الدرس السابع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

57335 18
الدرس السابع عشر

أخصر المختصرات

{الحمد لله الملك العلَّام، القدوس السَّلام، وصلَّى الله وسلَّم على خير من صلَّى وصام، وتعبَّد وقام، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام.
ثم أمَّا بعد؛ فأهلًا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلسٍ جديدٍ من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان. أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكم الله، وحيَّا الله المشاهدين والمشاهدات الذين حرصوا على هذا المجلس وسعوا إليه، أسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء، اللهم آمين.
{أحسن الله إليكم.
نستأذنكم شيخنا في استكمال ما توقفنا عنده}.
استعن بالله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا عَدَا ذَلِكَ، وَالشُّرُوطُ سُنَّةٌ، فَالرُّكْنُ وَالشَّرْطُ لَا يَسْقُطَانِ سَهْوًا وَجَهْلًا، وَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِهِمَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم الذين يرتقون في منازله، ويهتدون بما علموا، ويُوفَّقوا للعمل بذلك على إخلاصٍ ونيةٍ وتوفيقٍ، إن ربنا جواد كريم.
ذكرنا في المجلس الماضي ما يتعلق بالأركان والواجبات، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد أن عدها وحصرها: (وَمَا عَدَا ذَلِكَ)، يعني: ما تقدم من الأركان الأربعة عشر، ومن الواجبات الثمانية، وما عدا الشروط التي تقدَّمت قبل ذلك فسنة، يعني: مما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في صفة الصَّلاة، مثل: دعاء الاستفتاح، والاستعاذة، ومثل ما زاد عن قول: (سبحان ربي العظيم) مرة واحدة، وأيضًا زيادة بعد قولك: (ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السماوات إلى الأرض)، فكل ذلك سنة مُستحبة.
فالمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أرادَ أن يُبين ذلك، ومثل هذا أيضًا الجَلسة بين السجدتين بافتراش اليسرى ونصب اليمنى، والتورُّك الذي يكون في التَّشهد الأخير، والإشارة بالأصبع وتحريكها عند لفظ الجلالة إشارةً إلى التوحيد، كل ذلك الذي ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وما لم يُذكر في الواجبات ولا في الأركان؛ فإنه من السنن المستحبَّة في الصَّلاة، فإن أدَّاها الإنسان فهو مأجور -بإذن الله جَلَّ وَعَلَا-، وإن فات عليه شيء من ذلك فلا حرج عليه ولا غضاضة، لكن ينبغي للمسلم أن يحرص على تكميل صلاته باتباع سنة النبي ﷺ وتكميل السنن والمستحبات.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد ذلك: (فَالرُّكْنُ وَالشَّرْطُ لَا يَسْقُطَانِ سَهْوًا وَجَهْلً)، فلو أنَّ شخصًا صلى ساهيًا عن طهارته؛ فإنَّ صلاته لم تصح، ويجب عليه إعادتها، ومثل ذلك: لو أنَّ الإنسان صلَّى قبل الوقت ولو ناسيًا، قام وظنَّ أن الساعة الخامسة، يعني: أنَّ الفجر قد دخل، فإذا هي الرابعة، فصلى الفجر، فنقول له: ولو كنت ساهيًا فإنَّ صلاتك قبل الوقت ليست بصحيحة، وبناء على ذلك يجب عليه إعادتها.
إذًا؛ الشرط مثل المثالين المتقدمين، والركن مثل لو أنَّ الإنسان صلَّى فسجد سجدة واحدة وجلسَ كأنه بين السجدتين، فذهلَ فظنَّ أنها جلسة الاستراحة، فقام إلى الركعة التي تليها -على سبيل المثال- فإذا تذكر السُّجود بعد ذلك، فإنه لا بد من الإتيان به، فإن كان في الصَّلاة أو بعدها بقليل فإنه يمكن جبرانها على ما سيأتي في السُّجود السَّهو بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا-، وإذا ذهب عليه وقت، فإنه يجب عليه إعادة الصَّلاة من أولها، فإذًا لا يسقطان سهوًا ولا جهلًا.
لقائل أن يقول: لم لا تسقط عن الجاهل وهو غير عالم، والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: 286]؟
نقول: إنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- كما أمر العبد بالعبادة والتَّنسُّك؛ فإنه أمره بالعلم والتَّعلُّم، فيجب على الإنسان أن يتعلم من أمور دينه ما تصحُّ به عبادته، وما يلزمه في أمور معاملته، وستأتي الإشارة إلى ذلك -إن شاء الله جَلَّ وَعَلَا.
فبناءً على ذلك؛ متى ما نُبِّهَ أو تعلم فتبيَّن جهلًا أنه كان تركَ ركنًا فيلزمه الإتيان به.
أمَّا الواجب؛ فإنه يسقط بالجهل وبالنسيان، فلو أنَّ الإنسان صلى ناسيًا التشهد الأول فإنه واجب من الواجبات، فيجبره سجود السهو، ولو أنَّ إنسانًا نسي قول: (سبحان ربي العظيم) في أثناء ركوعه؛ فإنه يجبره سجود السهو إذا تذكر بعد ذلك -بإذن الله جَلَّ وَعَلَا.
ومن حيث الأصل يجب على الإنسان التعلم، لكن لو كان يُعذَر كما لو كان أسلم حديثًا أو كان قد نشأ بمكان لا يوجد فيه مكان للتعلُّم ولا يتأتَّى له تعلم شيء، فأدَّى بقدر ما علم فإنه يُعذَرُ في ذلك.
إذًا؛ الجهل يُعذر الإنسان فيه حال كونه يتعذَّر عليه التعلم ولا يستطيع الوصول إليه ولا يُمكنه ذلك، أمَّا إذا أمكنه فإنه يكون قد فرطَ وقد فوَّت، فبناء على ذلك يؤاخَذ بذلك ويُلزَم.
ولو كان الجاهل يعذر في كل الأحوال لأفضى ذلك إلى أن يجهل الإنسان حتى يعذر، فيجهل أحكام الزكاة حتى لا يزكي ويجهل أحكام الصَّلاة حتى لا يصلي، أو يصلي كيفما شاء، ويجهل أحكام الحلال والحرام والربا ونحوها، فيفعل ويقول: أنا جاهل معذور! فبناء على ذلك لا نقول: إنَّ الجاهل لا يُعذر مُطلقًا، ولا نقول: يعذر مُطلقًا، بل هو من حيث الأصل هو عذر، لكن لمن تعذَّر عليه التعلم، وإلا فكما أمر الله بالعبادة فأمر بتعلمها، فإنَّ النبي ﷺ قال: «وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[1]، وقال: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ»[2]، فأمر بالتعلم، فلما قال: «وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» مُقتضى ذلك أن تعرف كيف صلى النبي ﷺ حتى تصلي بصلاته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ لِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَشَكٍّ، لَا فِي عَمْدٍ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هو في أحكام سجود السَّهو، والسَّهو عن الشيء هو الذهول والغفلة، ويقال: سها فيه إذا ذهل وغفل من غير علم، وسها عن الشيء إذا ذهلَ عن علم، ولذلك يؤاخذ الله -جَلَّ وَعَلَا- السَّاهين عن الصَّلاة قال: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4، 5]، ولا يؤاخذ الله -جَلَّ وَعَلَا- الساهين في صلاتهم، لأنهم عن غير علمٍ ولا تقصُّدٍ ولا إدراكٍ، فبناء على ذلك قالوا: يشرع سجود السَّهو في الصَّلاة؛ لأنَّ ذلك يكون عن غير علم ولا قصد، بل عن غفلة وذهول.
ولَمَّا ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أحكام الصَّلاة بكل ما يتعلق بها، أراد أن يُبين الحكم فيما لو حصل على الإنسان ذهول أو نسيان، أو حصل عليه نقص أو زيادة، فما الحكم في ذلك؟
بينه المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا، وذلك مأخوذ مما جاء في السنة في أحاديث ابن مسعود وابن بحينة وأبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ) هذا ذكر من المؤلف في الأحوال التي يُشرع فيها السَّهو، والمشروعية إمَّا أن تكون على سبيل الوجوب، وذلك في الأحوال التي يسهو الإنسان عمَّا يبطل عنده الصَّلاة، فإذا كان العمد يبطل الصَّلاة كتعمُّد ترك الواجب أو تعمد ترك الركن، فإنَّ ذلك لا يُشرع له سجود السهو، ومثل ذلك تعمد فعل ما يبطلها ككلام أو أكل أو شرب، فإذا فعل شيئًا من ذلك ناسيًا؛ فإنه يسجد للسهو ويجبر به؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «إذا سَهَا أحدُكُم في صلاتِه، فلمْ يَدْرِ واحدةً صلَّى أو اثْنتَينِ؟ فلْيَبْنِ على واحدةٍ، فإنْ لمْ يَدْرِ ثِنتَينِ صلَّى أو ثلاثًا؟ فلْيَبْنِ على ثِنتَينِ، فإنْ لمْ يَدْرِ ثلاثًا صلَّى أو أربَعًا؟ فلْيَبْنِ على ثلاث، ولْيسْجُدْ سجْدتينِ قبْلَ أنْ يُسَلِّمَ»[3].
ويسن سجود السَّهو فيما إذا قال ذِكرًا في غير موضعه، كما لو قرأ القرآن في حال الركوع أو في حال السُّجود، أو قرأ التحيات في حال القيام، فإنَّ هذه من الأحوال التي يُستحب فيها السُّجود ولا يجب؛ لأن هذا لا يغير هيئة الصَّلاة، ولكنه سهو ونسيان، فمن جهة كونه سهوًا ونسيانًا فإنه يدخل في عموم قول النبي ﷺ: «إذا سَهَا أحدُكُم في صلاتِه»، ولَمَّا لم تتغير الصَّلاة لم يكن ذلك واجبًا، فكان ذلك أمرًا مستحبًّا.
لكن متى يباح؟
قالوا: يباح إذا ترك الإنسان مسنونًا من مسنونات الصَّلاة، فإذا ترك المسنون؛ فإنه يباح له سجود السَّهو.
لكن لقائل أن يقول: لا ينفك الإنسان من أن ينقص بعض مسنوناته، يعني ما في أحد يأتي بالمسنونات كلها في الصَّلاة أو يتمها إلا الخُلَّص من الناس!
فبعض أهل العلم كما قال ذلك غير واحد: إذا كانت السنة مما اعتاد فعلها فسها عنها فإنه يباح له سجدتي السَّهو فيجبر ما كان قد فاته من سنة اعتادها، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ لِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَشَكٍّ)، هذه كلها آتية في الأحاديث: «إذا زاد في صلاته أو نقص فليسجد»، وفي الحديث الآخر: «إذا شَكَّ أحَدُكُمْ في صَلاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أمْ أرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ ولْيَبْنِ علَى ما اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ»[4].
قال: (لَا فِي عَمْدٍ)، أما إذا كان ذلك في عمد؛ فإنَّ العمد -كما ذكرنا- يبطل الصَّلاة إذا كان قد تَعَمَّدَ ترك الواجب، أو تعمد ترك الركن، أو فعل ما ينافي الصَّلاة، أمَّا إذا تعمَّد ترك المستحب فإنَّ صلاته لا تبطل، فلأجل ذلك لا نقول: إن من تَعَمَّدَ ذلك يُؤثر في صلاته، لكن نقول: لا يُشرع لك سجود السَّهو؛ لأنَّ سجود السَّهو جبران للسهو والنسيان، فبناء على ذلك لا يكون ذلك محلًّا لسجود السَّهو وفعله.
ومثل ذلك أيضًا: لو أنَّ الإنسان مثلا قرأ القرآن قاصدًا أو عامدًا في الركوع أو في السُّجود أو في الجلسة بين السجدتين أو في التحيات؛ فهذا متعمِّد، ومثل ذلك ذكر في الصَّلاة فهذا الذكر لا يبطل الصَّلاة، ومع ذلك نقول: لا يسجد للسهو؛ لأنَّه كأنه الذي قصد أو تقحَّم فعل ما يُنقص صلاته، والجبران إنما هو لَمَّا سها عنه الإنسان إذا كان بغير قصد ولا أرادة، فبناء على ذلك مَن فعل مثل ذلك قاصدًا نقول صلاته ناقصة ولا محلَّ لجبرانها بسجود السَّهو.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ وَاجِبٌ لِمَا تَبْطُلُ بِتَعَمُّدِهِ وَسُنَّةٌ لِإِتْيَانٍ بِقَوْلٍ مَشْرُوعٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ سَهْوًا، وَلَا تَبْطُلُ بِتَعَمُّدِهِ، وَمُبَاحٌ لِتَرْكِ سُنَّةٍ)}.
قوله: (وَهُوَ وَاجِبٌ لِمَا تَبْطُلُ بِتَعَمُّدِهِ)، الذي تبطل بتعمده اثنان، هما: ترك الركن أو ترك الواجب، وقلنا إنهما يفترقان من جهات النسيان فيهما، فسيأتي أنه إذا نسي الركن فلا يجبره إلا الإتيان به، وأما الواجب إذا نسيه فإنه يجبر بسجود السَّهو.
ومثل ذلك لو تعمَّد فعل ما ينافي الصَّلاة كأكلٍ أو شربٍ أو كلامٍ، ففي مثل هذه الأحوال فإنه لو فعل شيئا من ذلك ساهيًا فإنه يُجبر بسجود السَّهو، لكن قال أهل العلم: إنه لو زاد في الأكل كثيرًا فإنه لا ينفعه سجود السَّهو، لأنه وإن كان ساهيًا فإن مثل هذه الحال يخرج بها المصلي عن حال هيئة الصَّلاة، فبناء على ذلك أوجب عليه إعادتها، كما يستثنى من ذلك تكبيرة الإحرام -وهذا قد تقدم معنا سابقًا- فمن نسي تكبيرة الإحرام؛ فإنه لا بد أن يعيد فيبتدأ تكبيرة الإحرام، ثم يتم صلاته؛ لأنَّ تحريمها التكبير، فإذا شرع في صلاة بغير تكبير فكأنه لم يدخل فيها.
قال: (وَسُنَّةٌ لِإِتْيَانٍ بِقَوْلٍ مَشْرُوعٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ سَهْوً)، لو أنه قال التحيات في حال القيام، يعني بعض الناس يسهو إما لعدم مبالاة في صلاته، وهذا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- مما ينبغي التنبيه عليه وأن يجاهد المرء نفسه على أن يستحضر قلبه وأن ينظر في صلاته فيما يقول وفيما يفعل ووقوفه بين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا-، وفي بعض الأحوال لعارض عرض له ولشغل ألمَّ به، فإن الإنسان تعرض له من الأمور إما من الديون أو هموم هذه الدنيا كعلة ومرض، أو شيء مما أصابه في أهل أو في ولد فقد ينشغل، فربما قال وهو قائم "التحيات لله" بدل أن يقرأ سورة مع الفاتحة، فإذًا هذا أتى بقول مشروع في غير محله سهوًا، فبناء على ذلك نقول: يسن له سجود السَّهو -كما قلنا- لأنه لم تتغير هيئة الصَّلاة، فلأجل ذلك لم يكن ذلك واجبًا.
قال: (وَلَا تَبْطُلُ بِتَعَمُّدِهِ)، لو تعمد ذلك؛ فإنَّ صلاته لا تبطل؛ لأن مثل هذه الأقاويل إنما هي أذكار في الصَّلاة مشروعة، فليست بكلام آدميين ولا بشيء من غير جنس الصَّلاة، فبناء على ذلك لا نقول ببطلانها.
قال: (وَمُبَاحٌ لِتَرْكِ سُنَّةٍ)، يعني أن سجود السَّهو لمن ترك سنة يُباح له السُّجود لكنه لا يُسنُّ ولا يجب، وذكرنا أن بعض أهل العلم قيَّده بما إذا كانت سنة معتادٌ على فعلها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَحَلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ نَدْبًا إِلَّا إِذَا سَلَّمَ عَنْ نَقْصِ رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ فَبَعْدَهُ نَدْبً)}.
كأن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أرادَ أن يقول: إن سجود السَّهو محله قبل السلام، وبعده جائزٌ من حيث الجواز، فلو أنَّ شخصًا كان يفعل سجود السَّهو في كل أحواله قبل السلام فيكون قد أدَّى ما عليه، ولو أنَّ شخصًا يسجد للسهو بعد السلام نقول: إنه قد أدى ما عليه، لكن ما الأكمل والأتم؟
لأهل العلم في ذلك الكلام، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قد ذهب على ما قرره الأصحاب في المذهب، وهو تفريقٌ يسيرٌ، واعتبارٌ بما اجتمعت فيه الأدلة، فيقولون: الأصل أنَّ السهو قبل السلام؛ لأنه من الصَّلاة، وكل أفعال الصَّلاة قبل سلامها، وهذا هو الذي جاء عن النبي ﷺ «ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ»، قالوا: إلا أنه قد جاء في حال واحدة، وهي: أنه إذا سلَّم عن نقصٍ كما في حديث ذي اليدين، فإنَّ النبي ﷺ لَمَّا سلم عن نقص قام فأتى بالركعتين، وأتم الصَّلاة ثم سلم ثم سجد للسهو ثم سلم، فقالوا: هذه مُستثناة فتبقى على استثنائها.
زاد بعضهم وقال: لو نسيه قبل السلام فيؤديه بعد السلام وهذا أمر واضح.
وربما جاء أيضًا في بعض روايات حديث أبي سعيد: «إذا شَكَّ أحَدُكُمْ في صَلاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أمْ أرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ ولْيَبْنِ علَى ما اسْتَيْقَنَ»، قالوا: فإنه يسجد للسهو بعد السلام، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- اكتفى بالصورة الأولى، قال: (إِلَّا إِذَا سَلَّمَ عَنْ نَقْصِ رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ فَبَعْدَهُ نَدْبً).
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ إِتْمَامِهَا عَمْدًا بَطَلَتْ، وَسَهْوًا فَإِنْ ذَكَرَ قَرِيبًا أَتَمَّهَا وَسَجَدَ)}.
قوله: (وَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ إِتْمَامِهَا عَمْدًا بَطَلَتْ)؛ لأنه تعمَّد إنقاص الصَّلاة، وهذا بإجماع أهل العلم لا يختلف في ذلك، وأمَّا إذا سلم عن ذلك سهوًا فلا يخلو: إَّما أن يذكر قريبًا أو لا، والقريب هو القريب عرفًا، يعني في خلال دقيقتين أو ثلاث، بعضهم قال عشر، أو ما لم يخرج من المسجد، لكن في حديث ذي اليدين أنَّ النبي ﷺ خرجَ لكنه خروجٌ يسير أو وقت قصير، فلأجل ذلك الأحسن أن يُضبط بالوقت المعتاد عرفًا، فإذا كان لنحو دقائق لا يختلف بها أو لا تنفصل بها الصَّلاة، يعني: ليس وقتًا طويلًا، كما لو كان ساعة أو أربعين دقيقة أو نحوها، لكن لو كانت خمس دقائق سبع دقائق إلى عشر دقائق يمكن أن يكون ذلك قريبا عرفًا، فبناء على ذلك يرجع فيتم صلاته.
ويقولون في مثل هذه الحال: ينبغي له أن يجلس ليقوم وهو في صلاة؛ لأنَّ ذلك القيام من أعمال الصَّلاة.
أمَّا إذا سلم عن النقص: فإذا كان قد تكلَّم لمصلحتها كما يحصل لبعض الناس، يقولون: صلينا ثلاثًا، لا صلينا أربعًا؛ فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أن ذلك مبطلٌ لها.
فإن قيل: ماذا يقال عن ذي اليدين؟
قالوا: هذا قبل تحريم الكلام في الصَّلاة.
لكن الأشهر وهو قول المحققين من الأصحاب، كما هو قول المجد وغيره، أنه إذا كان الكلام لمصلحتها، فإنَّ ذلك لا يمنع إتمامها وتكميل ما فات عليه فيها بشرطه، يعني: أن يكون قد ذكر قريبًا، ثم إذا كان الأمر كذلك فإنه بعد هذا يسجد للسهو ويسلم، على ما تقدم بيانه من أن السُّجود السَّهو يكون بعد السلام.
أمَّا إذا لم يذكر إلا بعد وقت طويل -المؤلف لم يذكر شيئا عنه- فإنه تجب عليه الإعادة، فإنَّ الصَّلاة مُتعلقة بذمته ولم يؤدِّها على وجهها، فمتى ما تنبَّه لذلك وجبت عليه إعادتها حتى تخلو التَّبعة عنه، وترتفع من ذمته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَحْدَثَ أَوْ قَهْقَهَ بَطَلَتْ كَفِعْلِهِمَا فِي صُلْبِهَ)}.
الإحداث: يعني خروج الحدث بانتقاض طهارته.
والقهقهة معلومة وهي صوت للضحك مرتفع، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إن ذلك مبطل لها كما لو فعلها في صلب الصَّلاة فإن ذلك مبطل لها.
والحدث هذا معلوم، فإنه انتفى شرط من شروط الصَّلاة.
لكن القهقهة: الحقيقة أن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كأنه أطلق ذلك، حتى ولو كانت القهقهة قد غلبته، إلا أن يقال: إن القهقهة صورة لا تكون إلا من طالبها أو من مقبلٍ عليها، فبناء على ذلك نقول: فتبطل بها الصَّلاة كما تبطل لو كان قد سلَّم عن نقص فقهقه فإنه لا يعود إلى الصَّلاة تكميلًا بل يعود إليها ابتداء واستئنافًا، واستدلوا أيضًا في ذلك ببعض ما جاء في الأحاديث وإن في أسانيدها مقال، إلا أنها هم جعلوها عمدة في القول بالبطلان مطلقًا وطلب الإعادة فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ نَفَخَ أَوِ انْتَحَبَ لَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَوْ تَنَحْنَحَ بِلَا حَاجَةٍ. فَبَانَ حَرْفَانِ بَطَلَتْ)}.
النفخ: بأن يُخرج الهواء من فمه، فهذا النفخ الانتحاب ليس من أعمال الصَّلاة، وليس هو من حال الخاشعين الذين يُطلب منهم تلكم الصورة والهيئة في الصَّلاة، فبناء على ذلك إذا بان حرفان تبطل الصَّلاة.
لِمَ قيدوها بالحرفين؟
قالوا: لأنها تكون كهيئة الكلام، والكلام أقله ما اشتمل على حرف فأزيد، فبناء على ذلك تبطل بهذا الصَّلاة.
قوله: (أَوِ انْتَحَبَ لَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، لم يفرق المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، بين أن يكون ذلك قد غلب عليه كان بإرادته، فإذا كان بإرادته فكما لو تعمَّد، فكأنه تعمد الكلام إذا بان منه حرفان، أمَّا إذا كان قد غُلب عليه كمن أُخبر بوفاة والده أو أمه أو عزيز عليه، فدخل في حاضرة فتذكَّر ذلك فغلبه أو فجهش بالبكاء فصدر له صوت، فمُطلق كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنه ليس من خشية الله فتبطل به الصَّلاة.
ويمكن أن يقال: إن غُلب على ذلك صحَّت الصَّلاة؛ لأنَّ هذا يكون كالمعذور فيه، والذي خرج بغير إرادته فكما لو لم يقصده، أو كما لو سها عنه.
ومثل ذلك لو تنحنح بلا حاجة، أمَّا إذا كان بحاجة فإنَّ النبي ﷺ كان يدخل عليه علي فيتنحنح كأنه ينبهه أنه في صلاة، فإذا كان بحاجة فلا بأس بذلك.
بقي أن نقول: إذا كان النفخ أو الانتحاب أو النحنحة لم يصدر فيها حرفان -بل حرف أو شبه ذلك- فإنها لا تمنع صحة الصَّلاة حتى ولو تعمدها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ تَرَكَ رُكْنًا غَيْرَ التحريمةِ فَذَكَرَهُ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي قِرَاءَةِ رَكْعَةٍ أُخْرَى بَطَلَتْ الْمَتْرُوكُ مِنْهَا، وَصَارَتْ الَّتِي شَرَعَ فِي قِرَاءَتِهَا مَكَانَهَا، وَقَبْلَهُ يَعُودُ فَيَأْتِي بِهِ وَبِمَا بَعْدَهُ، وَبَعْدَ سَلَامٍ فَكَتَرْكِ رَكْعَةٍ)}.
قوله: (وَمَنْ تَرَكَ رُكْنًا غَيْرَ التحريمةِ)، أمَّا التحريمة فقد ذكرنا أنه لا بد من الإتيان بها للدخول في الصَّلاة.
قال: (بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي قِرَاءَةِ رَكْعَةٍ أُخْرَى)، يعني لو أن شخصًا سها في صلاته وهو يقرأ الفاتحة ويقرأ سورة فهوى فسجد ظانًّا أنه قد ركع، ثم لما أنهى السجدتين وقام إلى الركعة الثانية تذكر أنه لم يركع في الأولى، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إن هذا تارك لركن، وقد تقدم معنا أن الركن لا يجبر في حال السَّهو عنه إلا الإتيان به، فبناء على ذلك يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لا يخلو الحال، فإذا ذكره بعد شروعه في قراءة أخرى: فبناء على ذلك تعلق به وجوب الركن الحاضر وبطلت الركعة الماضية، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَطَلَتْ الْمَتْرُوكُ مِنْهَ)، يعني الركعة الأولى، وقامت الثانية مقامها، فنعتبر هذه الركعة التي هو الآن يشرع في قراءتها كأنها الركعة الأولى، وإذا كانت المتروك منها الثانية وهذه الثالثة فنعتبر أن هذه هي الثانية، فيأتي بها وبما يجب بعدها على الترتيب المعلوم، فلأجل ذلك قال: (وَصَارَتْ الَّتِي شَرَعَ فِي قِرَاءَتِهَا مَكَانَهَ)، هو الأشهر في المذهب عند الحنابلة باعتبار أن كل ركعة مستقلَّة، فإذا شرع في قراءة ثانية لم يعد من هذا الركن إلى ركن قبله لأنهما سواء، فلا يمكن أن يرجع من ركعة ثانية إلى ركن من ركعة أولى، فتبطل الركعة الأولى وتقوم الثانية مقامها، هذا هو الأشهر في المذهب عند الحنابلة، في قول عند بعض الفقهاء وقول بعض المذاهب أنه يعود ما لم يصل إلى موضع المتروك من الركعة التي تليها، وهذا قول له وجيه واعتبره بعض أهل التحقيق، وكلا القولين لهما اعتبار ومُستمسَك، فبناء على ذلك فإن المشهور بالمذهب: متى ما شرعت في قراءة الركعة الثانية تكون التي قبلها قد بطلت وتقوم التي تليها مقامها.
قال: (وَقَبْلَهُ)، أما إذا تذكر قبل الشروع في القراءة حتى ولو قام، فالقيام ركن، لكن لِمَ قالوا إنه لو قام يمكنه أن يرجع؟ مع أن هذا ركن وذاك ركن؟
قالوا: لأن القيام من حيث هو ركن صحيح، لكنه ركن ليس مقصودًا لذاته بل هو مقصود لما يكون فيه من القراءة والفاتحة ونحوها، فبناء على ذلك يقولون: يُعاد منه، كأنهم اعتبروا بما جاء في القيام للركعة الثالثة إذا ذكر فرجع إلى التشهد الأول لمن نسيه فإن ذلك صحيح ما لم يشرع في القراءة، أو يصح منه ذلك وإن كُره على ما سيأتي.
فبناء على ذلك قالوا: إنه إذا لم يشرع في القراءة فإنه يعود فيأتي به وبما بعده، نفترض أنه قام الآن وقبل أن يسمي تذكر أنه نسي الركوع، فنقول: ترجع فتركع للركعة الأولى، ثم تقوم من الركوع فتتم السجدتين، ثم تقوم إلى الركعة الثانية وتشرع فيها، هذا إذا لم يكن شرع في قراءة التي تليها.
قال: (وَبَعْدَ سَلَامٍ فَكَتَرْكِ رَكْعَةٍ)، يعني لو لم يتذكر إلا بعد أن سلَّم، قال: أنا في الركعة الثالثة ما سجدت إلا سجودًا واحدًا ثم قمت، فهنا ترك الجلسة بين السجدتين وترك السجدة الثانية، فنعتبر أن هذه الركعة قد بطلت وكأن هذا سلَّم عن نقص، فيقوم ويأتي بركعة، ويسجد للسهو ويسلِّم.
ويقولون هنا من أنه يسجد للسهو قبل السلام، وإن كان يحتمل أن يكون بعد السلام قياسًا لمن سلم عن نقص.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ نَهَضَ عَنْ تَشَهُّدٍ أَوَّلَ نَاسِيًا لَزِمَ رُجُوعُهُ وَكُرِهَ إِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا، وَحَرُمَ وَبَطَلَتْ إِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ لَا إِنْ نَسِيَ أَوْ جَهِلَ)}.
قوله: (وَإِنْ نَهَضَ عَنْ تَشَهُّدٍ أَوَّلَ) يعني: ناسيًا للتشهد الأول الذي هو واجب من واجبات الصَّلاة، لو قام عامدًا فإنَّ صلاته باطلة؛ لأنَّ الواجب يبطل الصَّلاةَ إذا ترك عمدًا، لكن لو نسي فهنا نسيان لواجب، ففرق بينه وبين نسيان الركن، فبناء على ذلك يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: يلزمه الرجوع، فلو أنه تذكر وهو في أثناء نهوضه؛ نقول: ارجع، ليجلس وليأتي بالتشهد والجلسة له ثم يقوم.
لكن لو لم يذكر إلا وقد استتم قائمًا، ورجع كل عضو إلى مكانه؛ فنقول: يُكره له الرجوع؛ لأنه قام إلى ركن، والذي يرجع إليه واجب، وليس الرجوع من الركن إلى الواجب أولى من إتمام ما هو فيه، لكن قالوا: لو رجع فإنه لا بأس بذلك لكنه فعل ما يُكره، لِمَا تقدَّم قبل قليل من أنه وإن كان القيام ركن إلا أنَّه ركن غير مقصود لذاته، فبناء على ذلك قالوا: لو رجع فإنه لا يمنع صحة صلاته.
لكن إذا قرأ أو شرع في قراءة فإنه شرع في ركن، فلا يجوز له أن ينقض الركن ويعود لتكميل ما نسي من واجب، ولأن الواجب يُجبر بسجدتي السَّهو، فبناء على ذلك قال: (وَحَرُمَ وَبَطَلَتْ إِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ)، لأنه شرع في ركن فلم يجز له أن يرجع إلى ذلك.
هذا أيُّها الإخوة- في التشهد الأول، بعض الناس يظن أن هذه المسألة سواء بسواء لو قام إلى خامسة، إذا استتم قائمًا وشرع في القراءة يظن أنه يكملها، لا، من شرع في خامسة أو ركعة زائدة كرابعة في مغرب أو ثالثة في فجر؛ فلا يجوز له أن يتمها، بل متى ما علم أنه قام زائدا فإنه يعود إلى ما كان فيه ويتم صلاته على هيئتها الصحيحة، لكن هذا إنما هو في التشهد الأول.
مثل ذلك: لو نسي الإنسان التسبيح في السُّجود، فلو ذكر ذلك قبل أن ينتقل إلى الجلوس فإذا كان في أثناء الحركة يرجع فيتم سجوده ويذكر ذكره، ومثل ذلك إذا كان أيضًا في الركوع، فلو أنه مثلا لما رفع رأسه تذكر أنه لم يقل "سبحان ربي العظيم" وما استقام فنقول: ارجع واذكر الذكر.
ومثل ذلك أيضًا في الذكر بعد القيام من الركوع لو نسي قول "ربنا ولك الحمد" ثم هوى ليسجد، وفي أثناء ذلك تذكر قبل أن يصل؛ نقول: ارجع واذكر، أما إذا وصل إلى الركن الذي يليه لم يجز له أن يرجع لوصوله إلى ركنٍ مقصودٍ، ويحرم عليه ذلك.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِنْ نَسِيَ أَوْ جَهِلَ)، فرجع بغير قصد فربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا.

وَالخَـطَـأْ والإِكْـرَاهُ وَالـنِّـسْـيَــانُ ... أَسْقَـطَـهُ مَعْبُــودُنَــا الـرَّحْـمَــنُ

ثم قال: (وَيَتْبَعُ مَأْمُومٌ)، المأموم يتبع إمامه في ذلك، إلا إذا شرع في القراءة لمأموم عالم فإنه يجب عليه، فلو أن الإمام شرع في القراءة في الركعة الثالثة وقد نسي التشهد الأول فرجع؛ فيقولون: لا يجوز للمأموم أن يتابعه في مثل هذه الحال، بل عليه أن يفارقه إذا كان عالمًا لئلا يوافقه في الانتقال من ركن إلى واجب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَجِبُ السُّجُودُ لِذَلِكَ مُطْلَقًا، وَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ -وَهُوَ الْأَقَلُّ- مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ أَوْ عَدَدٍ)}.
قوله: (وَيَجِبُ السُّجُودُ لِذَلِكَ مُطْلَقً)، يعني في المسائل التي تقدم تقدمت جميعها، سواء فيمن نسي فرجع فأتى به وما بعده، أو نسي ركنًا فشرع في القراءة في الركعة التي تليها فأتى بركعة مكانها، أو أنه سلم فأتى بعد ذلك بركعة كاملة؛ في هذه الأحوال الثلاثة يجب عليه سجود السَّهو، كذلك من نسي التشهد الأول فرجع أو قام فأتمَّ صلاته فإنه يُجبر بسجود السَّهو؛ في كل الأحوال إذًا التي تقدمت سجود السَّهو متعلق به، وفي هذا حديث عبد الله بن بحينة أنَّ النبي ﷺ لَمَّا قام من الثانية ولم يجلس للتشهد الأول قال: «فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، ونَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وهو جَالِسٌ، قَبْلَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ سَلَّمَ»[5].
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ -وَهُوَ الْأَقَلُّ- مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ أَوْ عَدَدٍ)}.
لو أن الإنسان شكَّ في ركن، قال: أنا ركعت ولا ما ركعت؟ فيقولون: الأصل في لهذه الأحوال أنه لم يركع، لأنه لابد أن يأتي بالعبادة على يقين، فبناء على ذلك يرجع فيأتي به، ويعتبر أنه لم يأت به، إلا أن يكون الإنسان شكَّاكًا موسوَس به فإنه لا يلتفت إلى هذه الوساوس، ولابد له أن يأطر نفسه على القَطعِ والحزمِ ويمنع الوساوس والشياطين، وإلا أفسدت عليه عبادته؛ بل أفسدت عليه دينه ودنياه، فلأجل ذلك يقول المؤلف: (وَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ -وَهُوَ الْأَقَلُّ- مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ أَوْ عَدَدٍ)، أو شك في عدد الركعات، أو في السجدات أو نحوها، لكن مَن شكَّ في واجب، كأن يقول: أنا الآن في الركعة الأولى قلت: "سبحان ربي العظيم" ولا ما قلت؟ فيقولون: ليس عليه شيء، لأن الواجب لا يرجع إليه فيؤتى به، والأصل عدم وجوب سجود السَّهو عليه، فبناء على ذلك لا يجب عليه في ذلك شيء، فلا يرجع فيأتي به، وهذا إذا فارق المحل الذي هو فيه، ولا يجب عليه سجود السَّهو في مثل تلك الحال.
وفي مثل هذا مسألة مهمة، وهي وإن لم تكن في باب الصَّلاة لكنها كثيرة الوقوع، وهي الشَّك في عدد الأشواط، كثير من الناس إذا شكَّ قال لمن بجانبه: طفنا ثلاثة ولا أربعة؟ فيقول أربعة؛ لا، الأصل أنك تبني على عبادتك أنت، حتى ولو تيقن هو أنها أربعة وأنت تيقنت أنها ثلاثة فأنت تبني على يقينك وهو يبني على يقينه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: آكَدُ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ: كُسُوفٌ فَاسْتِسْقَاءٌ فتراويحُ فَوِتْرٌ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في صلاة التَّطوع، يعني بعد أن أنهى ما يتعلق بالصَّلاة الواجبة وما تجبر به حال احتياجها إلى جبران وهو سجود السَّهو، وهذا الكتاب كاسمه هو (أخصر المختصرات)، فكل هذه الأبواب إنما أُتِي بأمهات المسائل فيها، وصلاة التطوع من أعظم ما ينبغي للإنسان أن يحرص عليه، والتطوع بالصَّلاة فضيلة عظيمة ومنَّة كبيرة يمن الله -جَلَّ وَعَلَا- بها على من يشاء من عباده، وفي هذا الموضع يذكر أهل العلم أفضل ما يُتطوع به على الإطلاق، فالمشهور من المذهب أنه الجهاد في سبيل الله ثم النفقة فيه، ثم تعلُّم العلم وتعليمه، ثم الصَّلاة.
بعضهم يقول -كما هي رواية عند أحمد وقال بها جمع من أهل العلم والتحقيق: إن العلم هو أفضل من ذلك، ولا شكَّ أن العلم أفضل ما يكون، سواء قلنا بأفضليته على الإطلاق كما هي رواية عند جمع من الفقهاء، أو نقول على أقل الأحوال إنه أفضل في هذا الزمان التي عمَّت فيه الجهالات، وكثُرت فيه الضَّلالات وتعبَّد الناس على غيرِ بصيرةٍ، وتحكَّم أهل الأهواء في السنن وقالوا فيها على غير سبيلٍ، وأقاموها على غير وجهٍ؛ فوجب في ذلك أو تعين أو تعلَّق العلم والشُّروع فيه والاجتهاد في تحصيله وتنبيه الناس على ما تقوم به عباداتهم وتصلح به معاملاتهم ما يقال من إنه أولى ما ينبغي أن تُمضى فيه الأوقات، وتُفنى فيه الأعمار، ويقبل عليه المقبل، ويطلب به رضا -جَلَّ وَعَلَا.
وقد سئل أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عن أفضل الأعمال، فقال: "العلم لمن كانت له نية"، ولابد أن يكون الإنسان في قصده أن يرفعَ الجهل عن نفسه وأن يتواضع فيه، وأن يرفع الجهل عن الناس، وأن يطلب هدايتهم، لا أن يطلب بذلك رفعةً ولا جاهًا ولا صيتًا ولا غير ذلك من أعراض هذه الدنيا ومقاصدها، ولو رأيتم -خاصة في مثل هذه الأوقات- أنه بفوات العلم حصلت على الناس بلايا كثيرة، فما هذه الفتن التي هي في التَّسلُّط على المسلمين وعلى غيرهم مما لا يُباح التَّسلط عليهم بإراقة الدماء وإهلاك أنفسهم وأموالهم وغير ذلك وإفساد بلاد المسلمين ما كان إلا عن جهلٍ من أهل الجهالات والضَّلالات، ادَّعوا بذلك أنهم يجاهدون وأنهم على دين الله يغارون، إلى غير ذلك من الأشياء التي تعلَّقت بنفوسهم وزيَّنها الشيطان لهم، فضلوا وأضلوا، وهلكوا وأهلكوا وأوردوا الناس موارد بلاء وفتنة، ورؤي الشرع على غير وجهه، وشُوِّهت الملَّة، وحصل من الكفار في ذلك شماتةٌ بالمسلمين وبدينهم، وتغييرٌ لوجهه الصحيح ولهيئته المشرقة التي تُقبل عليها القلوب، وترتضيها النفوس التي لم تتشوَّه بمثل هذه الشُّبه ولا بمثل هذه الأهواء، وما ذاك إلا من الجهل والجهالات.
فلأجل ذلك القول بالعلم والتَّعلم أنه أفضل الأعمال إما على الإطلاق وإما أن يقال: ولا شك أنه في هذا الزمان لمسيس الحاجة إليه، ولأن الجهاد أيضًا له شروط واعتبارات في حال القوة ومع إمام المسلمين برًّا أو فاجرًا، فليس لآحاد الناس أن يبتدئه، ولا أن يرفع لوائه، لأن مصالح ذلك أيضًا متعلقة بالإمام ما يرى فيه المصلحة وما يحكم بالحاجة إليه، وأن يترتب على الجهاد المراد منه، فليس المراد من الجهاد هو الجهاد نفسه، وإنما المراد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله -جَلَّ وَعَلَا-، فإذا لم يتأتَّى ذلك إما لضعف المسلمين أو لقوة الكافرين أو لغير ذلك؛ فلا حاجة إلى الجهاد، لا يقتل المسلمون أنفسهم ولا يذهبوا أمنهم وأمانهم على غير مقصود، أو بما لا يحصل منه المراد الشَّرعي.
فإذًا يجب أن يعلم أفضل الأعمال، وأن تُغذَّى لنفوس بطلب أعلى الأعمال وأتمها، وأن يحرص العبد في حياته أن يتزوَّد منها لأخراه، وإذا كان لا يأتي بعموم الصَّالحات الإتيان على جميع أبوابها، فلا أقل من أن ينظر في أكملها وأتمها، فما كان من العلم وما كان من الصَّلاة وما كان من نفع الناس وما كان من الأمور التي قرَّر أهل العلم أسبقيتها وأفضليتها؛ فإن ذلك أتم وأكمل عند الله -جَلَّ وَعَلَا.
وقول المؤلف: (صَلَاةُ التَّطَوُّعِ)، التَّطوُّع: تفعُّل وهو فعل الشيء كثيرًا، فإن "التفعل" يأتي بالإقبال على الشيء كثيرًا، مثلا: تقحَّم الإنسان كذا، إذا أتاه مرة بعد مرة وتقصَّد إتيانه كثيرًا، فهو يأتي من هذا المعنى.
كما أنه يأتي بمعنى المنع الوقوف عن هذا، كما يقال مثلا: تأثَّم فلان في كذا أو تحرَّج فلان من كذا، يعني: منع نفسه من الإثم والعدوان، فيأتي بمعنى الضَّدين، لكن الأكثر أن يكون في فعل الشيء كثيرًا، فالمقصود هو فعل الطاعة، والمعنى المراد هنا: هو فعل الطاعة المستحبة، والتَّكثُّر والتزود منها.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (آكَدُ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ: كُسُوفٌ فَاسْتِسْقَاءٌ فتراويحُ فَوِتْرٌ)، الصَّلاة هي من أفضل الأعمال، كما جاء ذلك في الحديث: «واعلَموا أنَّ أفضلَ أعمالِكمُ الصلاةُ»[6] كما عند ابن ماجه وغيره.
ما أفضل هذه الصَّلاة؟
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كُسُوفٌ فَاسْتِسْقَاءٌ فتراويحُ فَوِتْرٌ) لماذا بدأ بصلاة الكسوف فالاستسقاء؟
نظر أهل العلم إلى أنَّ هذه صلوات تُشرع لها الجماعة، وما شرع له الجماعة؛ فإنه يقرُب أن يكون مثل الصَّلاة الفريضة، فإنما يُعتبر للجماعة ويُهتم لها ونحو ذلك؛ فإنه أتم وآكد، فلأجل ذلك قالوا: إنها أفضل التَّطوعات.
ثم جاءوا إلى ما تشرع له الجماعة فرأوا أيُّها آكد من جهة الأدلة الأخرى، فرأوا في صلاة الكسوف أن النبي ﷺ لم يتركها البتة، قال: «فإذا رَأَيْتُمُوهُما، فَقُومُوا فَصلُّو»[7]، فبناء على ذلك قالوا: إنَّ آكدها الكسوف.
أمَّا الاستسقاء فقالوا: إنه صلى وترك.
من أين أخذنا انه ترك؟
لأنه في بعض الأحوال التي احتاج الناس إلى الاستسقاء اكتفى بالدعاء في آخر صلاة الجمعة، فدلَّ على أنه لم يصلِّ في كل الأحوال التي يحتاج فيها إلى الاستسقاء.
وكذلك التراويح فإنها صُليت جماعة ثم ترك النبي ﷺ، فكانت بعد الكسوف والاستسقاء.
والوتر أيضًا لأنها تصلى جماعة مع التراويح، ومن جهة أخرى فإنَّ الوتر أيضًا من أتم الأعمال، ولذلك قال بعض أهل الفقهاء بوجوبها كالحنفية، وجاء عن أحمد أنه قال: "من لم يصلِّ الوتر فهو رجل سوء"، إلى غير ذلك مما جاء عن السلف من كراهية ترك الوتر وعدم فعلها، وكما جاء في الأحاديث الحض والحث عليها، والنبي ﷺ فعلها حضرًا وسفرًا، فكانت هي بعد التراويح والاستسقاء والكسوف.
{أحسن الله إليكم.
نستأذنكم في التوقف نظرًا لضيق الوقت، بارك الله فيكم ونفع بكم وبعلمكم، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة إن شاء الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------
[1] صحيح البخاري (6008).
[2] صحيح مسلم (1297).
[3] أخرجه الترمذي (398) واللفظ له، وابن ماجه (1209)، والطبري في ((تهذيب الآثار)) (22).
[4] صحيح مسلم (571).
[5] صحيح مسلم (570).
[6] أخرجه ابن ماجه (278).
[7] صحيح البخاري (1041).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك