{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي
الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، وأرحبُ بك، وأُرحبُ بمَن يُشاهدنا، بارك الله فيهم.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- كتاب الدِّيات من كتاب المُحرَّر لابن عبد
الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «هَذِهِ
وَهَذِهِ سَوَاءٌ» -يَعْنِي الْخِنْصَرَ والإِبْهَامَ- رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ، وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ: الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ،
هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ ، وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ: «فِي دِيَةِ
أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ لِكُلِّ
أُصْبَعٍ»)}.
قول المؤلف: (كِتَابُ الدِّيَاتِ).
المراد بالدِّيات: العوض الذي يُدفَع عند وجود الجنايات.
وذلك أنَّ القتل والجناية على ما دون النَّفس قد تكون عًمدًا، وقد تكونُ خطأ،
فالخطأ يجبُ فيه الدِّيَة، والأصل في العمدُ وجوب القِصاص بشروطٍ مُعيَّنة، فإذا
انتفى القِصاص لتخلُّفِ شرطٍ، أو لعفوِ الأولياء؛ فحينئذٍ تجبُ الدِّيَة.
وفي مرَّات قد لا يعفوا الأولياء مجَّانًا، وإنَّما يعفونَ إلى الدِّيَة، وفي
مرَّاتٍ يُطالبونَ بما هو أكثر من الدِّيَة، وهذا يُسمَّى الصُّلح عن القتل الخطأ،
وهذا الصُّلحُ لابدَّ فيه من تراضي الطَّرفين -أولياء المقتول والقاتل.
والدِّيَة قد تكون في النَّفس: وتكون حينئذٍ بمائةٍ من الإبل.
وقد تكونُ فيما دون النَّفس من الأعضاء: وبالتَّالي تكون فيها ديةٌ محدَّدةٌ، مثل:
الأصابع، واليد، والرِّجل.
وقد تكون الدِّيَةُ غير محدَّدَة: وهذا يسمُّونَه حكومة، فما لم يرد فيه نصٌّ
بتحديد الدِّيَة فيه؛ فحينئذٍ نجعل فيه حُكُومَة.
والمراد بالحُكُومَة: أن نُقدِّر قيمةَ الشَّخص كأنَّه مملوك، مرَّةً فيه الجناية
ومرَّة ليست فيه الجناية، فنأخذُ نسبَة ذلك من كمالِ قيمتهِ، فنُثبتُ ونُوجِبُ تلك
النِّسبَة من الدِّيَةِ.
أورد المؤلف حديث ابن عباس، وفيه أنَّ الأصابع مُتساوية في الدِّيَة، وبذلك قال
الجماهير، وكان عمر يرى أنَّها مُتفاوتة بحسبِ أهمِّيتها وما تُؤدِّيه من عملٍ،
فلمَّا نُقلَت إليه الأخبار الواردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والتي وردت بالتَّسوية بينَ الأصابع؛ تركَ رأيَه واجتهاده بتفاضل الأصابع في
الدِّيَةِ، وقال بمقتضى هذه الأحاديث.
إذن يجب في كل أُصبع عَشرٌ من الإبل، وذلك أنَّ أصابع اليدين فيها دِيةٌ كاملة،
والأصابع عَشرة، ففي كل أصبع عُشر الدِّيَة -عَشرٌ مِن الإبل- ومثله في أصابع
الرجلين.
وأمَّا بالنِّسبَةِ للأسنان: فجميعُ الأسنان يجب فيها دية واحدة، فإذا كسر سنًّا
واحدًا؛ فحينئذٍ نوجب فيه من الدية بحسبِ عدد ما كسره من الأسنان، والأسنان
مُتساوية، وبالتالي نُقسِّم الدِّيَة كاملة على عدد الأسنان، ومن ثَمَّ نعرف مقدار
ما لكلِّ سنٍّ، ولا نُفرِّق بين سنٍّ وسنٍّ بحسب أهمِّيته أو بحسبِ ما يؤدِّيه من
الأعمال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ قالَ: حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الفَرَائِضُ وَالسُنَنُ
وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ
اليَمَنِ، وَهَذِهِ نُسْخَتُها: «مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِي إِلَى شُرَحْبِيلَ بنِ
عَبْدِ كُلَالٍ، والْحَارِثِ بنِ عَبدِ كُلَالٍ وَنُعيْمِ بْنِ كُلالٍ قِيلَ -بْنِ
رُعَين- ومُعَافِرَ وهَمْدَانَ أَمَّا بَعْدُ...» وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: «أَنَّ
مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ
يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ: مِائَةً مِنَ
الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إِذا أُوْعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ
الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي
الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَةُ،
وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ
الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ
عَشْرَةَ منَ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ
عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ
خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ, وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ
الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ-
وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتيُّ، وَقَدْ أُعِلَّ, قَالَ النَّسَائِيُّ: وَقَدْ رَوَى
هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ يُونُسُ بنُ يَزِيدَ مُرْسَلً)}.
سليمان بن داود مُختَلفٌ فيه، تردَّدَ العلماء فيه بينَ رجلٍ متروك يُقال له:
سليمان بن داود بن أرقم، وبين رجلٍ ثقةٍ يُقال له: سليمان بن داود الخولاني،
والقاعدة: إذا تردَّدَ اسمُ راوٍ بين راويين أحدهما ضعيف؛ فإنَّه تُضعَّفُ تلك
الرواية حتى يثبت خلاف ذلك.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ
الْيَمَنِ بِكِتَابٍ)، فيه مَشروعيَّة كَتْب الأنظِمَة، وفيه أيضًا كتْبُ العلم،
وإرسال مسائل العلم إلى النَّاس.
قال: (بِكِتَابٍ فِيهِ الفَرَائِضُ)، يعني: الأمور الواجبة.
قال: (وَالسُنَنُ)، يعني: الأمور المقرَّرَة، سواء كانت واجبةً أو مُستحبَّةً مِن
أُمورِ الشَّريعة.
قال: (وَالدِّيَاتُ)، أي: ما يُدفَعُ عوضًا في جنايات الخطأ.
قال: (وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ اليَمَنِ,
وَهَذِهِ نُسْخَتُها: «مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِي إِلَى شُرَحْبِيلَ بنِ عَبْدِ
كُلَالٍ، والْحَارِثِ بنِ عَبدِ كُلَالٍ وَنُعيْمِ بْنِ كُلالٍ»)، هما إخوة.
قوله: «قِيلَ -بْنِ رُعَين- ومُعَافِرَ وهَمْدَانَ»، هذه قبائل من قبائل اليَمن.
قال: («أَمَّا بَعْدُ...» وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: «أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا
قَتْلً»)، أي: قتَلَ المؤمن بدونِ أن يكون منه سببٌ لقتله، فلا توجد منه جناية ولا
جريمة.
قوله: «عَنْ بَيِّنَةٍ»، يعني: مع وضوح الأمرِ.
قال: «فَإِنَّهُ قَوَدٌ»، أي: يجب فيه القصاص.
قوله: «إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ»، أي: يعفون عنه، وهذا
استدلَّ به مالك وأبو حنيفة أنَّ مُوجَب القتل العمد العدوان هو القصاص عينًا.
وعند أحمد والشَّافعي: أنَّ مُوجَب القتل العمد العدوان هو أحد أمرين:
إمَّا القِصَاص أو الدِّيَة، واستدلوا على ذلك بما ورد من حديث أبي هريرة وأبي
شُريح أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قُتِلَ لَهُ
قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ».
قال: «وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ: مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ»، فيه بيان مِقدار
الدِّيَة في القتل، وهو مائة من الإبل.
هل ذِكْر الإبل هنا لتعيُّنِهَا كما قال طائفة؟ أو لأنَّها وَجه من أوجه الدِّيات؟
هناك مَن يقول: إنَّ الدِّيَة لها أصلٌ واحدٌ وهو الإبل.
وهناك من يقول: هناك أصولٌ مُتعدِّدَة، فالإبل أصلٌ، والذَّهب أصلٌ، والفضَّةُ
أصلٌ، والبقر أصلٌ، إلى آخر الأموال.
قال: «وَفِي الْأَنْفِ إِذا أُوْعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ»، يعني: إذا قُطع كاملًا
فلم يبقَ منهُ شيءٌ.
القاعدة في هذا:
• أنَّ ما كان في البدنِ منه شيء واحدٌ ففيه ديةٌ كاملةٌ.
• وما في البدن منه شيئان: وجب نصف الدِّيَة في كلِّ واحدٍ منهما.
• وما كان في البدن منه ثلاثة: تجب الدِّيَة في الثلاثة، وفي الواحد ثُلث الدِّيَة.
• وما كان في البدنِ منه أربعة: ففي الواحد ربُع الدِّيَة.
قال: «وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ»، لكن لو قطعَ
إحدى الشَّفتين دون الأخرى وَجَبَ نصفُ الدِّيَة.
قال: «وَفِي البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ»، البيضتان اللتان عند الخصيتين، فيهما ديةٌ
كاملة.
قال: «وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ»؛ لأنَّه لا يوجد في البدن منه إلا شيءٌ واحد.
قال: «وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ»، يعني: الظَّهر.
قال: «وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَةُ»، فيكون في العين الواحدة نصف الدية.
قال: «وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ»؛ لأنَّ في البدنِ منها
ثنتان.
قال: «وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، المأمومة جُرحٌ في الرأسِ يصل إلى
أمِّ الدِّماغ، وفيه ثلث الدِّيَة.
قال: «وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، الجائفة: جُرحٌ في البدن يصل إلى
الجوفِ، فأوجبَ فيه ثُلُثُ الدِّيَة.
قال: «وَفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ منَ الْإِبِلِ»، المُنقِّلَة: شجَّةٌ
بالرأسِ تُصيبُ العظم، فتنقله عن مكانه إلى داخل بدنه، فهذه فيها خمس عشرة من
الإبل.
قال: «وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ
الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ
الْإِبِلِ»، الموضحة: شجَّةٌ في الرأسِ تُوضِحُ العَظم.
قال: «وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ»، فيه إثبات مَشروعيَّة القصاص عند
قتل الرَّجل للمرأة.
قال: «وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ»، يعني: بدل المائة ناقة يكون
عليهم ألف دينار.
والمقصود بالذَّهب هنا: الدَّنانير.
وهنا إشارة إلى مسألة، وهي: هل الدِّيَة لها أصلٌ واحدٌ وهو الإبل؟ أو لها أصول
متعدِّدَة؟
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِي
المَواضِحِ خَمْسٌ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ
وَابْنُ ماجه وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَاللَّفْظُ
لِأَحْمَدَ وَابْنِ ماجَهْ، زَادَ أَحْمدُ: «وَالأَصَابِعُ سَوَاءٌ كُلُّهُنَّ
عَشْرٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ»)}.
المواضح: شِجاجٌ في الرأسِ توضِحُ العظم وتُبيِّنه.
وقوله: «خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ»، فيه مقدار الدِّيَة في الموضحة.
وزاد: «وَالأَصَابِعُ سَوَاءٌ كُلُّهُنَّ عَشْرٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ»، وتقدَّم
شرحه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا، دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ
الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاؤُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاؤُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِي:
ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَمَا
صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم» وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ العَقْلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ
وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ:
حَدِيثٌ حَسْنٌ غَرِيْبٌ)}.
قوله هنا: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدً»؛ لأنَّ القِصَاص لا يثبت إلا حالَ قتل العمد،
أمَّا قتل الخطأ فلا قصاص فيه.
قال: «دُفِعَ»، يعني: دُفِعَ ذلك القاتل.
قوله: «إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ»، يعني: قرابة المقتول.
قوله: «فَإِنْ شَاؤُو»، يعني: أولياء المقتول.
قوله: «قَتَلُو»، على جهةِ القصاص.
قوله: «وَإِنْ شَاؤُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ»، وفيه دلالة لمذهب الشَّافعيِّ وأحمد في
أنَّ مُوجب القتل العمد العدوان هو القصاص أو الدِّيَة، خلافًا لمالك وأبي حنيفة
الذين يقولون: إنَّ موجبه هو القصاص فقط.
ثم قال: «وَهِي: ثَلَاثُونَ حِقَّةً»، الحِقَّة: هي التي تمَّت أربع سنين ودخلت في
الخامسَة، فالدِّيَة تجب ثلاثون من هذا النوع.
قال: «وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً»، الجذعة هي التي أكبر من الحِقَّة، وهي التي دخلت في
الخامسة.
قال: «وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً»، يعني: حامل.
قال: «وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم»، يعني: يجوز لهم أن يصطلحوا على ما
شاؤوا، وذلك لتشديدِ القتل، أي: التأكيد عليه وبيان حرمته.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمِيْنَ،
وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ
-وَاللَّفْظُ لَهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ، وَلأَبي دَاوُدَ: «دِيَةُ
المُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ»)}.
في هذا إثبانُ الدِّيَة لقتلِ أهلِ الذِّمَّة، وظاهره أنَّها على النِّصف، وبذلك
قال أحمد ومالك.
وقال الإمام أبو حنيفة: لهم الدِّيَة تامَّة.
وقال طائفة: ليس لهم إلَّا ثُلث الدِّيَة فقط.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولِلنَّسَائِيِّ: «عَقْلُ المَرْأَةِ مِثْلُ
عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثُ مِنْ دِيَتِهَ» رَوَاهُ منْ رِوَايَةِ
إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَقَالَ:
إِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الْخَطَ)}.
إذا روى إسماعيل بن عيَّاش عن أهل الشَّام قُبِلَت روايته، وإذا روى عن غيرهم لم
تُقبَل، وابن جريج من أهل الحجاز، فروايته هنا عن غير أهل الشام، ولذلك ضَعَّف
كثيرٌ من أهل العلم هذا الخبر، ولكنَّه قد دلَّ على معناه عددٌ من الآثار.
قوله: «عَقْلُ المَرْأَةِ»، أي: ديةُ المرأة.
قوله: «مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ»، أي: تساويه في المقدار.
قوله: «حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثُ مِنْ دِيَتِهَ»، يعني: إذا بلغ الثلث فحينئذٍ
يجب في عقل المرأة نصف عقل الرَّجل.
إذن؛ المرأة تُماثل الرجل حتى تبلغ الدية الثُّلث، فإذا زادت فحينئذٍ تناصفه في
الدِّيَة، وقال الجمهور بهذا ومنهم: مالك والشافعي وأحمد، لورود هذا الخبر.
وعند طائفة أخرى: أنَّ المرأة تُماثل الرجل مُطلقًا.
وهذا الخبر مخالف للقياس، فإنَّه يوجب في الإصبع عشر، والأصبعين عشر، والثلاثة عشر،
والأربعة يُوجب فيها النصف وهي عشرون، فالثلاثة فيها ثلاثون، والأربعة فيها عشرون
من دية المرأة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «عَقْلُ شِبْهِ العَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ العَمْدِ،
وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ
فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ ضَغِيْنَةٍ وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ
وَأَبُو دَاوُدَ)}.
قوله في هذا الخبر: «عَقْلُ»، أي: دية.
قوله: «شِبْهِ العَمْدِ»، وهو القتل الذي يكون بآلة لا تقتل غالبًا.
قوله: «مُغَلَّظٌ»، أي: يكون أشد من دية قتل الخطأ.
وفي هذا إثبات القتل شبه العمد، وبه قال الجمهور خلافًا للمالكيَّة.
قوله: «مِثْلُ عَقْلِ العَمْدِ»، أي: تجب فيه ديةٌ وافيةٌ تامَّةٌ، ولا يُخفَّفُ
فيها.
قوله: «وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ»، إذن شبه العمد والعمد يتماثلون في الدِّيَة،
ولكنَّهم يختلفون في كون العمد يوجبُ القصاص بخلاف شبه العمد.
ثم قال في تفسير شبه العمد: «وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ
فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ ضَغِيْنَةٍ»، يعني: بغضاء. «وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ».
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ ديَة شبه العمد مُغلَّظَة، وفيه دلالةٌ على أنَّه يُوجَد
من أنواع القتل قتل شبه العمد.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَتِيلُ
الْخَطَأِ شِبْهِ العَمْدِ: قَتِيلُ السَّوْطِ وَالعَصَا، فِيهِ مِائَةٌ مِنَ
الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَ». رَوَاهُ أَحْمدُ
وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجه وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.
وَعَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ زَيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنْ خِشْفِ بنَ مَالكٍ، قال: سَمِعْتُ
ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورًا،
وَعِشْرينَ بِنْتَ لَبُوْنٍ، وَعِشْرِيْنَ جَذَعَةً، وَعِشْرِيْنَ حِقَّةً. رَوَاهُ
أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
-وَقَالَ: الْحَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ ضَعِيفٌ لَا يحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ بَالغَ
الدَّارَقُطْنِيُّ فِي تَضْعِيفِ هَذَا الحَدِيثِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا
نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ)}.
هذه الأحاديث فيها بيان الفرق في مِقدار الدِّية بين القتل الخطأ، والقتل شبه
العمد، والقتل العمد، وقد ذكر أنَّ قتيل الخطأ شبه العمد هو الذي يَستعمل آلةً لا
تقتلُ غالبًا، فهو يُريد الجنايةَ ولكنَّه لا يُريد القتل، ولذلك لم يستعمل آلة
فيها القتل؛ فإذا نتج عَن فِعله الموت فوجبَ على صاحبه حينئذٍ القصاص.
قال: «قَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ العَمْدِ: قَتِيلُ السَّوْطِ وَالعَصَ»، يعني:
يقتله ولا يُريد قتلَه، ولكنَّهُ يُريدُ الجِنَايةَ عليهِ.
قال: «فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا
أَوْلَادُهَ»، أي: أنَّها تحمل أجنَّتها في بطونها.
والحديث الآخر في إسناده الْحَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ، وقد تقدَّم معنا أنَّه
مُدلِّسٌ وقد عنعن هنا، وأيضًا خِشْفُ بن مالك مُتكلَّمٌ فيه عند كثيرٍ من العلماء.
قال: (سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دِيَةِ الْخَطَ) أي أن تقسم خمسة أقسام كالتالي:
(عِشْرينَ بِنْتَ مَخَاضٍ)، بنت المخاض: هي التي لها سنة.
قال: (وَعِشْرينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورً)، وهي الذكور ولها سنة واحدة.
قال: (وَعِشْرينَ بِنْتَ لَبُوْنٍ)، أي: لها سنتان.
قال: (وَعِشْرِيْنَ جَذَعَةً)، أي: لها ثلاث سنوات.
قال: (وَعِشْرِيْنَ حِقَّةً)، أي: لها أربعُ سنوات، فهذا بيان الواجب في دية الخطأ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
دِيَتَهُ اثْنَي عَشَرَ أَلْفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا
نَقَمُوْا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة:74]،
فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه
وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَقَالَ: الصَّوَابُ مُرْسَلٌ، وَقَالَ أَبُو
حَاتِمٍ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ مُرْسَلًا: الْمُرْسَلُ أَصَحُّ)}.
أوردَ المؤلف هنا حديث عكرمة عن ابن عباس، مرَّةً يرويه عكرمة عن ابن عباس، ومرَّةً
يقول عكرمة: (قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ...)، فيكون مُرسلًا؛
ولذلك تكلَّمَ فيه أهل العلم. ومحمد بن مسلم الذي فعل ذلك مختلَفٌ فيه.
قوله: (قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)، فيه أنَّه قد يوجد جرائم كبيرة في عهد النُّبوَّة، وكونُ الله عصمَ
نبيَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعني عصمَة أهل زمانه.
قال: (فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِيَتَهُ اثْنَي
عَشَرَ أَلْفً)، ظاهره أنَّه من الدَّراهم من الفضَّة. وفي هذا دلالة لمن يقول:
إنَّ المذكورات في الدِّية أصول مُتعدِّدَة وليست أصلًا واحدًا.
قال: (وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا نَقَمُوْا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ
اللهُ وَرَسُوْلُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة:74]، فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَة).
ثم أوردَ المؤلف مَن روى هذا الخبر، وهم: أبو داود والترمذي وابن ماجة والنَّسائي،
وتقدَّم معنا وجه الاعتراض على هذا الخبر.
وفي الحديث دلالة على جواز صرف الدِّيَة من الأموال الأخرى.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكلِّ خيرٍ، وجعلك الله موفَّقًا، وجعل الله مَن يقف
معكَ كذلك موفَّقًا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.