الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

76536 18
الدرس الخامس

أخصر المختصرات

{الحمد لله، الحمد لله الملك العلَّام، القدوس السَّلام، وصلَّى الله وسلَّم على خير من صلَّى وصام، وتعبَّد وقام، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام. ثم أما بعد، فحيَّا هلا بكم أعزاءنا المشاهدين ومستمعينا في كل مكان، مع مجلس جديد من مجالس شرح (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، حيا هلا بكم صاحب الفضيلة}.
هلا وسهلا، حياك الله.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في البداءة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فُرُوضُ الْوُضُوءِ سِتَّةٌ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يشرح صدورنا بالعلم، وأن يوفقنا لتحصيله، وأن يبلغنا تمام العبادة والاقتداء بسنة نبينا ﷺ وتحصيلها، وأن يجزينا خيرَ الجزاءِ على ما عملنا وقدمنا، وأن يعفو عنا تقصيرنا وخللنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
نستكمل ما كنا توقفنا عنده في كتاب الطهارة بعد أن أخذنا جملة لا بأس بها من أحكام وسنن ومستحبات دخول الخلاء وما ذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- مما يتعلق بذلك، ثم أردفوا بعد ذلك السِواك عليه، وسنن الفطرة وما يتعلق بها.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (فَصْلٌ)، هذا الفصل الذي عقده المؤلف هو شروعٌ في الطَّهارة الصُّغرى -في الوضوء، ولذلك قال: (فُرُوضُ الْوُضُوءِ سِتَّةٌ).
قوله: (فُرُوضُ)، لعلك تلحظ هنا أنَّ فقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- يعبِّرون كثيرًا بـ "الواجب" ويعبرون بـ "الركن"، وقلَّ أن يعبروا بـ "الفرض"، والفرض هو مرادفٌ للواجب من حيث المعنى، وَذِكْرِ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- هنا: (فُرُوضُ الْوُضُوءِ) هل قصد بذلك واجبات الوضوء أو لا؟
الظاهر: لا، وذلك لأنَّه سيذكر المؤلف -كما ذكر فقهاء الحنابلة كثيرًا- أن الواجب في الوضوء هو واجب واحد وهو التسمية مع الذِّكر على ما سيأتينا، فدلَّ على أنه أراد بالفروض هنا شيئًا أخصَّ من الواجب وهو الركن، وعبَّر بالفروض، ما الفرق بين الركن والواجب؟
هي فروق اصطلاحية عند أهل العلم، سبرها أهل العلم -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- في النَّظر إلى الأدلة في التأكيد على اعتبارِ هذا الأمر من عدمه، هما يشتركان في الوجوب أو في اللزوم بمعنى أصح، لكن شيء منهما ألزم من الآخر.
فعلى سبيل المثال: تجد أنَّ أركان الصَّلاة لو لم يوجد ذلك الركن لم تصح الصلاة حتى ولو كان تركه له نسيانًا، لكن لو نسي شيئًا من واجباتها فإن الصلاة تكون صحيحة ويجبر بالسهو إن كان سهوًا، أما الركن فلا.
فإذًا عندنا أنَّ الركن والواجب يشتركانِ في كونهما يُلزم بهما المتعبِّد أو المكلَّف، لكن من جهة أخرى فإن الركن الفرض أخص من الواجب وأعلى درجة في اللزوم والتَّأكيد عليه.
وهنا الحقيقة لم تجرِ في العادة عند الفقهاء في الجمهور التَّفريق بين الواجب والفرض، وهذا مسلكٌ عندهم، أنه لا تفريقَ عندهم بين الواجب والفرض، ولا يعبرون بالفرض كثيرًا، سواء كان ذلك في الفروع أو في الأصول، لكن مَن لهم مذهب خاص في الحنفية وأصلهم في ذلك أنَّ ما ثبت بنصٍّ يعبرون عنه بالفرض، وغيره يعبرون عنه بالواجب إذا كان على سبيل الاجتهاد.
فإذًا (فروض الوضوء) هنا المقصود بها: الأركان.
والفرض من حيث الأصل: هو الشيء المفروض المتحتم من الفرض الحزُّ والقطع، يعني: أنه مقطوع به.
مسألة مهمة وهي: ما الفرق بين التعبير بالركن والتعبير بالشرط؟
يقال: شروط الصلاة، يقال: أركان الصلاة، لمَ قلنا هنا هذا شرط ولم نقل أنه ركن؟ وقلنا: إنَّ هذا ركن ولم نقل إنه شرط؟
الشرط هو الركن أيضًا، ويشتركان في اعتبارهما في العبادة أو ما اشترط له وما كان ركنًا فيه.
لكنهما يختلفان من جهة:
أولًا: أن الركن جزء من العبادة، وأمَّا الشرط فشيء من لوازمها خارج عن حقيقتها.
فعلى سبيل المثال: النية شرط للوضوء والصَّلاة، لكنها ليست من أجزاء الصلاة، الصلاة تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم، واشتراط دخول الوقت للصلاة هو شرط لصحة الصلاة، لكنه ليس جزءًا منها.
أمَّا الركن فهو جزء من العبادة، ولذلك غسل الوجه فرض من فروض الوضوء، السُّجود ركنٌ من أركان الصلاة وجزء من أجزائها.
كذلك الشرط معتبر للعبادة كلها، فلذلك لو أنَّ شخصًا ابتدأ الصلاة ناويًا ثم قطع نيته في أثناء الصلاة بطلت صلاته، لكن الركن لا يستمر في كلِّ الصلاة، القيام ركن ثم يعقبه ركن آخر، ثم ركن آخر، ثم تتجدد أركان أخرى، فلذلك الشرط يستمر، أمَّا الركن فلا يستمر.
على كل حال؛ أشار الإمام البهوتي -رَحِمَهُ اللهُ- في شرح الروضِ إلى الفرق بين الشروط والأركان في أول ذكرٍ لها في كتاب الصلاة، باعتبار أنهم هنا عبروا بـ "الفروض" ولم يعبروا بـ "الأركان"؛ فلذلك أرجأ بيان الفروق بينها إلى ما هنالك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فُرُوضُ الْوُضُوءِ سِتَّةٌ:
غَسْلُ الْوَجْهِ مَعَ مَضْمَضَةٍ وَاسْتِنْشَاقٍ، وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ وَمَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ مَعَ الْأُذُنَيْنِ، وَتَرْتِيبٌ وَمُوَالَاةٌ)
}.
قوله: (سِتَّةٌ) سيتكرر كثيرًا، ولذلك سنذكرها هنا ولا نحتاج إلى تكرارها.
لو نظرتَ إلى السنة عن النبي ﷺ لم تجد في أي حديث أنه قال: الفروض كذا، عددها كذا، أو أركان الصلاة أربعة عشر، أو ما يشترط للزكاة خمسة شروط...، إلى غير ذلك! ولكن هذا من الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- تتبعٌ للنصوص واستخلاص وتقريبٌ لها، فنظروا إلى ما اعتُبر، ثم درجة اعتباره، فجمعوه وجعلوه في مكانٍ واحدٍ ليكون متقربًا.
وهذا الكلام من الأهمية بمكان؛ لأنه ينقدح في الذهن أن هذه الفروض أو تلك الأركان في الصلاة أو شروط الصلاة؛ أنها على حدٍّ سواء، ما دام أنه شرط فهو مثل هذا الشرط، وإذا ثبت لهذا الشرط مسألة فلابد أن يثبت لهذا الشرط بإزائها مسألة أخرى!
وذلك ليس بالضرورة؛ لأنَّ تسميتها "شروط" هذا اجتهاد من الفقهاء، فقد يكون بعض هذه الشروط آكد من بعض، وبعضها أخف من بعض، لكنه لا ينزل عن درجة الاشتراط، وهذا الركن أهم من ذلك الركن، لكن لا ينزل إلى درجة الوجوب، وهكذا، والواجب بعضه ألزم من بعض، فقد يختلف في بعض الواجب أنه واجب أو مستحب، كما اختلف الفقهاء في تكبيرات الانتقال هل هي واجبة كما هو قول الحنابلة أو سنة كما هو قول الجمهور.
وحتى تعرفون هذا الكلام أو يتضح لكم هذا من كل وجه؛ الآن سيأتينا مثلًا أنَّ الصلاة جاء في الحديث: «إنَّ بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ» [1]، وَحَكَمَ جمع من الصحابة وجماعة من السَّلف مثلًا بتكفير تارك الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، فكونها وردَ عليها هذا الكلام -التكفير بترك الصلاة كمسألة- هل معنى ذلك أن يرد بنفس القوَّة الكلام في تكفير تارك الصيام أو الزكاة أو الحج على حدٍّ سواء مع أنها كلها أركانها الإسلام؟
لا، من أين الاختلاف؟
لأن تسميتها ركن إنما هو اجتهادي، وليس بالضرورة أن يكون الركن مُشتبهًا في كلِّ الأحكام المتعلقة به على حدٍّ سواء، لكن هي فيها درجة من القوة، ثم قد تتفاوت بحسب ما جاء فيها من النصوص، والفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- يجتهدون في تخليص هذه الأحكام، ثم تعليقها بتلك المسألة، ويوردون الخلاف فيها، كما سيأتي الكلام في مسألة حُكْمِ من ترك الصلاة عمدًا مُتساهلًا بذلك غافلًا عنها.
فلأجل هذا قال هنا: (سِتَّة) بناء على اجتهادات الفقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- تسهيلًا وتيسيرًا على طالب العلم.
أولها: (غَسْلُ الْوَجْهِ مَعَ مَضْمَضَةٍ وَاسْتِنْشَاقٍ)، سمي الوجه وجهًا من جهة أنه تحصل به المواجهة، ويكون به الإشراق والظهور، وهو من منابت الشَّعر المعتاد في الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذَّقن، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا، هذا هو الوجه.
فيقول الفقهاء:
الأفرَع: هو الذي ينبت شعره على جبهته لا اعتبار به.
والأجلح: الذي يكون عنده صلع في مقدمة رأسه أيضًا لا اعتبار به.
ومن الأذن إلى الأذن عرضًا: فيدخل في ذلك شعر اللحية وما استرسل منه، ويدخل في ذلك البياض الذي بين ما ينبت على الذقن وبين الأذن، وهذا البياض دائمًا يغفل عنه الناس، فهذا من الوجه.
وأيضًا يدخل في ذلك: العظم الذي في أعلى الجبهة أو في طرف الجبهة؛ لأنه كانت عادة العرب فيما مضى أنهم يحلقون هذا يسمونه "التحذيف" حتى تتسع وجوههم، ولا يدخل فيه العظم الذي فوق الذقن ويتحرك به كلام الإنسان.
والوجه بإجماع أهل العلم هو من فروض الوضوء، وجاء بذلك آية سورة المائدة، وتكاثرت بذلك النصوص في وصف وضوء النبي ﷺ في غسل الوجه فيه، والإجماع منعقد على ذلك.
قال: (مَعَ مَضْمَضَةٍ وَاسْتِنْشَاقٍ) من أتى بدخول المضمضة والاستنشاق في الوجه؟
هذا طبعًا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وأصله أنهم يقولون: ما تحصل به المواجهة ولو في بعض الحال، بمعنى أنني وأنا أتحدث الآن ينفتح فم الإنسان فيحصل بهذا الفم المنفتح مواجهةٌ، فهو داخل في اسم الوجه، وأيضا ربما -والناس يختلفون في أنوفهم- يبدو ولو شيء يسير من داخل أنف الإنسان، فهو ما تحصل به المواجهة من حيث الاسم، وأيضًا جاءت السنة أنَّ النبي ﷺ قال: «إِذَا توضَّأتَ فمَضمِضْ» [2]، وما في معنى هذا الحديث: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بمَنْخِرَيْهِ مِنَ المَاءِ» [3]، إلى غير ذلك من الأحاديث.
وقالوا: إنَّ السنة مُبينة للقرآن، فكانت مُبينة لِمَا جاء في آية سورة المائدة فأدخلوه فيه.
والمضمضة حقيقتها: هي إدخال الماء إلى الفم وتحريكه، ولابد من التَّحريك فيه ولو قليلًا؛ لأنَّ هذه حقيقة المضمضة، وهي ترديد الماء وتحريكه.
والاستنشاق: جذبه بالنَّفسِ إلى داخل الأنف، وأقله ما يحصل به الدخول، وأعظمه ما يكون به المبالغة في ذلك حتى يصل إلى داخل الأنف أو أعمقه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ)}.
غسل اليدين أيضًا كذلك جاء في آية سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6]، والإجماع منعقد على ذلك.
المقصود باليدين: هما من أطراف الأصابع إلى المرفقين، فالمرفقان داخلان في ذلك، و ﴿إلى﴾ هنا بمعنى "مع" كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2]، يعني: مع أموالكم.
فنتنبه! لِمَ قلنا: من أطراف الأصابع؟ لأنَّ بعض الناس إذا غسل يده في أول الوضوء ثم وصل إلى غسل اليدين بدأ من بعد الكفِّ أو من مُبتدأ الذراع، وهذا خلل كبير، فإنَّ الغسل هناك إنما هو في الأكثر يكون مُستحبًّا وهو مُقدمة للوضوء، أمَّا هذا فهو محل غسل اليدين فلابد أن يكون من أطراف الأصابع وإلا لم يصح الوضوء مهما حصل، سواء غسلت يديك في أول الوضوء أو لم تفعل، فإن ذلك لا يغني عن غسلهما هنا.
قوله: (وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ)، الغسل: هو إمرار الماء على العضو المغسول بمعنى، أنه يتحرك الماء ولو تحرُّكًا قليلًا على ذلك العضو.
قوله: (وَالرِّجْلَيْنِ)، غسل الرجلين أيضًا جاءت به آية سورة المائدة: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، وهنا جمعها إلى اليدين ولم يرتِّب قصدًا لجمع المغسولات في محل واحدٍ لأن الكتاب هذا مبناه على الاختصار، وإلا سيأتي التنبيه على الترتيب بعد ذلك بكلمات.
والرجلان: من أطراف أصابع القدمين إلى الكعبين، فالكعبان داخلان في غسل الرجلين، والإجماع منعقد على أن غسلهما واجب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ مَعَ الْأُذُنَيْنِ)}.
عَبَّرَ هنا بالمسحِ، والمسح حقيقته: إمرار الكفين المبلولتين على العضو الممسوح، يعني: هناك إمرارُ الماء، وهنا إمرار الكفين المبلولتين على الرأس؛ لأنَّ هذا مغسول يتحرك الماء عليه، أمَّا في الرأس فهذه اليدان المبلولتان تُمرُّ على الرأس، فلا يطلب أن يكون ثَمَّ ماء جارٍ يَمر على ذلك، هذا هو الفرق بين المغسول والممسوح.
هنا قال: (وَمَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ)، هذا إشارة إلى مشهور مذهب عند الحنابلة، وهو أنه لابد من المسح؛ لأنَّ أهل العلم اختلفوا في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ ، الباء هنا هل هي للتبعيض أو للإلصاق؟ فالحنابلة على أنَّ الباء للإلصاق، وأنَّ المسح مسح للرأس كله؛ لأنَّ السنة قد دلَّت على ذلك، فالنبي ﷺ مسحَ رأسه كما في حديث عبد الله بن زيد والواصفون لوضوئه: «بَدَأَ بمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حتَّى ذَهَبَ بهِما إلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُما إلى المَكَانِ الذي بَدَأَ منه» [4]، وأمَّا ما جاء في حديث «ومَسَحَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ»، فهذا في مسألة خاصة وهو إذا كانت عليه عمامة، فهذه لها خصوصها.
فإذًا هذا الحديث لا يمنع أن يكون تعلُّق المسح بجميع الرأس على ما ذكره المؤلف من وجه الدليل عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- في ذلك.
والمسائل هذه يعني يسع فيها الخلاف لمن ذهب مذهب الإمام الشَّافعي أو غيره من الأئمة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- لكن نحن نبين لِمَ قال ذلك.
قوله هنا: (وَمَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ مَعَ الْأُذُنَيْنِ)، يعني: من حيث الأصل فكيفما مسحَ حصلَ بذلك المقصود، لكن السنة في هذا مثل ما ذكرنا قبل قليل وهو أن يبدأ بمقدمة رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
وقال: (مَعَ الْأُذُنَيْنِ)، الأذنان عند الحنابلة من الرأس فيجب مسحهما، لِمَا جاء في الأثر وروي مرفوعًا إلى النبي ﷺ: «الأذُنانِ منَ الرَّأسِ» [5].
وطريقة مسحهما: يعني كيفما مسحهما مثل ما قلنا من حيث حصول الواجب، لكن المستحب أن يدخل أصبعيه السبابتين في داخل أذنيه وأن يمسح بإبهاميه ظاهرهما، ولا يلزم مسح الغضاريف التي في الأذن فإن هذا فيه مشقة ولا يكون لازمًا، والرأس مع الأذنين عضو واحد، فبناء على ذلك يكتفى فيهما بلّ اليد مرة واحدة، ولا يحتاج في هذا إلى بلِّها مرة ثانية، وإن ذكرَ ذلك بعض الحنابلة، واعتمدوا على حديثٍ عند الإمام البيهقي: «فأخذَ لأُذنيْهِ ماءٌ خلاف الماءِ الذي أخذَ لرأسهِ» [6].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَرْتِيبٌ وَمُوَالَاةٌ)}.
الترتيب بين أعضاء الوضوء من فروضه، فلو أنَّ شخصًا غسلَ يديه قبل وجهه، أو ابتدأ بغسل رجليه قبل غسل يديه سواء كان في ذلك ناسيًا أو قاصدًا؛ فإن وضوءه لا يصح.
وإذا قلنا: "ناسيا" مما يؤكد لك ما ذكرناه في أول الحديث وهو أنَّ الفرض هنا بمعنى الركن، والركن عند الفقهاء هو الذي لا يسقط لا قصدًا ولا نسيانًا، بخلاف الواجب الذي يُعفى عنه عند السهو والنسيان.
فبناء على ذلك: هذا هو معنى الترتيب، فإن الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، فذكرها على هذا النحو، فإن قال قائل: الآية واردة بالواو، والواو دالة على مطلق التشريك وليس فيها ترتيب، فإذا قيل: "جاء زيد وعمرو" فليس بالضرورة معنى ذلك أنَّ زيدًا جاء قبل عمرو ولا أنَّ عمرًا جاء قبل زيد، فيمكن أنَّ هذا جاء قبل هذا ويمكن أنهما جاءا معًا وتقدُّم أحدهما على لا يشترط أن يكون هو الذي قُدم في الذكر.
نقول: هذا صحيح من حيث الأصل، لكن قال الفقهاء من أن الآية أُدخل فيها ممسوح بين مغسولات، ولا يُفرق بين الأشياء المتماثلة إلا لمعنى، فالمعنى الذي أخذ منه أهل العلم هو اعتبار الترتيب ولزومه، ويدل لذلك أنَّ النبي ﷺ والذاكرون لصفة وضوئه وهم كثر -رضي الله عنهم وأرضاهم- سواء في حديث حمران مولى عثمان أو كان ذلك في حديث عبد الله بن زيد أو غيرها من الأحاديث الكثيرة؛ فإنهم ذكروا وضوءه مرتبًا على هذا النحو، فدلَّ ذلك على أنَّ الترتيب معتبرٌ وفرضٌ لازمٌ.
قوله: (وَمُوَالَاةٌ)، وهي التتابع.
وأصل ذلك:
أولًا: أنها عبادة واحدة، والأصل في العبادة الواحدة ألا يُفرَّق فيها، فأيُّ عبادة لها ابتداء ولها انتهاء، فلا بدَّ من أن تكون كذلك.
ثانيًا: أخذ هذا من أنَّ النبي ﷺ لَمَّا رأى رجلًا على رجله بقعة مثل: الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي ﷺ أن يعيد الوضوء، مع أنها في رجله -يعني في آخر الأعضاء- فلو كانت الموالاة ليست بلازمة لأمره أن يكمِّل غسل قدمه، فلمَّا أمره بإعادة الوضوء دلَّ على أن الوضوء إذا تباعدَ ما بينه فإنه لا لا يكون صحيحًا، وهذا أيضًا مثل ما قلنا إن الأصل في العبادة أن تكون شيئًا واحدًا.
متى نقول من أن هذا توالى أو لم يتوالى؟
التوالي هو التتابع على نحو واحد، فإن انشغل بشيء داخل في العبادة، كسنة من سننها ونحوه، فهذا حتى ولو طال لا يعتبر خرج عن العبادة، فالأمر في ذلك يسير، لكن لو انشغل بأمر خارج كرجل مثلا غسل وجهه ولما أراد أن يغسل يديه جاءه هاتف فرد عليه، فتوقَّف عن وضوءه، فمتى نقول من أن هذا التوقف قاطع لموالاته ومتى لا يكون؟
فيقول الفقهاء: أنه ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله في الأمور المعتدلة، فإذا نشفَ العضو الذي قبله قبل أن يبتدأ في الثاني فمعنى ذلك أن هذا فاصل طويل يقطع ويمنع تتابع العبادة، فهذا هو الذي ذكره الفقهاء، ويقولون هذا بشرط أن يكون في الحال المعتدلة، يعني ليس في المكان الذي فيه حرٌّ شديد تسرع الأعضاء إلى النشاف، ولا في الوقت في البرد الشديد، الذي تبقى فيه مبتلة لوقت طويل، فينظر في الأوقات المعتدلة كم يأخذ هذا من الوقت، فإذا كان مثلا سبع دقائق أو نحوها فيُنظر في هذا، فمعنى ذلك أن من جلسَ وقتًا أطول من ذلك لزمه إذا أراد إتمام الوضوء أن يبتدئ من أوله وإذا كان أقل من ذلك فيُكمل الوضوء ولم تنقطع موالاته التي هي فرض من فروض الوضوء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ لِكُلِّ طَهَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ غَيْرَ إِزَالَةِ خَبَثٍ، وَغُسْلِ كِتَابِيَّةٍ لِحِلِّ وَطْءٍ وَمُسْلِمَةٍ مُمْتَنِعَةٍ)}.
قوله: (وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ)، النية شرط لهذه العبادة، والنبي ﷺ قال: «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ» [7]، فمن وقف أمام الماء أو المغسلة أو المكان الذي يعتاد فيه الوضوء، فغسل يديه ووجهه، ثم قال: أكمل الوضوء، فالوقت قريب من صلاة الفجر. نقول: لا ينفعك ذلك، لأنك لم تستصحب النية عند بداية العبادة، فغسلُ الوجه حصلَ بدون نية، فمعنى ذلك أن وضوءه حصل بغسل يديه وما بعدهما وذلك ليس بكافٍ، فإذًا لا بد أن تكون النية حاضرة في هذا.
والنية التي يتكلم عليها الفقهاء: هي قصد العبادة التي تميِّز بين العادة والعبادة، وأمَّا نية التَّعبد لله -جَلَّ وَعَلَا- فهذه مِن مباحث أهل العقيدة لأنها بابها باب التوحيد وإخلاص القلب للعبادة لله -جَلَّ وَعَلَا- ونحوه.
إذًا، النية عند الفقهاء: هي تمييز العادة من العبادة وتمييز العبادات فيما بينها.
ما معنى تمييز العبادات فيما بينها؟
يعني أن هذا الآن صلى ركعتين، كلنا جميعًا لو رأينا شخصًا يصلي ركعتين لا ندري هاتان الركعتان هما صلاة سنة أو قضاءُ لصلاة الفجر أو هو مسافر فيصلي الظهر ركعتين أو العصر ركعتين، لا ندري! ما يفصل في ذلك هو نيته، فالنية إذًا تمييزٌ بين العبادة والعبادة الأخرى، وهي تمييز بين العبادة والعادة كما قلنا في مسألة مَن غسل يديه نظافةً ووضاءة، ومَن غسلها تعبدًا لله -جَلَّ وَعَلَا- وقصدًا لرفع الحدث والاستعداد للصلاة.
قال: (وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ لِكُلِّ طَهَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ غَيْرَ إِزَالَةِ خَبَثٍ)، طهارة شرعية، أما طهارة التَّنظف فلا يحتاج إليها، متى ما حصل للإنسان نظافةٌ حصلَ بذلك المقصود.
قال: (غَيْرَ إِزَالَةِ خَبَثٍ)، قلنا في أول كتاب الطهارة: إن المقصود أنها من باب التروك وليست من باب الأفعال، فلما كانت من باب التروك فيكون مقصود الشارع من عدم حصول نجاسة، فكيفما تنزَّه الإنسان من النجاسة حصل بذلك المقصود، فلو أنَّ شخصًا أحسَّ بحرارة في يده فقام وصب عليها ماءً كثيرًا، وكان قد نسي أنه أصابها بول أو دم -وهي أشياء نجسة- ثم قام يصلي وهو متوضئ، لكن لما أحس بالحرارة صبَّ ذلك الماء، ثم قام يصلي، فلما قام يصلي قال: أنا ما غسلت النجاسة، نقول: لا يلزم في غسل النجاسة من نيَّة، فذاك الماء الذي قمت بصبه على يدك ما دام أنَّه ذهبت معه النجاسة ذهبت النجاسة، وصحَّت لك الصلاة ولم يلزم منك تجديد نية أو إعادة لذلك العمل؛ لأن إزالة الخبث -التي هي النجاسة- بابها باب التروك، فكيفما حصلت حصلَ لذلك المقصود.
قال: (وَغُسْلِ كِتَابِيَّةٍ)، الكتابية عند الحنابلة يلزمها أن تغتسل إذا كانت زوجةً لمسلم إذا طهرت من حيضها؛ لأن الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 222]، فلم يجز لمسلم أن يأتي زوجه إلا إذا تطهرت واغتسلت، فقالوا: إن الكتابية ملزمة بذلك لحق زوجها، فالعبادة لا تصح منها، وهذا الغسل عبادة، فيقولون: إنها تُستثنَى من النية في هذا، فيلزم عليها الغسل وإن لم تصح منها العبادة لأجل حق زوجها.
قوله: (وَغُسْلِ كِتَابِيَّةٍ لِحِلِّ وَطْءٍ)، يعني: وطء الزوج لزوجته.
قال: (وَمُسْلِمَةٍ مُمْتَنِعَةٍ)، لو أنَّ مسلمة ممتنعة من الاغتسال، فهي ممتنعة عن حق زوجها، فنحن لا نستطيع أن نكرهها على الاغتسال لتصلي، وحتى لو أكرهناها فصببنا عليها ماءً ونوينا لها الاغتسال لم يرتفع حدثها، ولم يجُز لها أن تصلي بذلك الاغتسال، فلو أنها ما انتهت من حيضها أكرهناها وغسَّلناها تابت وأرادت أن تصلي؛ نقول: لا يكفيكِ ذلك بل لابد من غسل جديد، لكن هذا الغسل الذي أكرهناها عليه هو كافٍ لزوجها كي يجامعها بذلك الاغتسال، لئلا يفوت حق الزوج.
وأمَّا العبادة فلابد لها من نية، والنية لا تصح في مثل هذه الحال الثانية لوجود الإكراه، ولم تصح في الحالة الأولى لوجود الكفر، والكفر لا تصح معه نية العبادة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالتَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ فِي وُضُوءٍ وَغُسْلٍ وَتَيَمُّمٍ وَغَسْلِ يَدَيْ قَائِمٍ مِنْ نَوْمِ لَيْلٍ نَاقِضٍ لِوُضُوءٍ)}.
قال: (وَالتَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ فِي وُضُوءٍ وَغُسْلٍ وَتَيَمُّمٍ)، الحنابلة ذكروا أن واجبات الوضوء واجب واحد ويسقط مع السَّهو -كما سيأتي- والأصل في ذلك أن النبي ﷺ قال: «لَا وُضوءَ لمَن لم يَذكُرِ اسمَ اللهِ عَلَيهِ» [8].
هنا لطيفة وفائدة نافعة للطالب: هذا الحديث يعتمد عليه الفقهاء في هذه المسألة، وجمهور الفقهاء يستحبون التَّسمية عند الوضوء ولا يلزمونها إلا الحنابلة، والحنابلة إمامهم الإمام أحمد، والإمام أحمد يقول عن هذا الحديث: "لا يصح في التسمية في الوضوء حديث"، كيف إذًا؟
كثير من الطلاب لا يحسن الجمع بين ذلك، كلام الإمام أحمد عن هذا الحديث "لا يصح في التسمية حديث" هو من جهة الصناعة الحديثية، والأسانيد التي رويت بها هذا الحديث، فهذا لا يصح من جهة ما يُتطلَّب للأسانيد ويعتبر فيها من الاتصال وعدم العنعنة، وإذا كان معه مدلسًا إلى غير ذلك من الأشياء المعتبرة عندهم، لكن النَّظر إلى الحكم الفقهي قد لا يتوقف على هذا الحديث، ولذلك الإمام أحمد مع قوله هذا هو أكثر الفقهاء الذين شدَّدوا في التسمية في الوضوء، ولذلك الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- لَمَّا قال: "باب التسمية في الوضوء" استدل بحديث أبي هريرة: «لو أنَّ أحَدَكم إذا أراد أن يأتيَ أهلَهُ قال: بسمِ اللهِ» [9]، فإذًا التسمية في الوضوء مأخوذة من عمومات النُّصوص الدالة على أهميتها ولزومها، منهم من خَلَصَ في هذه العمومات على وجوبها مع ما جاء في أحاديث الوضوء من ضعف فيها كأسانيد، وإن كانت من مجموعها تدل على الاعتبار مع العمومات هذه، فهل تقوى إلى الوجوب أو لا؛ فكأنَّ الإمام أحمد وهو مذهب أصحابه ذهبوا إلى أنها تقوى إلى ذلك، فلأجل ذلك قالوا بوجوب التسمية.
قوله: (فِي وُضُوءٍ وَغُسْلٍ)؛ لأنه إذا وجبَ في الوضوء وهو الطهارة من الحدث الأصغر كان من باب أولى أن يكون لازمًا في الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، والتيممُ هو بدلٌ عنهما، فما وجبَ في الأصل وجبَ في البدل على حدٍّ سواء.
قال: (وَغَسْلِ يَدَيْ قَائِمٍ مِنْ نَوْمِ لَيْلٍ نَاقِضٍ لِوُضُوءٍ)، إذا قام أحدكم من نوم ليلٍ فإنه يجب أن يغسل يديه، مع أنَّ غسل اليدين في ابتداء الوضوء من حيث الأصل هو سنَّة كما جاء في عمومات الأحاديث، ويستحب للإنسان أن يغسل يديه؛ لأنهما آلة الطهارة، وبهما يغسل أعضاءه، لكن إذا قام من النوم فإنه يتحتَّم عليه ذلك، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة خلافًا للجمهور، لحديث أبي هريرة: «وإذَا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِن نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهَا في وَضُوئِهِ؛ فإنَّ أحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» [10]، فقالوا: إن هذا دالٌّ على ذلك، وخُصَّ الليل؛ لأنه في الحديث عبر بالبيات، والبيات لا يكون إلا في الليل، فلأجل ذلك قصروه عليه.
وهذا هو مشهور المذهب، والأمر فيه خلاف، ولذلك قال الجمهور: إن الشارع لا يوجب الغسل على أمر مشكوك فيه، لكن هذا مما يؤمر به لعظَمِ ما يترتب عليه، وهذا قدر لا بأس به وله وجه وجيه.
ولَمَّا كان هذا الوقت وقتٌ يكثر فيه -بعبارات العصر- التنمر على السُّنة أو عدم الاستسلام والانقياد لها ومعارضتها والتَّعالي عليها، يقال: إن رجلًا قال: أنا أدري أين باتت يدي، فجعل في يديه خرقة ثم ربطهما، يعني يريد أن مخالفة النبي ﷺ يعني كأنه يقول للنبي ﷺ: كيف تقول إنه لا يدري؟ أنا أدري! فلمَّا قام من نومه وجدوا يديه في استه -نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا حال كل مَن عارض سنة نبيه ﷺ فإنه يوشك أن تنكشف سوأته، وأن يظهر بلاؤه -نسأل الله السلامة والعافية.
إذًا؛ غسل اليدين واجب عند الحنابلة إذا قام الإنسان من نوم ليلٍ ناقضٍ للوضوء، يعني نوم فيه استغراق -كما سيأتي في نواقض الوضوء- لكن هذا ليس من الوضوء، وإنما هو سابق له.
قال: (وَتَسْقُطُ سَهْوًا وَجَهْلً)، هذا الكلام راجع إلى التسمية وغسل اليدين، فلو أن شخصًا نسي التَّسمية سهوًا فلا يلزمه إعادة وضوئه فيما سها فيه، وكذلك لو جهل أنها واجبة فتوضأ ثم صلى؛ لم نلزمه بإعادة ما كان من وضوئه بدون تسمية ما دام أنه جاهل لذلك غير عالم بها، أما العالم الذَّاكر فلابدَّ أن يسمي وإلا لم تصح.
وبناء على ذلك: لو أن شخصًا ذكر بعد انتهاء وضوئه لم يلزمه شيء، لكنه إذا ذكر في أثناء وضوئه فإنه يسمِّي ويكمل على الأصح عند الحنابلة خلافًا لبعضهم الذي يقول من أنه يعود فيبتدأ من أوله، وكذلك في غسل اليدين من قائم من نوم ليل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ سُنَنِهِ اسْتِقْبَالُ قِبْلَةٍ، وَسِوَاكٌ، وَبُدَاءَةٌ بِغَسْلِ يَدَيْ غَيْرِ قَائِمٍ مِنْ نَوْمِ لَيْلٍ، وَيَجِبُ لَهُ ثَلَاثًا تَعَبُّدً).
قوله: (وَمِنْ سُنَنِهِ اسْتِقْبَالُ قِبْلَةٍ)، حال الطهارة هي حال كمال، واستقبال القبلة هي دأب المسلم في كل شأن من الأمور الكريمة الشَّريفة، فإذا كان في حال ذكر استُحب له أن يستقبلها، وإذا كان يقرأ القرآن استحب له أن يستقبلها، وإذا كان في عبادة كحَلقِ رأسه في عمرة أو حج استُحب له أن يستقبلها، ... وهكذا، واستحبوا له كذلك إذا كان في حال الوضوء، يعني بعد أن ينتهي من الاستنجاء والاستجمار أن يستقبل القبلة في حال الوضوء لطهارته إن تسنى له ذلك.
قال: (وَسِوَاكٌ)، والسواك مستحب؛ لأنَّ النبي ﷺ قال كما عند بعض أهل السنن وأحمد: «لَوْلَا أن أشقَّ على أمتّي لأمرتُهُم بالسواكِ مع كلّ وضوءٍ» [11]، فيستحب ذلك، وهذا أيضًا أتم في نظافة فمه وخلاصه مما عَلِق به.
قال: (وَبُدَاءَةٌ)، يُقال "وَبُدَاءَةٌ" بضم الباء وبفتحها "وبَداءة".
قوله: (وَبُدَاءَةٌ بِغَسْلِ يَدَيْ غَيْرِ قَائِمٍ مِنْ نَوْمِ لَيْلٍ)، إذا كان الإنسان يبتدئ الوضوء وهو غير قائمٍ من نوم فيستحب له غسل يديه ثلاثًا، كما جاء ذلك في حديث حمران أنه دعا بتور ثم غسل يديه ثلاثًا ثم توضأ، وذكر الوضوء عن النبي ﷺ.
قوله: (وَيَجِبُ لَهُ ثَلَاثًا تَعَبُّدً)، أي: يجب للقائم من نوم، وفيها شيء من الإعادة لما تقدَّم، والأمر في ذلك يسير، وكأنه أراد أن يبيِّن أن هذا على سبيل التعبُّد، فحتى ولو وثق من عدمِ كونهما نجستين أو طرأ عليهما شيء فإن الأمر في ذلك قاطعٌ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبِمَضْمَضَةٍ فَاسْتِنْشَاقٍ وَمُبَالَغَةٍ فِيهِمَا لِغَيْرِ صَائِمٍ، وَتَخْلِيلُ شَعْرٍ كَثِيفٍ وَالْأَصَابِعِ ثَانِيَةٌ وَثَالِثَةٌ، وَكُرِهَ أَكْثَرُ)}.
قوله: (وَبِمَضْمَضَةٍ فَاسْتِنْشَاقٍ)، الكلام هنا على البداءة، والمضمضة والاستنشاق من حيث هي من فروض الوضوء، ولكن الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه والبداءة بهما سنة؛ لأنَّ هذا هو الذي جاءت به السنة، فالله -جَلَّ وَعَلَا- أمر بغسل الوجه، ولما جاء النبي ﷺ ليتوضأ بدأ فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه، فكانت البداءة هنا مستحبة لفعل النبي ﷺ.
قوله: (وَمُبَالَغَةٍ فِيهِمَ)، يعني زيادة وكمال حصول المضمضة التي هي إدارة الماءِ في الفمِ، فهذا مستحب، لأنه يحصل به الكمال.
إذًا، المضمضة عندنا لها أدنى ولها كمال، فأدناها: مجرد التَّحريك، وكمالها تحريكٌ بتكثيف ذلك حتى يثق بتحرُّك ما لصق بأسنانه من لحم أو بقايا طعام وغيرها.
وكذلك المبالغة في الاستنشاق، وألا يكتفي فقط بجذبٍ يسير يدخل إلى أطراف أنفه، وإنما جذب كثيرٌ، والدليل على ذلك قوله: «وبالغْ في الاستنشاقِ، إلا أن تكونَ صائمً» [12]، أما الصائم فلا يستحب له ذلك صيانة لصيامه من دخول ماء إلى جوفه كما هو معلوم، وكما سيأتي بإذن الله في كتاب الصيام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَخْلِيلُ شَعْرٍ كَثِيفٍ وَالْأَصَابِعِ، وثَانِيَةٌ وَثَالِثَةٌ، وَكُرِهَ أَكْثَرُ)}.
تخليل الشعر الكثيف يتعلق باللحية، فلا يخلو المتوضئ من أن يكون له شعر خفيف، أو أن يكون له شعر كثيف، متى نقول أن هذا شعر خفيف أو كثيف؟
يقول العلماء: إذا سترت بشرة وجهه فهو كثيف، فإذا كان لا يُرى إلا السَّواد فمعنى ذلك أنه كثيف، فالتخليل سنة، والقدر الواجب أن يغسل ظاهر لحيته، فإذا خللها فذلك كمال، وهذا قد جاء في السنة أنه ﷺ أمر بتخليل اللحية.
وذكر الفقهاء أن طريقة تخليلها: أن يوضع ماء في يده ثم يدخل أصابعه بين شعره فيكون بذلك خلَّلها، أما إذا كان الشَّعر خفيفًا فإن هذا شخص يجب له أن يدلُك بالماء حتى يصل إلى ما بين الشَّعر؛ لأنَّ مما تحصل به المواجهة، فلا بد أن يصل إليه الغَسل، لأنه من أجزاء الوجه التي يجب غسلها.
قال: (وَتَخْلِيلُ شَعْرٍ كَثِيفٍ وَالْأَصَابِعِ)، تخليل أصابع اليدين بأن يداخل ما بينها هكذا وهكذا، وهذا جاء فيه: «إذا توضأْتَ فخلِّل» [13]، وقالوا أيضًا أصابع الرجلين، وتخليلها بأن يأتي بخنصره ثم يجعلها على إبهام قدميه، ثم يدخلها ما بين أصابعه حتى ينتهي إلى آخرهما، وأصابع القدمين دائمًا ما يكون فيهما اشتباك لا يُتيقن وصول الماء إليها، فكان التَّخليل في ذلك آكد ليطمئن، فإذا كان الإنسان يغسل رجليه فيثق أأنها حصل بذلك الواجب فيكون التَّخليل مستحبًا، أمَّا إذا كان لا يصل الماء إلى ما بينها فيكون التَّخليل واجبًا؛ لأنه لا يتأتى وصول الماء وتعميم القدم بالغسل إلا بذلك فيكون لازمًا.
فإذًا من حيث الأصل، التخليل مستحبٌ إلا أن لا يصلَ الماء إلى ما بين الأصابعِ إلا بذلك فيكون واجبًا.
قال: (وثَانِيَةٌ وَثَالِثَةٌ)، يعني الغسلة الثانية والثالثة، الوضوء مرة مرة هذا هو القدر الواجب، فإن غسلَ الإنسان مرتين مرتين فذلك مستحب، والتَّمام ثلاث ولا يزيد.
وإن غسل مخالفًا -يعني: بعض أعضاء وضوءه غسلها مرتين وبعضها غسلها ثلاث- وهذا يفعله أكثر الناس، أول ما يبدؤون يغسلون وجوههم ثلاث مرات ثم إذا جاء إلى يديه فإنه في الغالب يغسلها مرة، حتى لو غسلها مرة ثانية فالغسلة لم تكن مستوعبة، فبناء على ذلك لا تعتبر شيئًا، فلابد أن تكون غسلة كاملة في كل مرة استوعب جميع العضو حتى يصدُق عليه ذلك.
قال: (كُرِهَ أَكْثَرُ)؛ لأنَّ النبي ﷺ نهى عن ذلك، ولِما فيه من الوسوسة، ولما فيه أيضًا من المبالغة والإسراف في الماء، فمَن زادَ فقد أساء وتعدَّى وظلم، ونحن أمة الاتباع نتبع نبينا ﷺ في الفعل وفي الكفِّ، فما دام أنه نُهي عن الزيادة عن ذلك كففنا وانتهينا ولا يزيد في ذلك إلا مُوسوِس، إلا أن يحتاج كان يكون به شيء لم يزُل ولم يمكن وصول الماء إليه إلا بفركٍ ونحوه، فإذا احتاج إلى ذلك جازَ كما يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
ومن المستحبات أيضًا: الترتيب بين اليمنى واليسرى، فالأصل أن غسل اليدين واجب، فإذا بدأ باليسرى ثم غسل اليمنى حصل بذلك المقصود، لكن بداءته بغسل اليد اليمنى ثم اليسرى هذا مستحب، وهذا عند جماهير أهل العلم؛ لأنَّ النبي ﷺ في حديث أبي هريرة قال: «إذا توضَّأتُم فابدؤوا بميامِنكم» [14].
ولِمَ لا نقول بالترتيب هنا؟
نقول: لأن هذا عضو واحد، فكما أنك إذا غسلت من هنا إلى هنا أو من هنا إلى هنا حصل المقصود؛ فكذلك إذا بدأت بهذه قبل هذه؛ لأن هذا كله عضو واحد، لكن البداءة باليمنى لفعل النبي ﷺ ولأنَّ مقامها مقام تشريف، وقد جاء في ذلك في حديث عائشة وفي غيره أنَّ النبي ﷺ يبدأ في اليمنى بما كان هذا شأنه.
أسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمه، وأن يجزينا خير الجزاء ونلقاكم بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في لقاء قادم بإذنه.
{بارك الله فيك ونفع بكم وبعلمكم الإسلام والمسلمين أعزائي المشاهدين، نكمل ما بقي في مجلس قادم بإذن الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[1] صحيح مسلم (82).
[2] سنن أبي داود (144).
[3] صحيح مسلم (237).
[4] صحيح البخاري (185).
[5] أخرجه أبو داود (134)، والترمذي (37)، وابن ماجه (444)، وأحمد (22277).
[6] السنن الكبرى للبيهقي (1/65).
[7] البخاري (1).
[8] أخرجه الترمذي (25) واللفظ له، وابن ماجه (398)، وأحمد (16651)، صححه الألباني.
[9] أخرجه البخاري (6388)، ومسلم (1434).
[10] صحيح البخاري (162).
[11] صحيح الجامع (5317).
[12] صحيح الترمذي (788).
[13] صحيح الترمذي (38).
[14] صحيح الجامع (787).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك