الدرس السابع عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

2972 23
الدرس السابع عشر

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدُّكتور سعد بن ناصر الشثري؛ فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بكَ، وأرحبُ بإخوتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب المحرر لابن عبد الهادي من قول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابٌ جَامِعٌ
عَنْ عُمرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْـبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ, فَهُوَ رَدٌّ»)
}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ.
أمَّا بعد؛ فإنَّ الحافظَ ابن عبد الهادي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عَقدَ في آخر كتابه المحرَّر كتابًا جامعًا، يجمعُ عددًا مِن المعاني المتفرِّقة، والمتعلِّقَة بموضوعاتٍ مختلفةٍ قد لا يجمعها بابٌ واحدٌ، وهذا يشتمل على أخلاقٍ فاضلة، وعلى أمور قلبيَّة، وعلى شروطٍ وأركانٍ متعلِّقَة بالعبادات.
وقد ذكر المؤلِّف هنا حديثين في بداية هذا الكتاب يدورُ عليهما صحَّة الأعمال والعبادات:
الحديث الأوَّل: يتعلَّق بنيَّة الإخلاص لله -جلَّ وعَلا.
الحديث الثَّاني: يتعلق بالمتابعة للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأيُّ عمل صالحٍ وأيُّ عبادةٍ لم تشتمل على هذين المعنيين فإنَّها مردودةٌ غيرُ مقبولةٍ.
أولهما: الإخلاص، بأن يقصد الإنسان بأعماله أن يستجلب رضا ربِّ العزَّة والجلال، وأن يكونَ ممَّن علَت منزلته، وارتفعت درجته عند الله -جلَّ وعَلا- ولذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». «إنَّم» أدادة حصرٍ، كأنَّه قال: لا عمل إلا بالنِّيَّة.
والمراد هنا: أنَّ صحَّة الأعمال شرعًا وأنَّ اعتبارها عند الله -جلَّ وعَلا- يكون بالنَّظر في نية أصحابها، ولذلك قد يؤدي الاثنان عملًا واحدًا في صورته وظاهره، فيكون أحدهما عمله صحيحًا معتبرًا عندَ الله -جلَّ وعَلا- والآخر عمله باطلٌ لأنَّه لم ينوِ به رضا الله، وهذه النِّيَّة التي جعلت العمل باطلًا على أنواع:
- منها أن ينوي الإنسان بعملِهِ أن يعبدَ غير الله، فيكون ذلك شركًا لأنَّه صرَفَ العبادة لغير الله -جلَّ وعَلا- وكان من دعوات الأنبياء: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ [هود: 2].
- وهناك مَن ينوي بعبادته أمرًا دنيويًّا، كأن ينوي الجاهَ بينَ النَّاس، أو ينوي أن تكون له منزلة فيما بينهم، أو أن يُثنوا عليه في عمله؛ فهذه نيَّة الرِّياء التي قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ».
- وقد يكون الإنسان قد نَوى بعمله أن يُنيله الله الدُّنيا، ولم يقصد بأعماله الصَّالحة أن ينالَ الآخرة، ولذا قال: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوى»، فمن نوى بعمله الدُّنيا لم يأتِهِ إلَّا ثواب الدُّنيا، ومَن كانت كلُّ أعماله للدُّنيا فحينئذٍ لن ينال في الآخرة درجةً ولا رفعة؛ فأولئك الذين يتصدَّقونَ ليُشفَى مرضاهم ولم يقصدوا بذلك الأجر الأخروي ليس لهم من الأجر شيء، لأنَّهم لم ينووا الأجرَ والثَّواب، وقد قاله -جلَّ وعَلا: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورً﴾ [الإسراء 18، 19]، وقال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى 16، 17]، وقال -جلَّ وعَلا: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود 15، 16].
ولهذا فرَّع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه القاعدة فقال: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ»، ذلك الذي انتقلَ من ديارِ الكُفر إلى ديارِ الإسلام، انتقل من المعصية إلى الطَّاعة، انتقل من الصُّحبة الفاسدة إلى الصُّحبَة الطِّيِّبَة؛ فإن كانت نيَّته أنَّ ذلك الفعل يُراد به التَّقرُّب إلى الله واتِّباع رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان الأمر أن ينال الأجر والثَّواب، وكان عمله مقبولًا عند ربِّ العزَّة والجلال.
أمَّا مَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها؛ إنَّما صاحبَ الأخيار لينال من دنياهم لا لينال من آخرتهم، لا ليكونَ مثلَهم في الأجر والثَّواب؛ فحينئذٍ ليس له من الأجر شيءٌ؛ لأنَّه لم يقصد بعمله الآخرة، وإنَّما قصدَ الدنيا.
ومثله ذلك الذي عمل عملًا من أعمال الطَّاعات يُريد أن يتقرَّبَ به إلى امرأةٍ لمجرَّد أن يتزوَّجها، فحيئذٍ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، ولم يُكرِّر ما ذُكر كما كرَّرَ في الأولى عندما قال: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْـبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَ»، استقلالًا لعمل هؤلاء.
وأمَّا الحديث الثَّاني: فحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ, فَهُوَ رَدٌّ».
«مَنْ أَحْدَثَ»، أي: أتى بعملٍ جديدٍ محدَثٍ لم يكن مَنقولًا عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «فِي أَمْرِنَا هَذَ»، يعني: في ديننا وفي عبادتنا.
قال: «مَا لَيْسَ مِنْهُ»، أي: أنَّه عملٌ جديد وبدعة لم تكن منقولةٌ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «فَهُوَ رَدٌّ»، أي أنَّه غير مقبول عند الله -جلَّ وعَلا.
ومن هنا يجبُ على الإنسان أن يَطلبَ دليل أيَّ فعلٍ يُريد أن يفعله قبل أن يُقدِمَ عليه، يتقرَّبُ بذلك إلى الله -جلَّ وعَلا- وقد يكون أصل العبادة لم يُنقَل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيكون أصلها بدعةٌ من البدع.
وقد تكون البدعة ناشِئة من اختيارِ وقتٍ معيَّنٍ، أو مكانٍ معيَّنٍ للعبادةِ، وقد تكون بتغيير نمطِ العبادة ممَّا في كيفيَّتها وفي صفتها، أو في عددها، أو نحو ذلك، وحينئذٍ على الإنسان أن يلتزم ما ورد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنَّته، وألَّا يقوم باستحداثِ أمورٍ جديدةٍ في عباداته غير منقولةٍ عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ -وأَهْوى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَـبِـهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ, أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ, أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»)}.
هذه الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب كلُّها متفقٌ على صحَّتها، وقد أخرجها الإمام البخاري والإمام مسلم -رحمة الله عليهما.
وهذا الحديث من حديث النعمان بن بشير، قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ -وأَهْوى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ)، ليؤكِّد أنَّ سماعه بأذنيه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ»، أي: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد جعل للحرام والحلال حُدودًا يعرفها مَن يكون من أهلها.
قال: «وَبَينَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَـبِـهَاتٌ»، أي: تخفَى أحكامُها على النَّاس، وقد يكون سبب خفاء الحكم تعارض الأدلَّة فيها، أو أنَّ مَناط الحُكم فيها والعلَّة غير ظاهرة، وبالتَّالي تشتَبِه عليه، أو يكون سبب الاختلاف من اختلاف العُلماء، فتشتبه أحكامها على النَّاس، ولذا قال: «لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ»، وإن كان بعض الناس يعلم أحكامها.
قال: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ»، أي: ابتعدَ عن الأمور المشتبهة التي قد يقع الالتباس والاختلاف في أحكامها، فإنَّه حينئذٍ سيستبرئ لدينه وعرضه.
أمَّا استبراؤه لدينه: فطاعته لله -عزَّ وجل- فإنَّه لَمَّا ترك الأمور المشتبهة التي يُمكن أن يَلحقها التَّحريم؛ حينئذٍ سلم دينه بيقينٍ، فطاعته لله -جلَّ وعَلا- على أكمل الوجوه.
وأمَّا استبراؤه لعرضه: فحتى لا يُمكِّن الآخرين مِن الكلام في عِرضه.
قال: «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ»، أي: مَن وقع في هذه الأمور الملتسبة فقد وَقَعَ فِي الحَرَامِ؛ لأنَّه وإن سَلِمَت الأولى والثَّانية من أن تكون حَرامًا إلَّا أنَّ بقيَّتها لا تسلم من أن تكونَ كذلك.
ثم ضرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثلًا من أجل أن يُفهَم عنه، قال: «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى»، يكون هناك موطنٌ يُمنَع الناس من دخوله، فمَن رعى حول الحمى فإنَّ أغنامه قد تدخل في الحمى من حيث يشعر أو من حيثُ لا يشعر، ولذلك قال: «يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ», أي: أن ترعى أنعامه في ذلك الحِمَى.
ثم قال: «أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ, أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ».
هذه الأحاديث الثَّلاثة هي أصول الأعمال، وهي التي يَسلم بها دين الإسلام، حديث الأعمال بالنيَّات وفيه من الفوائد:
- وجوب إخلاص النِّيَّة لله -عزَّ وجل- بأن يقصد الإنسان بعمله الآخرة، وإرضاء الرَّب -سبحانه وتعالى.
- وأنَّ مقدار الثَّواب والجزاء على مقدار صلاح النيَّة.
- وفيه تفريع الأعمال بحسب نيَّات أصحابها.
وأما الحديث الثاني ففيه:
- تحريم البدع.
- وأنَّ كلَّ بدعةٍ مذمومةٍ مردودةٍ غيرُ مقبولةٍ عند الله -جلَّ وعَلا- وبالتَّالي لا يصح أن نقسم البدع إلى ما هو مذموم وما هو مستحسنٌ مقبولٌ.
وأمَّا الحديث الثَّالث ففيه:
- مشروعيَّة الاحتياط باجتناب الأمور المشتبهة التي يجهلها بعض النَّاس.
- وأنَّه لا يخلو أمر من حكم لله -عزَّ وجلَّ.
- وفيه أنَّ أحكام الشَّريعة لا تخفى على جميع النَّاس وإن خفيت على أكثرهم.
- وفيه تجنُّب المحارم وما يُقاربها ويوصل إليها.
- وفيه وجوب التَّنبُّه للقلبِ، والاستعداد لإصلاحه ممَّا يؤدِّي إلى صلاح بقيَّة أعمال الإنسان.
وأعمال القلب كثيرة، منها: الخوف من الله -جلَّ وعَلا- ومنها رجاؤه -سبحانه- ومحبَّته، والتوكُّل عليه والاعتماد عليه -سبحانه وتعالى.
وهذه الأمور هي أساس الأعمال القلبيَّة التي يتمُّ بها صلاح القلب، فيحصل بذلك صلاح أحوال الإنسان في جميع أموره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنُّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ, وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، والتَّوَلِي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ»)}.
قوله: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، أي: المهلكات، وفي الحديث:
- بيان أنَّ الذُّنوب منها ما هو كبير، ومنها ما هو صغير، وأنَّ الذُّنوب ليست على رتبةٍ واحدةٍ.
- وفيه بيان أنَّ هذه الأعمال هي أشنع الأعمال.
- وفيه أنَّ الشِّرك أعظم الذنوب، ويُراد به: صرفُ العبادات لغير الله -سبحانه وتعالى.
- وفيه تحريم السِّحر، وبيان أنَّه من الكبائر.
- وفيه تحريم بقيَّة ما ذكر في الحديث مِن قتلِ النَّفس وأكلِ مالِ اليتيمِ، وأكلِ الرِّبا، والتَّولِّي يوم الزَّحف، أي: الهرب مِن مَيدان المعركة والقتال عند لقاء العدو.
- وفيه تحريم قذف المحصنات، باتِّهامهنَّ في أعراضهنَّ، وأنَّ ذلك من كبائر الذُّنوب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُم عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ»)}.
قوله: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُم»، أي: منع منه ورتَّب عليه الإثم.
قوله: «عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ»، يُراد بذلك: عدمُ القيام بحقِّ الأمَّهات، سواء في طاعتهنَّ أو وصلهنَّ، أو في القيام بحقوقهنَّ.
قوله: «وَوَأْدَ الْبَنَاتِ»، أي: قتل البنات، حيث كانَ العرب يقتلون البنات، وكانَ بعضُ العربِ يقتل البنات خشيةً من لحوق العارِ به.
قوله: «وَمَنْعًا وَهَاتِ»، أي: أن يمنع الإنسان الواجبات التي يجب عليه أداؤها، مع أنَّه يُطابب بالواجبات والحقوق التي تكونُ له.
قوله: «وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثً»، استُدلَّ به على التَّفريق بين الكراهة والتَّحريم، وإن كان لفظ الكراهة قد يُطلق في مرَّات على ما هو محرَّمٌ ممنوعٌ منه، ولكن في هذا الحديث ما يدلُّ على التفرقة بين الكراهة والتحريم.
وقوله: «قِيلَ وَقَالَ»، المراد به: نقل الأقوال بدون التَّفكُّر في معانيها وفي آثارها، وهل نقلها يجعل النَّاس ينتهجون أحسنَ الأقوال والأعمال أو لا.
قوله: «وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»، المراد به عند أكثر أهل العلم سؤال المال، بحيث يسأل المال من هذا ومن ذاك، ولو كان محتاجًا، فأمَّا إذا لم يكن مُحتاجًا فإنَّ السُّؤال بدعوَى حاجته تكونُ من أكل المال بالحرام ومن المعاصي والذنوب.
وليس المراد بكثرة السؤال هنا سؤال الإنسان عمَّا يُشكل عليه من أمور دينه.
قال: «وَإِضَاعَةَ المَالِ»، وهو وضع المال في غيرِ محلِّه المأمور به شرعًا، سواء كان ذلك ببذل المالِ في أُمورٍ محرَّمةٍ أو في فُضولٍ ومُباحاتٍ لا تعود على الإنسان بخيرٍ في دُنياه وآَخرته، أو بالزِّيادة على النَّفقة الواجبة في الأمور المشروعَة، كما هو في الإسراف في الولائم ونحوها، فهذا من الأمور المكروهة شرعًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»)}.
في هذا الحديث: أنَّ للإسلامِ أركانًا، وأنَّ واجباته ليست على رتبةٍ واحدةٍ، بل منها ما هو أوجب من غيرها.
وقوله: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»، يعني أنَّ أساس هذا الدين القيام بهذه الأركان.
أولها: «شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، أي: الإقرار والاعتراف بأنَّ العبوديَّة حقٌّ خالصٌ لله لا يُوَصف لأحدٍ سواه.
قوله: «وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»، بحيث يُطاع في أمره، ويُصدَّقُ في خبره، ولا يُعبَد الله إلَّا بما شرعَه. فهذا هو الرُّكن الأوَّل.
الرُّكن الثَّاني: «وَإِقَامِ الصَّلَاةِ»، والمراد بالصَّلاة هنا: صلاة الفريضة، وإقامتها: أداؤها على الوجه المطلوب شرعًا.
الرُّكن الثَّالث: قوله «وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»، أي: إعطاء الزَّكاة الواجبة.
الرُّكن الرَّابع: «وَحَجِّ الْبَيْتِ».
الركن الخامس: «وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
والحديث يدل على إيجاب الصَّلوات الخمس، وعلى إيجاب الزَّكاة في المال، وعلى إيجاب الحج، وعلى إيجاب صوم شهر رمضان، ويُستثنى من ذلك ما ورد في النُّصوص الأخريات من استثنائه كالمجنون والصَّغير ونحوهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ, كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ»)}.
قوله: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الْإِيمَانِ»، فيه أنَّ للإيمان حلاوة يجدها الإنسان في قلبه.
الأمر الأوَّل: قال «مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَ»، فيه أنَّ الإيمان يشتمل على أعمال القلوب، ومنها المحبَّة، وفيه تقديم الله ورسوله على محبَّة الإنسان لغيرهما كائنًا مَن كان.
وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» ، وقال: «مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا حتى يكونا أحب إليه من نفسه» .
الأمر الثَّاني: قوله: «وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ»، أي: يتقرَّب إلى الله -جلَّ وعَلا- بمحبَّته، فيتقرَّب إلى أهل التَّوحيد وأهل السُّنَّة، ويطلب بذلك استجلاب رضا ربِّ العزَّة والجلال.
والأمر الثَّالث: قوله: «وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ»، وكراهية الكفر والعود وإليه من الإيمان.
قوله: «كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ»، أي: أنَّه يكرَه أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُلقَى في النار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»)
}.
قوله: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، فيه وجوب تقديم محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على محبَّة غيره، حتى أقرب النَّاس إليه، بل ورد «حتى أكون أحب إليه من نفسه» .
ويُلاحَظ هنا أنَّ بعض الناس يقول: أنا أعبد الله محبَّة، وأدعو الله محبَّة.
نقول: خطأ، لا تكتفي بالمحبَّة في هذا الباب؛ بل عليكَ أن تعبدَ الله محبَّةً له، وطمعًا في أجره، وخوفًا من عقوبته، كما قال تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعً﴾ [الأعراف: 56]، أي: في عبادتهم ودعائهم، فدلَّ ذلك على أنَّه لا يُجزئ ولا يَصح أن يكون مُنطلق الأعمال والطَّاعات هو مجرد محبَّة الله -جلَّ وعَلا.
قال: «لَا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، فأنا أحبُّ لنفسي العلم، أحبُّ لنفسي المال، أحب لنفسي رفعة الدَّرجة؛ فأحبُّ لإخواني مثل ما أحبُّ لنفسي، لا أحب لهم أن يَصِلُوا إلى درجتي فقط؛ بل أحب لهم تلك الدرجة التي أحبُّ أن أصلَ إليها، ولا يعني هذا أنَّك تحبُّ أن ينقصك مكانك من أجلهم، بل أنت ترجو وتحب أن تكون وإيَّاهم على أعلى الدَّرجات.
وحينئذٍ نعلم أن المحبَّة على أنواع:
المرتبة الأولى: محبة الله، وهي أعلى أنواع المحبة، وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]، وقال: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54].
المرتبة الثَّانية: المحبَّة في الله، فأنا أحبُّكَ طاعةً للهِ، ورغبةً في أجره وثوابه؛ فهذه محبَّة في الله -عزَّ وجل.
والمحبَّة في الله قد تكون محبةً لأوليائه، وقد تكون محبَّةً لطاعته، سواء الطاعة التي تفعلها أو الطاعة التي فعلها غيرك، فتحب أن يكون الناس كلهم مطيعين لله -جلَّ وعَلا- ترجو بذلك ما عند الله، فتكون مُثابًا مأجورًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»)}.
قوله: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ»، أي: القدح فيه والاستنقاص من مكانته، وخصوصًا إذا كان في وجهه.
قوله: «فُسُوقٌ»، أي: ذنبٌ ومعصية.
قوله: «وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، ليس المراد به الخروج من دين الإسلام، وإنَّما المراد به الكفر الأصغر لأنَّه قال: «وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، ولم يقل "الكفر".
وفي الحديث: تحريم ذكر معايب المسلمين، سواء في وجوههم أو خلف ظهورهم، وتحريم مقاتلة أهل الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ, قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»)}.
عن ابن مسعود قَالَ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فيه مشروعيَّة سؤال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمَّا يكون مِن الأعمالِ.
قال: (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟)، فيه دلالة على أنَّ الذُّنوب ليسَت على رتبةٍ واحدة، وأنَّها متفاضلة في عظم ذنبها.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّ». النِّد: المساوي والمماثل، فعندما تجعل لله ندًّا وتصرف إليه شيئًا من العبادات؛ فحينئذٍ قد وقعتَ في ذنبٍ عظيمٍ.
وقد أتى بدليلٍ على وجوبِ جَعْلِ العبادةِ لله وحده فقال: «وَهُوَ خَلَقَكَ»، فما دام أنَّه خلقك فهو يملك منافعك، ومنها طاعاتك وعباداتك، فلابدَّ أن تجعلها لله.
قال ابن مسعود: (قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ)، أي: امرٌ كبيرٌ.
قال: (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟)، يعني ما الذَّنب الذي يكون بعدَ هذا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، وقتل الولد من أجلِ خوفِ الفقر كان يفعله بعض النَّاس، فنُهيَ عنه، وبالتَّالي لا ينبغي بالإنسان أن يتخوَّف من أمور متعلقة بالمطاعم أو المتعلقة بالعيش والرِّزق، وبالتَّالي يقوم بترك اختيار الولد.
وقوله: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ»، هذا يشمل مَن وُلد، ولكن هل يشمل الجنين في بطن أمِّه؟
هذا من محالِّ النَّظرِ والاجتهاد.
قال ابن مسعود: (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟)، أي: ما هي الذنوب التي تلي هذين الذنبين العظيمين.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، الحليلة هي: الزَّوجة، لأنَّها تحل للجار.
ولفظ "تُزاني" فعل مشترك، كأنَّك جعلتها تزهد في حليلها وزوجها، وبالتَّالي تكونُ قد أقدمتَ على ذنبٍ عظيم، كيف وهو جارك له واجبٌ عليكَ في احترام حراماته وتقديرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذا ائْتُمِنَ خَانَ»)}.
قوله: «آيَةُ»، يعني علامة.
قوله: «الْمُنَافِقِ»، أي يُبطن ما لا يُظهر.
قوله: «ثَلَاثٌ»، أي: ثلاث صفات.
الصِّفة الأولى: «إِذا حَدَّثَ كَذَبَ»، والكَذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والكذب في الحديث خصلة من خصال النفاق، لأنَّه يُظهر خلاف ما يُبطن.
الصِّفة الثَّانية: «وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ»، الخُلفُ عندَ الموعِد، فإنَّ مَن وعَدَ ثمَّ أخلفَ ذلك الوعد فإنَّه حينئذٍ يكون قد أظهر ما لا يُبطِن.
الصِّفَة الثَّالثة: «وَإِذا ائْتُمِنَ خَانَ»، فالخيانة ذنبٌ عظيم، فكيف يأتمنك ثم تخونه، وهذا من كبائر الذنوب.
وإذا تأمَّلتَ هذه الصِّفات -الكذب، وخُلفُ الموعد، والخيانة- وجدتَّ أنَّها من أسباب نزع الثِّقة من النَّاس بعضهم ببعض، وأكثر تعاملات النَّاس لا تسير إلَّا على الثِّقة، فزوجان لا يثقان في بعضٍ لن تستمرَّ حياتهما، وقرابةٌ لا يثقُ بعضهم في بعضٍ لن تستمر الصِّلَة بينهم، وكل مَن لك به عَلاقة إذا لم تكن مبنيَّةً على اجتناب صفات النِّفاق المذكورة في هذا الحديث لن تستمر، ولن كونَ من شأنهم الاستمرار على هذه العلاقات، وبالتَّالي نعلم أنَّ هذه الصِّفات الثَّلاث صفات نفاق، وأنَّها مؤثرة في نزع الثِّقَة من النَّاس بعضهم في بعضهم الآخر.
باركَ الله فيك، ووفقكَ الله لكلِّ خيرٍ، وجعلنا الله وإيَّاك من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك