الدرس السابع

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3026 23
الدرس السابع

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر الشَّثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، أهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبَّتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقنا وإيَّاهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونيَّةً صادقةً.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في باب "لَحَاقِ النَّسَبِ" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَليَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِثَلَاثَةٍ، وَهُوَ بِاليَمَنِ، وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا, حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا, فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَي الدِّيَةِ، قَالَ: فَذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزمٍ، وَابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيرُهمَا، وَقَدْ أُعِلَّ, وَقَالَ أَحْمدُ: "هُوَ حَدِيثٌ مُنكَرٌ"، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الحَدِيثِ فاضْطَرَبُوا، وَرَوَاهُ الْحُمَيدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَفِيه: وَأَغْرَمَهُ ثُلُثَي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. وَاللهُ أَعْلَمُ)
}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإنَّ الشَّريعة المباركة تحرصُ على إيجاد الرَّوابط التي تكونُ بينَ النَّاس، لتكون سببًا من أسبابِ تعاونهم، وقيامِ بعضهم مع بعضهم الآخر، ولذا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُو﴾ [الحجرات: 13]، وقد جاء بإثباتِ الأنسابِ التي يترتَّب عليها كثيرٌ من الأحكامِ، سواءً فيما يتعلَّق بالمحرميَّة، أو ما يتعلَّق بالميراثِ، أو ما يتعلَّق بالكشف والولاية، ونحو ذلك مِن الأحكام، ومن هنا جاءت النُّصوص بالتَّحذيرِ من الانتسابِ إلى غير مَن يصح إليه الانتساب، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ملعونٌ من انتسب إلى غير آبائه» .
وإذا تقرَّرَ هذا فإنَّ الشَّريعة قد جعلت لإثبات الأنساب أبوابًا محدَّدةٌ، وهما: بابان يجمعهما شيءٌ واحد:
الباب الأوَّل: الفراش، فإذا كانت المرأة فراشًا للرجل يجوز له شرعًا وطؤها، فإنَّه يثبت نسب أولادها له، وهذا له وجهان:
* الأوَّل: الزَّواج، فإنَّ مَن تزوَّج بامرأةٍ ودخل بها، فإذا جاءت بولدٍ لستَّةِ أشهرٍ فما فوق فإنَّه يُنسب هذا الولد لصاحب الفراش، ويبقى هذا الفراش حتى بعد الوفاة وبعد الفرقة التي بين الزَّوجين، وقيل إنَّ هذا يثبت إلى أكثر مدَّة الحمل على اختلاف بين الفقهاء في تقدير مدَّة أكثر الحمل.
* الثَّاني: الإماء، فإذا كان عند الرَّجل أمة مملوكة يتسرَّاها؛ فإنَّة حينئذٍ يثبت النَّسب لولد تلك الأمة لسيدها، وهناك أحكام تفصيليَّة في مثل ذلك.
الباب الثَّاني: الوطء بشبهةٍ؛ فإذا كان هناك وطءٌ من الرَّجل لامرأة بشبهةٍ يظنُّ أنَّه يحلُّ له وطؤها؛ فإنَّه يثبت النَّسب حينئذٍ.
ومن أمثلة ذلك: ما لو دخل على امرأةٍ يظن أنها زوجته فوطئها فحملت منه؛ فحينئذٍ نقول: إنَّ هذا وطء بشبهةٍ، وبالتَّالس يثبت به النَّسب.
وإثبات الفراش يكون بالبيِّنة المعدَّة لها شرعًا؛ فمتى شهد اثنان بأنَّ هذه المرأة فراش لفلان ثبت به النَّسب.
وقد يسأل إنسان عن تطبيق الأشياء الجديدة فيما يتعلَّق بإثبات النَّسب، ومن ذلك تحليل الدم لمعرفة نوع الفصائل، ومعرفة الجينات، والكروموسومات، وتحليل ما يسمونه بـالحمض النَّووي (DNA) ومثل هذا لا يُستَعمَل إلا عند وجود اللَّبسِ، أمَّا إذا كانت المرأة فراشًا لرجلٍ؛ فالأصل إثبات النَّسب، ويدلُّك على ذلك أنَّ الرجل قد يطأ امرأة بزنا؛ فالشَّرع لا يثبت النَّسب في هذه الحال، لأنَّ الوطء لم يكن لامرأة هي فراش للرجل ولا شُبهة في ذلك الوطء، ومع أنَّ هذا الولد تكوَّنَ من ماء ذلك الرَّجل إلا أنَّه شرعًا لا يُنسَب إليه.
إذا تقرَّرَ هذا؛ فإنَّه عند وجودِ شكٍّ أو شُبهةٍ، أو إذا كان الرَّجل قد جاءه الشَّيطان وبدأ يستجيب له في اتِّهام المرأة؛ فحينئذٍ إذا طَلبَ الزَّوجان إجراء التَّحليل ليورثهما القناعة، وليوقف ما قد يكون من لعانٍ ونحوه؛ فهذا لا بأسَ به، وبه يطمئن كلٌّ من الزَّوجين وتستقر الحلة الزَّوجيَّة.
هناك طريقان ذكرا في هذه الأحاديث:
أولهما: طريق القَافة، وهؤلاء القافة يعرفون تشابه أعضاء البدن ما بين شخصٍ وآخر، وعندهم من الدِّقة في النَّظر ومعرفة الفروق ما يجعلهم يعرفون الأقدام المتقاربة، وقد يحكمون بأنَّ هذين الشَّخصين بينهما قرابة أبوَّة أو قرابة أخوَّة أو نحو ذلك، ولا زال هؤلاء إلى وقتٍ قريبٍ ونحن نعرفهم، ولهم أشياء غريبة عجيبة يعرفون بها خصائص بعضَ النَّاس.
ووجدنا في وقتنا الحاضر مَن يتمكن من الكشف على الآخرين بمعرفة أقدامهم وبفحصها، فإذا كان ذلك في الكشف الطبِّي؛ فلا يبعد أن يكون مثله في معرفة الأثر ومعرفة وجه القرابة.
والقول بإثبات النَّسب بناء على القَافة هو قول جماهير أهل العلم، ويستدلُّون عليه بحديث عائشة المتفق عليه.
قالت عائشة: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَليَّ مَسْرُورً)، وسروره وغطبته دليلٌ على إقرار الحكم الآتي، وهو إثبات النَّسب بناء على القافة.
قالت: (تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ)، وفي هذا سرور المؤمن بالخير، وبإزالة الإشاعات الكاذبة، فإنَّ الإشاعات الكاذبة يتبنَّاها النَّاس الذين تضعف ديانتهم، وبالتَّالي يبدؤون يطعنون في فلانٍ وفلانٍ، وكان زيد بن حارثة ذا سحنةٍ قريبةٍ من البياضِ، ولكنَّه تزوَّج بأم أيمن مرضعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانت سوداء، فجاءت له بأسامة بن زيد وكان أسامة أسودًا، ولذلك تكلَّم مَن تكلَّم في نسبِ أسامة بن زيد، وبدأ بعضُ المنافقين يطعن فيه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من جهةِ نسبه لاختلاف اللون بينه وبين أبيه، فجاء مجزز المدلجي، وهو ممَّن يُعرَف بقصِّ الأثرِ وله خبرة في القيافة؛ فقال: (إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ)، يعني أنها شبيه بعضها ببعضها الآخر؛ وكانوا قد وضعوا رداءً يغطي وجوههما، وكانت أقدامهم فقط هي البادية الظَّاهرة لمن يشاهدهم.
فقال مجزِّز: (إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ)، وهذا فيه إشارة إلى وجود الشَّبه الكبير بينَ هذه الأقدام.
وأخذ جمهور العلماء من هذا أنَّ مَن خفيَ نَسبُه ولم يُعرَف فراشه فلا بأسَ أن يُعتَمدَ على قولِ القافة فيه.
ثم أورد المؤلِّف حديث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وهو حديث قد صحَّحه جماعة، وأعلَّه آخرون، وسبب الإعلال: أنَّ إسناده قد وقعَ الاختلاف فيه والاضطراب، فمرَّة يروونه عن الشَّعبي عن عبد خير عن زيد بن أرقم، ومرة يروونه عن الشَّعبي عن عبد الله بن أبي الخليل عن زيد بن أرقم، ومرة عن عبد الله بن الخليل عن علي موقوفًا؛ ولذلك تكلَّمَ كثيرٌ من أهل العلم في هذا الإسناد فقالوا: إنَّه إسنادٌ مضطرب، ولم يقع اتِّفاق على اسم راويه بينَ بين الرُّواة. ولذلك قال الإمام أحمد: "هو حديثٌ منكرٌ". ولعلَّه قد وصل إلى مَن بعدَه طرائق وأسانيد تُظهر الإسناد الصَّحيح في هذا الخبر.
ثم قَالَ: (أُتِيَ عَلِيٌّ بِثَلَاثَةٍ، وَهُوَ بِاليَمَنِ)، كان علي في اليمن، وكان له ولاية قضاء بأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ)، الظَّاهر أن ذلك كان بشبهةٍ، أو كانوا قبل الإسلام.
قال: (فَسَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا, حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعً), في هذا دلالة على أنَّ إقرار الوالد بنسبِ ابنه يثبتُ به النَّسب، خصوصًا إذا لم يوجد له منازع.
قال: (فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا. فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ)، وفيه دلالة على جوازِ استعمال القرعة عند الاختلاط في الأنساب، وبذلك قال الجمهور خلافًا للحنفيَّة.
قال: (فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ)، أي: الذي سقطت عليه القرعة.
قال: (وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَي الدِّيَةِ)، وذلك لأنَّ هذا الولد يدَّعيه ثلاثة، وبالتَّالي لو كان له دية لثبتت للثَّلاثة جميعًا، لكلِّ واحدٍ منهم ثلث ديةٍ، فلمَّا أخذَ أحدُ الثَّلاثة الولد كان للاثنين الباقين ثلث الدية لكل واحد منهم، بحيث يدفع الأول لكل واحدٍ من الاثنين ثلث الدِّية.
قال: (فَذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَحِكَ)، فيه نقل الأخبار العامَّة، وفيه أنَّ النَّبي قد يُقر على الأحكام بسكوتِهِ وعدمِ اعتراضه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ العِدَدِ
عَنْ قَبِيْصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ قَالَ: "لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ، إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ". رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَه, وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ"، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَبِيصَةُ لمْ يَسْمَعْ منْ عَمْرٍو, وَالصَّوَابُ : "لَا تَلْبِسُوا عَلَينا دِيْنَنَا"، مَوْقُوفٌ، وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ.
وَعَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبِيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوجِهَا بِليَالٍ فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أُعِلَّ .
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهَ عَنْها- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الـمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا, قَالَ: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ» .
وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَليَّ، قَالَ: فَأَمَرَها فَتَحَوَّلَتْ. رواهُمَا مسْلمٌ .
وَعَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ، وَهِي أُخْتُ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْأَلُهُ أَنْ تَرجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَني خُدْرَةَ، وَأَنَّ زَوجَهَا خَرجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُم فَقَتَلُوهُ, قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لم يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً, قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ -أَو فِي الْمَسْجِدِ- نَادَانِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أَو أَمَرَ بِي، فَنُودِيتُ لَهُ- فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوجِي، قَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ», قَالَتْ: فاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ وَصَحَّحَهُ, وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ الذُّهْلِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيرُهُم، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ بِلَا حُجَّةٍ .
وَعَنِ ابْنِ جَريْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابرَ بنَ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ, فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفً» رَوَاهُ مُسْلمٌ .
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَّسُ طِيْبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَلَأبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «وَلَا تَخْتَضِبُ» وَللنَّسَائِيِّ «وَلَا تَمْتَشِطُ»)
}.
هذه الأحاديث التي ذكر المؤلف في كتاب العِدَدِ.
والمراد بالعدَّة: مدَّة الانتظار.
والنِّساء ذوات العدد على أنواع متفرقة:
أولًا: الحامل: عدَّتها بوضع حملها.
ثانيًا: المتوفَّى عنها غير الحامل تعتدُّ بأربعة أشهرٍ وعشرًا، لقول الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾ [البقرة: 234].
ثالثًا: المطلَّقة غير الحامل ذات القروء، فعدَّتها بثلاثة قروء.
رابعًا: المطلَّقة التي ليست بحاملٍ وليست من ذوات الأقراء، فعدتها بثلاثة أشهر.
خامسًا: المرأة التي ارتفعَ حيضُها بسببٍ لا تعلم ما هو، فإنَّها تنتظر سنةً كاملة.
هذا ملخَّص أحكام العدد، وقد ذكر المؤلف عددًا من الأحكام المتعلقة بهذا.
أولها: ما رواه قَبِيْصَةُ بنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ قَالَ: (لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبيِّنَ)، يعني لا تخلطوا علينا بحيث لا نميِّز سنَّة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ)، أم الولد هي التي وطئها سيدها فجاءت منه بولدٍ، والولد يُنسَب للسَّيدِ، وهو من أولاده؛ لأنَّها فراشٌ للسَّيد، ولكن أمه تبقى كونها مملوكة حتى يموت السَّيد، فإذا مات لزمتها العدَّة وتصبح حرَّة، وليس لها من الميراث شيءٍ.
قال: (عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ)، فماثل بين عدَّة أم الولد وعدَّة الزوجة المتوفَّى عنها غير الحامل، وكما هو منطوق الآية التي ذكرت قبل قليل.
وأمَّا الأمة المملوكة فإنَّها تعتدُّ بنصف عدَّة الحرَّة، فتعتدُّ بشهرين وخمسة أيام.
ثم أورد الكلام في إسناد الخبر فقال: (وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ)، وقال إن الدَّاقطني شكَّ في سماع قبيصةَ من عمرو بن العاص، وقال: إن الصَّواب أنَّ هذا اللفظ موقوف على الصَّحابي، وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال المؤلف: (وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ)، كأنه لم يُسلِّم بقول الدارقطني.
ثم أوردَ المؤلف حديث المِسْوَر بْنِ مَخْرَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ سُبِيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوجِهَا بِليَالٍ)، يعني لم توفي زوجها ولدت بعده بليالٍ قريبةٍ.
قال: (فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي تساله وتستفتيه، وفيه جواز سؤال العالم واستفتائه.
قال: (فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ)، أي تتزوج، وكأنها تقول: هل لا زلتُ في العدَّة أو لا؟
قال: (فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ)، وفي هذا دلالة على أنَّ ذات الحمل انتهاء عدَّتها يكون بوضع الحمل، ولو وضعته في أيامٍ قليلة بعد وفاة الزَّوج.
وفي هذا دلالة على أنَّ قوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4]، غير مخصوص بالآية الأخرى التي في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾ [البقرة: 234].
قال: (فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَ)؛ لأنَّها قد انتهت عدتها.
ثم أورد من حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ)، بريرة مملوكة وزوجها مملوك، فأُعتقَت بريرة، وكما تقدَّم أنَّ المملوكة إذا أُعتقَت يكون لها الخيار بأنْ تبقى على زوجيتها مع زوجها المملوك أو لها فسخ العقد، وفسخ العقد يترتَّب عليه أنَّ المرأة عليها عدَّة، مثل فسخ عقد الزوجيَّة ومسائل الخُلع، فالمفارقة في الخُلع عِدَّتُه مِن ظاهر هذا الخبر ثلاث حِيَض، وظاهر إسناد الخبر أنَّه إسناد جيد قوي.
وإذا قال الصَّحابي "أمرنا" أو "أمرت" فإنَّه يُحمَل على أمر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا فيه دلالة أنَّ مَن فُسِخَ نكاحها تعتدّ بثلاث حِيَضٍ، وهذا قول الحنابلة والشَّافعيَّة وجماعة.
وبعض أهل العلم قال: يكفيها حيضة واحدة، لأنَّ المقصود التحقُّق من براءة الرَّحم، وقد حصلَ لها ذلك. ولكن لازال الناس على القول بأنها تعتد بثلاث حيض.
ثم أورد المؤلف من حديث الشَّعبي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهَ عَنْها-، وفاطمة بنت قيس طُلِّقَت ثلاثًا على عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ»، فهنا نفى أن يكون لها سُكنَى بعدَ الطَّلاق، وهذا في المطلَّقة ثلاثًا.
فإذا طُلِّقَت المرأة ثلاثًا:
قال أحمد: ليس لها سُكنَى ولا نفقة.
وقال أبو حنيفة: لها سكنى ونفقة، لعموم آيات المطلَّقات، وقال: إنَّ الخبر السَّابق خبر آحاد، فلا يصح أن يخصص به اللفظ القرآني.
وبعضهم قال: يكون لها السُّكنَى ولا يكون لها النَّفقة.
ولعلَّ القول الأوَّل أظهر، لأنَّه ظاهر هذا الحديث، وفي هذا نفي أن يكون للمطلَّقةِ ثلاثًا سُكنَى أو نفقة على الزَّوج.
ثم أورد المؤلف من حديث عروة عن فاطمة بنت قيس -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثً)، استدلَّ به من يقول بجواز إيقاع الطَّلقات الثَّلاث في لحظةٍ واحدةٍ كما هو مذهب الإمام الشَّافعي.
وفيه أيضًا نفي السُّكنَى والنَّفقة، وقد تقدَّمَ أنَّ الحنفيَّة يُخالفون، وأنَّ المالكيَّة والشَّافعيَّة يُثبتون لها السُّكنَى ولا يُثبتون لها النَّفقة، وهناك بعض فقهاء بعض فقهاء الظَّاهريَّة عَكَسَ.
قالت: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا، وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَليَّ)، يعني يأتيها لصوص يقتحمون البيت عليها، لأنَّها مطلَّقة وليس عندها رجل.
قَالَ: (فَأَمَرَها فَتَحَوَّلَتْ)، يعني تحوَّلت من مكانٍ إلى مكانٍ آخر خشيةً من أن يُقتَحَمَ عليها.
بعض الفقهاء استدلَّ بهذا الحديث على إيقاع الطَّلقات الثَّلاث بلفظٍ واحدٍ، وهذا قول الجماهير خلافًا لبعضِ التَّابعين، وهو رواية عن أحمد باعتبار الطَّلقات الثلاث المجموعة في لفظٍ واحدٍ لا تُحتَسبُ إلَّا طلقةً واحدة.
وفي هذا دلالة على أنَّ المطلقة لا يجب لها السُّكنَى.
ثم أورد من حديث فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ، وَهِي أُخْتُ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْأَلُهُ أَنْ تَرجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَني خُدْرَةَ)، بني خدرة قبيلة لهم مواطن، وذلك أنَّ الفريعة توفي زوجها، وقد فسَّرت ذلك فقالت: (وَأَنَّ زَوجَهَا خَرجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُو)، يعني مماليك هربوا من عنده (حَتَّى إِذا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ)، القدوم مكان يجلسون فيه.
قالت: (لَحِقَهُم فَقَتَلُوهُ)، يعني أنه وجدهم في هذا المكان، فتمكَّنوا من قَتْلِ سيِّدهم.
قَالَتْ: (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي)، الآن هي متوفَّى عنها زوجها، وفيه دلالة على أنَّ الأصل أنَّ المتوفَّى عنها أن تبقَى في بيت الزَّوجيَّة، ولا يجوز لها أن تخرج منه.
قالت: (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي)، يعني أترك واجب المكث في البيت وقت الإحداد.
قالت: (فَإِنَّ زَوْجِي لم يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً, قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ -أَو فِي الْمَسْجِدِ- نَادَانِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أَو أَمَرَ بِي، فَنُودِيتُ لَهُ- فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوجِي، قَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»)، فيه إيجاب أن تبقى المتوفَّى عنها في بيت الزَّوجيَّة بعدَ وفاةَ زوجها حتى تنتهي عدَّتُها.
قَالَتْ: (فاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً)، لأنَّها متوفَّى عنها غير حاملٍ، فتعتد أربعة أشهرٍ وعشرًا.
قَالَتْ: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ)، أي اتبع ذلك وقضى به عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وفي هذا دلالة على أنَّ المتوفَّى عنها تعتدّ بأربعة أشهرٍ وعشرة أيَّامٍ.
وفيه: إرسال القُضاة وأصحاب الولاية للنَّاس من أجلِ أن يبلِّغوهم بالأحكام، وهذا يستفاد من قولها: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ)، فهذا هو ظاهر هذا الخبر.
{قال المؤلف: (عَنِ ابْنِ جَريْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابرَ بنَ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ, فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفً» رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
هذا الحديث مِن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وابن جريج يُتهم بالتَّدليس، مثله أبو الزُّبير، ولكنَّهم صرَّحوا هنا بالسَّماع، فيكون الخبر صحيحًا متَّصلًا.
قال: (طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَه)، يعني: تقطع عذق النخل بعد نضج التمر على النخل.
قال: (فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ)، يقول لها: كيف تخرجين وأنتِ ما فارقتِ زوجكِ إلَّا قريبًا.
قال: (فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ»)، أي: اقطعي عذقه بحيث تأخذين تمرته، وذلك لأنَّها مطلَّقة، والمطلَّقة ليس عليها حداد بخلاف المتوفَّى عنها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفً»، أي تتمكَّني من الصَّدقة بذلك العذق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَّسُ طِيْبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ. وَلَأبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «وَلَا تَخْتَضِبُ» وَللنَّسَائِيِّ «وَلَا تَمْتَشِطُ»)}.
هذا الحديث فيه حكمان:
الأول: أنَّ المرأة المحادَّة تُحادُّ أربعةَ أشهر وعشرة أيام، ولا يجوز لها أن تُحادَّ إلا على الزَّوجٍ، وأمَّا مَن عدا الزَّوج فإنَّه لا تُحادَّ عليه أكثر من ثلاثة أيَّام.
الثَّاني: هو وجوب الإحداد على المتوفي عنها في وقت العدَّة.
ويجمع الإحداد ثلاثة أشياء:
- الزِّينة.
- الطِّيب.
- الخروج من المنزل.
فالمرأة المحادَّة لا تفعل هذه الأشياء، وقد مثَّلَ لها في قوله: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغً»، لأنَّ هذا من الزِّينة والجمال، والمرأة المُحادَّة منهيَّة عن التَّزيُّن والجمال.
قال: «وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ»، ثياب العصب هي نوع من أنواع الثِّياب أو البُرود اليمانيَّة، ومن خاصِّيتها أنَّ اللون فيها من ذاتِ قِماشها وصُوفها، وليست ممَّا صُبِغَ.
قال: «وَلَا تَكْتَحِلُ»، الكُحل نوعٌ من أنواعِ الزِّينة المنهيَّة عنها المحادَّة.
قال: «وَلَا تَمَّسُ طِيْبً»، "طيب" هنا نكرة في سياق النَّفي، فتفيد أنَّه لا يجوز لها أن تمسَّ شيئًا من الطِّيب ولو كانَ قليلًا.
قال: «إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ»، القسط والأظفار نوعٌ من أنواعِ الطِّيب، وفي الغالب أنَّهم يُبخِّرونَ به أهلَ البيتِ والنِّساء والأطفال ونحو ذلك.
والنبذة: هي القطعة اليسيرة، وهذا فيه استثناءُ هذا الأمرِ بالنِّسبَة للمحادَّة، فما كان فيه روائح عطريَّة فإنَّ المرأة المحادَّة تُمنَع منه، وما فيه روائحٌ طيِّبَةٌ ونُكهٌ جيِّدةٌ ولكنَّها ليست روائحَ عطريَّة فإنَّها لا حرج عليها في استعماله، مثل رائحة البرتقال والتُّفاح ونحوه.
باركَ الله فيكَ ووفَّقكَ الله للخيرِ، وجزاكَ الله خيرًا، وأسألُ الله -جلَّ وعلا- للمشاهدين الكرام أن يُوفَّقوا، وأن يُعانُوا على الخير، وأن يَسعدوا في دنياهم وآخرتهم، وأن يُصلح الله ذَراريهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك