جمع شرط.
ومعناه في اللغة: العلامة.
وفي الشرع: وهو ما يلزم من عدمه عدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
فإذا عُدم وقت عُدمت في الصَّلاة، لكن لو وُجد الوقت قد توجد الصَّلاة وقد لا توجد لانعدام أشياء أخرى مثلًا، إما لكون الشخص مجنونًا لا تجب عليه الصَّلاة أو لغير ذلك من الأمور.
ثم قول -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاة سِتَّةٌ)، ونحن لَمَّا قلنا: إن هذا اجتهاد من الفقهاء في اعتبار ذلك شرطًا أو ليس بشرط، هذا يحيل إلى مسألة أيضًا في غاية الأهمية، وهي أنه لَمَّا كان هذا اجتهاد من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فليس بالضرورة أن تكون هذه الشروط بمثابة القوالب الواحدة، يعني شرط الوقت مثل شرط الطهارة مثل شرط اجتناب النجاسة؛ لا، هي وصلت إلى درجة في الاعتبار في أدلة الشرع ثم تتفاوت، ولذلك عند الحنابلة أنفسهم يعتبرون أن شرط دخول الوقت أهم من شرط اجتناب النجاسة، ولذلك قد يُعفا عن النجاسة في بعض الأحوال فتصح معه الصَّلاة، لكن لا يمكن أن تصح الصَّلاة بدون دخول وقتها، فمع كونهما جميعًا شروطًا من شروط الصَّلاة، لكن لأنهما استووا في أهمية هذه الاعتبار، لكن قد يتفاوتا في درجة الشرطية من جهة زيادة في التأكيد في أدلة الشرع ذلك الشرط أو التخفيف فيه.
فإذًا الفقهاء يجمعونها فيقربون حكمها وأنها على حدٍّ معتبر فيها، ثم يرجعون إلى الأدلة فينظرون ما بينهما من فروق فيقررونها في المسائل والأحكام على ما سيأتي تفصيله بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
ولما قال هنا (سِتَّةٌ)، ذكر بعضهم أنها تسعة كما في "الإقناع"، والفرق بين الستة والتسعة: أن الفقهاء اعتبروا للعبادات عمومًا ثلاثة شروط: الإسلام، والعقل، والتمييز.
الإسلام: فلا تقبل من غير المسلم.
والتمييز: فلا يُقبل من غير المميز؛ لأنه لا نية له، واستثنوا من ذلك الحج ويدخل فيه العمرة، لأن المرأة التي رفعت إلى النبي ﷺ نبيًا وقالت: ألهذا حج. قال: «نعم، ولكِ أجر»؛ ولأنَّ الحج عبادة مشتركةٌ بين العبادة البدنية التي تعتبر فيها النيَّة وليس فيها نيابةٌ، وعبادة ماليَّة التي فيها نيابة؛ فلأجل ذلك تتداخل بعض الأحكام، ومنها أحكام النيابة في النية وإمكان حصولها من ذلك الصبي الصغير.
والعقل: أمَّا غير العاقل من المجانين وغيرهم فلا تصح منهم عبادة؛ لأنهم لا تصح لهم نية.
والمؤلف ترك هذه الشروط باعتبار أنها شروط لعموم العبادات، فدخل في الشروط المختصة، فقال: (طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَتَقَدَّمْتْ)، لما كانت مسائل كثيرة جدًّا وفيها تفاصيل وتفريعات لا حد لها جعل لها الفقهاء كتابًا يسبق كتاب الصلاة كلها، وافتتاح كتب الفقه بكتاب الطهارة إيذانٌ بطهارة النفوس والإقبال على الأحكام والنظر فيها، كما أنهم ختموا الفقه بباب الإقرار، وهو إقرار بضعف الإنسان وانكساره وفقره بين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا.
فطهارة الحدث تقدَّمت، ولكنها تقدَّمت من جهة تفاصيل أحكامها، ويبقى أن نعلم الدليل على اشتراطها، وهو قول النبي ﷺ في الحديث الذي في الصحيح: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ»، والإجماع منعقدٌ على ذلك، أنَّ الصلاة تشترط لها الطهارة لا محالة، ولأن الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج:26]، وقال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج:26]، وقوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:4]، فاعتُبِرَت طهارة الثياب والبقعة، فمن باب أولى أن تُطلب طهارة الشخص في نفسه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَدُخُولُ الْوَقْتِ)}.
دخول الوقت من أهم شروط الصَّلاة -كما قلنا- ولذلك ابتدأ به بعد الطهارة، وأصل ذلك قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتً﴾ [النساء:103]، يعني مؤقتًا. والتوقيت بمعنى التحديد، وهو يتوجه إلى التحديد المكاني والتحديد الزماني، ولذلك قال في الحديث: «وَقَّتَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ لأهْلِ المَدِينَةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنازِلِ، ولِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ»[1]، الحديث الذي فيه المواقيت المكانية، لكنه يغلب استعماله في الأزمنة والأوقات.
إذًا قوله: ﴿كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتً﴾ يعني: مؤقتًا محددًا، وهذا ظاهرٌ في السنة، وفيه حديث جبريل لَمَّا صلى بالنبي ﷺ في أول الوقت وفي آخره ثم قال: «ما بَينَ هذَينِ وقتٌ»، وأيضًا في أحاديث في الصحيحين متنوعة ستأتي الإشارة إليها. وحديث جبريل وإن كانت في أسانيده مقال، لكنه أصل عند الفقهاء في تحديد أوقات الصَّلاة والرجوع إليه فيها.
فإذًا هذا دليل اشتراط الوقت للصَّلاة، وسيأتي المؤلف على تفاصيل هذه الأوقات وتبيين ما يتعلق بها.
{أحسن الله إليك، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَوَقْتُ الظُّهْرِ مِنَ الزَّوَالِ حَتَّى يَتَسَاوَىَ مُنْتَصِبٌ وَفَيْؤُهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ)}.
الظهر هو وقت الظهور، وهو ظهور النهار اشتداده، فأخذ من ذلك، قال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً﴾ [الإسراء:78]. الدلوك: يعني لصلاة ظهر.
قال: (مِنَ الزَّوَالِ حَتَّى يَتَسَاوَىَ مُنْتَصِبٌ وَفَيْؤُهُ).
الفيء: هو الظل، فالظِّل والفيء هما كالشَّيء الواحد لكن الفيء أخص، الفيء يطلق على ما بعد الزوال، الظل يطلق على ما قبل وبعده؛ لأنه من "فاء" إذا رجع، يعني رجع الظل وزاد.
يقول: ابتداؤه من وقت الزوال، أي: زوال الشمس، فالشمس تشرق ثم تتعامد في قلب السماء ثم تبدأ في أيضًا الميل إلى الغروب، فهذا يسمى وقت الزوال، وجعل وقت الظهر ابتداؤه بوقت الزوال هذا محل إجماع بين أهل العلم لا يختلفون فيه.
كيفية معرفة الزوال: معرفة الزوال أن ينصب شاخص مثلما قال: (حَتَّى يَتَسَاوَىَ مُنْتَصِبٌ)، فإذا بدأت الشمس ظلُّه يكون طويلًا من جهة الغرب، ثم يتقاصر إلى أن ينتهي هذا الظِّل، وهذا في أحوال قليلة، يتقاصر حتى يكون شيئًا قليلًا ولا ينتهي، ثم يبدأ يزيد، فإذا بدأ في الزيادة فهذا ابتداء وقت الظهر، فإذا كان هذا الشاخص طوله مترًا فالظل أول ما يبدأ يكون مترين أو ثلاثة، ثم ينقص وينقص حتى يكون ظل هذا الشاخص من المتر إلى عشرين سم، ثم يبدأ في الزيادة، فبداية الزيادة يعني أن يرجع إلى واحد وعشرين سم من الجهة الأخرى، هذا هو بداية وقت الظهر، وتختلف هذه باعتبار مواطن البلدان، فبعضها تتعامد عليها الشمس مثل: مكة والجزيرة وما قاربها، وبعض البلدان كـ أوروبا وما ذهب منحا الشمال أو الجنوب أن الشمس لا تتعامد عليهم؛ فلذلك يكون هذا الظل لا يتناهى كثيرًا بل يبقى له بقية تزيد وتنقص بحسب ذهابه إلى جهة الشمال أو الجنوب.
قال: (وَفَيْؤُهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ)، وسِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ يقصد به العشرين سم التي ذكرناها، فإذا كان يتناهى عن عشرين سم هذه لا تحسب، إذا بدأ في الزيادة نعتبره دخل وقت الزوال، بعض الأماكن قد يكون الظل يتناهى إلى ثلاثين بعضها أربعين وربما يكون أكثر من ذلك.
فإذًا هذا هو المعنى الذي ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{أحسن الله إليك، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَلِيه الْمُخْتَارُ لِلْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ)}.
لعلك تنظر أن المؤلف لم يذكر آخر وقت الظهر، وذلك لأن دخول وقت الصَّلاة الأخرى هو إيذان بانتهاء الصلاة التي قبلها، وليس بينهما اشتراك، فلا يوجد وقت يصلح فيه لصلاة الظهر وصلاة العصر، وليس بينهما فراغ، يعني: ليس من وقت الظهر ولا من وقت العصر.
قال: (وَيَلِيه الْمُخْتَارُ لِلْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ)، إذًا وقت العصر يبدأ من مصير كل شيء مثله بعد فيء الزوال، فإذا افترضنا مثلًا أن هذا الشاخص الذي هو واحد متر، وكان ينتهي الظل إلى عشرين سنتي، ثم زاد؛ متى ينتهي وقت الظهر؟ إذا صار طول الفيء الذي من جهة الشرق ومالت الشمس من جهة الغرب فإذا صار طول متر وعشرين سنتي؛ انتهى وقت الظهر وبدأ وقت العصر، وهذا جاء في حديث جبريل ابتداء وقت العصر "من مصير ظل كل شيء مثله، إلى مصير كل شيء مثليه"، لكن لعلك أن تلحظ هنا -أيها الطالب وأيتها الطالبة- أن المؤلف هناك عبَّر بتعبير لم يُعبر فيه في وقت صلاة الظهر، فقال: (وَيَلِيه الْمُخْتَارُ لِلْعَصْرِ)، وهو إشارة إلى أنَّ صلاة العصر كما صلاة العشاء -على ما سيأتي التنبيه عليهما- اختصتا بخصيصة وهما أن لهما وقت اختيار ووقت اضطرار، يعني: الوقت طويل من مصير ظل كل شيء مثله إلى غروب الشمس، لكن لا يجوز التأخير إلى وقت الاصفرار أو ما بعد مصير كل ظل شيء مثليه -على ما سيأتي بيانه؛ لأنه وقت اضطرار- وسيأتي بيان ذلك.
فإذًا عندنا الآن وقت العصر: ابتداؤه من مصير كل شيء مثله إلى غروب الشمس، كما في الحديث الذي في الصحيح، فلما جاء هذا في الحديث وجاء للنبي ﷺ أنه ذم صلاة المنافق: «تلْكَ صلاةُ المنافقِ تلْكَ صلاةُ المنافقِ يرقبُ الشَّمسَ حتى إذا كانت بينَ قرني شيطانٍ قامَ فنقرَ أربعًا لا يذْكرُ اللَّهَ فيها إلَّا قليلً»[2]، والحديث الآخر «ووقتُ صلاةِ العَصرِ ما لم تصفرَّ الشَّمسُ»[3]، جمع بينها أهل العلم، في حديث جبريل «إلى مصير ظل كل شيء مثليه، ووقت الاصفرار ووقت الغروب» فقالوا: إن وقت الغروب هو نهاية الوقت لا محالة، وأنَّ ما بعد وقت الاصفرار هو وقت الاضطرار الذي لا يجوز التأخير فيه إلا لمريض احتاج إلى ذلك أو حائض طهرت، أو منشغل بشرط من شروط الصَّلاة، أو نحو ذلك من الأشياء التي ليس فيها شيئًا معتادًا وخارجًا عن قدرة الإنسان وفسحة وقته.
فبناء على ذلك: لو أخَّرَ مثل هؤلاء فلا إثم عليهم، لكن مَن أخَّر وهو ليس به شغل ولا حاجة إلى التأخير فهو صلَّى الصَّلاة في وقتها لكنه واقعٌ في الإثم؛ لأنَّ هذه لا يُؤذن فيها في التأخير إلا لمن له عذر.
طيب بقيت مسألة هنا وهي: "حين مصير ظل كل شيء مثليه" أو "الاصفرار" هل بينهما فرق؟
بعضهم يقول: بينهما فرق.
وبعضهم يقول: إنه لا فرق بينهما كثير، فإذا صار ظل كل شيء مثليه، وصلَّى الإنسان صلاة العصر ما ينتهي من الصَّلاة حتى يقع وقت الاصفرار.
فعلى كل حال: المذهب على أن يصير كل شيء مثليه، وعلى هذا درجَ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
واختار جمع من محققي المذهب وكثير من أهل العلم أنَّ وقت الاضطرار عند اصفرار الشمس وهو أصح، وإن كان ليس بينهما فرق كثير، فقد يكون ما ذكرناه وهو أن هذا الوقت وقت تؤدَّى فيه صلاة العصر ثم يشتبك به وقت الاصفرار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالضَّرُورَةُ إِلَى الْغُرُوبِ)}.
هذا وقت للعصر لكن لا يجوز التأخير إليه إلا لمن احتاج إلى ذلك، مثل ما قلنا: لو أن إنسانًا نام فغلبه النوم فلم يقم، فلا غضاضة عليه، إذا صلَّى نقول صلَّى الصَّلاة في وقتها، ولا غضاضة عليه، ومثل ذلك المريض الحائض إذا طهرت، ومن في حكمهم.
{أحسن الله إليك، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَلِيه الْمَغْرِبُ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ)}.
ابتداء وقت المغرب من انتهاء وقت العصر وهو غروب الشمس، وغروب الشمس هو سقوط قرصها، أي: إذا سقطت في الأفق.
وفرق بين سقوطها في الأفق وبين استتارها بنحو جبل أو شاخص رفيع، المقصود هو السقوط، والغروب بمعنى السقوط فإذا غربت الشمس وذهب قرص الشمس؛ انتهى الوقت العصر ودخل وقت المغرب.
وهنا ملحظ مهم جدًّا: الآن مثلا نجد في مدينة الرياض الأيام هذه مثلًا المغرب على الخامسة وواحد وثلاثين دقيقة أو اثنين وثلاثين دقيقة، الرياض كبيرة والتوقيت أيضًا لكل حي بحسبه صعب، لكن يجب أن يتحرَّى الناس الذين في شرق الرياض ربما يسبق وقتُ المغرب بدقيقتين، فينبغي للإنسان أن يحرص على أن يبكِّر بالصَّلاة ولا يعرِّضها إلى نهاية الأوقات. فهذا مما يلحظ، وذلك أيضًا موجود في المدن الكبار في مشارق الأرض ومغاربها.
فإذا غربت الشمس فهذا دخول وقت المغرب وهذا بإجماع أهل العلم أنه وقت ابتدائه، وانتهاؤه بمغيب الشفق، والأشهر عند أهل العلم أن الشَّفق المقصود هنا هو الحمرة -الشفق الأحمر- وجاء في الحديث ((ما لم يَغِب الشفق))، جاء عن ابن عمر وجاء وأنهم أشاروا إلى أنه الشفق الأحمر، فبناء على ذلك إذا غابَ الشَّفق الأحمر انتهى وقت المغرب ودخل وقت العشاء.
كم يستمر الشفق الأحمر؟
الآن لو جئتم إلى التقاويم في المملكة العربية السعودية فإن الوقت بين المغرب والعشاء محدَّد ساعة ونصف، إذا أذَّن هنا خمس ونصف يؤذن العشاء الساعة السابعة، وإذا أذَّن المغرب في الخامسة وخمسة وثلاثين دقيقة يؤذِّن العشاء السابعة وخمس دقائق، وفي رمضان يزيد إلى ساعتين، هذا الحقيقة هو ليس إشعارٌ بدخول الوقت لكن بتراتيب الأذان تسهيلًا للناس في قضاءِ أعمالهم وأشغالهم، فيجب أن يُعلم أن الوقت يدخل للعشاء قبل ذلك.
فهنا يوجد إشكال: أن بعض الناس لا يبالي أن يؤخر صلاة المغرب إلى بعد خمسين دقيقة أو ستين دقيقة أو ساعة وخمس دقائق؛ وهنا مظنة أن الشَّفق قد خرج، طبعًا هو يتفاوت بقاؤه شتاءً وصيفًا، لكن قد يصل في بعض الأحيان إلى أربعين دقيقة، فينتهي بعد ذلك الوقت.
فعلى كل حال يجب أن تُلحظ هذه المسألة، وألا يعرض المسلم صلاته للخطأ أو النقص أو التفويت، فالوقت شرط من شروط المهمة التي هو من أعظمها وأجلها ويلحق الإنسان تبعة كبيرة بتأخيرها.
{أحسن الله إليك قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَلِيَهُ الْمُخْتَارُ لِلْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، وَالضَّرُورَةُ إِلَى طُلُوعِ فَجْرٍ ثَانٍ)}.
وقت العشاء هو من مغيب الشَّفق الأحمر في المشهور من المذهب عند الحنابلة وقول جماعة من أهل العلم أو جمهور العلماء؛ لكن متى ينتهي؟
أمَّا انتهاؤه بالكليَّة فبدخول وقت الفجر، لكن قلنا: إن العشاء لها وقت اضطرار، يعني: الوقت مقسوم بين وقت مختار يجوز للإنسان أن يؤخِّر فيه الصَّلاة، فلو أخرها إلى بعد ساعة أو ساعتين من أوقات المختار، فلا غضاضة عليه ولا حرج، وهو فاعل لِمَا أُمِرَ به، فهذا معنى وقت الاختيار.
وقت الاضطرار يعني أنه لا يجوز لشخص أن يُؤخِّر صلاة العشاء إلا لمضطرٍ إلى ذلك كما تقدَّم الكلام فيه في صلاة العصر.
متى ينتهي وقت الاختيار؟
المؤلف على أنه إلى ثلث الليل الأول، وهذا أيضًا مشهور المذهب، وإن كان عند الحنابلة قول قوي، ونقله صاحب (الإقناع) وكأنه مال إليه واستظهره جمع من المحققين كابن مفلح وغيره إلى أن إلى منتصف الليل كما جاء عند مسلم في صحيحه «وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ»[4]، قالوا: إن وقت الاختيار ينتهي عند ذلك، ويبقى وقت الاضطرار.
ومما يدل لذلك أنَّ النبي ﷺ قال: «أمَا إنَّهُ لَيْسَ في النَّوْمِ تَفْريطٌ، إنَّما التَّفْريطُ على مَن لَم يُصَلِّ الصَّلاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاةِ الأخْرَى»[5]، فإذًا كيف نقول إن النبي ﷺ قال: «وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ» وفي الحديث الآخر دل على أنه إلى وقت الفجر؟
جمع بين هذا أهل العلم فقالوا: قوله «إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ» هو وقت الاختيار، وما بعد ذلك هو وقت الاضطرار.
ويدل لذلك ويفسره: ما جاء عن الصحابة -رضوان الله عليهم- كأبي هريرة وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف أنهم حكموا على الحائضِ إذا طهرت قبل الفجر أن تصلي صلاة المغرب والعشاء، فدلَّ على أنه وقت لها، فإذًا هذا الحديث حُمل على أنه انتهاء وقت الاختيار.
{أحسن الله إليك قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَلِيه الْفَجْرُ إِلَى الشُّرُوقِ)}.
الفجر هو انفجار الضوء، سمي من ذلك لأنه بعد هذا الليل الدَّامس يبزغ الفجر فسُمي بذلك.
والفجر فجران: فجر كاذب، وفجر صادق.
والفجر الكاذب: يأتي في وسط السماء لَمعة كذنب السرحان يُظن أنها ظهور النهار ثم تختفي ويأتي بعدها ظلمة شديدة.
أمَّا الفجر الصادق: فهو خيط ينتشر في جهة المشرق ثم يبزغ، ولا يأتي بعده شيء من الظلمة أو التفاوت، فبهذا يطلع وقت الفجر.
وتعرفون أنَّ وقت الفجر يدخل فيه كثيرٌ من الكلام والإشكال ونحوه، ولما كان الأمر في مثل هذا مما وكل إلى جهات ذات موثوقية عالية، واستنفُذت فيه الأمور، واعتُبرت فيه الاعتبارات الكثيرة، فلا ينبغي في ذلك تشكيك ولا زيادة تشتيت، وأذكر أن شيخنا شيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لما سُئل عن التردد في وقت دخول الفجر في تراتيب التقاويم هذه، قال: أرسلنا به -وكان قد أرسل الشيخ صالح الفوزان ومجموعة من طلبة العلم- وقالوا من أنه لا يختلف، يعني تفاوت لا يعتبر، دقيقة ونحوها، فبناء على ذلك لا يكون فيه إشكال، ثم هذا هو الذي يوافق النَّظر، فالنبي ﷺ بما جاء في الأدلة جاء أنه كان إذا دخل الفجر صلَّى ركعتين ثم انتظر قدر قراءة خمسين آية[6] كما في حديث قتادة بن زيد، وقدر خمسين آية يعدل عشر دقائق، ومع الصَّلاة ركعتين فتكون ثلاثة عشر دقيقة، وكان يصلِّي في الفجر بطوال المفصل، يعني مثلًا بالذاريات والطور، أو نحوها، وفي بعض الأحاديث من الستين إلى مئة آية، فلو اعتبرنا ذلك يعني هي قرابة ثمانية عشر دقيقة إلى عشرين دقيقة، الناس الآن يقرون اثنا عشر آية ويأخذون عشر دقائق أو إحدى عشر دقيقة، فلو جمعناها هذه صارت خمسة وثلاثين دقيقة، وكان النبي ﷺ «كانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بغَلَسٍ»، يعني اختلاط ظلمة الليل بإشراق الصباح، والآن نحن نخرج بغلس، مما يدل على أن هذا هو الوقت، ولا ينبغي زيادة تشقيق لمثل هذه الأمور وإدخال الشكوك على الناس فتخفَّ عليهم تعظيم العبادة والاهتمام بها، فشخص يأكل وقت النهار ويزعم أنه ليل يؤخره الصَّلاة ويتركها لأنهم يصلون قبل الوقت وغير ذلك! فهذا مما ينبغي أن يتنبه له ولا يشتت الناس فيه. إذًا هذا ابتداء وقت الفجر.
قال: (إِلَى الشُّرُوقِ) أي: يعني طلوع الشمس، فإذا طلع حاجب فانتهى وقت الفجر، وهذا بإجماع أهل العلم، وهذه هي الصَّلاة الوحيدة التي لا تنتهي إلى الصَّلاة التي تليها بالإجماع، فما جاء في الحديث مخصوص بالإجماع لمجيء السنن الكثيرة الدالة بأن وقت الفجر ينتهي بطلوع الشمس وظهور حاجبها.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتُدْرَكُ مَكْتُوبَةٌ بِإِحْرَامٍ فِي وَقْتِهَا، لَكِنْ يَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتٍ لَا يَسَعُهَ)}.
"الإدراك، والصَّلاة المؤدَّاة، والصَّلاة المقضية" هذا اصطلاح من أهل الأصول، يقولون: إذا صلاها في وقتها فقد أدَّاها، وإذا صلاها بعد وقتها فقد قضاها، وهذا أخذوه من بعض الأحاديث لكنه في الجملة اصطلاح، وهو إشارة إلى من أدَّى الصَّلاة في وقتها فقد أدَّاها كما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا-، ومن أخَّرها فهو معرَّض للعقوبة، ويستثنى من ذلك طبعًا التأخير إلى وقته الاضطرار بالنسبة إلى الصلوات التي نُهي عن تأخير الصَّلاة إليها ولو كان الوقت باقيًا.
بِمَ يدرك الوقت؟ فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أن الوقت يدرك بالتكبيرة، طبعا هذا في غير الجمعة، أما في الجمعة فبإجماع أن الجمعة تدرك بركعة.
إذًا قوله: (وَتُدْرَكُ مَكْتُوبَةٌ بِإِحْرَامٍ فِي وَقْتِهَ)؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فأتِمُّو»[7]، وقال: «إِذَا أدْرَكَ أحَدُكُمْ سَجْدَةً مِن صَلَاةِ العَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقد أدرك»[8]، وفي رواية «فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ»، فقالوا: متى ما أدرك منها شيئا قليلًا فقد أدركها.
وعند الحنابلة رواية أخرى وهي مشهورة وعليها الفتيا ولذلك نذكرها: أنَّ الإدراك إنما يكون بإدراك ركعة؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «ومَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فقد أدرك»[9]، هما مسلكان، فكأن الحنابلة طردوا حكم الجماعة، فالجماعة تُدرك بإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، فطردوها إلى إدراك أيضًا الوقت، وجعلوا مَن أدرك سجدة -يعني جزءا من الصَّلاة مُطلقًا- وفي الرواية الثانية: أنَّ المقصود بـ "سجدة" يعني: راكعة كاملة.
قال: (لَكِنْ يَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتٍ لَا يَسَعُهَ).
مع قولنا إنَّ الشخص لو كبَّر فخرجَ الوقت نقول أدَّاها في وقتها مع ذلك لا يجوز تعريض الصَّلاة إلى أن يكون بعضها خارج وقتها، لعموم قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتً﴾ [النساء:103]، ولعموم الأدلَّة الدَّالة على فعل الصَّلاة في وقتها، يعني فعل العبادة بتمامها، وفعل الصَّلاة بكمالها، وفعل الصَّلاة بافتتاحها واختتامها وهكذا.
فإذًا يحرم تأخيرها إلى وقت لا يسعها، فإذا كان أخرها إلى وقت لا يمكنه أن يؤدي إلا ركعتين من العصر أو ركعتين من الظهر؛ نقول: أنت آثم وإن كنت قد أديت الصَّلاة في وقتها.
{أحسن الله إليكم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَتَيَقَّنَهُ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْيَقِينِ، وَيُعِيدُ إِنْ أَخْطَ)}.
إذا كان الوقت محل شك أو اشتباه أو عدم تيقن فينتظر حتى يتيقَّن، وعلى سبيل المثال دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث في مثل وقت صلاة الفجر، فإذا أخَّر إلى نحو ذلك فحسن لا بأس، لأن هذه التي يُعتمد عليها في دخول الوقت حسابات مهما كانت دقتها قد يفوت فيها شيء يسير، أو قد يكون بين ذلك فجوة محتملة، فالانتظار حتى التَّيقن لا بأس به، ولو كان شخصًا يحسب مثلًا هل بدأ الفيء أو لم يبدأ؟ ثم حصل عنده اشتباه تناهى الظل أو لم يتناهى؛ ينتظر قليلًا حتى يتأكد أنه بدأ في الزيادة أو شرع في الزيادة أو رأى ذلك بعينه واضحًا فيصلي.
قال: (أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ) إذا غلب على ظنه وذلك إذا انتظر وقتًا يُقطع معه أو يَنتفي معه الشك، فيكون بذلك قد أدَّى الصلاة في وقتها، إذا عَجَزَ عن اليقين، يعني: إذا لم يحصل له التيقن.
والناس في هذه الأوقات يعتبرون ما جُعِلَ لهم من هذه التواقيت والتقاويم، وهي دقيقة خاصة فيما يتعلق بحركة الشمس، أوقات: (الظهر والعصر والمغرب) لكن الإشكالية في وقت العشاء من جهة أنه ليس مما يمكن ضبطه بالآلات ونحوها، وكذلك الفجر لِمَا ذكرناه لكم قبل قليل؛ لأنه خو انعكاس ضوء النهار على ظلمة الليل وشروعها ويؤثر فيه بعض ما يحيط بذلك المكان من أماكن مظلمة أو مشرقة، فيمتنع معها رؤية النهار في أوله وهكذا، وهذا تكلم عليها شيخ الإسلام -أي ابن تيمية- في تأثر دخول الوقت بما يحيط به.
أئمة الإسلام كثير وممن لقب عندهم بهذا اللقب أيضًا ممن نالوا شرف العلم والتحقيق فيه، لكن شُهِرَ عندنا لِما نالته كتبه من التحقيق والانتشار والاعتماد عليها عند متأخري الحنابلة -رحمهم الله تعالى.
قال: (وَيُعِيدُ إِنْ أَخْطَ) فإذا تبين أنه صلى قبل الوقت فإنه يعيد؛ لأنَّ الصَّلاة لها شرط الوقت، فإذا لم يتحقق المشروط وهو الوقت لم تتحقق صحة الصَّلاة التي أدَّاها المكلف، فلأجل ذلك يلزم من عدم الوقت عدم الصَّلاة، على ما تقدم معنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ صَارَ أَهْلًا لِوُجُوبِهَا قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا بِتَكْبِيرَةٍ لَزِمَتْهُ وَمَا يُجْمَعُ إِلَيْهَا قَبْلَهَ)}.
قال: (وَمَنْ صَارَ أَهْلًا لِوُجُوبِهَ) يعني: إن أسلم الكافر لم يكن أهلا للوجوب -يعني وجوب الأداء والفعل- السؤال والمعاقبة، كما تقدم ذلك معنا، أو الصبي إذا بلغ، أو المجنون إذا عقل، أو الحائض إذا طهرت، فمن صار أهلا لوجوبها قبل خروج وقتها بتكبيرة لزمته، فإذا افتراضنا مثلاً أنه أسلم قبل مصير الظل كل شيء مثله بدقيقة واحدة، نقول: لزمته صلاة الظهر، أو أسلم أو طهرت، واضح؟ فهذا لزمته ما دام أنه أدرك جزءا من الوقت فقد تعلق به حكم الصَّلاة على مشهور المذهب عند الحنابلة، خلافًا لمن يقول: لابد وأن يدرك وقتا للصلاة كاملا.
قال: (وَمَا يُجْمَعُ إِلَيْهَا قَبْلَهَ) يعني: إذا كان هذا الشخص قد بلغ قبل الفجر؛ فوجب عليه العشاء؛ لأنه أدرك جزءًا من وقتها لكن يلزمها أيضًا أن يصلي معها المغرب.
لماذا يلزمه أن يصلي معها المغرب؟
قالوا: إنَّ المغرب والعشاء في أحوال كثيرة يكون وقتهما كالوقت الواحد، فيكون ذلك للمسافر إذا سافر، وللمريض إذا احتاج، وفي رخص كرخص المطر ونحوه، فلمَّا كان كذلك اعتبرنا أنهما يكونا كالوقت الواحد للمحتاج، فيعتبرون أنَّ إدراك الوقت الأخير إدراك للوقت الأول؛ لانهما كالوقت الواحد في بعض الأحوال، وهذا هو الذي أفتى به جماعة من أصحاب النبي ﷺ في الحائض إذا طهرت فاطرد الحنابلة ذلك في كل من كان كحال الحائض، كالصبي إذا بلغ أو المجنون إذا عقل أو الكافر إذا أسلم، وكذلك إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس؛ فيلزمها أن تصلي الظهر والعصر، تقول لماذا وأنا لم أُدرك الظهر؟
نقول: نعم أنت لم تدركِ الظهر، لكن لَمَّا كان الظهر يندمج ويدخل في العصر في بعض الأحوال اعتبرنا إدراكك للعصر وأنت كنت معذورة كإدراك الظهر، فيكون وقتهما كالوقت الواحد، فبناء على ذلك تصلين الظهر والعصر ثم تسترسلي فيما دخل عليك من وقت المغرب وما بعده.
{أحسن الله إليك.
وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَيَجِبُ فَوْرًا قَضَاءُ فَوَائِتَ مُرَتَّبًا مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ أَوْ يَنْسَ أَوْ يَخْشَ فَوْتَ حَاضِرَةٍ أَوْ اخْتِيَارِهَ)}.
قال: (وَيَجِبُ فَوْرًا قَضَاءُ فَوَائِتَ) من فاتته الصلاة؛ فإنه يجب عليه أن يُسرع إليها، وأصل ذلك:
أولاً: «مَن نام عن صلاةً أو نسِيَها، فلْيُصلِّها إذا ذكرَها، لا كَفَّارة لها إلا ذلك» ولعوم الأدلة الدالة على إتيان الأوامر، والأمر في الأصل أنه مع الفور؛ لأن الوالد إذا طلب من ولده ماءً فلم يُحضره إلا بعد يوم أو يومين، ألا يعتبر عاقًّا؟
فإذا قال الولد: أنا امتثلت الأمر، نقول: مُقتضى الأمر يكون بفعل المأمور على الفور، ما لم تدل قرينة أو دليل على التراخي والتيسير أو الفسحة والتأجيل.
فبناءً على ذلك نقول: إنَّ قضاء الفوائت مُعَجَّل لا يجوز فيه التأخير؛ لأنها تعلقت بذمته وذهب وقتها، فإذا كان قد فَوَّت شرطًا من شروطها، فلا أقل من أن يستدرك ما يمكن استدراكه من فعل الصلاة والإسراع إليها، ولأنَّ النبي ﷺ لَمَّا حُبِسَ في غزوة الأحزاب عن الصلوات قال قولته المحفوظة: «مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى» ثُمَّ أذَّن فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولهذا الحديث تفاصيل، مثل: لماذا لم يجمع؟ فقيل إن ذلك قبل، وستأتي الإشارة إليه لاحقًا.
فإذًا (فَوْرًا قَضَاءُ فَوَائِتَ) يعني: ما فات الإنسان يجب عليه أن يقضيه.
(مُرَتَّبً) يعني: يصلي الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء التي فاتته من يوم الاثنين، ثم يبدأ فيصلي الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء التي فاتته من يوم الثلاثاء الذي بعده، فلا يجوز له أن يُقدم، وذلك راجع إلى أصل وهو أنَّ القضاء يحكي الأداء، فكما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- بهذه الصَّلاة فقد أمر فيها بالترتيب، فهذه الصَّلاة تُصلى قبل هذه، وهذه تصلى بعد هذه، لا يجوز المخالفة فيها أو عدم الترتيب بينها.
قال: (مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ أَوْ يَنْسَ) يعني: إذا كانت عليه فوائت كثيرة، متى يكون عليه فوائت كثيرة؟
طبعا هذ مسألة مهمة، هل يمكن أن يكون على الإنسان فوائت سنة أو سنتين أو ثلاث؟
نقول: هذه المسألة من المسائل العظيمة، وهي: تكفير تارك الصَّلاة، قال بها الحنابلة، وكما قلنا ونعيد: إنَّ إلحاق الحكم بالتكفيري إنما هو منوط بمن له ذلك، وهو الإمام أو نائبه، وبدون ذلك فلا يجب ولا يجوز ولا أن يدخل شخص فيقول: إنَّ هذا خرج من الإسلام أو كفر بالله باعتبار أنه لم يصلِّ؛ لأنَّ هذه يتعذَّرُ إثباتها وضبطها؛ ولأنها لا يُفتات فيها على الإمام، كما ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
فمن فوائد هذا القول أنَّ من ترك فوائت كثيرة عندهم فقد كفر، فإذا رجع وتاب؛ يقولون: قد أسلم، فالتوبة تجب ما قبلها، فلا يلزمه القضاء، فلأجل ذلك لا يكون عليه قضاء كثير، لكن عند الفقهاء الذين لا يقولون إنه قد كفر بذلك؛ فإنها متعلقة بذمته، حتى ولو تركها عشرين سنة، فيلزمه أن يُصلي صلاة عشرين سنة ماضية؛ فبناء على ذلك قد يتضرر، لو جلس يصلي ويصلي أين مأكله ومطعمه؟!
يقولون: (مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ)، فيصلي كل وقته يَستثنى من ذلك وقت منامه، أو وقت كسبه أو ما يحتاجه إلى أهله وهكذا، لكن حتى عند الحنابلة يمكن أن يكون عنده وقت طويل لم يصلي، وهو أيضًا عليه القضاء، كأن يكون له عذر أو شبهة، يظن أنه لا تجب عليه الصَّلاة، كإنسان مرض وكان جاهلًا ولا يعلم ذلك، وترك الصَّلاة لكونه لا يستطيع الطهارة شهرًا، عند الحنابلة أنه يقضي.
فإذًا قد يوجد قضاء كثير، وهذا عند الحنابلة أقل من غيرهم، للتفصيل الذي ذكرناه لكم.
(أَوْ يَنْسَ) إذا نسي الإنسان، كأن يقول أنا أذكر أنَّ عليَّ صلاة الظهر وصلاة العشاء، لكن هل كانت العشاء من يوم الأحد والظهر من يوم الاثنين؟ أو العكس؟
فإذا نسي فيسقط الترتيب بالنسيان في تلك الحال، فإذا صلى برئت ذمته بما يجتهد فيه وبما يصل إليه.
قال: (أَوْ يَخْشَ فَوْتَ حَاضِرَةٍ أَوْ اخْتِيَارِهَ) كذلك إذا كان الآن وقت حاضرة، فإذا صلَّى هذه الصَّلاة التي يقضيها فيخرج وقت الحاضرة، وهذه قد خرج وقتها.
وبناء على ذلك قال الفقهاء: إن تغليب مصلحة الوقت مُغلبة على الترتيب، فبناء على ذلك يسقط الترتيب، ويصلي الصَّلاة التي قد حضر وقتها، ثم بعد ذلك يُصلي القضاء.
لو أنَّ شخصًا على سبيل المثال، نام عن صلاة الفجر، فلم يقم إلَّا قبل العصر بخمس دقائق، فإن صلى الفجر خرج وقت الظهر، فيكون قد فات عليه وقتان، وإن صلَّى الظهر أدرك وقت الظهر وقضى وقت الفجر؛ فيكون قد صلى الظهر في وقتها والفجر قضاءً لكنه لم يُرتِّب بينهما.
فيقولون: ألا يُرتِّب ها هنا ويحصل فضيلة الوقت أَتَمُّ من أن يُرتِّب ويفوت عليه وقت هاتين الصلاتين جميعًا بدلًا من أن يفوته وقت واحدة منهما.
(أَوْ اخْتِيَارِهَ) يعني: أو وقت الاختيار، كذلك إذا خاف أن يُصلي صلاة الظهر التي فاتته، أن يدخل وقت الاضطرار للعصر أو وقت الاضطرار بعد منتصف الليل؛ فنقول: صلِّ الصَّلاة التي تخشى فوات وقت اضطرارها، ثم ارجع إلى الصَّلاة الفائتة فاقضها.
وهنا عند الحنابلة أن خوف فوات الجماعة ليس بمسوغ لترك الترتيب، خلافًا لبعض الفقهاء كالشافعية وغيره، وهو محل اجتهاد ومحتمل للقولين، لكن هذا هو مشهور المذهب وظاهر كلام المؤلف لَمَّا اقتصر على ذكر هذه الأحوال الثلاثة.
فبناء على ذلك لو أنَّ شخصًا جاء فوجد الناس يصلون صلاة العصر وهو لم يصلي بعد صلاة الظهر، فعلى القول بأنه لا يدخل معهم بنية الظهر، فإنه يُصلي وحده ثم يدخل معهم إن أدرك ما أدرك من صلاتهم.
كذلك لو فاتته المغرب وحضرهم وهم يصلون العشاء، وهذا فيه اختلاف لصفة الصَّلاة وعددها، فهنا نقول: إنه يُصلي المغرب لوحده، فإن أدرك ما أدرك من العشاء وإلا صلاها مُنفردًا، ولا تُسَوِّغُ إدراك الجماعة ترك الترتيب على المشهور من المذهب عند الحنابلة، خلافا للشافعية وابن تيمية وأيضًا إفتاء بعضهم.
هذا ما يتعلق بأحكام الوقت، أظن أنَّ وقتنا قد انتهى، ولعلنا نكتفي بهذا القدر.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وأسأل الله أن يبارك لنا ولكم في الأوقات، وأن يجعلنا ممن عَمَرَ وقته بالصلاة، وأن يفتح علينا بالإقبال على الصلاة في وقتها، والحرص عليها مع جماعتها، وألا ننقصها ما أمر الله بها، وأن يجعلنا من المفلحين الذين صلَّوا فخشعوا، وصلوا فأقاموا الصلاة كما أمر الله جلَّ وعلا، مُستنين بسنة نبيهم، مكملين لِما أمرهم الله جل وعلا ربهم، وأن يتولانا في ذلك أجمعين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
{اللهم آمين. بارك الله فيك ونفع بكم وبعلمكم الإسلام والمسلمين، نستأذنكم في استكمال فيما بقي في مجالس أخر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[1] البخاري: (1526).
[2] أخرجه مسلم (622).
[3] أخرجه مسلم (612).
[4] رواه مسلم (612).
[5] أخرَجه مُسلمٌ
[6] روى مسلم عن زيد بن ثابت قال: (تسحَّرْنا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ثمَّ قمنا إلى الصَّلاةِ قلتُ كم بينَهما قالَ قدرُ قراءةِ خمسينَ آيةً).
[7] أخرجه الترمذي (327)، وابن ماجه (775)، وأحمد (7649).
[8] أخرجه البخاري (556)، ومسلم (608).
[9] أخرجه البخاري (579)، ومسلم (609).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك