{الحمد لله الحمد لله الملك العلام القدوس السلام، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام وتعبد وقام، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله وأصحابه أفضل صلاة وأتَمَّ سلام، ثمَّ أمَّا بعد:
فحيا هلا بكم في جمعية هُداة لتعليم العلوم الشرعية، في أولى برامج "جادة المتعلم" في شرح أخصر المختصرات مع فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، هلا بك يا صاحب الفضيلة}.
أهلاً وسهلاً، حيَّاك الله وحيَّا الله الإخوة طلاب العلم وطالباته.
{نستأذنكم شيخنا في القراءة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (بِسْـمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُفَقِّهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فِي الدِّينِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، الْمُؤَيَّدِ بِكِتَابِهِ الْمُبِينِ، الْمُتَمَسِّكِ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ، وَعَلَى أَهْلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَبَعْــــــدُ)}
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وَسَلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، ثمَّ أمَّا بعد:
فأسأل الله جلَّ وعلا لنا ولكم الإعانة والسداد والتوفيق والرشاد.
أيُّها الأخوة الطلاب، في استهلال هذا اليوم، وهذا البداية التي نرجو من الله جل وعلا أن يكون التوفيق حليفنا، وأن نكون ممن أُعِينَ على العلم، ووفق له، وحصله، وانتفع به، ووجد أجره ذُخرًا عند ربه يوم لقاه.
ما أحسن أن نستشعر أنَّ هذا مجلس علم، فليست الشاشة التي تشاهدونها ولا الدرس الذي تحضرونه كسائر ما يعرض على هذه الشاشات ولا قريبًا منها، فإنكم إنما أقبلتم على الله، ورضيتم أن تسمعوا قول الله وقول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما قرَّره العلماء، وما اجتهد فيه الفقهاء على مَرِّ الأعوام والسنين؛ طلبًا للحق وتمسكاً بالسُّنة وإرادة لإصابة ما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- به، وأمر به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلتعلموا أنَّ كل دقيقة وكل ثانية وكل وقت تمضونه في هذه الدروس والمشاهدات فإنما هي مجالس علم، لها حقها من الصيانة، ولها حقها من الحفظ والحضور والاهتمام والعناية، وإنَّ أَثَرَ ذلك عليكم بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في أنفسكم وفي أهليكم وفي بيوتاتكم له أعظم الأثر، وأتمَّ ما يكون من الأجر والثواب، وكلما كان الإنسان على حال أَتَمٍّ فليكن بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- له من الأجر الأتم.
فإذا كان حاضرًا بكليته واهتمامه، وكمال حضوره بحسن هندامه وحسن جلسته وإقباله، فذاك عند الله مكتوب، وفي الأجر بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- معروف، وما كان دون ذلك فكل له بقدره من العلم، وكلما كان الإنسان أَتم في الإقبال على العلم؛ كان ذلك بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- أرجى لتحصيله، وأعون لفهمه وتوفيق الله له فيه.
فلأجل ذلك لابد أن نستحضر أنَّ مثل هذه المجالس وإن اختلفت هيئتها أو تجددت اللقاءات فيها على خلاف ما يكون في المسجد مع الشيخ على مَا أُلِفَ وَعُرِفَ به الأثر، فإنَّ ذلك لن يختلف في أن يكون لمثل هذه المجالس ما في تلك من الاعتبار والأثر.
لتعلم أنك كما لو كنت بين يدي شيخك وفي درسك الذي تؤجر عليه بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- وتُثاب، وإن كان الْمُلقي في هذا المجلس إنما هو طُويلب علم يُشارك زملاءه المدارسة والمراجعة، وليس من أهل العلم الراسخين، لكن نرجو من الله جلَّ وعلا أن يُبلغنا درجات العلم، وأن يُرقينا فيه، وأن يُعَظِّم لنا الأجر والمثوبة، وأن يعفو عنَّا التقصير والخلل.
بين يدي هذا الدرس الإشارة إلى هذا الكتاب العظيم الذي هو "أخصرُ المختصرات" فإنما هو من المتون الفقهية المعتبرة عند فقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- وله من الذيع والانتشار واهتمام أهل العلم وحفظ الطلاب له ما له من المنزلة والقدر.
ربما نختصر في ذلك ونشير إشارة لطيفة، لكن حسبكم أن تعلموا أنه كتاب مُعتبر، قال عنه العلماء: إنه عمدة في مذهب الحنابلة، امتاز كما قال غير واحدٍ: بسهولة عبارته، ولطافة وإيجاز كلامه، واستيعابه لمسائل، فهو مُستوعب لأمهات المسائل، جامع لكبارها، مُفيد للطلاب في ابتداء العلم والتحصيل فيه، ولربما نحتاج في هذا إلى إشارة، وستأتي أيضًا الإشارة إليها لاحقًا، وهو: كيف سيكون للطلاب استفادة من هذا الكتاب وهو كتاب فقهي على مذهب الإمام أحمد بن حنبل!
ولعلنا أن نقف في ثنايا كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- على ذلك.
المؤلف هو إمام من أئمة فقه الحنابلة -رحمهم الله تعالى- لُقِّبَ بشمس الدين محمد بن بدر الدين بن عبد القادر الدمشقي الصالحي، ولد عام ست وألف للهجرة، وتوفي ثلاث وثمانين وألف للهجرة -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-، وقد عُرِفَ بصلاحه وتقواه، ونسب إلى الصالحية التي هي مدرسة شامخة عند الحنابلة في دمشق، لما انتقل اليها المقدسة -رَحِمَهُ اللهُ- تعالى فأنشأوا ذلكم الجامع، وعمروا تلك المحلة، حتى وفد إليها الطلاب، وعرفت بالديانة والصيانة والعلم، فكانت كالجامعة وكالشمس المشرقة التي لم يزل أهل العلم ينهلون منها، ويتلقون من آثارها التي بقيت وحُفظت، وإن جاء على تلك المحلة ما جاء من البلاء والفتنة والشر حينما غلب عليهم أهل الشر والضلال في موقعة مشهورة فحصل فيها من القتل والتنكيل والبلاء الكثير لفقهاء الحنابلة الموجودين في ذلك المكان لأهليهم وأزواجهم وبناتهم -رحمهم الله تعالى رحمة واسعة، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم، وأعظم الله أجرهم فيما ابتلوا به، وما نزل بهم من الشدة-.
هذا الإمام -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- له كتاب وهو من أشهر كتبه، وله أصله وهو: "كافي المبتدي" وستأتي الإشارة إليه.
وشُرِحَ أَخصرُ المختصرات في "كشف المخدرات والرياض الزاهرات شرح أخسر المختصرات" لتلميذ من تلامذة هذا الإمام، وهو عبد الرحمن التغلبي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-، وهو شرح مُفيد نافع جدًا، أتى على جملة الكتاب وتفاصيله، ثم شرح أيضًا من "عثمان بن جامع الحنبلي" في كتاب سماه: "الفوائد المنتخبات"، وهو أيضًا كتاب مطبوع ونافع ومفيد.
وشرح عدة شروح منها: شرح ابن فيروز ولم يطبع، وفي الآونة الأخيرة وجدت أيضًا عدة شروح منها ما كان متلوًا -أصله درس من الدروس- كشرح شيخنا الشيخ/ عبد الله بن جبرين، والشيخ/ صالح الفوزان، ومنها حاشية نافعة مُفيدة فيها من التقريرات السُّنية اللطيفة ما هو حري بالطالب أن يراجعها، وهي: "الحواشي السابغات" لأخينا الشيخ/ أحمد القعيمي حفظه الله تعالى ونفع به.
هذا الكتاب الذي هو "أخصر المختصرات" نافع للطالب أيما نفع، سواء كان ذلك في تلاوته وقراءته أو كان ذلك في حفظه ومراجعته أو كان ذلك في الوقوف على شرحه، والنزول إلى تفصيل مسائله.
في مثل هذه المجالس بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- سنأتي على إشارات لطيفة هي كالمفاتيح للطالب، تؤسس للعلم فيه مكانا، وتجعل له بُنيانا بإذن الله جل وعلا، وإذا كانت المسائل من المسائل التي تمس الحاجة إليها فسيكون الإيضاح فيها أكثر، وسيكون بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- توضيح ما جدت به الصور الواقعة، والأشياء النازلة ما هو لائق بالحاجة بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا، والله المسؤول أن يُعيننا على ذلك أتَمَّ إعانة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (بِسْـمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إن كانت هذه من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- أو كانت من النُّساخ فهي حقيق بأن يوقف معها، و (بِسْـمِ اللَّهِ) الباء تسمى (باء) الاستعانة، وهذا هو الأشهر عند أهل العلم في ذكر الـ (باء) في (بِسْـمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، فكأن المبتدأ قال: أبتدأ مُستعينا بذكر اسم الله الرحمن الرحيم، وهذا قدر جيد مُناسب للغاية، لكن ذكر بعض أهل العلم أنَّ الباء هنا للمُصاحبة، يعني: أبتدأ مُصطحبًا ذكر اسم الله الرحمن الرحيم. ما الفرق بينهما؟
قال بعض أهل العلم: إنَّ استعمالها للاستعانة إنما يكون كذلك كثيرًا في الآلات، فتقول: "كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين" وهكذا، وما كان هذا دأبه، فينبغي ألا يكون كذلك في حق الله -جَلَّ وَعَلَا- وذكر اسمه.
فاذا قلنا: إنها للمصاحبة؛ فإنَّ تلك درجة أعلى ومنزلة أرفع، وعلى كل حال فإنَّ هذا نوع من التفنن في قَدْرِ الله -جَلَّ وَعَلَا- وذكر ما يليق به في أَتَمِّ الأحوال وأكملها، وهذا دَأَبُ أهل العلم، ولذلك لَمَّا سيبويه رؤي في المنام فسئل ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قيل بِمَ؟ قال: بقول الله عَلمُ الأعلام.
فـ (الله) في اللغة العربية لفظ معرف فيكون عَلَمًا، لكن لَمَّا كان هو اسم لله -جَلَّ وَعَلَا-كان من هذا الإمام أن أنزله في اللغة منزلة لم يساويه بغيره، وإن كان اللفظ هو مستو في حكمه لكن خصوصيته كونه اسم الله -جَلَّ وَعَلَا-، قال: إنه علم الأعلام، فكان ذلك شيئًا عظيمًا، ومن هذا ذكر بعض أهل العلم هذا المعنى، وفي الحالين كلا المعنيين مُتقارب، فإنه سواء اجتلب اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- استعانة به في أنَّ اسم الله ما ذكر على شيء إلا حلَّت البركة وحصل الخير، أو اصطُحِبَ في محل إلا كان الأمر كذلك، فهما متقاربان في المعنى، ويمكن التعبير بهذا، ويمكن التعبير عنه بالثانية وهو الاصطحاب فيكون كذلك.
ولفظ الجلالة (الله) لأهل العلم فيه كلام طويل، وكثيرًا ما يُذكر في استهلالات الشروح، ولا نقف معه كثيرًا وربما أيضًا كنا وقفنا معه في غير ما موضع، وهو:
إمَّا أنه عَلَمٌ جامد غير مشتق، خاص بالله جل وعلا.
وإمَّا أن يقال: هو مُشتق، وأنه من الإله بمعنى: المألوه وهو المعبود، وهذا على سبيل الاختصار، وعند أهل التحقيق أنَّ الاشتقاق أَتَمُّ وأكمل؛ لأنه مشتمل على معنى العبودية لله -جَلَّ وَعَلَا- والتأله له والتعلق به سبحانه وتعالى، فيكون ذلك أتم.
و (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اسمان من أسماء الله -جَلَّ وَعَلَا- مُشتملين على صفة الرحمة، قال ابن عباس: أحدهما أخصُّ من الأخر، (الرَّحْمَنِ) من أسماء الله المختصة، فلا يُسَمَّ به غير الله -جَلَّ وَعَلَا-، وأمَّا (الرَّحِيمِ) فقد يوصف به غير الله -جَلَّ وَعَلَا- فيقال: فلان الرحيم لأولاده، أو الرحيم لجيرانه، أو على فقرائه، أو غير ذلك، لكن اسم (الرَّحْمَنِ) مختصٌ بالله -جَلَّ وَعَلَا-، هذا من جهة.
من جهة أخرى، قالوا: إنَّ أحدهما أَخَصُّ من الآخر، أو جاء في بعض الروايات: أَرَقُّ من الأخر، بمعنى أنَّ اسم (الرَّحْمَنِ) مشتملٌ على صفة الرحمة المتعلقة بكل المخلوقات، و (الرَّحِيمِ) اسم مُشتملٌ على صفة الرحمة المتعلقة بعباد الله المؤمنين، ولذلك قال الله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً﴾.
قال: (بِسْـمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِهِ تَوفِيقِي) يعني: ما توفيق العبد الا بالله -جَلَّ وَعَلَا، وما التفت قلب عن الله في قليلٍ ولا كثيرٍ إلا ضلَّ مهما أوتي من القدرة، ومهما اجتمع له من القوة، يقول الله جلَّ وعلا: ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هذا فيما يتعلق بمن وجد قوةً في قلبه في المعاني والمعلومات، ومثل ذلك أيضًا من وجد قوة في الحس والحقيقة ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ فكان الأمر كذلك، من تَعَلَّقَ بالله كفاه ووقاه، ومن تَعَلَّقَ بغيره رده إلى قوته وقدرته فأرداه، فلا مجال للعبد أن يتخلى أو يتخلص أو يلتفت أو يجد في نفسه قوة على أمر مهما أوتي من الأسباب.
إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى ... فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ
ولم يكن أحد أعرف بهذا من أهل العلم الراسخين، ولذلك كان ذلك في ابتداء كتبهم واستهلال كلامهم في الأمور العظام كما هو في الأمور الصغار.
قال: (بِسْـمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِهِ تَوفِيقِي) ثم قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُفَقِّهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فِي الدِّينِ)
(الْحَمْدُ) حقيقته الثناء، والمدح ثناء أيضًا، لكن (الْحَمْدُ) أخصُّ من المدح، فإنَّ الحمد لا بد أن يكون فيه تعظيم للمحمود ومحبة له، بخلاف المدح فإنه ثناء مجرد لا يُشترط فيه أن يكون معه محبة ولا تعظيم، إذًا الثناء محبة وتعظيم عُبر عنه بـ (الْحَمْد) كما هو التعبير في حق الله -جَلَّ وَعَلَا، فالله سبحانه المحمود لأسمائه وصفاته كما هو المحمود لذاته، ومن المتقرر أن الحمد إنما يكون على الجميل الاختياري، يعني: الذي يستطيع الإنسان أن يفعله، فلا تحمد فلانًا على جمال طلعته؛ لأنه لا صنع له فيها، وإنما الله -جَلَّ وَعَلَا- الذي خلقه وبرأه، ولكنه يحمد على كرمه، ويحمد على طيب خلقه وهكذا، إلا الله -جَلَّ وَعَلَا- فالله يحمد لذاته كما يحمد لصفاته؛ ولذلك قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ).
واللام هنا في (الْحَمْدُ لِلَّهِ) للاستحقاق، يعني: أنَّ الله جل وعلا مُستحق للمحامد، ويقولون: (ال) هنا للاستغراق، فهو مُستغرق للمحامد كلها، ولذلك عَدَّ بعضهم خمسًا من أنواع المحامد لذاته ولأسمائه ولصفاته ولأفعاله سبحانه وتعالى، فهو إذا المستغرق للمحامد كلها، فحريٌّ بالعبد أن يكون حامدًا لربه في كل أحواله وشؤونه، ولذلك كان ذلك أعظم ما يكون في الأمور الكبار، فاذا رأيت أنه عند مسلم في صحيحه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيه»[1] فاذا كان رضا الله -جَلَّ وَعَلَا- يتأتى للعبد على الأكلة أو الشربة اليسيرة، فكيف إذا كان حمده على النِّعم العظيمة والآلاء الجزيلة، فإن ذلك مما يرجى له الثواب الجزيل والعطاء الكثير.
الحقيقة أنا لا أريد أيضًا أن نتوسع كثيرًا وإلا فالحديث عن حمد الله -جَلَّ وَعَلَا- والثناء عليه من أعظم ما يفتح على العبد، ويهنأ به في حياته، ويرقى به في درجات تعبده وتألهه لمولاه، وهو أرجى ما يكون لإجابة الدعاء وتحقيق الخير، والخلاص من البلاء والشر والفتنة، وأدل ما يكون على ذلك حديث الشفاعة العظمى، فإنه لَمَّا انبرى لها النبي صلى الله عليه وسلم أتى فسجد بين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا، قال في الحديث: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي»، فكلما فتح على الإنسان من الثناء على الله وحمده كان ذلك أقرب لحصول خيره وأرجى لإجابة دعوته، ولزيادة منزلته، ولحصول فرجه وتفريج كربه وبلاءه بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا-.
وهنا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُفَقِّهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فِي الدِّينِ) والفقه والكلام عليه كثير، لكن الفقه من حيث معناه هو الفهم، وبعضهم يقول: إنه فهم الأشياء الدقيقة، فلا تقل: فقهت مثلا أنَّ السماء فوقنا؛ لأنَّ الكل يعرف أنَّ السماء فوق، حتى البهائم إذا نزلت بها حاجة رفعت بصرها إلى السماء، فهي تعرف أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- في جهة العلو وفطرت عليه.
إذن يقولون عن الفقه: إنه فهم الأشياء الدقيقة، وعلى كل حال فـ (فَقِهَ وَفَقُهَ وفَقَهَ)، فـ فَقِهَ الشيء إذا عَلِمَه، وفَقَهَ إذا تجارى في الفقه، فتقول: فَقَهتُ فلانًا وفاقَهتُه، يعني: إذا غلبته في الفقه، وفَقُهَ إذا صار الفقه له سجية، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المأخوذة من أدلتها التفصيلية.
وبعضهم يقول كما هو المشهور عند الحنابلة: إنَّ الفقه لابد فيه من الدليل، لكنهم قالوا: العلم بالأحكام الشرعية العملية والاستدلال عليها بالفعل أو بالقوة القريبة، بمعنى أنَّ الفقه هو العلم بالأحكام والاستدلال عليها. لماذا قال بالفعل أو بالقوة القريبة؟
لانَّ العلم ليس كله لدى الفقيه، حتى الفقيه الذي أُشرب العلم والفقه قد تكون بعض المسائل غائبة عن ذهنه في بعض الأحوال، فيحتاج إلى مراجعتها، فاذا كان لديه الآلة والمكنة من الوصول إلى المسألة والعلم بها، كان ذلك الفقه والعلم، فوجود الآلة عنده كفيل بأن يُعطي اسم الفقيه ولقبه، يعني في غياب بعض الأشياء، وهذا أمر لا بد منه، ولذلك قالوا: "والاستدلال عليها بالفعل أو بالقوة" ما معنى القوة القريبة؟ يعني: أنَّ لديه من الآلة والمكنة التي يستطيع بها الوصول إلى الفقه بسهولة، بخلاف الذي يحتاج إلى أن يتعلم العلم من أوله فهذا ليس عنده قوة قريبة. ولذلك إذا جئت إلى فقيه مثلا وسألته عن مسألة من مسائل الحوالة على سبيل المثال، ربما لا تكون شروطها كلها بين يديه حاضرة، لكنه بمجرد أن يمسك أكبر كتاب أو أصغره يفتح صفحاته يُعيد النظر فيها فيتذكر مسائلها، فيبين عنها ويفصح بها بخلاف غيره الذي ربما يبقى أيامًا طويلةً لا يَستطيع أن يعلم أنها في هذا الباب أو أنَّ هذه المسألة تُبحث هنا أو هناك، فاذًا هذا هو الفقه.
وهنا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُفَقِّهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فِي الدِّينِ) الفقه اصطفاء من الله -جَلَّ وَعَلَا- وفضل ونعمة منه ورحمة، يصطفي به من شاء من عباده لهذه المنزلة ولهذه الدرجة، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- كأنه بذلك يلهج بحمد الله -جَلَّ وَعَلَا- والثناء عليه، على ما أنزله من المنزلة وبلغه من الدرجة، فكان ذلك استهلال كلامه وابتداء كتابه.
وأمَّا أنه أشار أيضًا إلى لفت نظر الطالب إلى أنَّ الفقه اصطفاء، فاذا رأيت عموم الناس في بُعدٍ وانشغالٍ أو رأيت عموم الخليقة في لهوٍ وغفلةٍ، فلتعلم أنَّ مَا هيأك الله له، وفتح لذلك بصيرتك وأنار قلبك ويسَّر لك وسهل عليك، وكثير من الناس يفتح على القناة هذه فلا يُسهل عليه أن يبقى مُقبلا عليها دقيقة أو دقيقتين، فإن يسَّر الله لك ذلك فلتعلم أنه اصطفاء من الله وفضل فتحمده عليه، ولذلك جاء في الحديث الصحيح العظيم الذي عند البخاري ومسلم من حديث معاوية أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» فالفقه في الدين من أعظم ما يبلغ به العبد درجة الخيرية والوصول إليها، وهي منازل فكلما ارتفع الإنسان في الفقه ارتفع منزلة في هذه الخيرية، ويتنافس الناس في ذلك بحسب ما أفاض الله عليهم وتفضل.
ولتعلم أنَّ الفقه منه ما هو فرض عين، يجب على كل مسلم أن يعلمه، وهو ما يُسمى عند الفقهاء بعلم الحال، وهو ما لا تصح عبادتك وما يتعلق بك إلا من أحكام، فاذا كان الإنسان مأمورًا بالصلاة فلابد أن يعرف الصلاة وما يسبقها من وضوء وطهارة ومن أحكام وشروط.
وكذلك أحكام الزكاة ووجود النصاب ومُضيُّ الحول، فلزمه أن يتعلم من تلك المسائل ما يليق به، فإذا كانت تجارته في عروض التجارة لم يكن لازمًا عليه أن يعرف أحكام زكاة بهيمة الأنعام، لكن تعين عليه أن يعرف زكاة عروض التجارة بما يتحقق به فعل ما عليه في ذلك.
وإذا دخل الإنسان السوق ليبيع ويشتري عليه أن يتعلم من أحكام البيع والشراء والربا ونحوها التي تمنعه من الوقوع في الحرام، وتحمله على الكسب الحلال وغيره، وما زاد على هذا فهو فرض كفاية يصطفي به الله -جَلَّ وَعَلَا- من يشاء، كما أرجو أن يكون قد اصطفانا جميعًا لذلك، وبلَّغنا هذه المنزلة.
فيتعلم سائر الأحكام حتى إذا احتاج إليها عموم الخلق من القريبين أو البعيدين وجدوا من يفتيهم في ذلك ويعلمهم ويبصرهم ما يليق بهم في أمور دينهم، فكان ذلك من الفقه والعلم الذي في فروض الكفايات، يجب على من ينبغي لها من يكفي.
ولنعلم أنَّ ها هنا مسألة، هل انبرى للعلم من يكفي في هذا الزمان أم لا؟ وهذا السؤال يتحتم علينا الوقوف عليه؛ لأننا إذا رأينا ما احتفَّ بالناس من الجهالات، وما أغوته نفوسهم من الضلالات، وما عمَّ في كثير من الأرجاء من الخلط والخطأ والوقوع في الزلل وحصول الجهالة ودخول بعض المحدثات على الناس علمنا تَحَتُّمَ العلم والفقه وتبصير الناس بذلك، فإن كان القصور من البصيرة والعلم، وجب علينا أن نعود فنتعلم، وإن كان ذلك من تبصير الناس والتوضيح، فلزم من تعلم أن يتصدى للناس تعليمًا وتفقيهًا وتنبيهًا ونُصحًا، فإنَّ «الدِّين النَّصِيحَةُ»[2]، وكما جاء في حديث جرير «بَايَعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والسَّمْعِ والطَّاعَةِ، والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»[3]
وإذا كنا نرى كيف يوجد في عموم البلدان من المستشفيات التي يكون بها طب الأبدان، وإصلاح الأجساد، وذلك كمٌ هائل لا عَدَّ له ولا حصر، وحاجة الناس إلى طبِّ القلوب وصلاح العبادات أعظم من حاجتهم إلى صلاح الأبدان، ووقوع الخطأ والنقص في العبادات والديانات أكثر من وقوع العلل والأسقام للأجساد والأبدان، فكان ذلك مما يتحتم معه أن ينبري للعلم من يقوم به، ومن يلتفت إليه، ومن يُقيم مناره، ويُعلي سياجه، فينبري له على أتَمِّ وجه، والله المسؤول أن يجعلنا وإياكم ممن وُفق لهذه المنزلة، وأن يعيننا على تبليغه وحصول بركته، ونيل أجره وثوابه عند الله -جَلَّ وَعَلَا-. في الدنيا والاخرة.
{نعم، أحسن الله إليكم. ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الْمُؤَيَّدِ بِكِتَابِهِ الْمُبِينِ، الْمُتَمَسِّكِ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ)}.
في الحقيقة الشيخ عبد الله قبل ما نبدأ قال: لو أشرنا إلى بعض ما يحفز النفوس على العلم، ويقربها ويعينها على تحصيله، والحقيقة أنَّ هذا باب واسع وحديثٌ سارٍ لا تكاد تفتح كتابًا إلا وجدت الإشارة إلى ذلك، ولا يُستهلُ دراسة كتاب إلا وجدت فيه شيئًا من تعظيم العلم، وبيان منزلته، وحث الناس عليه، ولا غضاضة في ذلك. فإنَّا بحاجة إلى هذا أيما حاجة، فمن كان إلى العلم مُقبلا زاده تحصيلاً ورسوخًا وثباتًا، ومن كان فيه مبتدأ لم يزل مُترددًا فإنَّ ذلك مما يُعينه على الإقبال ويُثْبِتُ قدمه في التحصيل والنهل والزيادة منه، وأعظمُ ما جاء في ذلك قول الله -جَلَّ وَعَلَا- ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ وإنما العلم هو الخشية، وإنما العلم هو عبادة الله -جَلَّ وَعَلَا- على بصيرة، وإنما العلم هو الهداية بهداية كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا، وسنة نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ حسبك أنه نور وتبيان، والصراط المستقيم، من سلكه فاز، ومن تبعه نجا، ومن تمسك به أفلح بإذن الله جَلَّ وَعَلَا ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾، وصراط الله -جَلَّ وَعَلَا- هو كتابه، وحبله الذي أمر به عباده، قال جَلَّ وَعَلَا: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ وإذا فاز الناس بشهواتهم، وفاز الناس برغباتهم ومباحاتهم، فاز أهل العلم بالمنزلة والدرجة عند الله -جَلَّ وَعَلَا، وهي حصول الخيرية، «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[4]، وكان بعض مشايخنا قد قال لنا كلمة أبان صغرنا وابتدائنا في طلب العلم، وهي كلمة عظيمة، قال: إن الامام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- كان في وقته من الوجهاء ومن الأثرياء ومن التجار وممن متعوا في دنياهم وبلغوا ما بلغوا في أيامهم، فلم يحفظ لأحد منهم اسمًا، ولم يبق لواحد منهم أثرًا، ذهبت بهم الأيام، وواراهم التراب، وهذا الإمام أحمد مهما تمزق جسده أو ذهبت أيامه وانتهت أوقاته، فلم لم يزل ذكره سائرًا، والحديث عنه قائمًا، ومثله أئمة أهل الإسلام، مثل: الشافعي والإمام مالك وأبي حنيفة والتابعين، وقبلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل على هذا المنهاج علماء كثر يلهج الناس بالثناء عليهم والترحم عليهم، فهذا الإمام النووي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- الذي تقرأ كتبه في مُناسبات، وأعظمها وأجلها كتاب رياض الصالحين، يتلى على الناس وفيه من البركة، وفيه من إظهار السُّنة، وفيه من الخير ما الله به عليم.
وبالمناسبة ما دام أننا ذكرنا الإمام النووي -رَحِمَهُ اللهُ- فإنَّ عمره لم يتجاوز السبع والأربعين عامًا، ومع ذلك بقي ذكره شاهدًا عظيمًا على مآثره الكبيرة كالجبل الشامخ الذي لم تزده الأيام إلا ثباتًا وصلابة -رَحِمَهُ اللهُ رحمة واسعة.
وفي سيرته لطيفة جميلة، وأودُّ أن تُفهم على وجهها لا أن تُفهم على غير ذلك، لَمَّا ابتدأ النووي العلم قال عن نفسه: لَمَّا بلغت الثامنة عشرة وقع في نفسي تعلم الطب والإقبال عليه، يقول: فاشتريت ألته وكتابه، يقول: فحصل لي من ظلمة النفس والصدود وحصول البلاء ما الله به عليم، حتى إذا عُدت إلى ما أنا فيه، ورجعت إلى مدارسة العلم والإقبال عليه؛ فتح الله عليَّ ما فتح، ففيه إشارة إلى البون الشاسع لمن هُدِيَ إلى الفقه في كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن سلك غير ذلك، مع ما في تلك المسالك من أهمية، وما لها من الدرجة، وما يُحتاج إليها من حاجةٍ ماسَّة لعموم الناس سواء كان ذلك في علوم الطب أو علوم الاقتصاد أو علوم الصناعة والهندسة أو سوى ذلك، والناس بحاجة إلى ذلك لا محالة لكن من كانت له قدرة على أن ينبري لعلوم الشريعة فلا شك أنه ليس كعلوم غيرها، والفرق بين ذلك أن هذه علم بالله والأخرى علم بالخلق، وشرف العلم بشرف المعلوم، وليس شيء أشرف من العلم بالله وبسنة رسول الله وبالفقه في كتاب الله وسنة نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فبين ذلك كما بين السماء والأرض، وحسبكم بذلك كلامًا، وينتهي عند ذلك الحديث؛ لأنه ليس شيء أعظم من هذا، والله يتولانا برحمته.
يقول: {(وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الْمُؤَيَّدِ بِكِتَابِهِ الْمُبِينِ، الْمُتَمَسِّكِ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ)}.
قوله: (الْمُؤَيَّدِ بِكِتَابِهِ الْمُبِينِ) حمد الله تعالى في ابتداء الكتب سبيل بركتها، فـ « كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» وفي رواية بـ «الحمد لله فهو أجذم» يعني: مقطوع البركة أو ذهب عليه الخير، ثم يأتي الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أيضًا استحضار لمنزلته، فهو خير من وطئت قدمه الثرى، وهو النبي المصطفى الذي بلَّغ ووضَّح وأبان وهدى، كما جاء في الحديث: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ» فكان حقه أن يستهل بالصلاة والسلام عليه، وذِكْرِه والثناء عليه بما يليق به، وذكر النبي مع ذكر الله -جَلَّ وَعَلَا- هو استنان و استحضار للشهادتين فهما مقرونتان ببعضهما البعض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله، ولذلك قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: «لَقَدْ تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُحَرِّكُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا أَذْكَرَنَا مِنْهُ عِلْمً»[5]، فهذا المذكور وهذا المحفوظ المكتوب في هذا الكتاب إنما هو استنان بسنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولذا فقد ذَكَرَ الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، «مَن صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً واحِدةً صَلَّى اللهُ عَليهِ عَشْرً»[6]، وجاء في ذلك أحاديث كثيرة في مجموعها حسان وهي مذكورة في غير هذا المقام.
والصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما قال أبو العالية: "مِنَ الله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى"، وإذا قلنا: (الصلاة والسلام) فطلب ثناء الله -جَلَّ وَعَلَا- على نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهنا قال: (وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ) والنبي والرسول لفظان إذا افترقا اجتمعا، وإذا قلت: النبي فهو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن بين النبي والرسول فروق تُبحث في مسائل الاعتقاد، فليس كل نبي رسولا، وكل رسول نبي، فهو أخص وأرفع، والنبي هو من أوحي إليه، ولأهل العلم في الفرق بينهما كلام كثير، لكن أشهر ذلك -على ما فيه من الكلام- أنَّ النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بالتبليغ، وأنَّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه.
هنا عبر عن النبي بالأمين، وهي إشارة لطيفة إلى:
أولاً: ما كان من وصفه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجاهلية، وهو أَتَمُّ أمانةً في تبليغ الرسالة وتكميلها على ما قلنا، ثُمَّ أيضًا إشارة إلى أنَّ هذا المكتوب أمانة بلَّغه النبي صلى الله وسلم، فما يكون منا من تحرير وما يكون من تفقيه وتوضيح فإنما هو جار على طلب هذه الأمانة وهذه الرعاية والصيانة، فهو استشعار لأداء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للسنن أن بلَّغها كما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا، وعلى الفقيه أن يكون اجتهاده ونصب عينيه طلب الحق والهدى، والتبرؤ من هوى النفوس والجهالات في تقرير ما يكون حقًا وصوابًا في الأحكام والتشريعات.
قال: (وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الْمُؤَيَّدِ بِكِتَابِهِ الْمُبِينِ، الْمُتَمَسِّكِ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ)
نعم هو صلى الله عليه وسلم مُؤيد بكتاب الله جلَّ وعلا الذي أُنزل عليه مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا، كان نبراسًا للخليقة ونورًا للبشرية، وقد جعل الله جلَّ وعلا فيه هدايتهم، وحصول الخيرية لهم في الدنيا والآخرة، ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ وكتاب جعله الله فرقانًا وتبيانًا وموضِّحًا للحق من الباطل، ومبينًا لتوحيد، وموضِّحًا للخلق ما يليق بهم من اتباع للأنبياء والمرسلين، وما يتوجب عليهم من اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء فيه غير ما آية في بيان ما جعل الله لنبيه من المنزلة ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ وجاء في أكثر من ثلاثين آية الأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما الأمر بطاعة الله جلَّ وعلا، فكان ذلك تأييدًا من الله بكتابه لنبيه، وأنَّ الحقَّ في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لا يتأتى للخلق هداية إلا باتباع السنة كما هو اتباع القرآن، ولذلك جاء في الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التوعد للمتكئ على أريكته الذي يقول: «عليكُم بِهذَا القُرآنِ فما وجدتُم فيهِ مِن حَلالٍ فأحلُّوه وما وَجدتُم فيهِ مِن حرامٍ فحرِّمُوه»[7]، كما هو فتنة هذا العصر في اتباع القرآن والتخلص من سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ولا يتأتى للناس عبادة، ولا يتأتى للناس إيمان بكتاب الله إلا باتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه يقول: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ﴾، ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ﴾ فمن لم يطع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو يتقلب في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلً﴾ والله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فهؤلاء الذين تركوا سنته أصابهم البلاء وأصابتهم الفتنة، وهم مُتوعدون بهذا الشر والعذاب إلا من تاب ورجع، إلا مَنْ آبَ وانتبه، إلا من عاد إلى الحق والهدى واستمسك بالصواب و استنار بنور النبي عليه الصلاة والسلام، فكان مؤيدًا بكتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- وهو متمسك به، فما كان من سنته فهو تمسك، وما كان دون ذلك فهو غلوٌ أو تفريطٌ.
ولأجل ذلك لا يزعم أحد أنه يستمسك بالقرآن على حال أتَم من نبيه أو على حال أكمل من رسوله، فإنه لا يتأتى لأحد أن يأتي بأتم مما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمْسَكَ ووضَّح وبَيَّنَ لنا في ذلك ما هو تبيان للناس، وما هو توضيح للأحكام، وبيان للشرائع من العقائد، والركائز العظام الخمس التي يقوم بها الإسلام، «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ»[8] كما في حديث ابن عمر، وكذلك سائر التشريعات قليلها وكثيرها كما سبق أن قلنا، أو ما جاء في الحديث: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ» وكما قال ذلكم اليهودي لسلمان الفارسي: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى الْخِرَاءَةَ. فَقَالَ: «أَجَلْ. لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أوَ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِاليَمِينَ، أَوْ أَنْ نسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ. أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ»[9]، ففي هذا إشارة إلى حال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التبيان والتوضيح والتمسك بكتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- والتبيين.
{نستأذنكم شيخنا نظرًا لضيق الوقت في أن نستكمل ما بقي في المجالس القادمة؟}
طيب على كل حال لعل في هذه المقدمة بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- ما هو نافع للطلاب ومفيد، أرجو أن يكون إتياننا على الشرح بشيء من الإجمال أكثر، وفي البداية خصوصية يعني: ربما تفتق الحديث في بعض المواطن بما كان الأولى أن نجمله، لولا أنَّ للابتداء خصوصية.
أسأل الله أن ينفع بها، ونلقاكم بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في حال طيبة.
شكر الله لك وللإخوة القائمين على هذه الجادة، جادة هداة، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعل مَنْ سلكها بلغ غايتها، وأن يبلغه أجرها وكل من كان سببًا فيها.
بارك الله فيكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
{أعزائي المشاهدين، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله}.
-----------------------
[1] رواه مسلم.
[2] صحيح مسلم
[3] صحيح البخاري
[4] البخاري (71)، ومسلم (1037)
[5] مسند الإمام أحمد.
[6] صحيح مسلم
[7] سنن أبي داود وصححه الألباني
[8] رواه البخاري (8)، ومسلم (16)
[9] رواه مسلم.