{الحمدُ لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاةٍ وأتم تسليم.
ثم أمَّا بعدُ؛ فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كلِّ مكانٍ، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله وحيَّا الله الجميع، بارك الله فيكم ونفع بكم وبارك في علمكم.
{نستأذنكم شيخنا في استكمال توقفنا عنده، توقفنا عند الشرط السادس من شروط الصلاة، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّادِسُ: النِّيَّةُ، فَيَجِبُ تَعْيِينُ مُعَيَّنَةٍ وَسُنَّ مُقَارَنَتُهَا لِتَكْبِيرَةِ إِحْرَامٍ، وَلَا يَضُرُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا بِيَسِيرٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، صلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله-جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم ممن خلُصت نيَّاتنا وصلُحت أعمالنا، واستقمنا على أمر الله جل وسنة نبيه ﷺ ما حيينا، وأن يحيينا على ذلك، وأن يحيي بنا السنة وأن يميتنا عليها، غير مبدِّلين ولا مُغيرين ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا هو الشرط السادس من شروط صحة الصلاة، وهي من الأهمية بمكان، ويجب على كل مسلم أن يُعنى بصلاته تتميمًا وتكميلًا وأن لا يُفرِّط في ذلك، فكم من الناس من عاشَ دهرًا من حياته لربما عشر سنين ولربما عشرين ولربما ذهب عمره وهو يصلي على غير وجهٍ صحيحٍ، أو يصلِّي صلاةً فاسدةً أو يصلِّي صلاةً ناقصةً؛ فكل ذلك يفوته بتفويت العلم والتَّعلم، ولو أنه استماع مثل هذا المجلس ولو أنه درسَ بعض ما يتعلَّق بهذه العبادة لربما بلغَ بها مبلغًا رفيعًا في الأجر والثواب وفي التَّكميل والتَّمام، نسأل الله أن يتم علينا وعليكم.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر هنا النية، والنِّية لها مُتعلَّق وهو أن يكون المقصود في ذلك إخلاص القصد لله-جَلَّ وَعَلَا-، فهذا أصل في صلاح العبادة وصحتها، وهو يُفهم من كلام الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- ويُقصد، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، وقال النبي ﷺ: «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ» ، ولذلك عرف الفقهاء النية بأنها: التقرب إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- بعبادة معينة مبينة.
وهذا في جملته هو من مباحث أهل الاعتقاد والتوحيد والإيمان، ويتعلَّق كلام الفقهاء في باب النية إلى وجهين مهمين:
- أولهما: تمييز العبادة من العادة، فكون الإنسان يغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه قد يكون ذلك على سبيل التَّنظُّف والتَّطهُّر، لأجل أن يكون أنقى وأوضأ، وربما كانت عبادة، ولا يكون فرق بين ذا وذاك إلا بالنية، فإذا نوى أن يتطهَّر لأداء العبادة، إذا نوى أن يتقرَّب بها إلى الله، إذا نوى أن هذه الأغسال التي ابتدأ فيها بوجهه ثم يديه ثم مسح رأسه ثم رجليه؛ قصدَ بذلك العبادة التي تُشترط للصلاة ولقراءة القرآن ولطَّواف ولغيره؛ فيكون بذلك أدى هذه العبادة، فإذًا هي تمييز العبادة من العادة.
- ثانيها: وتمييز العبادات فيما بينها، فعلى سبيل المثال صلاة ركعتين ربما تكون صلاة الفجر الفرض الواجب، وربما كانت سنتها، وربما كانت سنةً راتبة غيرها، وربما كانت صلاة من الليل، وربما كانت نفلًا مطلقًا، فما الذي يفرق بين ذا وذاك؟ فإنما هو بالنية، فإذا نوى أن يصلي هاتين الركعتين فرض الفجر افترقت عن غيرها وتميَّزت عن سواها، ولذلك يقوم الإنسان يصلِّي ركعتين سنة الفجر ويقوم ويصلِّي بعدها ركعتين صلاة الفجر لا فرق بينهما البتَّة إلا أن هذه سنتها وهذه فرضها. بِمَ يفترقان؟ بالنية. فإذًا هي تمييز العبادة من العبادة كذلك.
ولذلك هنا قال: (فَيَجِبُ تَعْيِينُ مُعَيَّنَةٍ)، يجب أن ينوي صلاة الظهر إذا كان الآن وقت الظهر، وإذا كان العصر ما الذي يفرق بينهما؟ لو أن شخص عليه قضاء أو جمع لعذر فما الذي يفرق بين الظهر والعصر إلا النية؟
فلذلك قال (فَيَجِبُ تَعْيِينُ مُعَيَّنَةٍ)، فإذا أراد الإنسان أن يصلي صلاة معينة فيجب تعيينها.
قال: (وَسُنَّ مُقَارَنَتُهَا لِتَكْبِيرَةِ إِحْرَامٍ، وَلَا يَضُرُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا بِيَسِيرٍ)، هذا هو الأصل في النيات أن تكون مقارنة للعبادة، ولا يصح أن تتقدَّمها بشيء كثير، إلا الصوم فإنهم يقولون: يصح بنيةٍ من أول الليل، يصح بنيةٍ من المغرب أو من العشاء، من أما ما سوى ذلك فلابد من المقارنة التقدمِ يسيرا، والمقصود من المقارنة: أن تكون نيته يتصل بعدها قول "الله أكبر"، ولا يُقصد أن تكون النية منبسطة على قول "الله أكبر" فلا يتم النية إلا بتمام التكبير، لأنه يقتضي ذلك لأن يكون أول التكبير لم يقع بنيةِ الصلاة، فإذًا المقصود أنه إذا نوى قال "الله أكبر".
قوله: (وَلَا يَضُرُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا بِيَسِيرٍ)، أحيانًا بعض الناس ولئلا يفتح على الإنسان على نفسه الوساوس، أحيانًا ينوي الظهر ثم يكبِّر الإمام فيكبِّر هو وقد ذهل خلال مثلا عشر ثواني، فهذا الذهول ما دام أنه حينما قال المؤذِّن "قد قامت الصلاة" قام وهو يعرفُ أنه يصلي ورُويَ أنه يصلي صلاة الظهر، فهذا الذهول مثلا العشر ثواني أو نحوها لا يضره، فتقدُّم النية بيسير لا يمنع صحة النية واستقامة العبادة وتمامها، لكن لا شكَّ أن الأكملَ والأتمَّ هو أن تكون النية مقارِنة للعبادة.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَشُرِطَ نِيَّةُ إِمَامَةٍ وَائْتِمَامٍ)}.
فصَّل الفقهاء في شرط النية الفقهاء ببعض التفاصيل الكثيرة، ومسائل فيها من الإشكال وفيها من التَّفريع ما قد يحتاجه الإنسان في بعض الأحوال، لكن على ما علمتم أنَّ مَبنى هذا الكتاب على الاختصار، ولذلك جاء إلى ما يتعلَّق بأصوله، فقال: (وَشُرِطَ نِيَّةُ إِمَامَةٍ وَائْتِمَامٍ)، فما يأتي الإنسان للإمامة إلا وقد ن أن يكون إمامًا.
ونية المأموم أن يأتم، فإذا كبَّر ما يكبِّر إلا ويقصد أن يكون مأمومًا مع هذا الإمام، ويفهم من كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ الشخص لو صلى مُنفردًا ثم جاء شخص وصلى فحوَّل نيته إلى إمامة فعندهم أن ذلك لا يصح، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وربما استثنى بعضهم ما يكون في النَّافلة، لفعل النبي ﷺ لَمَّا قام معه ابن عباس عندما كان في بيت خالته ميمونة، فقام يصلِّي من الليل فجاء ابن عباس وصلَّى معه، فأمَّه النبي ﷺ فلأجل ذلك استثنوا النفل، لكن عندهم أن قلب النية من منفرد إلى إمام أن ذلك لا يصح، وهذا بناء منهم على الاحتياط للعبادة، وأن تكون العبادة على أتم وجه بدون إشكال، وإن كان يعني على قول كثير من أهل العلم وقول جمع من المفتين المعاصرين من مشايخنا وغيرهم أنه إذا قلب نيته صح القلبُ في مثل تلك الأحوال، واستدلوا بحديث ابن عباس هذا، فإن ما صحَّ في يصح في الفرض، والحكم فيهما سواء، لكن مذهب الحنابلة هو ما ذكره المؤلف وقرَّره، وكذلك المأموم لابد أن ينوي أن يكون مأمومًا لإمامه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِمُؤْتَمٍّ انْفِرَادٌ لِعُذْرٍ)}.
المؤتم إذا ابتدأ صلاة مؤتمًا فإنَّ قلبَ الصلاة لعذر هو تحوُّلٌ في النية، وقاعدة الحنابلة: أن التَّحول في النية لا يصح، لكنهم استثنوا هذا لمجيء النص به، لَمَّا ذلكم الرجل صلَّى مع معاذ -رضي الله تعالى عنه- فلما أطال انفصل وأتم صلاته لنفسه، ثم ذكر ذلك للنبي ﷺ فلم يأمره بالإعادة، وترونَ هنا أنَّ الحنابلة لم يستدلوا بهذا الحديث على تحوِّل النية على الإطلاق؛ لأنهم احتاطوا للعبادة، فما جاء فيه من تحوِّل في صلاة من الصلوات وأجازه النبي ﷺ جعلوه مُقيَّدًا به ولم يطردوه ولم يقيسوا عليه باعتبار أنَّ هذه عبادات ولا قياس فيها، وأيضًا طلب الأتم الذي لا إشكال فيه أنه صحت به العبادة وكملت، وإلا هو دليل إلى أن قَلبَ النية وتحويلها صحيح وجائز، لكن على كل حال؛ الحنابلة استثنوا ذلك لمجيء النَّص به وقصروه عليه بناء على أصلهم في أن العبادة لا قياس فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ إِمَامِهِ، لَا عَكْسَ إِنْ نَوَى إِمَامٌ الِانْفِرَادَ. والله أعلم)}.
تبطل صلاة المأموم إذا بطلت صلاة الإمام، لأن صلاة المأموم متعلِّقة بالإمام، ولأن الإمام يتحمَّل عن المأموم، فمتى ما صحَّت صلاة الإمام كان ذلك صحة لصلاة المأموم وإذا بطلت بطلت، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، لارتباط صلاة المأموم بإمامه.
لقائل أن يقول: فماذا عن الاستخلاف؟ لو أنَّ الإمام ابتدأ الصَّلاة على غير طهارةٍ؟
الحنابلة لا يجيزون الاستخلاف في مثل هذه الأحوال، فيجعلون الاستخلاف الذي فيه أنَّ الإمام يخرج من الصلاة أو غيرها، يجعلون ذلك فيما لو طرأ له عذر فخافَ أن ينتقض وضوءه قبل أن ينتقض، فله أن يقدم من ينوب عنه، ثم يخرج هو من الصلاة، أما إذا بطلت ولو لثانية فإنَّ هذا البطلان يسري إلى المأموم فتبطل صلاتهما معًا، فلا يمكن الاستخلاف في مثل تلك الحال، أو أنَّ الإمام عرض له ما يحتاج إلى أن ينصرف إليه كما لو كان في بيته ما يُخاف منه، مريض يُخشى هلاكه، أو نحو ذلك من الأمور فأراد الانصراف.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (لَا عَكْسَ)، أمَّا العكس فلا، فإنَّ المأموم لا أثر لصلاته على صلاة إمامه، فلو أنَّ المأموم ابتدأ مع الإمام ثم أحدثَ أثناء الصلاة فإنَّ صلاته تبطل، ولكن صلاة الإمام صحيحة؛ لأنَّ الإمام هو الأعلى وتعلق المأموم بتعلق إمامه لا العكس، فبناء على ذلك يقولون: تصح صلاة الإمام لكن بشرط أن ينوي الانفراد، وهذا أيضًا من مشهور المذهب، وإن كان قول جمع من أهل التحقيق حتى عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- صحَّة ذلك ولو لم ينوِ الانفراد، فبمجرد بطلان صلاة المأموم تصح صلاة الإمام، وكل هذا على ما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في تقييد النية وما مشى عليه الحنابلة ودرجوا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَاب صِفَةِ الصَّلَاةِ)}.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيما مضى ذكرَ ما يتعلَّق بالشروط، ودرج الحنابلة أيضًا -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- على أنهم يذكرون بعد الشروطِ الأركان والواجبات ونحوها، ولعل ذلك متَّصلًا بصفة الصلاة، ثم يذكرها بعد ذلك مختصرة -يعني مجملة- فالآن المؤلف أرادَ أن يبين صفة الصلاة وهيئتها، مشتملة على ما يكون ركنًا وما يكون واجبًا وما يكون مستحبًا مما يفعله المصلي في صلاته.
وصفة الصلاة جاءت عن أصحاب رسول الله ﷺ في تلمُّسهم وتتبُّعهم لكلِّ ما كان النبي ﷺ يفعله في صلاته، وهذا الكلام من الأهمية بمكان، ولأجل ذلك كان الصحابة يُفضِّلون بعضهم بما حفظ من صفة صلاة النبي ﷺ، كانوا يقولون: "وكان اعرفنا بصلاة رسول الله ﷺ"، وتتابعوا في ضبطِ هذه الصِّفة والتزامها والاستقامة عليها.
وإن العجبَ أنَّ أناسًا كثير صلوا حتى شابت لحاهم وربما كان حظُّهم من تعلُّم صفة الصلاة ما كان من تعلُّمٍ في الأولى الابتدائية، كان ذلك على وجهٍ يفقهون به هذه الصلاة أو لا يفقهونها، يكملون ما يتعلَّق بها أو لا يكملون!
وإن العجبَ أكثرَ أنَّ كثيرا من الناس في أمور دنياهم وما يتعلَّق بمصالحهم أو تطبُّبهم وعلاجهم أو ما يتعلق بمصالحهم الدنيوية على الإطلاق، أيًّا كان مجالها، فإنهم يتتبَّعون ويتفحَّصون ويسألون عن هذا وعن هذا وعن الأتم، فإذا كان مصنوعًا سألوا أين صُنع؟ وأيُّ الشركات أحذق وأيُّها أدق؟ وتجربة هذا وتجربة ذاك! وهم يستعملونه في مصالح قليلة ربما لا تكثر في أمور حياتهم! فكيف بهذه الصلاة التي هي أصلٌ في دين الله-جَلَّ وَعَلَا-، والاستقامة على سنة نبيه ﷺ، والتي بها يقبل سائر العمل! وليس في الإسلام بعد الشهادتين أعظم منها، وهي عماده كما جاء ذلك في الحديث الذي في الصحيح «وَعَمُودُهُ: الصَّلاةُ» ، إلى غير ذلك من الأدلَّة الدَّالة على عِظمها وفضلها!
ولأجل ذلك لا ينفك المسلم من التَّبعة والمسؤوليَّة إذا كان قد فرَّط في صلاته أو أخلَّ بها وليس في ذلك بمعذور، وليس جهله في ذلك بنافعه، لأنه لو كانَ جاهلًا لا يستطيع التَّعلُّم، لو كانَ جاهلًا بباديةٍ، لو كان جاهلًا لحداثته بإسلامٍ لكان له عذر، لكنه جاهلٌ من جهة إعراضه، وعدم حرصه وإهماله، واكتفائه بالقليل، ومثل هذه المقالات: الدين يسر، لا تشدد علينا، أو غيرها؛ ثم بعد ذلك يضيع ما أمر الله به أن يقام!
ولذلك ما أمر الله-جَلَّ وَعَلَا- بفعلِ الصلاة، ولكن أمرَ بإقامتها، قال أهل التفسير: إقامتها بأركانها وواجباتها ومستحباتها وما يكمِّلها.
ومن فعل ذلك على وجه التَّمام فقد أتم، ولذلك النبي ﷺ جاء إليه ذلك الرجل الذي صلَّى صلاة سريعة لم يتم ركوعها ولا سجودها، فلمَّا جاء إلى النبي ﷺ قال: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ، حتى عُرف ذلكم الحديث عند أهل العلم بـ "حديث المسيء صلاته"، فإيَّاك أن تكون ممن سلكَ ذلك المسلك، فأساءَ في صلاته، وأشدُّ من ذلك إذا كانت هذه الإساءة تقتضي فسادَ الصلاة وبطلانها، فإن ذلك عنوان الشَّرِّ والبلاء والخسران، وأي شيء أعظم خسارة من أن يصلي الإنسان ستين عامًا لا يقبل منها شيء، ولا تنفعه عند الله جَلَّ وَعَلَا؟! وما أوتي إلا من إهماله وتلاعب الشيطان به!
أيها الإخوة! لو لم يكن من مثل هذه المجالسِ إلا هذا الباب، وضبطُ هذه الصِّفة، والإتيان بها على وجهها، كم من الناس الذين يقرأون الفاتحة ولا يقومون بها؟! وكم الذين يركعون ولا يركعون ركوعًا يجزئهم؟! وكم الذين يظنون أنهم عُذروا في بعض أركان الصلاة أو واجباتها ولم يبلغوا حدَّ العذر؟!
ولأجل ذلك فإن هذا من الأهميةِ بمكان، وإن على كل مسلم يسمع هذا المجلس ويحضر هذا الوقت أن يتفقَّه في صلاته، إن كان مما يلقى مما يفيضُ الله علينا فيه، أو مما يتتبَّعه عبرَ القنوات المتاحة من المجالس والدروس الموثوقة التي تؤدِّي الصفة على وجهها وتبيِّن ما جاء في سنة نبينا ﷺ في حكاية الصِّفة وبيانها، ولا تساهلَ في ذلك ولا إهمال، فإن ذلك عنوان الفساد والخسران، نسأل الله السلامة والعافية.
فإذًا هذا باب صفتها، هذا باب هيئتها، هذا باب كيفيتها، يبيِّنها الفقهاء على وجه التَّفصيل ليكون ذلك بابًا للتَّمام والكمال من غير ما نقصان، فيجمعون كل ما ينبغي أن يجتمع فيها، ويبينون وينبهون على ما ينبغي أن يحذر المصلي أن يفعله في صلاته مما ينقصها أو يبطلها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يُسَنُّ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا مُتَطَهِّرًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مَعَ قَوْلِ مَا وَرَدَ)}.
قوله: (يُسَنُّ خُرُوجُهُ إِلَيْهَ)، الأصل أنه أمر بالصلاة في المساجد سواء للرجل أو للمرأة، لكن الرَّجل على سبيل الوجوب والمرأة على سبيل الإباحة، فإذا كانَ ما يتعلَّق بالمرأة إباحةٌ لكن لا يعني ذلك أنها الأولى لها دائمًا أن تصلي في بيتها، فقد يكون من وجه صلاتها في بيتها أتم لئلا تخرجَ وتتعرَّض للرجال ونحو ذلك، لكن إذا كان ذلك أخشع في صلاتها أو أتمَّ لها لأنها تستحضر مع الإمام فتؤدِّي الصلاة على غير عجلة، وإذا صلَّت في بيتها لحقها من أشغال البيت ما يمنعها من التَّمام أو نحو ذلك، فإذًا قد يكون المفضول فاضلًا وقد يكون المتأخِّر مقدَّمًا بسبب من الأسباب الخارجة.
فعلى كل حال؛ إذا خرج المسلم أو المسلمة إليها فإنما متطهرًا فإن ذلك أتمَّ وأكمل، ولتُحسب خطواته ويكتب أجره في ابتدائه.
قال: (بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ)، وهذا جاء في الحديث أنَّ النبي ﷺ قال: «إذَا أتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعلَيْكُم بالسَّكِينَةِ» ، قال أهل العلم: السكينة يعني عدم الحركة الزائدة، فالسكينة راجعة إلى الحركات، والوقار راجعٌ إلى الهيئة بأن يغض بصره، وأن يُحسن قيامه ونحو ذلك، فهذا معنى (بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ).
وهذا تعظيمٌ لأمر الصلاة، فإنَّ مَن جاء إليها متشعِّثًا يُوشك أن لا يخشع فيها، ومَن جاء إليها مسرعًا يوشكُ أن لا يُقيمها كما أمرَ الله -جَلَّ وَعَلَا- من حيث القيام بها، أمَّا إذا كان الإنسان قد تطهَّر ثم مشى مشيةً فيها من السكينة، وفيها من الطمأنينة، وفيها من الوقار، فلا تطيش عينه، ولا يكثر حديثه بما لا فائدة فيه؛ فإن ذلك أرجى إذا دخل المسجد ووقف بين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا- أن تكون صلاته على هيئة من التمام والكمال والاستحضار والخشوع وإقامة الصلاة دونما ذهولٍ ولا إعراض.
قال: (مَعَ قَوْلِ مَا وَرَدَ)، الذي وردَ في أذكار الخروج إلى الصلاة منه ما هو ضعيف في أحاديث متنوعة، ومنها ما هو صحيحٌ، لكن هل هو في صلاة واحدةٍ التي هي صلاة الفجر أو في سائر الصلوات؟ كقول «اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُورًا، وفي بَصَرِي نُورًا، وفي سَمْعِي نُورًا، وعَنْ يَمِينِي نُورًا، وعَنْ يَسارِي نُورًا، وفَوْقِي نُورًا، وتَحْتي نُورًا، وأَمامِي نُورًا، وخَلْفِي نُورًا، واجْعَلْ لي نُورً» ، فبعضهم قال: إنها في صلاة الفجر. وبعضهم قال: في جميع الصلوات؛ وعلى كل حال يستحضر من الأدعية التي ثبتت عنده أو عند من أفتاه بذلك، ويكون ذلك حسنًا، أو يشتغل بذكرٍ وتسبيح لله-جَلَّ وَعَلَا- ليكون ذلك أحضر لقلبه وأخشع لنفسه.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقِيَامُ إِمَامٍ، فَغَيْرُ مُقِيمٍ إِلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِ مُقِيمٍ: "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ")}.
المقيم يؤدي الإقامة وهو قائم، لكن مَن سواه:
- إن كان الإمام: فيقوم عند قوله: "قد قامت الصلاة"، وهذا جاء عن ابن عمر وجاء عن بعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم.
- وكذلك أيضًا المأمومون يقومون بقيام الإمام، قال ﷺ: «إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» .
هل هذا في كل الأحوال؟
قال أهل العلم: يستثنى من ذلك حالة، وهو إذا كان الإمام خارجَ المسجدِ وأُقيمت الصلاة حتى ولو بلغَ "قد قامت الصلاة" فيمكن أن يكون فيه تأخر للإمام، فبناء على ذلك لا يقوموا حتى يدخل الإمام ويروه، فكما قال النبي ﷺ: «إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» أمَّا فيما سوى ذلك بأن كان الإمام حاضرًا أو كان الإمام في موضع يُعلم أنه يدخل مِن خلاله كخوخةٍ أو غرفةٍ في المسجد، فتقام الصلاة لعلم المقيم بوجوده ونحوه؛ فيقومون عند قوله: "قد قامت الصلاة"؛ لأنه وقت الأمر بها، وجاء عن السلف فعل ذلك فيها، كما عن ابن عمر وغيره.
{أحسن الله إليكم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَيَقُولُ: "اللَّهُ أَكْبَرُ" وَهُوَ قَائِمٌ فِي فَرْضٍ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يَقْبِضُ بِيُمْنَاهُ كُوعَ يُسْرَاهُ وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ)}.
فيقول: "الله أكبر" هذا الذكر الذي تفتتح به الصلاة لا غير، فافتتاحها بالتَّكبير، فلا يقوم غير مقامه البتَّة، فلو قال: "الله أجل، أو الله الكبير، الله العظيم" لا ينفعه ذلك، ولا يدخل بها في الصلاة بهذه الألفاظ في الصلاة، وإنما القول المقصور المحصور هو قول "الله أكبر"، بذلك جاءت السنة وتكاثرت الأحاديث عن النبي ﷺ، وهو قول عامة أهل العلم.
وهنا ينبغي أن يلحظ المسلم معنى "الله أكبر"، فـ "الله أكبر" هو إخبار عن الله-جَلَّ وَعَلَا- بأنه الكبير أو الأكبر من كل شيء. اللفظ جاء بفعل التفضيل يعني: أكبر من كل شيء، فمعنى ذلك أنَّ الله أكبر من كلِّ كبير، الله -جَلَّ وَعَلَا- أكبر من كل عظيم، فضلًا عن الشيء الصغير والحقير، فإذا كان الله أكبر من كل شيء؛ فما سوى الله حقير، وما سوى الله صغير، وما سوى الله مخلوق، وما سوى الله -جَلَّ وَعَلَا- عبد ذليل، فإنَّ حال العبد الذي بدأ الصلاة وأقبل على الله-جَلَّ وَعَلَا- فيها وهو يعلن يرفع صوته بقول "الله أكبر" أن يستشعر أن ذلك هو قطعٌ لكلِّ تعلُّقات الدنيا، والاسترسال في أفكارها ووساوسها وأمورها، ليُقبِل على الله -جَلَّ وَعَلَا- بكليته، وليُقبِل على الله-جَلَّ وَعَلَا- بخشوعه، وليتفكر فيما يقوله، وليظهر في الصلاة خشوعه وخضوعه وإقباله على ربِّه، فإنَّ المرء ليدخل في صلاته ثم يخرج منها وما كُتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا عشرها ، وفي حديث: «وان الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له منها شيء»، أكثر ما فيها أنها سقطت عنه الفريضة، وإن كان بعض أهل العلم قال بوجوب إعادتها لم يعقل منها شيئًا.
فبناء على ذلك ينبغي للإنسان أن يستحضر أن الله أكبر من كل شيء، ليُدرك ويتأمَّل في كلِّ صلاته حتى يكون ممن كُتب له التمام والكمال.
ثم بيَّنَ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن ما يدخل به العبد في صلاته قول "الله أكبر" ثم ذكر محلها، فقال: (وَهُوَ قَائِمٌ فِي فَرْضٍ)، فلا يخلو إما أن تكون الصَّلاة فريضة، فلا يُمكن أن يكبر قبل أن يستتمَّ قائمًا، فلو صلَّى وهو قاعد وهو ليس بمعذورٍ فلم تصح صلاته حتى ولو قامَ بعد ذلك وقرأ كلَّ قراءته وأتمَّ كل ما يفعل في حال القيام، ما دام أنه كبر وهو وليس بقائم فإن صلاته ليست بصحيحة. فإذًا إذا لم يكن معذورًا فلا بد أن يكون القيام في الصلاة للفريضة.
وأمَّا غير الفريضة -في الصَّلاة النافلة- فإن القيام فيها ليس بركنٍ ولا لازم، ولذلك جاء في الحديث أنَّ النبي ﷺ قال: «صَلاةُ الرَّجُلِ قاعِدًا نِصْفُ الصَّلاةِ» ، فإن هذا عند أهل العلم في صلاة النافلة، فدلَّ على أنها ليست بفرض، لكن لا شك أنه يستحب أن يصلي في النافلة كالفريضة قائمًا، وأن يبتدأ التَّكبير كذلك، لكن ليس بلازمٍ ولا فرضٍ واجبٍ.
قال: (وَهُوَ قَائِمٌ فِي فَرْضٍ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ)، كما قلنا إن هذا ذكرٌ الصفة، وذكرُ الصفة يذكر فيه الشيء الفرض والشيء المستحب على حدٍّ سواء، فهو يقول: "الله أكبر" وهو قائم في فريضة، وفي نافلة على سبيل الاستحباب، رافعًا يديه، فقول: "الله أكبر" ليس مثل رفع اليدين، قول: "الله أكبر" من أركان الصلاة، ورفع اليدين من مُستحباتها، لكن هو يذكر الصِّفة كلها على وجه التَّمام، ثم بعد ذلك يبيِّن ما حكم هذا وما حكم هذا لو تُرك أو فُوِّت على سبيل القصد أو النسيان، فرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام مستحبٌّ -كما سيأتي.
وذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- صفته: أن يرفع يديه إلى حذو منكبيه، وهذا هو الذي اختاره الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى، مع أنه جاء في بعض الأحاديث أنه رفع يديه إلى حيال أذنيه.
وهنا لأهل العلم فيه كلام: هل المقصود بذلك شيء واحد -الرفع إلى حذو المنكبين وإلى حيال الأذنين- يعني بأن يكون أولهما حذو منكبيه وأطرافهما حيال أذنيه؟
هذا قال به بعضهم، لكن الظَّاهر أنهما صفتان مختلفتان، يرفع إلى حذو منكبيه، ويرفع إلى حيال أذنيه، وكلها صفةٌ ثابتةٌ عن النبي ﷺ ومستحبة وصحيحة، لكن الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- كما جاء عن الإمام أحمد أنه اختار الرفع إلى حذو منكبيه؛ لأنَّ الروايات فيها عن النبي ﷺ أكثر.
وهنا فائدة مهمة: وهو أن تجيء السنة الواحدة أو العمل الواحد على هيئتين، فهذا فيه تيسير على الناس، باعتبار أنه ليس بالضرورة في هذا، لكن في بعض الأمور قد يلائم بعضَ الناس هذا ولا يلائمه الصفة الأخرى، ففيه بابٌ للتَّوسيع والتَّيسير، وأيضًا فيه باب للاستحضار والتذكير، فإنَّ الإنسان إذا كان على هيئة واحدة ربما يكون سببًا لذهوله، لكن إذا علمت أنني في هذه الصلاة أرفع إلى حذو منكبي، ثم إذا جئت في السنة رفعت إلى حيال أذني؛ فما الذي جعلني أُغيِّر إلا أنني استحضرتُ هذه الصفة، واستحضرتُ سنيتها عن النبي ﷺ، واستحضرت أني سأدخل في صلاة؟ فيكون ذلك أحضرَ للقلبِ وأعون للنفس على الخشوع إقبال على الله جَلَّ وَعَلَا.
فعلى كل حال، هما صفتان أيهما فعل كان ذلك صحيحًا، كما جاء أيضًا في أذان بلال وأذان أبي محذورة، فكلهما صفتان واردتان عن النبي ﷺ صحيحة، لكن الحنابلة اختاروا أذان بلال لأنه أكثر ولأنه هو الذي كان مع النبي ﷺ بالمدينة، ومؤذِّنه الذي شُهِرَ واشتهر، مع أن أذان أبي محذورة في الصَّحيح ومعتبرٌ وصحيحٌ ومقرَّر. فعلى كل حال؛ يؤذِّن بهذا وذاك، وكذلك يرفع يديه إلى حذو منكبيه وإلى حيال أذنيه، ويفعل الأكثر الذي هو أثبت عن النبي ﷺ، وينتقل إلى الأخرى أحيانًا، فيصيبُ السنة في الحالين بإذن الله جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَقْبِضُ بِيُمْنَاهُ كُوعَ يُسْرَاهُ وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ)}.
قوله: (ثُمَّ يَقْبِضُ بِيُمْنَاهُ كُوعَ يُسْرَاهُ)، يعني: يجعل اليمنى على كوع اليسرى، والكوع هو ما يلي الإبهام عند مفصل الكف، فيجعلها على هذا النحو، لأنَّ بعض الناس يجعلها هكذا أو هكذا، لا، لابدَّ أن تكون اليمنى على اليسرى كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عند البخاري وغيره، فهذا قدرٌ واضح لا إشكال فيه، لكن أين توضع من الجسد؟ هل توضع هنا؟ أو توضع هنا؟
الحقيقة أن هذه من المسائل التي يذكرها كثير من طلاب العلم ويعتادون الحديث فيها، وجاء في حديث وائل بن حُجر أنه جعلها في وسطه، لكن هذا الحديث ضعيف عند جميع أهل التحقيق، وإن كان شيخنا الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يصحِّحه، لكن عند أكثر أهل العلم أنه لا يصح في ذلك شيء، ونصَّ على ذلك الإمام الترمذي وغيره.
فإذًا ما دام أنه لم يصح في شيء؟ فأين توضع؟
يقول أهل العلم: الأمر حيثما وضعها صحَّ، واختار الحنابلة وضعها تحت السرة لمجيء ذلك عن علي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فيقولون: ما صار إليه الصحابي أولى مما صار إليه غيره، وهذا أصلٌ من أصول الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في الأخذ بما جاء عن أصحاب رسول الله ﷺ والاحتجاج به.
فبناء على ذلك قالوا بجعلهما تحت السرة هو المقدَّم مع إباحة أن يجعلهما فوق السرة، أو أعلى من ذلك في الوسط، أو على الصدر؛ فالأمر في ذلك فيه سِعةٌ، لكن هم اختاروا هذا لمجيئه عن علي، وإن كان الآتي عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيه ضعفٌ، لكن من المعلوم أنَّ الضَّعف في الآثار لا يمنع الاحتجاج بها؛ لأنها أيضًا ليس داعٍ للكذب كما في الحديث عن النبي ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَنْظُرُ مَسْجِدَهُ فِي كُلِّ صَلَاتِهِ)}.
قوله: (مَسْجِدَه) المفعل من مكان سجوده، وأصل ذلك هو ما جاء في الآية في قول الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 2]، قال أهل التفسير كما فسره غير واحد من أصحاب النبي ﷺ: "ينظرون بأبصارهم إلى موضع سجودهم"، فهذا هو الأصل، وهو أنَّ المصلِّي في أثناء صلاته ينظر موضع سجوده؛ ولأنَّ نظر الإنسان في غير ذلك فيما أمامه مدعاةٌ لتفلُّت قلبه، وذهاب خشوعه، واستثني من ذلك حال الحرب أو الخوف من عدو، أو ترقُّب حيوانٌ أو لصٌ، وأيضًا إذا صلَّى عند الكعبة فإنه ينظر إليها، وهذا قال به بعض أهل العلم، وأيضًا قالوا: في التحيات عند التشهد فإنه ينظر إلى موضع سبابته كما جاء عند مسلم في صحيحه، ولكن في الأصل أنَّ عامَّة الصلاة إنما يُنظر إلى موضع السجود.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ")}.
قوله: (ثُمَّ يَقُولُ) يعني المصلِّي، ولم يفرق المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بين أن يكون إمامًا أو مأموما أو منفردًا، فيُشرع لهؤلاء جميعًا أن يقولوا دعاء الاستفتاح.
وأدعية الاستفتاح جاء فيها غير ما حديثٍ عن النبي ﷺ، منها هذا الذي جاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»، وهو عند أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وإن تُكلِّم فيه بضعف إلا أن هذا الحديث عند أهل العلم أتم، وذكرَ ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لتفضيل هذا الاستفتاح عشرة أسباب في "زاد المعاد"، يعني لما اشتمل عليه من المعاني العظيمة، وإلا لو استفتح بما جاء في حديث أبي هريرة «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبيْنَ خَطَايَايَ، كما بَاعَدْتَ بيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بالمَاءِ والثَّلْجِ والبَرَدِ» ، فإن هذا صحيح، وإذا كان الإنسان يفعل ذا وذا مرة ومرة فحسنٌ -كما قلنا- لكن يُفضِّل الحنابلة وجمع من الفقهاء هذا لما اشتملَ عليه من المعاني، لكن لا مانع من أن يُغيِّر الإنسان حتى يكون أكثرَ لاستحضار قلبه، واستجماع نفسه في خشوعه في صلاته.
هنا قول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ».
"سبحان" هذه لفظة لا تطلق إلا على الله، فلا يقال "سبحان فلان"، فهي من الألفاظ المختصَّة، وحقيقتها ومعناها: التنزيه لله-جَلَّ وَعَلَا- عن النَّقائص، فتسبِّح الله عن كلِّ نقيصةٍ في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، سبحانه وبحمده.
"اللَّهُمَّ"، أي: يا الله.
"وَبِحَمْدِكَ"، يعني أنَّ هذا التنزيه مقترنٌ بحمدِ الله-جَلَّ وَعَلَا-، والحمدُ: حمدٌ على التَّمام والكمال والثناء لله -جَلَّ وَعَلَا-، فتأمَّل ما اشتملت عليه هاتين الكلمتين، تسبيح الله وتنزيهه الذي هو تخلية من كل ما يُنزَّه الله -جَلَّ وَعَلَا- عنه، ثم تحليةٌ بحمد الله والثناء عليه بما اجتمعَ لله من الأسماء الحسنى والصفات العلى، والخلق والتدبير، واستحقاق الحمد والثناء لله-جَلَّ وَعَلَا-، فتأمَّل في كلِّ صلاتك أنك أوَّل ابتدائك تجمعُ بين هذين، فتأمَّل لو أنَّ الإنسان يقول هذه وهو مستحضرٌ، ويعظِّمُ الله في ذلك، ويخشعُ لله ويذلُّ، ويُخبتُ لله -جَلَّ وَعَلَا- ويُقبِلُ، فإنَّ هذا سببٌ لتمام الصَّلاة وكمالها.
ثم يقول: "وَتَبَارَكَ اسْمُكَ"، اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- مبارك، فإذا ذُكر على مريضٍ كان سببًا لشفائه، وإذا ابتُدئ به في طعام كان سببًا لخيره وبركته، وطردًا لشيطانه، وهكذا في كل الأمور اسم الله-جَلَّ وَعَلَا- مباركٌ، فلأجل ذلك تبارك اسم الله، ما ذُكر على شيء إلا كان سببًا لحصول خيره وكثرته، ومنعِ نقصه ودفع شره وأذاه، فهذا من تعظيم الله والإشارة إلى هذا المعنى.
و"تَبَارَك" أيضًا من الألفاظ المختصة بالله، فلا تقول: "تبارك علينا، أو تبارك فلان علينا" فإن هذا من الخطأ الشائع لدى كثير من الناس، فإن "تبارك" لفظ مختص بالله-جَلَّ وَعَلَا-.
وإذا قيل: "بارك لنا فيها فلان" يعني دعا بالبركة، لأنَّ حصول البركة إنما هو من الله جَلَّ وَعَلَا.
أمَّا قول بعض الناس: "باركها فلان" يعني بارك هذا البيت بدخوله أو كذا، فإن كان ذلك منه بدعاء ونحوه حسن، وأمَّا إن كان ذاته فليس كذلك، وهذا مأخوذٌ من النصارى الذين يظنُّونَ حصول البركة بالقساوسة الرهبان وغيرهم ممن يتعلقون بهم، ويتدرَّجون فيما يتلقون عنهم في كنائسهم غيرها.
قول "وَتَعَالَى جَدُّك"، "تعالى" ارتفعَ.
والجدُّ هو: القدر، فقدرُ الله-جَلَّ وَعَلَا- قد تعالى وتناهى في الارتفاع والعلو، فلا يساويه غيره، ولا يقدره أحدٌ حقَّ قدره، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91] سبحانه وبحمده.
ثم تقول "وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ"، وفي هذا ختام بإعلان العبودية لله-جَلَّ وَعَلَا- فالإله بمعنى المألوه، يعني المعبود، فلا معبود غيرك، فلا يتوجَّه الإنسان إلى أحدٍ سوى الله -جَلَّ وَعَلَا- لا بدعاءٍ ولا برجاءٍ ولا بذبحٍ ولا بنذرٍ، ولا بشيءٍ من العبادات إلا لله -جَلَّ وَعَلَا-، قولنا كما قال الخليل: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام: 162، 163]، وقول المسلم لذلك استشعارٌ لذلك في كل حياته، ولذلك فإنَّ بعض المسلمين الذي يقول هذه الكلمة ثم إذا نزلت به النازلة دعا بعض الأولياء أو دعاء بعض الصالحين أو مَن شُهروا بالعبادة، أو ذهب إلى القبور وغيرها، سواء كان في ذلك قبر النبي ﷺ أو سواه؛ فإن ذلك من مخالفة هذه اللفظة التي يُشهرها في كل صلاته، ويُعلنها في كل ابتداء وقت من الأوقات التي يؤدي فيها حق ربه -جَلَّ وَعَلَا.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 80]، فكل مَن توجَّه بعبادةٍ إلى مَن سوى الله من ملكٍ أو نبيٍّ أو وليٍّ أو صالحٍ؛ فإنه انصرف عن حق الله -جَلَّ وَعَلَا- ولم يؤدِّ هذه الكلمة التي هي حقيقة الشهادة لله-جَلَّ وَعَلَا- فلا مألوه يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَسْتَعِيذُ ثُمَّ يُبَسْمِلُ سِرًّا، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً، وَفِيهَا إِحْدَى عَشْرَةَ تشديدةً)}.
قوله: (ثُمَّ يَسْتَعِيذُ)، يعني يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وجاء في بعض الألفاظ: "من همزه ونفثه ونفخه"، وقالوا: إنَّ هذا من انتفاخ الشيطان، ومما ينفث به على العبد ومن شعره وما يلقيه.
على كل حال؛ الاستعاذة سنة، إذا فعلها في صلاته فإنَّ ذلك أرجى لبُعد الشيطان عن القلب وتمام الأمر، وهو أيضًا مما يُستحب عند ابتداء قراءة القرآن وتلاوة آياته.
قال: (ثُمَّ يُبَسْمِلُ)، يعني يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهذا أيضًا هو آية في مقدِّمة كل سورة وليست منها، فعلى الصَّحيح والمشهور من المذهب عند الحنابلة كما هو قول جمهور أهل العلم خلافًا للشافعية أنها ليست آية من الفاتحة، إنما هي آية في ابتداء كل سورة، وليست من السور، وليست بجزء من آية إلا في سورة النمل، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30].
فإذًا الحنابلة على أنَّ البسملة آية من القرآن في ابتداء كل سورة وليست منها، إلا آية سورة النمل.
طيب لقائل أن يقول: إذا فتحت المصحف وجدت في أول سورة الفاتحة "بسم الله الرحمن الرحيم" آية رقم (1)؟
نقول: ترقيم الآيات هو أمر اجتهادي، وجاء بين الصحابة، وهو جارٍ على ترقيم الشافعية، وشيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- ابن تيمية جعل "بسم الله الرحمن الرحيم" كما هو قول الحنابلة ليست من الفاتحة، فبناء على ذلك لا يكون لها رقم.
يقول: تكون الفاتحة ست آيات؟
لا، هي سبع آيات، فتكون ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الآية الأولى، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الآية الثانية، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ الثالثة، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الرابعة، ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الخامسة، ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ السادسة، ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ السابعة، وترقيم الآيات الاجتهادي، فبناء على ذلك يتفاوت فيه العلماء.
والدليل على ذلك: ما جاء في الصحيح عن ابن عمر أنه قال: «صَلَّيْتُ خَلَفَ النبيِّ ﷺ وأَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، لا يَذْكُرُونَ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في أوَّلِ قِرَاءَةٍ ولَا في آخِرِهَ».
ويدل لذلك أيضًا ما جاء عند مسلم في صحيحه أنَّ النبي ﷺ قال: «قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي»، فابتدأ الكلام عن الفاتحة ثم ذكر الحديث بالكلام على أنه تبدأ بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
وعلى كل حال؛ مَن سلكَ مسلكَ الشافعية فإنَّ ذلك لا غضاضة فيه ولا حرج، وليس في ذلك كبير إشكالٍ، وهو قولٌ معتبرٌ وانتصرَ له كثير من محدثي الشافعية، كما أفاض الدارقطني -رحمه الله تعالى- في الروايات التي تؤيِّد أنها من الفاتحة، فالأمر في ذلك فيه سعة، فمَن صلَّى خلفَ إمام يجهر بها فحسن، ومَن قرأ الصلاة واقتصر على ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، فذلك هو مذهب الحنابلة وهو المختار عندنا.
أظنُّ أنَّ الوقت انتهى، أخاف نبدأ بالفاتحة ثم لا نكمل! ولعل فيما ذكرناه كفاية، ونفتتح إن شاء الله بالفاتحة، وهي نعم البداية ونعم الافتتاح، أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتم علينا وعليكم النِّعم الظَّاهرة والباطنة، وأن يجعلنا ممن اقتدوا بنبيهم ﷺ فأتمُّوا صلاتهم وعبادتهم، وأن يوفِّقنا لكلِّ خيرٍ وهدى، وأن يجزي الإخوة القائمين على هذه البرامج خيرَ الجزاء، أن يجعلَ ذلك في ميزان حسناتهم، ورفعةً لهم عند ربهم، وأن يُعقبنا وإياكم وإياهم الخير والمثوبة والرفعة في الدنيا والآخرة، وأن يغفر لنا ذنوبنا ووالدينا وأزواجنا وأحبابنا والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{بارك الله فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستأذنكم في استكمال ما بقي في مجالس قادمة بإذن الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله}.