الدرس الثالث عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3028 23
الدرس الثالث عشر

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
باركَ الله فيك، ووفقكَ الله لكل خير، وأرحبُ بإخوتي من المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلا- أن يرزقنا وإيَّاهم علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
{ما زلنا في الكلام على باب حد الزِّنا في كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِي حُبْلَى مِنَ الزِّنَى فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ, أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِيَّهَا فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِيْ بِهَ»، فَفَعَلَ, فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا, فَقَالَ لَهُ عُمرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟! فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَو قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِيْنَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مْنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ؟». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد؛ فهذا الحديث من الأحاديث التي فيها تقرير حدِّ الزِّنا بالنِّسبَة للمحصَن الذي سبق له الزَّواج، وأنَّ الحدَّ فيه الرَّجم، وهو محلُّ إجماعٍ في الجملة.
قوله هنا: (وَهِي حُبْلَى مِنَ الزِّنَى فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّ)، استدلَّ به بعضهم على أنَّ الحملَ من لا زوجَ لها لا يكون طريقًا لإثبات الحدِّ لاحتمال أن تكون قد وُطئَت بشبهةٍ، واحتمال أن يكونَ الحمل من غيرِ وطءٍ أو نحو ذلك؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُقم الحدَّ عليها إلَّا لمَّا أقرَّت واعترفت.
وقال طائفة من أهل العلم: يثبتُ الحدُّ بالحبَل متَى لم يكن هناك فراش زوجيَّة بالنِّسبَة للمرأة، واستدلُّوا بما وردَ عن عمر في الصَّحيح أنَّه قال: "الحد ثابت متى كان الاعتراف أو الحبل".
واستدلَّ بعض أهل العلم بهذا الخبر على أنَّ حدَّ الزِّنا يثبت بالإقرار مرَّةً واحدة.
والقول الآخر: لا يثبت إلَّا بالإقرار أربعَ مرَّاتٍ -على ما تقدَّم في حديث ماعز- ولعلَّه أرجح، فإنَّ اعترافها هنا يُمكن أن يُفسَّر بأنَّه اعترافٌ مُتكرِّر.
قولها هنا: (فَأَقِمْهُ عَلَيَّ)، فيه جواز اعتراف الإنسان بالزِّنا، وإن كان جماهير أهل العلم على أن سترَ الإنسان على نفسه أولَى إلَّا إذا كان هناك تحقيق مَقصد شرعي.
وفي هذا الحديث: أنَّ مَن وقعَ في مَعصيةٍ أو ذنبٍ ولو كان كبيرًا؛ فإنَّه يُحسَن التَّعامل معه، ويُدعَى إلى التَّوبَة، حتى فيما لو زَنت المرأة، فإنَّ أولياءها يُطالَبون بإحسان التَّعامل معها، ولذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لوليِّها: «أَحْسِنْ إِلَيْهَ».
وفي هذا الحديث دلالة على أنَّ الحد لا يُقام على المرأة وهي حامل، لئلَّا يَتعدَّى أثر إقامة الحد على غيرِ مَن ارتكَب موجِب الحد.
وورد في حديثٍ آخر أنَّه أمرَ الوليَّ أن ينتظر بها حتى تقوم برضاعة ذلك الصَّبي، ولذلك اختلف الفقهاء في انتظار أمر الرَّضاعة:
فقال طائفة: لا ينتظر، واستدلُّوا بظاهر هذه الرِّواية.
وقال طائفة: يُنتَظَر حتى يُفطَم الصبي، فقد جاء في رواية أخرى أنَّه انتظر.
وقال طائفة: إن كان يُمكن رضاعة الصَّبي من غير أمِّه فإنَّه لا يُنتَظر به حتى وقت الفطام، وإن كان لا يرضع إلا من أمِّه فإنَّه يُنتَظر بها ذلك.
فإذا أمكن الإيقاف في غير الحبس فهو أولى؛ لأنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر أهلها بالإحسان إليها، وأعادها إلى بيتِ أهلها ولم يقم بسجنها.
قوله: (فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَ)، أي: قاموا بشدِّ الثِّيابِ عليها، وذلك من أجل ألا تظهر عورتها عند تطبيق الحَدِّ عليها.
قوله: (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ)، فيه إثبات حد الرَّجم.
ولم يذكر في هذا الحديث الجلد، وتقدَّمَ معنا أنَّ الفقهاء اختلفوا في المُحصَن إذا زنا؛ فهل يكون الحد بالرَّجمِ وحدَه كما في حديث ماعز وحديث الجهنيَّة هنا، أو أنَّه يُجمَع بينَ الأمرين الجلد والرَّجمِ على ما وردَ في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي، قدْ جعل اللهُ لهنَّ سَبِيلًا، البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ و الرَّجْمُ»، وما ورد من حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عندما قام بتطبيق الحدِّ في زمانه.
وفي الحديث أنَّ مَن أُقيمَ عليه الحد فإنَّه تُشرَع الصَّلاة عليه إذ لا زالَ مُسلمًا، ويحكَم عليه بأحكام أهل الإسلام.
وفيه أيضًا أنَّ مَن تابَ قد يكون له مَنزلة أعلى مِن منزلته قبل ارتكابه للذَّنبِ، ولذلك صلَّى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها.
وقوله: (فَقَالَ لَهُ عُمرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟!)، فيه السُّؤال للإنسان عمَّا يُشكل عليه من المسائل ليعرف حكم الله فيها.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَو قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِيْنَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مْنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ؟»، فيه فضيلة التَّائبين وعظم أجرهم عند الله -جلَّ وَعَلا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا؟ فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ، قَالَ لَهُم عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُم يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: (إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه جواز قبول تحاكم أهل الكتاب لأهل الإسلام.
وفيه أيضًا أنَّ اليهود في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقرِّونَ بصدقِ هذا النَّبي، وإلَّا لَمَا جاؤوا إليه في هذا الباب.
واستدلَّ بعض العلماء في هذا الحديث على حُجيَّة شرع مَن قبلنا، ولكن إذا نظرنا في تلك المسألة وجدنا أنَّ هذا الحديث خارج عن محلِّ النِّزاع؛ لأنَّه يتحدَّث عن شرع مَن قبلنا المنقول بواسطتهم، والخلاف إنَّما في شرع مَن قبلنا المنقول بواسطة الكتاب والسُّنَّة.
قوله: (فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ)، أي: نُعرِّف النَّاس بذنبِ مَن فعلَ ذلك، وقد وردَ أنَّهم يضعونَه على الدَّابَّةِ مَقلوبًا من أجلِ أن يُعرَف بذلك، ووردَ عن بعضهم أنَّه يُحمِّمه ويُسوِّدُ وجهه.
قوله: (قَالَ لَهُم عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ)، أي: ليس هذا هو الموجود في التَّوراة، وإنَّما الموجود هو الرَّجم.
قال: (فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُم يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلهَا وَمَا بَعْدَهَ)، يعني: من أجل أن يُخفيها، وفيه أنَّه لا يجوز كتم ما يعرفه الإنسان، خُصوصًا إذا ترتَّبَ عليه أحكامٌ وآثارٌ.
وفيه أيضًا جواز وصف أجزاء التَّوراة أنَّها آية، والمراد بالآية: العلامة.
قال: (فَقَالَ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ)، في هذا مراجعة التَّوراة والإنجيل إذا كان هُناك مصلحة شرعيَّة، كما لو كان هناك مَن يُريد أن يردَّ عليهم، أو أن يُبيِّن التَّحريفَ الموجود في كتبهم.
فَقَالُوا: (صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ)، أي: صدق عبد الله بن سلام.
قال: (فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِمَ)، قيل: كان الرَّجم بسبب أنَّ الرَّجم مذكورٌ في كتبهم، وقيل: إنَّما رجمَ بما ورد في هذا الشَّرع.
واستدل به بعضهم على أنَّ الزَّاني المحصَن لا يُجلَد، وإنَّما يُكتفَى برجمه.
وقال الآخرون: إنَّما ذُكرَ الرَّجم هنا ولم يُذكر معه الجلد؛ لأنَّه سبق ذكر الجلد في قولهم (نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ).
قوله: (فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ)، هكذا في الرِّواية المشهورة "يجْنَأُ" بالجيم، أي: أنَّه يميل عليها ويُحاول أن يغطيها من أجلِ ألا تصل إليها الحجارة التي كانوا يستعملونها في الرَّجم.
وفي بعض النُّسخِ قال: "يَحنا" يعني: أنَّه يميل إليها.
وقوله: (يَقِيهَا الْحِجَارَةَ)، أي: أرادَ ألا تمسَّها الحجارة التي يُرجَمون بها.
وظاهر هذا أنَّه جُمِعَ بين الرَّجل والمرأة في مكانٍ واحدٍ عند الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: رَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، وَرَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ وَامْرَأَةً. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
في هذا الحديث: أنَّ حدَّ الزَّاني المحصَن الرَّجم.
وفيه أنَّ الرَّجم يكون للرَّجلِ والمرأةِ.
وفيه أنَّه أهلَ الكتابِ متى تحاكموا إلينا؛ حكمنا عليهم بما في شرعنا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ، عَنْ سَعيدِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ قَالَ: كَانَ بَينَ أَبْيَاتِنا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ مُخْدَجٌ، فَلَمْ يُرَعِ الْحَيُّ إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَا، قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا- فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَضْعَفُ مِـمِّا تَحْسِبُ، لَو ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ عِثْلَاكَا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» قال: فَفَعَلُوا بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَإِسْنَادُهُ جَـيِّدٌ، لَكِنْ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلً)}.
هذا الحديث رجاله ثقات، إلا أنَّه من رواية ابن إسحاق كما ذكر المؤلف هنا، وهو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السِّيرَة، وهو صدوق ولكنَّه مدلِّس، فلا يُقبَل من حديثه إلا ما صرَّحَ فيه بالسَّماع، وهنا قال: (عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ)، معنى ذلك أنَّه عنعن الحديث، وبالتَّالي فإنَّ الحديث مُنقطع حُكمًا، ولم يتَّصل إسناده.
قوله: (كَانَ بَينَ أَبْيَاتِنا رُوَيْجِلٌ)، رويجل: تصغير رجل.
قوله: (ضَعِيفٌ مُخْدَجٌ)، المخدَّج هو ناقص الخلقة.
قال: (فَلَمْ يُرَعِ الْحَيُّ)، أي: لم ينتبه الحي، بل فُجئوا أنَّه كان على أمةٍ من إمائهم.
قوله: (إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَ)، أي: يزني بها.
قوله: (قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا- فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ»)؛ لأنَّه لم يُحصَن بعدُ، وبالتَّالي يُجلَد مائة على ظاهر قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2].
قوله: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ,إِنَّهُ أَضْعَفُ مِـمِّا تَحْسِبُ)، أي: ممَّا تظن.
قوله: (لَو ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ, فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ عِثْلَاكَا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ») العثك من أعثاك النَّخل الذي فيه الرُّطَب، ويكون لونه في الغالب أصفر، وكل واحدٍ من هذه الأغصان يُقال له شمراخ، وبالتَّالي إذا ضُربَ به فيكون قد ضُرِبَ مائة.
قال: «ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً»، فتُجزئه.
وكما تقدَّم أنَّ هذا الحديث منقطع حكمًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرو بنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ فَإِنَّ عِكْرِمَةَ رَوَى لَهُ البُخَارِيُّ، وَعَمْرٌو مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ أُعِلَّ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَوَّلَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ آخِرَهُ)}.
الإشكال ليس في كونه من رواية عمرو بن أبي عمرو فهو من رجال الصَّحيح، ولا كونه من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ فإنَّه أيضًا قد وُجدَت له رواية في الصَّحيح، ولكنَّ الإشكال في كونه من رواية عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة، فقد يكون الراوي ثقة، ولكن روايته عن فلان يكون فيها إشكالٌ، وعمرو بن أبي عمرو قد روى أحاديث عن عكرمة فيها نكارة، ولذلك تكلَّمَ بعضُ أهل العلم في رواية عمرو عن عكرمة؛ بل بعضهم يقول: إن عَمْرًا لم يسمع من عكرمة، ولذلك وُجد فيه الاختلاف.
وهذا الحديث فيه أمرين:
 الأول: مَن يقع على البهائم، فأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتله وقتل البهيمة.
 والثاني: في جريمة اللواط: حيث أمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتل الفاعل والمفعول به.
وهذا الحديث -كما تقدم- أنَّه ضعيف الإسناد، والعلماء لهم أقوال متعدِّدَة في أهل اللواط:
 منهم مَن يقول: يُقذفون من أعلى جبلٍ حتى تندقَّ رقابُهم كما فُعل بقومِ لوطٍ.
 ومنهم من يقول: يُقتل حَتمًا.
 ومنهم مَن يقول: هو زانٍ له أحكام الزَّاني، وهذا مذهب أكثر أهل العلم في ذلك، وإن كان قد حُكيَ اتِّفاق الصَّحابة على كونه يُقتل مع اختلافهم في طريقة قتله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ يَومَ القِيامَةِ, إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَما قَالَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ)
}.
المراد بالقذف: اتِّهام الإنسان لغيره بالزِّنا بدون أن يأتي بشهودٍ، والقذف من المحرَّمات، وجاءت النُّصوص بتحريمه وبيان أنَّه من كبائر الذُّنوب، وقد عَدَّه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من السَّبع الموبقات، وقد روى المؤلف من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ»، أي: من اتَّهم بالزِّنَى مَن كان مِلكًا له يتمكَّن مِن بيعه.
قال: «يُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ يَومَ القِيامَةِ»، أي: حَدَّ القذف، وذلك لأنَّ السَّيد يملك منافع العبد المملوك، وبالتَّالي لا يُضرَب السَّيد حدَّ القذف به، وهذا في قولِ طائفة من أهل العِلم على خلافٍ بينهم في هذه المسألة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لـمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ. رَوَاهُ أحمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ)}.
ابن إسحاق -كما تقدَّم- أنَّه صدوقٌ مدلِّسٌ، وقد صرَّح بالتَّحديثِ في هذا الخبر، فيكون الحديث حسن الإسناد.
قالت عائشة: (لـمَّا نَزَلَ عُذْرِي)، أي: لمَّا نزلت الآيات من أوائل سورة النُّور في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [النور: 11]، عندما بيَّن ربُّ العزَّة والجلال براءةَ عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
قالت: (قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ، وَتَلَا الْقُرْآنَ)، أي: ذكر براءتها، وفيه مشروعيَّة الخطبة في الأوامر العامَّة التي يحتاج إليها النَّاس.
قالت: (فَلَمَّا نَزَلَ)، أي: من المنبر.
قولها: (أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ)، فالرَّجلان هما: مسطح بن أثاثة، والشَّاعر حسَّان بن ثابت. وأمَّا المرأة فهي: حمنة بنت جحش -رضوان الله عليهم جميعًا- فقد انغرُّوا بالإشاعات والدِّعايات التي وُجدَت في ذلك الزَّمان، وكانت زينب بنت جحش هي التي تسامي عائشة، ولكنهم عندما أرادوا منها أن تتَّهم عائشة بذلك قالت: "أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا".
قولها: (فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ)، أي: حد القذف.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فتُقْطَعُ يَدُهُ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِـجَنٍّ ثَـمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَ)
}.
المراد بالسَّرقة: أخذ مال الآخرين بدون إذنهم على جهةِ الخفية.
والسَّرقة من كبائر الذنوب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء/29]، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالَ امْرئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَن طِيبِ نَفْسٍ» .
والسَّرقة يجب فيها قطع يد السَّارق بالشُّروط التي جاءت في الأخبار، قال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة/38].
ولا يُطبَّق حدُّ السَّرقة إلا بشروط، منها:
 أنَّ الذي يُطبِّق حد السَّرقة هو الإمام أو نوَّابه، فلا يجوز لأفراد الناس أن يُطبقوا حَدَّ السَّرقَة، حتى ولو كان السَّارق مملوك الإنسان.
 مُطالبة المسروق منه بماله المسروق.
 أن يكون المال مأخوذًا من حِرْزٍ.
 ألا يكون هناك شُبهَة في أخذ ذلك المال.
 ويشترط عند الجمهور أنَّه يكون قد بلغ النِّصاب خلافًا للظَّاهريَّة، فهم يقولون: يُقطَع بالقليل والكثير.
واستدلَّ الظَّاهريَّة بحديث «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فتُقْطَعُ يَدُهُ»، قالوا: إنَّ هذا شيء يسير أقل ممَّا ذكرتموه نصابًا، ومع ذلك أثبت له قطع يد السارق.
وبعض فقهاء الجمهور قالوا: إنَّ المراد بالبيضة في الحديث هي بيضة السِّلاح، والمراد بالحبل هو الحبل الثَّمين، ولأنَّ الحديث هنا مُطلَق، وبالتَّالي نُقيِّده بالأحاديث الأخرى التي وردَت في ذلك، ومنها حديث ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِـجَنٍّ ثَـمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ)، فيه إثبات مشروعيَّة قطع يد السَّارق، وأنَّها سُنَّةٌ ثابتةٌ، وفيه أنَّ المجن يجوز قطع يد السَّارق بسببه متى كان ثلاثة دراهم.
والقول بأنَّ النِّصاب في السَّرقة ثلاثة دراهم هو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد، وعند الإمام أبي حنيفة أنَّ النِّصاب عشرة دراهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدً»)}.
هناك فرق بينَ الدينار والدِّرهم، فالدِّرهم في الفضَّة، وهو تقريبًا ثلاثة جرامات، بينما الدينار في الذهب، وهو تقريبًا أربعة ونصف جرام، فإذا كان في ثلاثة دراهم معنى أنَّه تسعة جرامات من الفضَّة، وإذا كان ربع دينارٍ فإنَّه يكون قرابة الجرام وشيء يسير، ففيه قطع يد السَّارق.
وفي هذا إثبات النِّصاب في حد السَّرقَة كما قال الجمهور خلافًا للظَّاهريَّة.
وفيه أنَّ النِّصاب ثلاثة دراهم أو ربع دينار، خلافًا للحنفية الذين يقولون إنه عشرة دراهم.
واستدل المالكيَّة بهذا الحديث على أنَّ أقل مقدار في المهر هو هذا المقدار، لأنَّه لم يستبِحْ جزءًا من أجزاء المرأة -وهو البُضع- إلا بما يُستباح به قطع اليد.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الـمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِأُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُم كَانُوا إِذا سَرَقَ فِيهمُ الشَّرِيْفُ تَرَكُوهُ، وَإِذا سَرَقَ فِيهمُ الضَّعِيفَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ, لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِما، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
وَلَهُ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقْطَعِ يَدِهَ)
}.
قوله: (وَعَنْهَ)، أي: عن عائشة.
قوله: (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الـمَخْزُومِيَّةِ)، أي: أنَّهم قد صعُبَ عليهم أن تُقطَع يدها مع مكانتها وعلوِّ منزلتها، ولذلك اهتمُّوا من شأنها.
قوله: (الَّتِي سَرَقَتْ)، ظاهره أنَّه سرقة على أصل معنى السَّرقة في اللغة.
قوله: (فَقَالُو)، يعني: قريشًا قالوا...
قوله: (مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)، وهذا كان بعدَ الفتح.
فَقَالُوا: (وَمَنْ يَجْتَرِأُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»)، فيه أنَّه لا تجوز الشَّفاعة لإسقاط الحدود، ومنها حد السَّرقة.
قال: (ثُمَّ قَامَ)، يعني: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (فَاخْتَطَبَ)، فيه مشروعيَّة الخطبة من أجل إزالة ما يعلق بأذهان النَّاس من معانٍ.
قال: (فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ»)، فيه الابتداء بالنِّداء من أجل أن يلفت الأذهان لِمَا يُقال.
قوله: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذينَ قَبْلَكُمْ»، يعني: السَّب الذي جعل مَن سبقكم من الأمم يهلكون هو «أَنَّهُم كَانُوا إِذا سَرَقَ فِيهمُ الشَّرِيْفُ تَرَكُوهُ»، أي لم يُقيموا عليه حد السَّرقة. قال: «وَإِذا سَرَقَ فِيهمُ الضَّعِيفَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ»، وفي هذا دلالة على أنَّ الحد يُقام على كبير المنزلة وصغيرها، ويُشترط فيه أن يكون بالغًا.
قال: «وَايْمُ اللهِ»، فيه جواز القَسَم بمثل ذلك.
قال: «لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ»، ذكرها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونها أصغر بناته، أو لِمَا لها من مكانةٍ خاصَّةٍ عنده.
قال: «لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَ»، فيه إثبات قطع يد السَّارق حتى ولو كان السَّارق ممَّن له منزلة ومكانة.
قال: (وَلَهُ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ)، فيه أنَّ مُستعير المتاع الذي يجحده بعدَ ذلك يُشرَع فيه قطع اليد وإقامة حد السَّرقة عليه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ أُعِلَّ)}.
هذا الخبر من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وابن جريج لم يسمع هذا الخبر من أبي الزبير، وإنما رواه من طريق ياسين الزَّيات عن أبي الزبير، وبالتَّالي تكلموا فيه وقالوا إنَّ فيه علَّة خفيَّة، وياسين هذا ضعيفٌ.
قال: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ»، المنتهب هو الذي يأخذ المال الظَّاهر غير الموجود في حرزه. والخائن: هو من لم يقم بالأمانة، مثل العامل ومثل الأجير.
وقوله: «وَلَا مُخْتَلِسٍ»، المختلس يأخذ المال بالخفية، ولكنه لا يأخذه من مال مُحرَز؛ فهؤلاء ليس عليهم قطع.
لعلنا نقف على هذا، باركَ الله فيكَ، ونُكمل -إن شاء الله- في لقائنا القادم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- وأسأل الله -جلَّ وَعَلا- لكَ توفيقًا وهدايةً ورفعةَ شأنٍ، كما أسأله -جلَّ وَعَلا- أن يرزقَ المشاهدين الكرام العلم النَّافع، والعمل الصَّالح.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك