الدرس الثامن عشر

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4095 23
الدرس الثامن عشر

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري؛ فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأرحبُ بكَ، وأرحبُ بإخوتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من (حديث عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهل يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِديهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»)}.
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا الحديث أورده المؤلف الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب الجامع الذي عقده في آخر كتابه المحرَّر، وأكثر حديثه متفقٌ عليها قد أخرجها الإمام البخاري والإمام مسلم، ومنها هذا الحديث.
قوله: «مِنَ الْكَبَائِرِ»، فيه تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر.
وقوله: «شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ»، فيه الحُكم على الفعل باعتبار آثاره وما يُؤدِّي إليه، فإنَّه لم يشتُم والديه، وإنَّما فعلَ فعلًا يُؤدِّي إلى أن يُشتَم والداه.
وفي هذا أنَّه ينبغي بالإنسان أن ينتهج الأقوال الطِّيبة والأعمال الفاضلة من أجل أن يُترَك شتمُ أبويه، وأن يُدعَى لأبويه.
قوله: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهل يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِديهِ؟)، فيه السُّؤال لتعرُّف حقيقة ما أخبرَ به في الحديث.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»، فاعتبر الحكم على الفعل باعتبار آثاره وما يُؤدِّي إليه.
والحديث فيه دلالة على أنَّ الأصل في السِّباب هو المنع والتَّحريم.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبي صَالحٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَـتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ,فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدً»)}.
في هذا الحديث تحريم قتل الإنسان لنفسه مهما بلغت به الظروف، ومهما كان عنده من المصائب، فإنَّ هذه أمورٌ قدَّرها الله -جلَّ وعَلا- ليختبره ولتكون من أسباب رِفْعَتِه.
وفي هذا الحديث: أنَّ اختلاف طريقة القتل لا تكون سببًا من أسباب إلغاء الإثم في قتل الإنسان لنفسه أو لغيره.
واستدلَّ الجمهور بهذا على إثبات القصاص في القتل بالمثقَّل كما هو في القتل بالمحدَّد، وفيه أيضًا أنَّ استعمال الحديد ينبغي أن يكون في الطَّرائق الشَّرعيَّة، ومن ذلك ألَّا يُترَك بيد مَن يقتلَ نفسه بحديدةٍ.
وقوله: «فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ»، يعني: التي قتل بها نفسه.
قال: «يَـتَوَجَّأُ بِهَ»، يعني: أنَّه يطعن نفسه مرَّةً بعدَ مرة.
قتال: «فِي بَطْنِهِ»، يعني: يتوجَّأ بها في بطن نفسه.
قال: «فِي نَارِ جَهَنَّم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدً»، فيه دلالة على أنَّ عذاب النَّار باقٍ أبدًا وأنَّه لا ينقطع.
ثم ذكر طريقةً أخرى من طرق قتل الإنسان لنفسه فقال: «وَمَنْ شَرِبَ سُمًّ»، السُّمُّ مادةٌ يكونُ فيها العطبُ والهلاك.
قال: «فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدً»، أي: أنَّه يُعذَّب بطريقته التي قتل بها نفسه.
وفي هذا دلالة على أنَّ الجزاء من جنس العمل.
وقوله: «خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدً»، فيه إثبات مذهب أهل السُّنَّة في أنَّ نارَ جهنَّمَ خالدة.
وقوله: «وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ»، أي: أسقطَ نفسَه مُتعمِّدًا مِن جبل.
قال: «فَقَتَلَ نَفْسَهُ»، أي: كان ذلك التَّردِّي من أسباب موته.
قال: «فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، أي: أنَّه تُكرَّر عليه العقوبة والذَّنب.
قاال: «خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدً»، فيه دلالة لمذهب مَن يَرَى أنَّ أهل النار من أهل الشرك يُخلَّدون فيها.
{أحسن الله إليكم..
هل يُستدل بهذا الحديث على أنَّ العقوبة بالمثل؟}.
هناك اختلاف فقهي قد أشرنا إلى ذلك في كتاب القصاص، وبيَّنَّا أنَّه إذا قَتَلَ شخصٌ غيرَه بطريقةٍ محرَّمَة فلا سبيل له إلَّا السَّيف، وإذا قتله بطريقةٍ أخرى؛ فحينئذٍ هل يُقتَل القاتل بمثل ما قتل به أو لا؟ وهذا من مواطن الخلاف.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانً»)}.
هذا الحديث متَّفقٌ عليه.
قوله: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ»، المراد به تقدير الأمور المقلقة والمخوفة ونسبتها إلى الآخرين، فهذا يشمل الهموم التي قد تعيق الإنسان في حياته، وتشمل أيضًا سوء الظن بالآخرين، وفيه أنَّ المؤمن مُطالب بأن يُحسِّن ظنَّه بإخوانه، قال تعالى: ﴿لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ [النور:12].
وقوله: «فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ»؛ لأنَّه غير مُستند إلى دليلٍ يدل على صحَّته، فكانت الظُّنون مِن أكذب أنواع الحديث.
قال: «وَلَا تَحَسَّسُو»، التَّحسُّس هو: طلب الإنسان الأشياء لنفسه.
قال: «وَلَا تَجَسَّسُو»، التجسس: تفتيش بواطن الأمور.
قال: «وَلَا تَنَافَسُو»، أي: لا يكن بين بعضكم مع بعض مُنافسة على أمور الدنيا، وأمَّا أمور الآخرة فإنَّها لا تدخل في هذا الخبر لقوله تعالى: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:26].
قال: «وَلَا تَحَاسَدُو»، أي: لا يتمنَّى بعضكم زوالَ نعمة الله -جلَّ وعَلا- عن بعضكم الآخر.
وفي الحديث: تحريم هذه الأفعال وهي : التَّحسُّس والتَّجسُّس والتَّنافُس والتَّحاسُد.
ثم قال: «وَلَا تَبَاغَضُو»، أي: لا يُبغض بعضكم بعضكم الآخر؛ لأنَّكم تريدون ما عند الله، وبالتَّالي فما فضَّلهم الله به عليكم لا تتعلَّق به نفوسكم؛ لأنَّكم تعلمون أنَّ الجميع من عند الله، وما حصل منهم من خطأ أو نقصان فإنَّه لا يكون سببًا من أسباب التَّباغُض، وإنَّما يكون من أسبابه أن يسمح بعضكم لبعضكم الآخر.
قال: «وَلَا تَدَابَرُو»، أي: لا يُلقي بعضكم إلى بعضكم الآخر بدبره.
قال: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانً».
وفي هذا الحديث:
• تحريم ظنَّ السَّوء في الآخرين.
• تحريم التَّحسُّس، والتَّجسُّس، والتَّنافس، والتَّحاسُد، والتَّباغض، والتَّدابر.
• وفيه أنَّ التَّجسُّس والتَّحسُّس قد يختلف حكمه باختلاف ما يلتبس به من أمور.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»)}.
في هذا الحديث: تحريم هجرة المسلم لإخوانه المسلمين فوق ثلاث، وأمَّا ما دون الثَّلاث فإنَّه لا يدخل في هذا الخبر، فيدل الخبر على إباحة الهجر لأقل من ثلاث، ولكن لا يكون إلَّا لسببٍ مشروعٍ، وأمَّا ما زاد عن الثَّلاث فإنَّه لا يجوز، إلَّا إذا وردَ فيه شيء من الدَّليل.
قال: «يَلْتَقِيَانِ»، أي: يُقابل بعضهم بعضهم الآخر.
قال: «فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَ»، يعني: أنَّهم لا يتحفَّى بعضهم ببعضٍ، وفيه أنَّه ينبغي بالإنسان أن يتحفَّى بإخوانه المسلمين.
قال: «وَخَيْرُهُمَا، الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»، أي: خير المتهاجرين والمتقاطعين من يبدأ بالسَّلام؛ لأنَّه قد بدأ الخطوة الأولى نحوَ الاتِّفاق، وتركِ الهجرانِ فيما بينهما.
{قال المؤلف: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُم بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرَّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُم وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابً»)}.
هذا الحديث فيه فوائد:
• الفائدة الأولى: الترغيب في الصدق والحثُّ عليه.
• الفائدة الثانية: التَّحذير من الكذب والتَّرهيب منه.
الفائدة الثالثة: أنَّ الأعمال الصَّالحة والأعمال السِّيئة بمثابة السلسلة يجرُّ بعضها بعضَها، وبالتَّالي فعلى الإنسان أن يعمل العمل الصَّالح ليجرَّ عليه عملًا صالحًا آخر؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد:17].
• الفائدة الرابعة: أنَّ مَن تكرَّرت منه الصِّفة وُصِفَ عند الله -جلَّ وعَلا- بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الـمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجنَّةِ فَيَدْخُلُهَ».
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ،كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: واقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ [الروم:30] الْآيَة.
وَعَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِيـنَ عمَّنْ يَمُوتُ مِنْهُم صَغِيرًا، فَقَالَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»)
}.
هذه أحاديث فيها شيء من أمور القدر، والإقرار بما يُقدِّره الله -جلَّ وعَلا- ويكتبه على العبد.
أولها حديث ابن مسعود، قال: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ)، يعني: الْمُخْبِرُ بما يُوافق الواقع.
وقوله: (الـمَصْدُوقُ)، يعني: أنَّ الله صدقه في الوحي المنزَّل إليه، وصدقَه وعدَه بنصره.
قال: -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمً»، أي: المرحلة الأولى من حياته أربعين يومًا يكون فيها نطفة.
قال: «ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ»، يعني: أنَّه ينتقل من كونه نُطفة -شيء من المني والدم- إلى أن يكون علقة، بأن يكون يسير لحمٍ تعلَّق بالرَّحم.
قال: «ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ»، أي: لحمًا تامًا مثل ذلك.
إذن المجموع أربعة أشهر، أربعين وأربعين وأربعين؛ فتكون مائة وعشرين يومًا.
قال: «ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ»، وجاء في حديثٍ آخر أنَّ الملك يُرسَل بعدَ اثنين وأربعين يومًا؛ فحينئذٍ نقول: إنَّ الإرسال مرتين.
قال: «فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»، وتكون هذه بداية للرُّوح، وبالتَّالي إذا مات الجنين قبل هذه المدَّة فإنَّه لا يُصلَّى عليه ولا يلزمُ به كفَّارةٌ إذا اعتُديَ عليه، وإذا مات بعدَ ذلك فإنَّه يُصلَّى عليه ويلزم به كفَّارة إذا مات، وهذا بالنِّسبة لهذين الحكمين.
وأمَّا بالنسبة لأحكام الطهارة والنِّفاس فإنَّه يتعلق بنوعِ ما يخرج من بطنِ المرأةِ، فإن كان فيه صورة إنسان وأعضائه فإنَّه حينئذٍ يُحكَم بأنَّه جنين، فتقعد المرأة للنِّفاس، وأمَّا إذا خرج مجرَّد مُضغة لحمٍ وليس فيه شيء من تخاطيط البدن؛ فإنَّه حينئذٍ لا يكون الدم دم نفاس.
قال: «وَيُؤمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ»، أي: أنَّ الملك يُؤمر بكتب أربع كلمات.
أولها: «بِكَتْبِ رِزْقِهِ»، ماذا سيكسب من أمور الدنيا.
ثانيها: «وَأَجَلِهِ»، متى سيموت.
ثالثها: «وَعَمَلِهِ»
رابعها: «شَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ».
وفي هذا بيانٌ أنَّ الرِّزقَ لا يجره حرص حريص، وأنَّ الإنسان ينبغي به في أُمور رِزقه أن يَعتمد على الله -جلَّ وعَلا.
وفي هذا أنَّ الإنسان يبذل إلى ما يُؤدي إلى زيادة عمله، فهكذا يبذل ما يُؤدي إلى زيادة أجله.
وليس المراد بقوله: «وَأَجَلِهِ»، أنَّ الإنسان لا يبذل سببًا لزيادة الأجل، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أمر بالتَّداوي، والتَّداوي يُراد به زيادة الأجل.
وهكذا بيَّنَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ صلة الرَّحم مما يُنسأ به الأجل.
ثم قال مُقسِمًا: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيرُهُ»، وفيه القَسَم بدون أن يُطلب.
قال: «إِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ»، أي يسبق عليه ما سُجِّل عليه في الكتاب من كونه من أهل النار فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ويترك عمل أهل الجنة فَيَدْخُ النار.
ومن أمثلته: ذلك الذي قتل نفسه بعد اشتراكه في معركة القتال، وكونه أبلى بلاءً حسنًا، وفي آخر أَمْرِه قَتَلَ نَفْسَه.
وفي المقابل قال: «وَإِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ»، يعني: لم يبقَ بينه وبينَ النار إلا شيئا قليلًا. قال: «فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجنَّةِ فَيَدْخُلُهَ».
الأوَّل كفَرَ في سياق الموت، والثاني آمن قبيل موته، وجاهد وشاركَ بالعمل الصَّالح.
أمَّا حديث أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ»، سواء كان ذكرًا أو أنثى، سواء كان من بلاد المشرق أو بلاد المغرب.
قال: «إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ»، الفطرة: هي الإقرار بحقِّ الله -جلَّ وعَلا- في الألوهيَّة والعبوديَّة، والإسلام هو الفطرة، ولذا قال في هذا الحديث: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ»، ولم يقل: "يجعلانه مسلمًا".
وفي هذا أنَّ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة بما جاء فيهما من التَّحريف لم تعد مُتوافقة مع الفطرةِ، ومثله المجوسيَّة.
ثم ضربَ مثالًا قال: «كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ»، أي: كما تلد البهيمة بهيمةً كاملةً الأعضاء، وهذا مثل مَن يُولَد على الفطرَة، ثم بعد ذلك يقوم الناس بقطع آذانها وخشومها أو أطرافها؛ فقال: «هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟»، يعني: لَمَّا خُلقَت أوَّلَ ما خُلِقَت كانت كاملة، ولم يكن فيها قطعٌ لشيءٍ من أعضائها، ثم بعدَ أن تولد يستجد قطع بعض أعضائها.
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (واقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ [الروم:30] الْآيَة).
قال المؤلف: (وَعَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِيـنَ عمَّنْ يَمُوتُ مِنْهُم صَغِيرً)، الذين لم يبلغوا الحُلم ولم يبلغوا الحنث، وبالتالي هل يدخلون مع آبائهم فيكونون في النار، أو يدخلون الجنة فيكونون في كفالة إبراهيم -عليه السلام؟
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»، فمعرفة ما ستؤول إليه أفعالهم إلى الله -جلَّ وعَلا.
فهذا شيء مما يتعلق بشرح هذه الأحاديث الثلاثة المتعلقة بمسائل القدر.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: اللَّهُمَّ اغْفِر لِيْ إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ, لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّ اللهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ، لَا مُكْرِهَ لَهُ»)}.
هذا الحديث أيضًا متفق عليه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم»، هذا نهي، والنَّهي يقتضي المنع والتحريم.
قال: «اللَّهُمَّ»، يعني: يا الله.
قوله: «اغْفِر لِيْ إِنْ شِئْت»، يعني: لا يُعلِّق طلب المغفرة بالمشيئة، ولكن يعزم المسألة فيقول: اللهم اغفر لي.
وفيه أنَّ تعليق الدُّعاء بالمشيئة حرامٌ ممنوع منه، فلا تقول: الله يغفر لك إن شاء الله، ولا تقل: اللهم ارحمني إن شاء الله.
قال: «لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ»، يعني: لا يجعل فيها استثناء ولا مثنويَّة، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- لا مُكره له، يصنع ما شاء -سبحانه وتعالى- وبالتَّالي لا تحتاج إلى أن تقول: "إن شاء الله"، وإنَّما تجزم بالدُّعاء فتقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم ارزقني؛ بلا استثناء.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»)}.
قوله: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ»، فيه تحريم تمنِّي الموت، والمراد هنا: هو تحريم تمني الموت إذا كان لأمر دنيوي، أمَّا إذا كان لأمر أخرويٍّ كمَن يتمنَى الموت في الشَّهادة فهذا لا يدخل في الحديث، ومثله في قول مريم: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَ﴾ [مريم:23] فإنَّها اعتقدت أنَّ هذا من الفتنة، وبالتَّالي أرادت ألَّا يكون هناك فتنة تصل إليها.
وقد ورد في الحديث أنَّه قال في الدعاء: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِعَبَادِكَ فِتْنَةً، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» .
وقال هنا: «فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيً»، يعني: إذا كان سيتمنَّى الموت ويدعو به، قال: «فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي»، يتمكَّنُ فيها من عبوديَّة الله، يُقيم الصَّلاة، ويُؤدِّي الزَّكاة، ويصل الأرحام، يتخلَّق بالأخلاق الفاضلة، وبالتَّالي تكون الحياة خير له.
قال: «وَتَوَفَّنِي إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»، أي: اقبضني إليك واخترني عندك إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ: عَطَسَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلَانِ، فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلم يُشَمِّتِ الآخَرَ، فَقَالَ الَّذِي لم يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمَّـتَّـهُ، وعَطَسْتُ أَنا فَلَمْ تُشَمِّتْنِي، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللهَ، وَإِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللهَ»)}.
هذا الحديث فيه:
• جواز أن يعطس الإنسان بمحضرٍ من الآخرين، وأنَّه لا يلحقه الحرج والملامة بسبب ذلك.
• مشروعيَّة حمد الله -عز وجل- بعد العطس.
• مشروعيَّة تشميت مَن عطسَ فحمدَ الله، كما فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والتَّشميت بأن يقول "رحمك الله" وما ماثلها من الألفاظ.
• وأن مَن لم يحمد الله فإنَّه لا يُشرَع له أن يُدعَى له بالرَّحمة على وجه التَّشميت له.
• وأن مَن لم يحمد الله بعدَ عطاسه؛ فإنَّه لا بأس أن يُترَك تذكيره بالحمد، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُذكر هذا الرَّجل بالحمد بعدَ عطاسه.
• وأنَّ الإنسان يُقابَل بمثل عمله، فمَن أدَّى الأسباب المؤدِّيَة إلى الخير كُتبَ له الخير المرتَّب عليها، بخلاف مَن لم يفعل ذلك.
• سؤال الإنسان عن تصرُّفات غيره تجاهه ليُزيل ما في نفسه، فإنَّه لَمَّا سأله عن سبب تشميت للآخر دون تشميته لصاحبه لم يعب عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك.
• التَّفريق في المعاملة بين الناس بحسب ما يفعلونَه من الأعمال، فإنَّ كل إنسانٍ يُعامَل بمثلِ عمله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا كُنْتُم ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَ اثْنَانِ دونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُقيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُو»)
}.
هذان الحديثان فيهما معانٍ:
• حرص الإنسان على مُراعاة أحوال غيره القلبية، ولذلك قال: «مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ».
• مُراعاة المسلم لإخوانه المسلمين في جميع أمورهم، حتى فيما يتعلَّق بشعورهم، وبما يؤثر عليهم في نفسيَّاتهم.
• نهي الاثنين عن أن يتناجيا إذا كانا مع ثالث.
• جواز أن يتناجى الاثنان إذا كان معهما مجموعةٌ من الناس وقد اختلطوا بالناس.
وأمَّا حديث ابن عمر ففيه:
• النهي عن أن يُقيمَ الإنسان غيرَه من مقعده ليجلس فيه.
• استحباب أن يتفسَّحوا في المجالس، ويتوسَّعوا من أجلِ أن تتمكَّنَ المجالس من أخذهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يزَالُ هَذَا الْأَمرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ».
وَعَنِ الْحسَنِ قَالَ: عَادَ عُبيدُ اللهِ بنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ الـمُزَنِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَو عَلِمْتُ أَنَّ لي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»)
}.
حديث ابن عمر فيه بقاء أمر الولاية في قبيلة قريش، بحيث يبقى في كل زمانٍ مَن يتولَّى منهم شيئًا من أمور الولاية العامَّة، وليس فيه اشتراط أن يكون صاحب الولاية العامَّة من قريش، وإنَّما فيه إخبارٌ بأنَّه سيوجَد في كلِّ زمانٍ مَن يلي ولايةً عامَّةً وهو من قريش، وكما تقدَّم أنَّ هذا لا يدل على أنَّ القرشي شرط من شروط تولِّي الولاية العامَّة.
وأمَّا حديث الحسن البصري قَالَ: (عَادَ عُبيدُ اللهِ بنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ الـمُزَنِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ)، معقل بن يسار من صحابة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ مَعْقِلٌ: (إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَو عَلِمْتُ أَنَّ لي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ)؛ لأنَّه خشيَ أن يفهَم منه أنَّه على جهةِ الاعتراض أو على جهةِ اتَّهامه بشيءٍ ليس فيه.
قال: (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ»)، المراد بالعبد هنا: إنسان، وفيه دلالةٌ على ما ذكرتُ قبل قليل من أنَّه لا يُشتَرَط في أمرِ الولاية أن يكون الإنسان من قريش.
قوله: «يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً»، أي: يكون عنده ولاية يتولَّى بها أمر بعض الناس الذين يكونون تحته.
وفي هذا الحديث
• النَّهيُ عن غش الرَّعيَّة، وأنَّ ذلك من كبائر الذنوب.
• وأنَّ الواجب على من تولَّى ولايةً عامَّةً أن يكون ناصحًا لرعيَّته، قاصدًا بهم الخير.
• أنَّ العبد ينبغي به ان يكون ناصحًا في كلِّ أمور الناس، سواء في لاأمورهم الدينية بحيث يُعيد الناس إلى الله، ويجعلهم يحبونه ويحبهم، وهكذا في أمور الدنيا فيما يتعلق بالتَّوسعة على الناس، وتوفير ما يحتاجون إليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بالطُّرُقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسَنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَبَيْتُم إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ»)}.
هذا الحديث فيه:
• النَّهي عن الجلوس في الطُّرقات، لأنَّ هذه الطّثرقات جُعلت لمرور النَّاس، ولم تُجعَل للجلوس فيها، والجلوس يُضيِّع على الناس المقصود الذي قُصِدَ به وضع هذه الطُّرقات.
• تحريم أن يسد الإنسان الطريق، سواء بوقوفه ، أو بسيَّارته، أو ببعضِ حوائجه.
• أنَّ كل ما أدَّى إلى إشغال الطَّريق فإنَّه يُمنَع منه، سواءٌ من بناءٍ أو درجٍ، أو زهورٌ تُغلق الطَّريق، أو نحو ذلك.
وقولهم: (مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسَنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَ)، يعني: أنَّهم لا يستغنون عن هذه المجالس.
فقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَبَيْتُم إِلَّا الْمَجْلِسَ»، ولم تقبلوا توجيهي السَابق؛ فحينئذٍ عليكم بمراعاة حق الطَّريق، وفيه إثبات الحقوق حتى للجمادات، فالطريق له حق، والمنزل له حق؛ فضلًا عن حقِّ ما فيه حياة كالنبات والحيوان والإنسان.
قَالُوا: (وَمَا حَقُّهُ؟)، يعني حق االطريق.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَضُّ الْبَصَرِ»، فيه الأمر بعدمِ إطلاق البصر في الطُّرقات، فلا يُطلق الإنسان نظره فيمَن حوله، يلتفت بعض الناس إلى مَن حوله في سياراتهم، أو في مشيهم في طرقاتهم.
وفي الحديث:
• الأمر بكفِّ الأذى، بأن لا يوصل الإنسان شيئًا من الأذى لغيره.
• وجوب رد السَّلام لمَن سلَّمَ عليك في الطَّريق، ولو لم تكن عارفًا له.
• مشروعيَّة الأمر بالمعروف، والمراد بالمعروف: ما جاء الشرع بالأمر به مما يتعارفه الناس، والأمر به يكون بالإلزام.
• النَّهي عن المكنر، اولمراد به: نصيحة الآخرين ليتركوا فعل الأمور المحرَّمَة، وهذا فيه دليل على أنَّه ينبغي بثُّ هذه المعاني في المواطن العامَّة، وكما أنَّ هذا يوجَد في الطُّرق الحسيَّة كذلك تتعلَّق هذه الأحكام بالطُّرق المعنويَّة، ومن ذلك وسائل التَّواصل الحديثة، فإنَّه يُشرَع فيها فعل هذه الأمور المذكورة في هذا الخبر.
وكف الأذى قد يكون بالقول وهو الأصل، بحيث لا يؤذي الآخرين بسباب أو شتام أو استنقاص أو غيبة أو نحو ذلك، ويشمل أيضًا الأذى الفعلي.
أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّقنا وإيَّاك لكل خيرٍ، وأن يجعلنا وإغيَّاك من الهُداة المهتدين، كما أسأله سبحانه لإخواني المشاهدين الكرام التَّوفيق لما يُحبه ويرضى، وأسأله -جلَّ وعَلا- أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يُبارك في أعمالهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن يؤلِّف ذات بينهم.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك