{الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتَمَّ تسليم، ثُمَّ أمَّا بعد؛ فنرحب بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلا وسهلا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا
{رضي الله عنكم، وفتح عليكم، توقفنا في صفة التيمم}.
فيه ملحوظة، بعد بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد؛ فأسأل الله جل وعلا أن يجعل العِلم لنا منارًا، وأن يجعله لنا عملاً خالصًا، وأن يجعله أجرًا باقيًا، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الموفقين في أمر الدنيا والدين، استهلَّ أخي المقدم بدعوات، وهذه الدعوات عظيمة أسأل الله أن لا يحرمه أجرها، لكنه في ثلاثة مجالس مُتتالية يقول: رضي الله عنكم، ودعوة الرضا في ملازمتها لشخص أو نحوه، هذه مخصوصة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هل يرفع كونها على وجه الخطاب لا على وجه الغائب؟ يعني: محل الأداء، فلو أنها بدعوات أخرى، والدعاء اللهم ارض، لكن رضي الله عن فلان وجعلها ملازمة له، هذه مخصوصة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هي قد اختلفت من الشيخ بكونها عنكم، لكن مع ذلك الأحسن أن تكون بـ اللهم ارض عنه، أو بعدم ملازمة الدعاء على تلك الصفة.
{أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (وَيَتَيَمَّمُ لِلْجُرْحِ عِنْدَ غَسْلِهِ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ وَيَغْسِلُ الصَّحِيحَ)}.
يقول المؤلف: (وَيَتَيَمَّمُ لِلْجُرْحِ عِنْدَ غَسْلِهِ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ وَيَغْسِلُ الصَّحِيحَ) إذًا من أُصيب في واحد من أعضاء وضوئه أو غسله، أعضاء وضوءه إذا أصيب فلا يخلو الحال من أحوال ثلاثة:
إمَّا أن يكون غسله لا غضاضة فيه ولا إشكال عليه فيه فيغسله؛ فإذا غسله أدَّى ما عليه ولم يكن عليه في ذلك شيء.
والحال الثانية: ألَّا يستطيع غسله لكنه يستطيع أن يمسحه، فإذا كان عليه جرح لو غسله لربما تحرك الدم وسال، لكنه إذا مسحه لا يكون فيه عليه غضاضة، فنقول: يمسحه، وأيضًا إذا مسحه أدَّى ما عليه وتعلق به حكم الطهارة وانتهى.
لكن إذا لم يستطع الأمرين جميعًا، لم يستطع أن يغسله ولا أن يمسحه، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: أنه في هذه الحال يتيمم له، ويتيمم له بمعنى أنَّ هذا المتروك لم تتعلق به طهارة الوضوء، فبناء على ذلك فَقْدُ بعض الطهارة كَفَقْدِ جميعها، فبناء على ذلك يلزمه التيمم، لكن هذا قدر لا إشكال فيه، وهذا كثيرًا في الجروح التي تنشأ عن حرق أو نحوها؛ لأنَّ الماء قد يسبب لها تعفنًا أو نحو ذلك، حتى ولو كان مسحًا خفيفًا، فبناء على ذلك يحتاجون إلى التيمم.
لكن إذا تقرر التيمم وهو محل اتفاق كما ذكر فأين موضعه؟
الحنابلة يقولون: موضعه في موضع غسله اعتبارًا بالترتيب، فيقولون: أنه إذا كان ذلك مثلا في يده اليسرى، فإذا غسل يده اليمنى وغسل مرفقيه، فيتيمم لذلك.
وهذا من جهة صحيح؛ لأنَّه في وقته الذي تعين فيه غسله لم يستطع غسله فانتهى إلى التيمم، لكن بعضهم يقول: إنَّ هذا قد يلوث يديه بالتراب ويتطين ونحوه، فبناء عليه يكون بعد النهاية.
لكن على كل حال، مأخذ الحنابلة في ذلك أنَّ هذا موضع غسله، فإذا تعذَّر عليه انتقل إلى بدله وهو التيمم.
نعم، أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَطَلَبُ الْمَاءِ فَرْضٌ فإن نَسِيَ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَتَيَمَّمَ أَعَادَ).
قوله: (وَطَلَبُ الْمَاءِ فَرْضٌ) وفي بعض النسخ (شَرْطٌ) يعني: أنه لا يُحكم بفقد الماء لأول وهلة، بل حال الإنسان إمَّا أن يكون قد قطع بأنه لا ماء عنده، كمحبوس في مكان لا ماء ولا أحد يُجيبه أو لا أحد يصل إليه أو نحو ذلك، فهذا لا إشكال في أنه يتوضأ، أو في مكان يقطع أنه لا ماء فيه، كمفازة أو صحراء أو نحوها، يتيقن لعلمه بها وبما حوله فيها أن لا ماء في ذلك.
طيب يقول: كيف جاءها بدون ماء؟ نقول: كان معه ماء مثلا فانسكب أو سرق أو انتهى أو دخل في المفازة بغير علمه، يعني كان يريد أن ينحرف من هنا فلما انحرف وصل إلى هذه المفازة التي يعرف أنه لا ماء فيها، فالمهم أنه إذا قطع بأنه لا ماء فالحمد لله، لكن إذا كان في موضع ليس معه ماء، ولا يعلم وجوده ولا عدم وجوده. فهنا يجب عليه أن يطلبه، ويقولون: يطلبه معه في رَحْلِه أو في سيارته، يمكن أن يكون نسي قارورة ماء أو شيئًا من ذلك في بعض أجزاء السيارة وما حوله، يقول الفقهاء: يتحرك هنا وهنا وإذا رأى طيورًا فالغالب أنَّ الطيور تطير وتحوم حول الماء، أو رأى مزرعة فهذا يدل على وجود ماء بقربها، لكن يقول الفقهاء أيضا: أنه إذا كان في طريق فلا يلزمه أن ينحرف من ذلك الطريق لجهة أخرى ليطلب الماء، لكن الإشكالية في مسألة مهمة، وهي أن يكون الإنسان واقفًا في مكان -كمن نزل في نزهة أو نحوها- ثُمَّ انتهى ماؤه أو كان عنده ماء لا يكفيه إلا لنحو شرب وطبخ، هل يلزمه أن يذهب وأن يأتي بالماء وهو يعرف أنَّ الماء على مسافة منه قدرها كذا ويصل إليه في وقت كذا ونحو ذلك بوجود السيارات ونحوها؟
أمَّا إذا كان ذلك يشغله عن حال كعمل وبناء ونحوه فهو ليس بواجد الماء وعليه فيه كلفة شديدة فيتعلق به حكم التيمم، لكن إذا لم يكن عليه فيه كلفة ولا شيء ينقطع عنه، فحتى لو كان عشرين كيلو أو أكثر أو قارب ذلك فذهب وطلب الماء، إلا أن يكون لا يصل إلى الماء إلا بعد خروج الوقت، لا يرجع إلى مكانه إلا بعد خروج أو لا يصل إليه.
فلا ينبغي التساهل في ذلك تساهلاً كبيرًا، ولا يحمل الانسان نفسه على عنت ومشقة فيلحقه بذلك مضرة في طلب الماء أو انقطاع عن عمل أو فوات سفر أو تفرق مع صحبة ونحوه.
قال: (فَإِنْ نَسِيَ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَتَيَمَّمَ أَعَادَ) يعني هو يعرف هذه المفازة وأنه لا ماء فيها، لكنه تذكر أنه وضع ماءً على سبيل الاحتياط في مكان ما معه، أو لَمَّا جاء هذه المسألة تذكر أنَّ أحدًا أخبره ونسي ولم يستحضر ذلك أنه حُفِرَ بها بئرًا على نحو منه قريب، فإذا نسي ثُمَّ تذكر وكان قد تيمم فعليه الإعادة، فيذهب إلى المكان هذا ويتوضأ ثُمَّ يُصلي بطهارة تامة.
نعم. أحسن الله إليكم.
{قال رحمه الله: (وَفُرُوضُهُ: مَسْحُ وَجْهِهِ، وَيَدَيْهِ إِلَى كُوعَيْهِ، وَفِي أَصْغَرَ تَرْتِيبٌ وَمُوَالَاةٌ أَيْضً)}.
هم ذكروا الفروض هنا كما ذكروها في الوضوء، وهنا أراد أن يُبين أنَّ التيمم إمَّا أن يكون لأصغر أو لأكبر، فأراد أن يلحق التيمم في الحدث الأكبر بإحكام الغسل بالماء في الحدث الأكبر فيه أنه لا موالاة فيه ولا طهارة، لكن أن المؤلف رحمه الله تعالى في مثل هذا المختصر ذكر الصفة لكان أولى وهي نافعة جدًا، وصفتها أن يضرب بيديه التراب حتى يثور الغبار فيلحق بيديه، فإن كان لحق بهما شيء كثير نفخ فحسن، وإن كان قليل فلا ينفخ، يقولون: كما جاءت بذلك السنة.
قالوا: ثُمَّ يمسح بباطن أصابعه وجهه، ثُمَّ يمسح براحتيه كفيه، هذا هو الذي ذكروه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ضربة واحدة فمسح وجهه وكفيه، لكنَّ الفقهاء ذكروا شيئًا من التفصيل حتى يكون أوضح، يقولون: إذا مسح بأصابعه وجهه بقي الذي في يديه لم يُستعمل؛ لئلا يأتوا إلى المسائل الإشكالية في المستعمل ونحوه، فلذلك فصلوا التفصيل الذي ذكرناه.
{أحسن الله إليك.
قال رحمه الله: (وَنِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ شَرْطٌ لِمَا يَتَيَمَّمُ لَهُ)}.
يعني لابد أن يستحضر أنَّ التيمم استباحة، وكأنه يريد بذلك أنه لو كان قد انعقد في نفسه أنه أراد بها الطهارة ورفع الحدث لم ينفعه ذلك التيمم، لكن لابد أن يعرف أنَّ التيمم لا يجدي عليه إلا أنه يبيح له فعل الطهارة، وإن كانت النجاسة أو الجنابة باقية معه.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَلَا يُصَلِّي بِهِ فَرْضًا إِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ أَطْلَقَ)}.
نعم، هذا مثل ما ذكرنا سابقًا أنَّ هذا كله عطف وأثر للقول الذي اختاروه وذهبوا إليه، وهو أنَّ التيمم مبيحٌ وليس برافع، أمَّا إذا قلنا: إنَّ التيمم رافعٌ كما جاء في حديث أبي ذر وفي حديث جابر وفي غير ما حديث أنه طهور فلا إشكال في أنَّ حكمه حكم الطهارة بالماء، لكن ما دام أنهم ذهبوا إلى أنها طهارة بدلية، وأنها طهارة عند الاضطرار، وأنه لا يتأتى بها إلا الاستباحة، فبناء على ذلك جعلوا ثَمَّ قيود كثيرة، ذَكَرَ المؤلف هُنا طرفًا منها على وجه أكثر تفصيلا في المتون التي هي أوسع من هذا أو في شروح تلك المتون.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَيَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَمُبْطِلَاتِ الْوُضُوءِ، وَبِوُجُودِ مَاءٍ إِنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِهِ)}
طبعًا بطلانه بمبطلات الوضوء هذا ظاهر لا إشكال فيه، وهو محل اتفاق وإجماع، فلو أنَّ متيممًا بال أو خرج منه ريح أو أجنب أو غير ذلك فهي تبطل بمبطلات وضوء وغسل، فلا إشكال في ذلك.
كذلك (بِوُجُودِ مَاءٍ إِنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِهِ) لو أنه مثلا لماء عنده ثُمَّ وجد الماء، فلا شك أنه يجب عليه استعمال الماء، وانتقض طهارته وإن كان متيممًا، وسواء قلنا: إنَّ التيمم رافعٌ أو قلنا: أنه مبيحٌ في كلتا الحالين، مثل ذلك أيضًا إذا زال السبب الذي يقتضي عدم استعماله للماء، كما لو قال الطبيب: إنه يمكنك الآن استعمال الماء على الجرح الذي بيدك أو بريء أو نحو ذلك، فكلها مسائل واضحة لا إشكال فيها؛ لأنَّ النبي صلى الله وسلم قال: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ» يعني: سواء وجودًا حقيقيًا أو وجودًا حكميًا «فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ»[1].
نرجع إلى المسألة الأولى (وَيَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ) هذا مبني على المسألة المتقدمة، ما دام أننا نقول: إنَّ التيمم مبيح فنعم ينتقض بخروج الوقت، أمَّا إذا قلنا إنه رافع فلا.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَسُنَّ لِرَاجِيهِ تَأْخِيرٌ لِآخِرِ وَقْتِ مُخْتَارٍ)}.
(وَسُنَّ لِرَاجِيهِ) يعني: إمَّا أن تقطع بأنك لن تجد الماء، فهنا لا تفوت فضيلة الصلاة في أول وقتها، فتتيمم وتصلي، وإمَّا أن تقطع بأنه يأتي لا محالة، فهنا لا إشكال من أنَّ الإنسان يتأخر حتى يجد الماء، فالطهارة بالماء وإن تأخرت عن أول الوقت هي الواجب المتعين على المرء، لا تسلم ذمته إلا بذلك، لكن إذا كان بين بين، يأتيهم شخص لا يدرون متى يصل، وقال لهم: إن شاء الله ينطلق الضحى فهم يتوقعون أن يصل قبل العصر، فما دام أنهم يرجون حصول الماء قبل ذلك أو كانوا في مكان انقطع عنه الماء فيرجون حصوله أو يتوقعون مرور القوافل في هذا الوقت أو أغسلوا شخصا ويتوقعون رجوعه قبل، ففي كل هذه الأحوال ما دام أنه يرجو انتظارهم، ولذلك جاء عن علي رضي الله عنه قال: "يَتَلَوَّمُ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ" يعني: تأخر شويه إلى وقت مختار، أمَّا أن يأتي وقت الاضطرار فلا يعرض نفسه لذلك، فيتيمم ويصلي إذا خاف ذلك، ولأجل ذلك قال: (وَسُنَّ لِرَاجِيهِ تَأْخِيرٌ لِآخِرِ وَقْتِ مُخْتَارٍ) أمَّا الذي يعلم وجود الماء، وليس عليه إشكال في الذهاب إليه، فيلزمه الذهاب ما دام أنه يعود إليه في الوقت، أمَّا إذا كان عليه فيه مشقة أو يلحقه بذلك ضرر أو يقطعه عن سفر أو نحوه فلا، أمَّا نازل ولا غضاضة عليه في الذهاب؛ لا بد أن يذهب ويحضر الماء.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِعْمَالُهُمَا صَلَّى الْفَرْضَ فَقَطْ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَا إِعَادَةَ)}.
من لا تراب عنده ولا ماء فيجب عليه أن يصلي على حسب حاله؛ لعموم قول الله جل وعلا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وذكر غير واحد من أهل العلم أنَّ الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال، فبناء على ذلك يلزمه أن يُصلي على كل حال ما دام قلبه واعيًا وتكليفه باغيا، فإن الصلاة عليه واجبة يصلي كيفما كان لعموم قول الله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (صَلَّى الْفَرْضَ فَقَطْ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَلَا إِعَادَةَ)}.
أي: لا تصلي النوافل؛ لأنَّ هذه النوافل لابد لها من طهارة، وليس بلازم ولا يتأتى له أن يأتي بالنوافل وحاله لا تناسب ذلك، لعدم وجود ماء، لا طهارة ترفع حدثه، ولا مُبيح يجيز له مثل ذلك، فلا يصلي إلا ما لا بد له منه، وهي صلاة الفريضة، قالوا: ولا إعادة عليه طبعًا، يعني: ما دام أنه صلى لعموم قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وما أمر الله العبد أن يُصلي الصلاة مرتين.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَيَقْتَصِرُ عَلَى مُجْزِئٍ)}.
يعني ما يطول في الصلاة يقرأ الفاتحة ويقرأ ما يجب عليه، والتسبيح اللازمة وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إِنْ كَانَ جُنُبً)}.
لأنَّه لم توجد منه ما يرفع حدثه، ولا يتعين عليه القراءة في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (فصل، تَطْهُرُ أَرْضٌ وَنَحْوُهَا بِإِزَالَةِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَأَثَرِهَا بِالْمَاءِ)}
نعم، إذًا هذا الفصل الذي عقده المؤلف رحمه الله تعالى في بيان إزالة النجاسة، والنجاسة نجاستان:
نجاسة حكمية، ونجاسة عينية.
أمَّا النجاسة العينية فلا تطهير لها، كنجاسة الكلب والخنزير، هل يمكن أن نأتي فنطهر الكلب حتى يصير طاهرًا؟
لا يتصور ذلك، والغائط لا يتصور أن يكون الغائط طاهرًا.
نعم لكن هذه الأجرام نجسة إذا أصابت الأشياء فتنجس، والنجاسات إمَّا أن تكون نجاسة مخففة أو نجاسة عادية أو نجاسة مغلظة، وسيأتي ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- لكل تلك النجاسات وما يتعلق بها.
فالنجاسة على الأرض ونحوها من النجاسة المخففة، التي لا يلزم فيها الدعك والعدد ونحوه، بل تغمر بالماء حتى تذهب النجاسة، ولذلك قال: (بِإِزَالَةِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَأَثَرِهَا بِالْمَاءِ) متى ما لم يبق لها أثر من رائحة أو طعم أو لون فانتهى، سواء بغسلة واحدة أو غسلتين أو ثلاث، فإذًا لم نشترط عددًا ولم نشترط دلكًا وعصرًا ونحوها مما قد يشترط في غيرها، ولا عدد من الأعداد التي ستأتي فيما بعد.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَبَوْلُ غُلَامٍ لَمْ يَأْكُلْ طَعَامًا بِشَهْوَةٍ، وَقَيْئُهُ يَغْمُرُهُ بِهِ).
بول الغلام جاء فيه الحديث وبخصوصه هنا قال: (الغلام) ولذا لا تدخل في ذلك البنت الجارية، «يُغْسَل من بول الجارية، ويُرَشُّ من بول الغلام»، واختلف أهل العلم في سبب التفريق بينهما، وليس فيه إلا أنَّ هذا مما جاء به الشرع، فنقول: سمعنا وأطعنا، والله يبتلي الناس في الاستجابة والسمع فيما لا يظهر لهم حكمته، ولذلك كان الإيمان بالغيب الذي هو إيمان باليوم الآخر والإيمان البعث والإيمان بالقبر، وما يتعلق بهما من أعظم الإيمان والأعمال الصالحة؛ لأنَّ الإنسان فيه استسلام لأمر الله، وانقياد له.
أمَّا تسليم الإنسان بالأشياء الظاهرة سببها هذا شيء لا يحتاج إلى كثير عمل، ولا إلى تفويض إلى الله جل وعلا، واستسلام لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فعلى كل حال مع ما ذكروه من أسباب للتفريق؛ فالغلام يرش من بوله، فنجاسة نجاسة مخففة، يرش بالماء يعني: يُصب عليه الماء حتى يغمر بالماء، والرش ليس كما يفهم الناس بالرش الخفيف، لا، بل المقصود أن يُصب فلا يحتاج إلى عصر ودلك فقط.
قال: (وَقَيْئُهُ) لأنَّ القيء أخف نجاسة من البول، فمن باب أولى أن يكون كذلك.
لكن متى يبقى له الحكم؟ يقولون: إذا كان الغلام الذي لا يأكل الطعام.
طيب متى نقول: إنه بدأ يأكل الطعام؟
قالوا: إذا كان يميز الطعام، إذا رأى الطعام دعا إليه وتحركت نفسه إليه، فيقولون: هذا بدأ يعرف الطعام، كما ذكره شيخ مشايخنا الشيخ/ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَغَيْرُهُمَا بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ أَحَدُهَا بِتُرَابٍ وَنَحْوِهِ فِي نَجَاسَةِ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ فَقَطْ مَعَ زَوَالِهَ)}.
إذًا عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- أنَّ ما سوى ذلك من النجاسات، إذا كانت ليست بنجاسة كلب وخنزير، فهي نجاسة تغسل سبعًا، هي النجاسة المعتادة، فإذا كان على الثوب ستغسل سبع مرات، وأصل ذلك عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- القياس على الكلب والخنزير، فالكلب أمرنا فيه بسبع غسلات، وجاء أيضًا ذلك في بعض الآثار، وإن كانت في أسانيدها مقال، والتي يستدل بها الحنابلة أثر ابن عمر أمرنا بغسل الأنجاس سبعًا؛ فاعْتَبَرُوا لذلك عددًا، ولذلك كثير من النساء تقول: تسبع الثياب أو المواعين، وتسبع يتبادر إلى أذهاننا أنَّ المقصود منها إعادة غسلها أو الزيادة في غسلها، لكن المقصود بذلك أن تغسل سبعًا؛ لتتخلص من النجاسة، استُعملت حتى صارت لكل تنقية من قذر أو نجاسة.
لكن الحقيقة ما ذكره الحنابلة من التقييد بسبع مشكل، لماذا نقول إنه مشكل؟
لأنهم جاءوا إلى الاستجمار بالحجارة، وإزالة النجاسة بالحجارة أقل من إذا زالت النجاسة بالماء، ومع ذلك لم يشترط إذا زال عين النجاسة إلا ثلاثة أحجار، فكيف يكون في هذا سبع وهنا ثلاث؟ وهذا نص عليه الحنابلة حتى في غسل الفرج إذا كان يغسل سبعًا
فبعضهم قال: إنَّ هذا جاء على سبيل الاستثناء والرخصة فبقي عليه وغيره.
وبعضهم وهو قول مشهور عند الحنابلة، وقال به بعض العلماء ونقل عن أحمد -رحمه الله- أنه ليس في العدد حد محدود، بل كل ما زالت به النجاسة حصل به المقصود، وهذا عليه الفُتية عند علمائنا، وهو ظاهر من جهة الاستدلال، وأيضًا أطرد لقاعدة الشرع.
ثُمَّ ذكر المؤلف النجاسة المغلظة، وهي نجاسة الكلب، وهذه قد جاء فيها النص لحديث أبي هريرة وغيره، وقاس الحنابلة الخنزير عليه؛ لأنَّه أغلظ منه في حديث أبي هريرة «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» وفي رواية: «إحداهُنَّ بالتُّرابِ»، (أَحَدُهَا بِتُرَابٍ وَنَحْوِهِ فِي نَجَاسَةِ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ).
إذًا هذا الثالث من النجاسات المغلظة، وهو إذا كانت نجاسة كلب وخنزير، أخذوا الولوغ وعمموه على سائر الكلب؛ لأنَّه إذا تعلق ذلك بالولوغ مع إجازة صيده ونحوه، فما سوى ذلك من لعابه أشد نجاسة منه.
وهنا جاؤوا بالتراب لنص الحديث، قالوا: ويقوم الأشنان -الذي هو الصابون ونحوه-؛ لأنَّه يكون به من النقاء مثل ما يكون بالتراب، وبعضهم يقصر على التراب، لكن لا شك أنَّ موافق لفظ النبي أتم وأولى ويتأتى بها الخير الكثير، ويخرج بها من نزاع من يقول من أن غير التهاب لا يقوم مقامه.
قال: (مَعَ زَوَالِهَ) لو لم تزل بسبع غسلات مع التراب فلا بد من الزيادة حتى تزول، وهذا لا إشكال في كل النجاسة هذه والتي قبلها، لا بد من القطع وزوال النجاسة.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ هُمَا عَجْزً)}
الأصل أنَّ الحكم ببقاء النجاسة من عدمها أن تذهب أوصافها، والأوصاف ثلاثة: طعم، ولون، وريح، فإذا ذهبت قطعنا بذلك، وإذا بقي واحد منها فالأصل الحكم ببقاء النجاسة، لكن يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى: إنه في بعض الأحوال قد يبقى لون أو ريح مع ذهاب النجاسة، فإذا غُسِلَتْ وغُسِلَتْ وغُسِلَتْ حتى ظننا أنَّ لونها لا يزول، ولابد أن يبقى أثر ولو يسير، إمَّا لبقائها مدة طويلة أو لنوع هذه النجاسة في تمكنها من هذا الثوب أو نحوه، فيقولون: لا بأس بذلك ما دام أنَّ طعمها قد ذهب.
وأما الطعم فقد يقول الواحد: لا بد أن لا يقولون غلبة الظن بأن الطعم باق، فهو الذي لا يعفى فيه. فإذا عجزنا عن ذهاب الريح وذهاب اللون فيكتفى بما غسل في ذلك من الغسلات.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَتَطْهُرُ خَمْرَةٌ انْقَلَبْتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا، وَكَذَا دَنُّهَا استمع الشرحلَا دُهْنٌ وَمُتَشَرِّبٌ نَجَاسَةً)}
قوله: (انْقَلَبْتْ بِنَفْسِهَا خَلًّ) هذا إشارة إلى ماذا؟
إشارة عند الحنابلة كما هو قول جمهور العلماء أنَّ التطهير لا يكون إلا بالماء، فحصول الطهارة بغير الماء لا تكون، ولذلك نقل هذه، أي: أنها طهرت بغير الماء على سبيل الاستثناء، فكأنه يقول: لا يطهر شيء بغير الماء إلا هذه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحطه وتقرصه بالماء» أَمَرَ بذنوب من ماء؛ ولأنَّ الماء يقولون هو الذي له قوة على دفع النجاسة، فطهارة الأشياء بغير الماء يقولون لا يكون، أمَّا حديث «تطهر خمرة انقلبت بنفسها خل» وكذلك (دَنُّهَ) يعني: إناؤها؛ لأنه قد جاء بها الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمرة تتخذ خلا، فقال: «ل» فإذا تخللت بنفسها فقد أذن فيها، فجاء هذا على سبيل الاستثناء والاختصار؛ ولأنَّ هذا كثير مما يحصل.
الخمر والخل شيئان متقاربان، إذا ترُكت العصير أو نحوه مدة قارب الغليان صُبَّ عليه شيء فصار خلا، لكن أحيانا يسهو فيصل إلى الغليان، وإذا وصل الغليان صار خمرًا، فلو أنه كلما صار خمرًا سُكب فهذا يتضرر بها الخلال -الذي يشتغل في الخل- فيتركه حتى تعود، فإذا عادت إلى خلها تكون قد طهرت.
فإذًا طهارة الأمور بالاستحالة والتي تعني: تحولها أو نحو ذلك، هذا يخالف فيه الحنابلة والشافعية والمالكية خلافًا لأبي حنيفة، أبو حنيفة وشيخ الإسلام يقولون: كيفما طهرت حصل بذلك التطهير، سواء بتحولها أو إزالتها ببعض هذه المنظفات الكيميائية أو بغيرها، أمَّا عند الحنابلة فلابد من الماء.
بناء على ذلك، لو أنَّ بعض الأثواب والأقمشة ونحوها تُغسل بالبخار، أي ما يُسمى: الغسيل بالناشف، فلو كان في هذا الثوب نجاسة لم يطهر بذلك؛ لأنَّ هذا ليس ماء، فلا بد أيضًا إذا غسلت تغسل المكان الذي أصابته النجاسة بماء حتى تزيله به، أمَّا على قول الحنفية واختاره ابن تيمية، فكيفما زالت النجاسة حصل بذلك المقصود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (لَا دُهْنٌ وَمُتَشَرِّبٌ نَجَاسَةً) يعني: كما قلنا: إنَّ هذا على سبيل الاستثناء، أمَّا الدهن إذا وقعت فيه نجاسة فلا، ومن القواعد المتقررة عند الفقهاء -رحمهم الله- أنَّ المائع غير الماء ينجس بأقل القليل، ولا يعفى فيه عن نجاسة قليلة، فلو افترضنا مثلا أنَّ أكبر شركات الألبان تجمع لبنًا بمئات الأطنان أو آلاف الألتان في مكان واحد، فوقعت فيه ذرة نجاسة، فعندهم أنَّ هذا كله ينجس، أو عندهم مستودع دهن، كالمسبح، عشرة مسابح من هنا إلى كيلو، فوقعت فيه ذرة نجاسة تنجس.
لماذا؟ يقولون: لأنَّ الماء له قوة على مقاومة النجاسة، فلا ينجس إلا بتغير، أمَّا المائعات فليس لها قوة فتنجس، لكن هذا طبعا يكون فيه كثير في أن هذا فيه إفساد لمثل هذه الأشياء كثير، وعلى كل حال ليس هذا موضع تفصيل هذه المسألة من جهة الأرجح في ذلك أو النظر فيما خالف مذهب الحنابلة وقول جمهور أهل العلم لكن المؤلف لَمَّا قال: (لَا دُهْنٌ وَمُتَشَرِّبٌ نَجَاسَةً) يعني: أنَّ هذا مستثنى في الخمرة تتحول بنفسها فإنها تطهر، أمَّا غيرها فلا يُساويها في الحكم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَعُفِيَ فِي غَيْرِ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ عَنْ يَسِيرِ دَمٍ نَجِسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ)}.
(وَعُفِيَ فِي غَيْرِ مَائِعٍ) إذا كان مائعًا فلا يُعفى فيه (مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ)، أمَّا غيرهما (عَنْ يَسِيرِ دَمٍ نَجِسٍ)، والنجاسات منها نجاسات مخففة، فلو أصاب ثوبك نقطة دم أو نقطتين أو ثلاث أو خمس، فهذه مما يعفى عنها، ومما يبتلى بها الناس، وليس عليهم غضاضة في بقائها، ولا يلزم الإنسان إزالتها، فلو صلى وهي عليه فصلاته صحيحة.
قال: (وَنَحْوِهِ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ) مثل ذلك أيضا قد يخففون في بعضهم على خلاف في المذي، لهم فيه خلاف، بعضهم يقول: يخفف في القليل منه؛ لأنها تبتلى منه، وبعضهم يقول: النجاسة مخففة يكون فيها رش بالماء، لكن ظاهر كلام الحنابلة هنا أنهم لم يذكروا في المخففات ولا فيما يعفى عنه، لكن مثل: القيح، الصديد ومثل الدم اليسير.
قال: (مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ لَا دَمَ سَبِيلٍ) يعني كذلك من حيوان طاهر، فإذا كان هذا مما له طهارة في الحياة فيخفف في نجاسته.
(لَا دَمَ سَبِيلٍ)، أمَّا الدم الخارج من السبيلين فلا يخفف فيه أبدًا، ونجاسته مغلظة كنجاسة الغائط والبول.
قال: (إِلَّا مِنْ حَيْضٍ) يعني: أن النساء إذا حاضت يسيل منها الدم وهي نائمة، وهي جالسة، وهي تطبخ، وهي تربي أولادها، وهي تلعب مع أطفالها، وهذا لا يتأتى للمرأة أن تحفظ نفسها في كل ذلك، ولو تحفظت بما تحفظت به فإنه ينتقل، ولم يكن النساء والناس فيما مضى عندهم أثواب كثيرة، فكم من النساء من ليس عندها إلا ثوب واحد، ولذلك كانت النساء فيما مضى تجعل ثوبًا للحيض، إذا جاء الحيض لبسته، حتى لا يتقذر ولا ينتقل إلى ثيابها الأخرى.
فبناء على ذلك قالوا: إنَّ دم الحيض مع كونه خارجًا من السبيل، ومع كونه من حيث الأصل لا تخفيف، نخفف فيه للحاجة الملحة إلى ذلك ولعموم البلوى به، أنَّ النساء لا يفتككن من وصوله إلى بعض ثيابهن، وانتقاله إلى ما يلبسن من ثياب وسراويل وغيرها، هل هذا واضح؟
أمَّا الآن تجددت من الأشياء ما لم تجد فيما مضى، لكن ليس تجدد هذه الأشياء موجود عند عموم الناس على الإطلاق، ولا يضمن الناس أيضًا بقاؤه حتى نلتفت عن توضيح الحكم الشرعي من حيث أصله.
أحسن الله إليكم.
{قال رحمه الله: (وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَقَمْلٌ وَبَرَاغِيثُ وَبَعُوضٌ وَنَحْوُهَا طَاهِرَةٌ مُطْلَقً)}
قوله: (وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ) ما معناه؟ يعني: ما فيه دم يجري منه، فالقمل لو ضربتها هكذا ممكن يكون فيها نقطة دم بسيطة أو البراغيث أو البعوض، لكن لا يسيل منها دم، فبناء على ذلك هذه لو وقعت في مياه أو وقعت في شيء من لبن أو غيره فيعتبرونها طاهرة لا تُؤثر فيه.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَمَائِعٌ مُسْكِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَيْرٍ وَبَهَائِمَ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ خِلْقَةً وَلَبَنٌ وَمَنِيٌّ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ وَبَوْلٌ وَرَوْثٌ، وَنَحْوُهَا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسَةٌ، وَمِنْهُ طَاهِرَةٌ كَمِمَّا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ)}.
قال: (وَمَائِعٌ مُسْكِرٌ) هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- فلاح ونجاح، وإن خالف المذهب -رحمه الله تعالى-، المسكر عند الحنابلة من حيث أصل المذهب نجس إن كان مائعًا، وهذا واضح وهو قول عامة أهل العلم مما تخمر فهو نجس، وكذلك لو كان يابسًا أو ليس بمائع كالحشيشة وغيرها.
لكن المؤلف -رحمه الله- خالف المذهب في ذلك، قال: (وَمَائِعٌ) فكأنه يرى أنَّ الجامد أو الذي ليس بمائع فإنه لا ينجس.
وبناء على ذلك يختلف الفقهاء في الحشيشة، ومقتضى ذلك أنه عند الحنابلة أنها نجسة كسائر الخمر، وهو الذي نصَّ عليه ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لكن المؤلف اقتصر على المائع، وهذا في الحقيقة بالنسبة إلينا مهم للغاية؛ لأنَّه تترتب عليه مسائل كثيرة جدًا، ما يوجد في هذا الوقت من عطور مثلا يحصل بها الإسكار، وهي ليست من حيث الأصل خمرًا، فهي إنما لحق الخمر بها من جهة كونها مُشبهة للحشيشة لا لكونها خمرًا، يعني لحصول الإسكار بها لا لكونها خمرًا تخمر، فحكم بنجاسته، فإذا ننقل لها حكم النجاسة أو لا؟
من حيث الأصل لا إشكال في أنها تأخذ حكم الخمر، سواء من جهة الحد أو من جهة العقوبة؛ لأنَّه يحصل بها الإسكار، لكن من جهة النجاسة وعدمها فمشهور المذهب ذلك، وهو قول بعض المالكية ونحوهم، لكن إذا قلنا: إنها ليست نجسة، وخاصة أنها لا يمكن استعمالها في الخمر؛ لأنها تحولت أو لأنها مُضرة أو لأنها كذا وكذا، فهذا يُعفينا من إشكال كبير وباب واسع فيما يتعلق بكثير من المستحضرات الطبية والعطور ونحوها في عدم الحكم بنجاستها، وهذه من المسائل الثقال العظام في هذا الوقت، وما هذا إلا مخرج نرجو أن تكون لنا به سلامة؛ لأنَّه لو قيل بالقول الآخر فلا يتلبس الناس بذلك كثيرًا، يعني لو رأيتم أقل الأمور في حال جائحة كورونا كان من مستلزمات الأمور أن يتعطل الإنسان عن هذه المعقمات، وهذه المعقمات فيها كحول، وهذه الكحول نجسة، ويأخذها الناس وهم في المسجد، وهم ذاهبون إليه وخارجون منه، فمشكل من هذه الجهة جدًا.
لكن إذا قلنا: إنها قد تساوي -لو حصل بها إسكار- الخمر من جهة العقوبة أو غيره من أسبابها، مع أنها تحولت ومن الصعب إرجاعها إلى أن تكون مستعملة في ذلك، يعني ففيها تول وفيها أنها ملحقة بأحكام الحشيشة لا بأحكام الخمر، فتلحق بالخمر من جهة العقاب لا من جهة الطهارة والنجاسة.
فعلى كل حال المؤلف -رحمه الله تعالى- كأنه استشعر هذا ففتح لنا بابًا، أو ذهب مذهبًا غير مذهب الحنابلة مع أنه ملتزم بالمذهب إمَّا اختيارًا أو سهوًا، ونرجو أن يكون على كل حال هذه المسألة محل نظر.
قال: (وَمَائِعٌ مُسْكِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَيْرٍ وَبَهَائِمَ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ خِلْقَةً) أمَّا ما تحت الهرة فيعتبرونها في حال حياتها طاهرة، فلو تلبست الهرة بالبيت أو دخلت الفأرة في بعض أنحائه، فهذه مما يبتلى الناس بها كثيرًا، فلا إشكال فيها ولا تكون منجسة لذلك.
أمَّا ما أكبر من الهرة فهي نجسة، وما يكون من بعض فضلاتها فهي نجسة، ويجب على الإنسان أن يتخلص منها.
قال: (وَلَبَنٌ) لبن خارج من البهيمة، لكنه محكوم بطهارته بالإجماع.
(وَمَنِيٌّ) المني؛ لأنَّه أصل بني آدم، وقول عامة أهل العلم خلافًا للمالكية أنه طاهر؛ لأنَّه أصل بني آدم.
قال: (وَمَنِيٌّ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ) مني الآدمي طاهر كما قلنا، ومني غير الأدمي إذا كان مما يؤكل لحمه فطاهر.
والبيض كذلك يخرج من البهيمة فيحكمون بطهارته إلا أن يكون فاسدًا أو كان غلافه رقيقًا، لا يكون كذلك.
قال: (وَبَوْلٌ وَرَوْثٌ وَنَحْوُهَا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسَةٌ) يعني: من الحمار، من السباع، من غيرها هذه نجسة، أمَّا بول وروث مأكول اللحم فالمشهور من المذهب عند الحنابلة خلافًا للشافعية وبعض الفقهاء فهو طاهر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرينيين أن يشربوا من أبوال الإبل، فلولا أنها طاهرة لم يأمرهم بشربها؛ لأنَّ الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، كما جاء بذلكم الحديث.
{أحسن الله إليك.
قال رحمه الله: (وَمِنْهُ طَاهِرَةٌ كَمِمَّا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ)}
(منه) يعني: ما كان من مأكول اللحم من بول أو روث فهو طاهر، (كَمِمَّا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ) مثل ما قلنا لحديث العرانيين.
{أحسن الله إليك.
قال رحمه الله: (وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ عُرْفًا إِنْ عُلِمَتْ نَجَاسَتُهُ وَإِلَّا فَطَاهِرٌ)}.
هذا مما يكفه التلبس به، خاصة فيما مضى الناس ليست شوارعهم مقيرة كما هي الآن، مزفتة ولا تثبت النجاسة وغيرها، فمن أول إن كانت الأبوال في هذا التراب، فإذا جاء عليهما صار طينًا، والناس يمشون ويذهبون ويجيئون، ويتحرك هذا الطين كلما مشى شخص فيلحق ببعض ثيابه، فلو كنا بالنجاسة لربما لم تصح له طهارة؛ لأنه كلما ذهب إلى مسجد فلابد أن يُصيبه شيء من ذلك، فقالوا: إنه مما عمت به البلوى فتعلق به الحكم والتيسير.
(إِنْ عُلِمَتْ نَجَاسَتُهُ) يعني: مع تيقننا أن هذا مكان يبول فيه الناس، وتطين وأصابه منه شيء، فهنا نقول: إنه يعفى عن الشيء اليسير منه لمشقة التحرز، أمَّا إذا لم تعلم نجاسته فلا نقول: نظنهم كانوا يبولون هنا. نقول: هذا لا يضر، الشكوك وغيرها لا يلتفت إليها، لكن لو تيقنا وكان يسيرًا فهو مما خفف فيه لمشقة التحرز منه.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (فَصْلٌ فِي الْحَيْضِ)}.
هذا نهاية كتاب الطهارة عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- وهذا (فَصْلٌ فِي الْحَيْضِ) والحيض مِن حاض الوادي إذا سال؛ لأنَّ المرأة يسيل دمها في زمن معدود من كل شهر، وعادة تعتادها إذا بلغت سن المحيض، ولذلك تفاصيل سيذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- جملة منها.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (لَا حَيضَ مَعَ حَمْلٍ، وَلَا بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً)}
أمَّا كون الحيض لا يكون مع الحمل فهذا مُشتهر وهو المستقر، ولذلك قالت عائشة: "إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض" فبناء على ذلك لو رأت المرأة دمًا في أثناء حملها فنعتبر أنَّ هذا الدم دم فساد لا يمنعها صلاة، ولا يمنع زوجها إتيانها، ولا تتعلق به أحكام الحيض، وهذا هو مشهور المذهب، وقول الجماهير خلافًا لشيخ الإسلام وبعض الفقهاء.
(وَلَا بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً) يقولون: ما بعد الخمسين فهو سن لا تحيض فيه المرأة غالبًا، فما رأت من الدم بعد ذلك فإنما هو دم فساد، فلا يمنعها صلاة، ولا تترتب عليه أحكام الحيض، وهذا فيه بعض من اختلف في هذا السن، لكن هذا المتقرر عند الحنابلة.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَلَا قَبْلَ تَمَامِ تِسْعِ سِنِينَ)}.
هذا يشكل في ماذا؟ بعد خمسين، فيما لو كانت المرأة منتظمة عادتها كقبل الخمسين تأتيها كل شهر وسبعة أيام وبنفس صفات الدم، هل نقول: إنَّ السنَّ قاطعة فلا حيض بعد ذلك أو أنَّ العادة سابقة فيحكم بها؟
على كلام المؤلف وهو مشهور المذهب لا يعتبر، لكن الخلاف في ذلك قوي جدًا.
قال: (وَلَا قَبْلَ تَمَامِ تِسْعِ سِنِينَ)؛ لأنَّ قبل التسع ما عرف هذا، فيقولون هذا أقل ما وجد في الوجود، يعني أن يوجد امرأة ينتظم دمها، قد تجد ترى دم مرة أو مرتين، لكن أن ينتظم دمها، وأن تكون صفته كصفات دم الحيض، ويتكرر كل شهر ونحو ذلك، فلا.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَأَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ)}.
أمَّا النقطة والنقطتان فلا يلتفت إليها كما جاء عن علي وغيره؛ لأنَّ هذا حيض، والحيض سيلان، والسيلان له مدة طويلة، فبناء على ذلك لا أقل من أن يكون يومًا وليلة، فما تراه المرأة من نقطة أو من نقطتين يتبعها نقاء تام لا تلتفت إليه.
{أحسن الله إليك.
قال رحمه الله: (وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ)}.
هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وقول جماهير أهل العلم، وهو الذي قد يُفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذكر الشهادة، قالت: لَمَّا ذكر أنَّ المرأة نصف الرجل، قال: «أليس إذا حاضت لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» فأكثر ما يكون ذلك، يعني: أنها فوات نصف أكثر ما يكون، خلافًا لابن حزم الذي قال: سبعة عشر يومًا.
{أحسن الله إليك.
(وَغَالِبُهُ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ)}.
أكثر النساء يحضن في كل شهر ستة أيام أو سبعة.
{أحسن الله إليك.
قال رحمه الله: (وَأَقَلُّ طَهُرٍ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ)}.
أقل طهر بين حيضتين ثلاثة عشر يومًا، ما معنى هذا؟ معنى ذلك لو أنَّ امرأة جاءها دم الحيض الجمعة هذه، ثُمَّ رأت النقاء التام، والأربعاء رأت دمًا مثل الأول يوما وليلة؛ نقول: هذه حيضة وهذه حيضة، لا، ما دام الفرق بينهما أقل من ثلاثة عشر يومًا؛ فبناء على ذلك تعتبر الدماء وهي كل واحد يصح أن يكون حيضًا، يوم وليلة ودم مشابه لدم الحيض، فيقولون: هذه عادتها متقطعة فيجعلونها كالعادة الواحدة بحيث لا تبلغ أكثر الحيض خمسة عشر يومًا.
{أحسن الله إليك.
قال رحمه الله: (وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ)}.
قوله: (وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ) يعني: الطهر بين الحيضتين، يمكن أن تطهر امرأة ثلاثة أشهر أو خمسة أشهر، لكن أقل ما يكون ثلاثة عشر يومًا؛ لحديث علي لَمَّا ذكر المرأة التي ذكرت أن عدتها انتهت في شهر، فقال: إن جاءت بأحد ثقة من أهلها صدقناها، فالحديث مشهور في ذلك.
{أحسن الله إليك.
قال رحمه الله: (وَحَرُمَ عَلَيْهِمَا فِعْلُ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ، وَيَلْزَمُهَا قَضَاؤُهُ)}.
أمَّا الحائض فلا يجوز لها أن تصلي، ولو صلت لكانت آثمة، هذا بإجماع أهل العلم، ولا تجتهد في ذلك فهي مستسلمة لله في الانكفاء والتوقف عن الصلاة، كما أنها مُستسلمة ومنقادة لله ومتعبدة في الصلاة، إذا طهرت من حيضها، ومثل ذلك الصيام، كذلك لا تصوم، ويلزمها قضاء الصوم دون الصلاة؛ لأنَّ الصلاة تتكرر ويصعب قضاؤها، فخفف الله عنها، وهذا جاء في حديث معاذة لَمَّا سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ يعني: ما يقولها إلا الخوارج، ثم قالت: "كانَ يُصِيبُنَا ذلكَ، فَنُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّوْمِ، ولَا نُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّلَاةِ".
{أحسن الله إليك.
قال رحمه الله: (وَيَجِبُ بِوَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُهُ كَفَّارَةً، وَتُبَاحُ الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَهُ)}.
يعني: أنه يحرم وطؤها في الفرج في حال الحيض، وهذا أمر واضح جلي، جاءت به النصوص وتكاثرت، ولا يختلف فيه أهل العلم، ولكن هل هو كبيرة أو لا؟ الظاهر أنه ليس بكبيرة، وإن كان فقهاء الحنابلة قد ذكروه في موضع غير هذا الموضع أنه يمكن أن يكون كبيرة، ويتصدق بدينار أو نصفه كفارة لِمَا جاء في هذا الحديث، إلا من خاف الوقوع في الزنا من أحدنا من رجل أو امرأة.
(وَتُبَاحُ الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَهُ) يعني: فيما دون الفرج، تقول عائشة: كان يصيبني الحيض فيأمرني النبي صلى الله عليه وسلم فأتزر، فيباشرني وأنا حائض، يفعل كل شيء إلا النكاح، يعني: إلا الوطء، فدلَّ ذلك على أنَّ المرأة الحائض يجوز الاستمتاع بها فيما دون الفرج.
وهذه الأمة وسط بين اليهود والنصارى، فكان اليهود لا يأكلونها ولا يشاربونها ولا يقاربونها، والنصارى كانوا يخالطونها ويجامعونها ويفعلون كل شيء، فجاءت هذه الشريعة بالوسط في ذلك، فيمتنع من معاشرتها بما يكون به تلطخ بالنجاسات، وحصول الأذى على المرأة والرجل على حد سواء، ولا يمنع مما سوى ذلك من الأنس بها والاستمتاع معها، وقضاء الحياة في أحسن حال معهما، وهما زوجان متقاربان.
{أحسن الله إليكم.
أستأذنكم في التوقف عند هذا القدر}.
نقف عند هذا، وإن كان لابد أن مشينا أكثر، لكن أسأل الله لنا ولكم الإعانة والتوفيق، وشكر الله للإخوة القائمين على هذا البرنامج، ولكم أيها المشاهدون، وأسأل الله أن نلقاكم في أحسن حال، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{أحسن الله إليك، وبارك بكم.
نلتقي بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في مجلس قادم بإذن الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله}.
----------------------
[1] صححه النووي في "المجموع" (1/94)، وقوى إسناده ابن حجر في "فتح الباري" (1/235)، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (358).