الدرس الثاني عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3025 23
الدرس الثاني عشر

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- للجميع خيري الدُّنيا والآخرة، وأسأله -سبحانه- أن يكفي الجميع جميع الشُّرور.
{نستفتح في هذه الحلقة بكتاب "الحُدُود" باب "بَابُ حَدِّ الزَّانِي" من كتاب المحرَّر لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَزيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ اللهَ إِلَّا قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ -وَهُوَ أفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَـنَا بِكِتَابِ اللهِ وَائْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ» قَالَ: إِنَّ ابْني كَانَ عَسِيْفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرتُ أَنَّ عَلَى ابْني الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّما عَلَى ابْني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الوَلِيْدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَ» قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِـهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِـمَتْ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ مُسلمٍ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعد؛ قوله: (كِتَابُ الْحُدُودِ).
المراد بالحدود: العقوبات المقدَّرة شرعًا.
الحد في اللغة: المنع. وهذه العقوبات تمنع النَّاس من ارتكاب الجرائم التي رُتِّبَت هذه العقوبات عليها، ولذا سُمِّيَت الحدود.
إذن؛ عندنا عُقوبات مُقدَّرة من الشَّارع يُقال لها: حدودًا، وَعُقوبات يُقدِّرها القاضي بناء على فعل جريمة، فهذه تُسمَّى تعزيرات.
وتلاحظ أنَ الشَّريعة قد نصَّت على الجرائم، إمَّا بأوصافها، أو بعموماتها، ولم تترك جريمةً إِلَّا وقد ذكرَت حُكْمَها.
وإيجاب الحدود فيه عددٌ من المعاني:
 الأول: تطهير ذلك الشَّخص الذي فعل تلك الجريمة، فإنَّ الحدود مُطهرات تجعل الإنسان يتخلَّص منها.
 الثاني: زجر الآخرين عن الإقدام على هذا الفعل، لئلا يقتدوا بهذا الفاعل لهذه الجرائم التي عليها عُقوبات حدِّيَّة
 الثالث: أنَّ هذه الجرائم ينتهي ذكرها في المجتمع، وبالتَّالي يجفل منها النَّاس ويهابونها.
 الرابع: أن تكون تلك الحدود بمثابة المصلح لأولئك الأشخاص الذينَ وقعوا في هذه الجرائم.
والغالب في الحدود أن تكونَ إمَّا بالجلد أو بالقطعِ، أو نحوه، وليس فيها ذكر شيء من السُّجون، ولم يَرِد عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه حكمَ بالسِّجن كعقوبة، وإن وردَ أنَّه حبسَ في التُّهمةِ من أجلِ أن يتحقَّقَ من الأمر.
فالمقصود: أن تقرير عُقوبات الحدود هذه تعود بالخير والصلاح على الْمُقدِم على الفعل، وعلى غيره ممَّن يُريد الاقتداء به، وتكون من أسباب انتهاء النَّاس عن المنكرات.
ثُمَّ ذَكَرَ المؤلف حدَّ الزِّنا.
المراد بالزِّنا: الوطء في الحرام.
وبعضهم يقول: وطءُ رجلٍ لامرأة محرَّمةٍ عليه، بدون أن يكون هناك شُبهة.
والنَّاس في الزنا على نوعين:
 مُحصَن: وهو الذي سبق له الزَّواج ولو طلَّق، فهذا الواجب رجمه.
 غير محصَن: وهو الذي لم يَسبق له الزَّواج، فعقوبته جلد المائة -كما سيأتي.
أورد المؤلف هنا حديث أَبي هُرَيْرَةَ وَزيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ)، يعني: من أصحاب البادية.
قال: (أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ)، ولم يأت وحدَه؛ بل جاء معه والد الرجل الآخر.
قال: (أَنْشُدُكَ اللهَ)، أي: أرفعُ صوتي طالبًا نُشدتكَ من الله -جلَّ وعَلَا- ولذلك سُمِّي النَّشيدُ نشيدًا؛ لأنَّهم يرفعون الصَّوت به.
قال: (إِلَّا قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ اللهِ)، أي: أطلبُ منك أن تقضي بيني وبين خصمي بكتاب الله.
قال: (فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ -وَهُوَ أفْقَهُ مِنْهُ)، لماذا كان أفقه منه؟
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لن يقضي إلا بكتاب الله، وبالتَّالي لا حاجة لأن يشترط عليه أن يكون قضاؤه بكتاب الله -جلَّ وعَلَا- ولذلك كان الثَّاني أفقه منه.
قال: (نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَـنَا بِكِتَابِ اللهِ)، أي: على وفق ما طلب، وفيه إشارة إلى أنَّ الخصم الآخر عرَفَ مأخَذ المسألة بسؤال أهل العلم، فكان أفقه، فالأول الآن يُطالب بتنفيذ الحكم على وفق ما جاءت به الشَّريعة.
قال: (وَائْذَنْ لِي)، أي: ائذن لي بالكلام أولا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ».
قَالَ: (إِنَّ ابْني كَانَ عَسِيْفًا عَلَى هَذَ)، أي أن ابني كان أجيرًا يعمل عندهم بأجرةٍ.
قال: (فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ)، فيه إشارة إلى أنَّه ينبغي التَّحرُّز في اختلاط الرِّجال بالنِّساء، وأنَّ الاختلاط قد يؤدِّي إلى آثار سيئةٍ.
قال: (وَإِنِّي أُخْبِرتُ)، أي: سمعتُ شائعة.
قال: (أَنَّ عَلَى ابْني الرَّجْمَ)، هو لم يتزوَّج بعدُ. فهذه الشَّائعة التي جاءت إليه ظنَّها صحيحة، وأنتَ تعلم أنَّ الزَّاني البكر عليه الجلد، لقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2].
وفيه أنَّه ينبغي للإنسان ألا يُبادر بتصديق الشَّائعات، وينبغي به أن يرجع إلى أهلِ الشَّأنِ والاختصاص فيسألهم؛ ليكونَ كلامه وفعله مُطابقًا لما يجب عليه.
قال: (فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ)، أي: ذهبتُ إلى زوجِ المرأة وقلت: أريدكَ أن تعفو عن ابني، وأدفع عنه مائة شاة وجارية صغيرة مملوكة، فاتفقوا على ذلك ووقع الصُّلح.
قال: (فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ)، يعني: رجع إلى أهل الخبرة والاختصاص ليأخذ منهم.
قال: (فَأَخْبَرُونِي أَنَّما عَلَى ابْني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ)، وفي هذا أن الزاني غير المحصَن يجب عليه جلد مائة.
وقوله: (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) فيه دلالة على أنَّ الزَّاني غير المحصَن يُغرَّب سنة، أي: يُنقَل من مكانه وبلده الذي زنا فيه إلى مكانٍ آخرٍ من أجل أن يكون ذلك من أسباب استقامته، وبُعده عن المجتمع السَّابق الذي فعل فيه المعصية.
واستدلَّ الجمهور بهذا اللفظ (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) على مَشروعيَّة التَّغريب، وهو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد.
وقال الإمام أبو حنيفة: لا يُشرع التَّغريب.
ومنشأ الخلاف هنا: من مسألة هل يصحُّ أن نزيد على نصِّ القرآن بواسطةِ أحاديث الآحاد؟
فإن الإمام أبا حنيفة يقول: الزِّيادة على النَّصِّ نسخٌ، وبالتَّالي يُشتَرَط في الزِّيادة شروط النَّسخ، ومن شروط النَّسخ أنَّنا نقول: إن الخبر المتواتر لا يُنسَخ بالآحاد، وهنا حُكمٌ مُتواتر جاء في الآية القرآنية بإثبات الجلد مائة، وجاءنا في الحديث -وهو خبر آحاد- زيادة التَّغريب لعام، فقال أبو حنيفة: لا آخذ بهذه الزيادة؛ لأنَّ الزيادة على النَّصِّ نسخٌ، وخبرُ الآحاد لا يقوى على نسخ المتواتر.
وقال الأئمة مالك والشَّافعيُّ وأحمد: إنَّ الزِّيادة على النَّصِّ ليست نسخًا، وإنَّما هي بيان، ولا مانع من بيان المتواتر بالآحاد، ولذلك أثبتوا عقوبة التَّغريب.
ويدل عليه: أنَّ هناك أحاديث كثيرة فيها إثبات التَّغريب.
قال: (وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ)، فيه أنَّ الزَّانية المحصَنَة يجب رجمها، وأنَّ هذا هو الحد في حقها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، فيه القَسَم قبل أن يُطلَب إذا كان هناك فائدة.
قال: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ»، أي: بحسب طلبكما، والمراد بكتاب الله: أي بشرعِ الله -جلَّ وعَلَا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مخاطبًا والد العسيف: «الوَلِيْدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ»؛ لأنَّه صُلحٌ فاسدٌ، وبالتَّالي لا يُعوَّل عليه، ولا يُبنَى عليه حُكمٌ.
قال: «وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ»، على مُقتضَى الآية.
قال: «وَتَغْرِيبُ عَامٍ»، فيه إثبات مذهب الجمهور في تغريب الزَّاني.
قال: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ»، وهو أنيس الأسلمي من صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه فوائد:
 توكيل القاضي لأفراد الناس في سماع الإقرارات.
 أنَّ المرأة التي ليس من شأنها البروز يحسُن أن تُقاضَى داخل بيتها، وأَلَّا تُجرَّ إلى المحاكم ونحوها، وفي هذا الحرص على صيانة المرأة.
قال: «إِلَى امْرَأَةِ هَذَ»، أي: زوجته.
قال: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَ»، فلا يلزمها كلام زوجها وكلام والد العسيف وكلام العسيف، وبالتالي يُرجع إليها، وفيه أنَّ الاعتراف يُرجَع فيه إلى صاحب الشَّأن الذي يثبت عليه الحق.
قَالَ: (فَغَدَا عَلَيْهَ)، أي: أنَّ أنيسًا ذهبَ إلى امرأة هذا الرَّجل.
قال: (فَاعْتَرَفَتْ)، أي: اعترفت بالزنا.
قال بعضهم: هذا دليل على أنَّ الزَّاني يكفي اعترافه مرَّة واحدة.
وبعضهم يقول: لابدَّ في الاعتراف بالزنا من أربع مرَّاتٍ على مُقتضى ما ورد في حديث ماعز، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قال: (فَأَمَرَ بِـهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه أنَّ الحدود إلى الإمام، وليست لأفراد النَّاس من أجلِ أن يتحقق من الشروط ويتثبَّت من الأمر.
قال: (فرُجِـمَتْ)، يعني: بأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلًا البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ». رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي»، أي: خُذوا هذا الحكم واستلموه واعملوا به.
قال: «فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلً»، يُشير إلى الآية: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلً﴾ [النساء: 15]، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلً»، فهذا تقريرُ حُكمٍ.
كيف جعل الله لهنَّ سبيلًا؟
لأنَّه كان يُؤمَر بحبسها، والآن جاءها فرجٌ وطريقٌ وسبيلٌ تتخلص به من ذلك الحبس.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» أي: إذا زنا البكر فحينئذٍ يجب الجلد مائة، والنَّفي سنة، وليس في هذا تخصيص العقوبة بما لو زنا بكرٌ ببكر، بل لو زنا البكر بالثَّيب؛ فحينئذٍ يثبت للبكر أحكامه وللثيب أحكامها، ومثله العكس، فلو كانت المرأة بكرًا والرَّجل سبق له الزَّواج؛ فحينئذٍ نقول: لكلٍّ حكمه.
وقوله: «جَلْدُ مِائَةٍ» فيه أنَّه لابدَّ من استيفاء العدد، فلا يكفي تسعة وتسعون، ولا يكفي أن تُجمَعَ هذه بضربة واحدة بعُكال أو نحوه؛ بل لابدَّ من جلد مائة جلدة، كلُّ واحدة مُنفصلة عن الأخرى.
قوله «وَنَفْيُ سَنَةٍ»، أي: تغريب عام، والسَّنَةُ في لسانِ الشَّرع يُراد بها السَّنَةُ القمريَّة، فلا يجوز أن يُغرَّبَ سنةً شمسيَّة؛ لأنَّ السَّنَة الشَّمسيَّة أكثر من السَّنة القمريَّة بأحد عشر يومًا؛ فلابدَّ أن يُراعَى هذا؛ لأنَّ هذا الحكم وجميع الأحكام المربوطة بالسَّنوات إنَّما تُحسَب بالسَّنة القمريَّة الهجريَّة لا بالسَّنةِ الشَّمسيَّة الميلاديَّة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5]، يعني: قدَّر القمر.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» تقدَّم أنَّ المراد به: مَن سبق له أن تزوَّجَ ودخل بالمرأةِ، ويُشترط فيه كمال حال الزَّوج وكمال حال الزَّوجَة، فالثيب: مَن وطء في عَقدٍ صحيحٍ وهما حرَّانِ بالغانِ.
قال: «جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»، الجمع بين الرَّجم والجلد هذا مذهب جماعة من أهل العلم.
والجمهور يقولون: يُرجَم فقط؛ لأنَّ الحوادث التي وقعت كقصَّة ماعز والغامديَّة وُجد فيها رجم ولم يوجد جلد، وقد ورد عن عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه في ولايته جلدَ ورَجمَ.
وعلى كلٍّ فالمسألة خلافيَّة، والقاضي الذي ينظر في مثل هذه القضايا يجتهد، وتطبيق الحدود لابدَّ أن يكون عن طريق القضاء، فلا يأتي واحدٌ ويقول: أنا أنفِّذ على فلان! لأنَّه لا يعلم هل وُجدَت الشُّروط، هل انتفت الموانع، هل هناك تقييدات، ونحو ذلك؛ وإنَّما يُطبقه ويأمر بتطبيقه صاحب الولاية القضائيَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَسَعِيدِ بنِ المسَيَّبِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي المسْجِد فَنَادَاهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبِعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ أحْصَنْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» قَالَ ابْنُ شهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ يَقُولُ: فَكنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالـمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ)، هو محمد بن مسلم الزُّهري، من علماء السُّنَّة، ومن الأئمَّة الأثبات، حفظ حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دهرًا من الزَّمان.
قوله: (عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ)، والده عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنَّة.
قوله: (وَسَعِيدِ بنِ المسَيَّبِ)، وهو أبو سلمة من التَّابعين.
قال: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ).
هل يُفهم من كلمة (مِنَ الـمُسْلِمِينَ) أنَّ تطبيق الحدود إنَّما يكون على أهل الإسلام كما قال طائفة؟ أو يشمل كل مَن حرُم عليهم ذلك الفعل؟
سيأتي معنا رجم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لليهوديين.
قال: (أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي المسْجِد)، فيه كثرة بقاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد.
قال: (فَنَادَاهُ)، أي: أنَّ هذا الرجل نادى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ)، أعرض عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد ناداه أولًا من بعيدٍ، ثم ذكرَ فعلًا شنيعًا.
قال: (فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ)، يعني: أنَّ الرجل بدلَ أن يكون في تلك الجهة الأولى جاء في الجهة الثانية التي التفت إليها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ لَهُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ)، هذا الرجل يُريد أن يطهِّر نفسه ويُزيل عنه الإثم.
قال: (فَأَعْرَضَ عَنْهُ)، فيه الإعراض عن الكلام الذي تُخشَى عواقبه.
قال: (حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ)، يعني :كرَّرَ عليه هذا الكلام أربعَ مرَّاتٍ.
قال: (فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبِعَ شَهَادَاتٍ)، يعني: أنَّه قد زنا.
قال: (دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؛ ليتحقق من وجود الشُّروط وانتفاء الموانع.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟»؛ لأنَّ الجنون مانع من إقامة الحد.
قَالَ الرجل: (لَ)، أي: ليس بي جنون.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلْ أحْصَنْتَ؟»، أي: هل سبق لك الزَّواج والوطء فيه؟ وهذا مُراعاة شرط من شروط الحكم.
قَالَ: (نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ»)، في هذا أنَّه لا يلزم وجود الإمام عندَ إقامة الحدود، طلبَ منهم أن ينقلوه إلى المكان الآخر من أجل أن يكون خارج المدينة.
قَالَ ابْنُ شهَابٍ: (فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ)، هنا انقطاع بين ابن شهاب وبين جابر.
يَقُولُ: (فَكنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ)، فيه أنَّ أفراد النَّاس يُشاركونَ في الرَّجم.
قال: (فَرَجَمْنَاهُ بِالـمُصَلَّى)، المصلَّى مكان خارج البلد يُصلون فيه العيد، ويُصلونَ فيه على الجنائز في الزَّمان الأول.
قال: (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ)، أي: آنسَ حرَّ الحجارةِ وأضعفته هذه الحجارة هربَ.
قال: (فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحرَّةِ)، أي: الجبال السُّود، أو المواطن التي فيها حجارة سود بجوار المدينة.
قال: (فَرَجَمْنَاهُ)، تنفيذًا لأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنْ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بنُ مَالكٍ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ» قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «أَنِكْتَهَ» -لَا يَكْنِي- قَالَ: نَعَمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْـمِهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لـمَاعِزِ بنِ مَالكٍ: «أَحَقٌ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟» قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عنِّي؟ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثمَّ أَمَرَ بِهِ فرُجِمَ)
.
ماعز بن مالك من الصَّحابة، جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعترفًا بالزنا، واعترف أربع مرَّاتٍ، فحينئذٍ أراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتحقَّقَ من أنَّ اعترافه وقع على محلِّه، وأنَّه لم يقصد بالاعتراف بالزنا مُقدِّماته، ولذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ»، فإنَّ بعضَ النَّاس قد يُسمِّي القُبلَة زنا.
قال: «أَوْ غَمَزْتَ»، أي: أدخلتَ أصبعكَ أو يدك في بدنِ المرأة.
قال: «أَوْ نَظَرْتَ»، أي: اكتفيتَ بالمشاهدة.
فهذه الأمور لا يثبت بها حد الزِّنا.
قَالَ: (لَا يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: ليس مُرادي هذه الأشياء.
فَقَالَ: «أَنِكْتَهَ»، والنَّيْكُ عندهم الجماع.
قول الراوي: (لَا يَكْنِي)، أي: لم يحتَجْ إلى استعمال لفظة أخرى في الكناية؛ لأنَّ هذا سيترتب عليه تنفيذ الحد الذي هو الرَّجم.
قَالَ ماعز: (نَعَمْ).
قال: (فَعِنْدَ ذَلِكَ)، أي: لَمَّا تحقَّقَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتكرَّرَ اعترافه.
قوله: (أَمَرَ بِرَجْـمِهِ)، أي: أمرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برجمه، وفيه أنَّ الثَّيب الزَّاني يُرجَم.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لـمَاعِزِ بنِ مَالكٍ: «أَحَقٌ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟»، أي: هذا الخبر الذي وصلني عنكَ بأنَّك قد قارفتَ هذه الجريمة.
قَالَ ماعز: (وَمَا بَلَغَكَ عنِّي؟ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ»)، يعني: جامعتها.
قَالَ: (نَعَمْ. قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ)، يعني: اعترف على نفسه أربع مرَّات.
قال: (ثمَّ أَمَرَ بِهِ فرُجِمَ)؛ لأنَّه قد انطبق عليه شرط الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ جَالسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أنزلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَو كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ)}.

قوله: (قَالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ جَالسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه تولِّي صاحب الولاية خطبة الجمعة، وفيه الاستفادة منه في ذلك، وفيه مشروعيَّة أن تكون الخطبة على منبرٍ.
قال: (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ)، أي: يشهد أن رسالته حق، وأنَّه مُرسل من عند ربِّ العزَّة والجلال.
قال: (وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ)، وهو القرآن العظيم.
قال: (فَكَانَ مِمَّا أنزلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ)، فآية الرَّجم موجودة في كتاب الله، نُسخَ لفظها وكتابتها، ولكن لم يُنسَخ حُكمها.
قال: (قَرَأْنَاهَ)، وذكر البيهقي هذه الآية بلفظها {الشيخ والشَّيخةُ إذا زنيا فارجمهوما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم}، ولكن هذا اللفظ لم يثبت ثبوتًا تامًّا، وإنَّما المعوَّل عليه ثبوت معناه.
قال: (وَوَعَيْنَاهَ)، أي فهمناها (وَعَقَلْنَاهَ)، أي تدبرنا فيها وردَّدنا النَّظرَ.
وهناك دليل آخر على مشروعيَّة الرَّجم، ألا وهو الفعل النَّبوي، فقد تواتر عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قد رجمَ الزَّاني المحصَن.
ثم استمرَّت هذه السُّنة، فلا زال الناس يرجمون الزَّاني المحصَن، ممَّا يدلُّ على بَقاء الحُكْم وثبوته.
قال عمر: (فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ)، يعني: أن يَرِدَ إليهم شيء من البدعة أو شيء من تسويل الشَّيطان.
قوله: (فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ)، أي: ليس فيه آية في كتاب، وبالتَّالي يتركوا الرَّجم.
قوله: (فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلهَا اللهُ)، أي: ابتعدوا عن الصراط المستقيم بعدم مُعاقبة الزاني المحصَن بالرَّجم.
قال: (وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى)، إذن سبب الرَّجم وعلَّته الزنا، وشرطه الإحصان، وفيه أنَّ الحكم يثبت للرجال والنساء.
ثم ذكر طرائق إثبات الزنا التي يثبت بها الحد:
الطريق الأول: البينة، فإذا شهد أربعة أنَّ فلانًا قد زنا فإنَّه حينئذٍ يؤخذ بشهادتهم، كما في الآيات القرآنية في سورة النور: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ [النور: 13].
الطريق الثاني: قوله: (أَو كَانَ الْحَبَلُ) يعني: إذا حملت المرأة، ولم تدَّعي أنَّ سبب الحمل كان جهلًا منها أو نحوه.
وجمهور أهل العلم على أنَّ الحمل ليس طريقًا للإثبات، وإنَّما هو طريق لاستجلاب الإقرار.
الطريق الثالث: الاعتراف، فإذا اعترفت بالزنا ثبت عليها حدُّ الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ». وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ ليَبِعْهَا فِي الرَّابِعَةِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ»، الأمة هي المملوكة التي تُباع وتُشتَرى.
قوله: « فَتَبَيَّنَ زِنَاهَ»، أي: قام الدليل القاطع على الزنا، وتبيَّنَ للسَّيِّد أنَّ أمتَه قد زَنَت.
قال: «فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ»، الأمة حتى ولو كانت متزوجة فإنَّها لا تُرجَم في حد الزنا، وإنَّما تُجلَد، وحد الأحرار مائة لقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2]، لكنَّ الإماء ومثلهم المماليك إنَّما يُجلَدون خمسين لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: 25]، فدلَّ ذلك على أنَّه ليس عليها إلا النِّصف، والأصل في الحدود أن تكون لصاحب الولاية والسُّلطان، وليس لأفراد النَّاس أن يُطبقوا الحدود إلا هنا؛ فإنَّ السَّيِّد يملك تطبيق حد الزنا على أمته، وكثير من أهل العلم ألحق بالأمة المملوك.
قال: «وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَ»، أي: لا يقوم بتعييرها أو القدح فيها، لئلا يكون ذلك سببًا في استمرارها وفي تتابع الآخرين على فعلٍ يُماثل فعلها.
قال: «ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا, ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ ليَبِعْهَا فِي الرَّابِعَةِ»؛ السَّيِّدُ يُقيم الحد ولو تكرَّرَ الزنا، وفيه أنَّه إذا تكرَّرَ الزنا شُرعَ إقامة الحد مرَّةً أخرى.
وقوله: «فَلْيَبِعْهَ»، أي ليتخلَّصَ منها.
وقوله: « وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ»، أي: ولو كان بثمنٍ قليلٍ يسيرٍ. استشكل بعض أهل العلم ذلك فقالوا: كيف يبيعها ويعلم أنَّ فيها عيبًا؟!
قال بعضهم: يُبيِّن العيبَ.
وقال بعضهم: يبيعها على السَّلامة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي عَبدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ: منْ أَحْصَنَ مِنْهُم وَمَنْ لم يُحْصِنْ، فَإِنَّ أمَةً لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَها، فَإِذا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُها أَنْ أَقْتُلَها، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ» وَفِي لفظٍ: «اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ»)}.
قَالَ: (خَطَبَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ)، أي: أقيموا على مماليككم حدَّ الزنا.
قال: (منْ أَحْصَنَ مِنْهُم وَمَنْ لم يُحْصِنْ)، فالمماليك من الإماء والرجال المماليك حدهم إنَّما يكون بالجلد خمسين جلدة؛ لأنَّه نصف ما على المحصنات من العذاب، ولا يُرجَم، وظاهر النُّصوص أنَّ المملوك لا يُغرَّب؛ لأنَّه حينئذٍ يضر بالسَّيِّد.
قال علي: (فَإِنَّ أمَةً لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَه)، هذا الأمر باعتبار السيد لها.
قال: (فَإِذا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ)، فهي ولدت قريبًا وتحتاج إلى أن تُترَك مدَّةً ليقوى بدنها.
قال: (فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُها أَنْ أَقْتُلَه)؛ لأنَّها لازالت نفاسًا ضعيفةً، وبالتَّالي الجلد سيؤثِّر عليها.
قال: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: من كونها نفاسًا ويحتمل أن يؤثر عليها.
فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ»، وذلك لأنه قد يزيد في أثر تطبيق الحد، فقد تموت بسبب ذلك، ومن ثَمَّ قال له: أحسنتَ في تأخير إقامة الحد.
وَفِي لفظٍ: «اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ»، يعني يرتفع عنها آثار النِّفاس والولادة، وبالتَّالي تكون قويَّةً يُمكن تطبيق الحد عليها. وفي هذا إقامة الحدود على المماليك من قبل أسيادهم.

لعلَّنا نقف عند هذا، بارك الله فيك، ووفقك الله لخيري الدنيا والآخرة، ورزق الله الجميع علمًا نافعًا وعملًا صالحًا ونيَّةً خالصةً، أسأل الله لكم -أيُّها المشاهدون- أن تُوفَّقُوا في أموركم، وأن يرضَى عنكم ربُّنا -سبحانه وتعالى- وأن تكونوا من الهُداة المهتدين، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لولاة أمور المسلمين صلاحًا واستقامةً، وأن يكونوا أهل هداية ودعوةٍ، هذا وأسأله -جلَّ وعَلَا- أن تُقام هذه الحود، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك