الدرس الحادي عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3026 23
الدرس الحادي عشر

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
بارك الله فيك، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- أن يستعملنا وإيَّاكم في طاعته، كما أرحبُ بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- للجميعِ نيَّةً خالصةً، وعملًا نافعًا صالحًا، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- صلاحًا لأحوالِ الأمَّة، واسقامة لأمورها، وتآلفًا بين قلوبها.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب "القَسَامَة" من كتاب المحرَّرِ لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ ومُحيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُم، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وطُرِحَ فِي عَينٍ أَو فَقِيرٍ فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُم وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى قَوْمَهِ فَذَكَرَ لَهُم ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ، فَذَهَبَ مـُحَـيِّصَةُ ليَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» -يُرِيدُ السِّنَّ- فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثمَّ تَكَلَّمَ مُـحَـيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ» فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لـحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وَعبدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُوْدُ؟» قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَعِندَ البُخَارِيِّ: عَنْ سَهلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ، وَعِنْدَهُ: وَعبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ، فَذَهَبَ ليَتَكَلَّم وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ)
}.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعدُ؛ فالمراد بالقَسَامة: أيمانُ أولياءِ الدَّمِ أنَّ قريبَهم قد قتله فلانٌ، ويكون ذلك حال وجودِ اللَّوثِ والشُّبهةِ، والخصومةِ السَّابقة، وبالتَّالي تثبت هذه الجريمة على مَن حلفوا عليه.
والجمهور على أنَّ القَسَامَة مُوصلة لاستحقاق الدَّم، بحيث يُقتل مَن حُلف عليه.
وهناك طائفة قالوا: إنَّ محصّلة القَسَامة في الدِّية، والقسامة طريق لإنهاء الخصومات التي تكون بين القبائل وبين أهل المحالِّ المختلفة.
وجرت السُّنَّة الكونيَّة في أنَّ مَن حلفَ القسَامة ثم لم يكونوا صادقين في حلفهم أن يُستأصلوا، وقد ذكر المؤلف عددًا من الأحاديث، فقال: (عن سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ)، سهلٌ من الأنصار، وهو يروي عن كثيرٍ من الصَّحابة، فالظَّاهر أنَّ هؤلاء الرِّجال من الصَّحابة، وبالتَّالي لا يضر عدم تسميتهم، وقد أشار المؤلف إلى أنَّه في إحدى روايات الخبر (عَنْ سَهلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ).
قال: (أَنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ ومُحيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ)، خيبر كانت تسكنها في ذلك الوقت اليهود، وكان مُرادهم بهذا الخروج أن يعملوا عند أهل خيبر من أجل أن يكون ذلك من أسباب الاكتساب، ولذا قال: (مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُم)، أي: من شدَّةٍ وفقرٍ وحاجةٍ، فأرادوا أن يعملوا ويأخذوا أُجرةً على عملهم.
قال: (فَأَتَى مُحَيِّصَةُ)، أي: جاء رجل إلى محيِّصة ليُخبره.
قال: (فَأَخْبَرَ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ)، وهو ابن عمِّه.
قال: (وطُرِحَ فِي عَينٍ)، العين: مورد الماء الذي ينبع من الأرض.
قال: (أَو فَقِيرٍ)، المراد به: البئر قريبة القعر وليست مُتعمِّقة، وفي الغالب يكون فمها واسعًا، ويكون حولها شيءٌ من النَّخل.
فلمَّا أُخبر محيصة بخبر مقتل عبد الله بن سعد أتى لليهود، فَقَالَ: (أَنْتُم وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ)، قُتل في ديارهم وبينَ نخيلهم ومساكنهم، ولا يُوجد عندهم أحدٌ إلا باطلاعهم وإشرافهم، ولذا اتَّهمهم بقتله.
قَالُوا: (وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى قَوْمَهِ)، يعني: رجع إلى قومه من الأنصار.
قال: (فَذَكَرَ لَهُم ذَلِكَ)، يعني: وفاة عبد الله بن سهل في خيبر.
ثم جاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ)، عبد الرحمن أخو المقتول، وفي بعض الألفاظ أنَّ عبد الرحمن أراد أن يتكلَّم؛ لأنَّه هو وليُّ الدَّم، وفي بعض الألفاظ أنَّ الذي كان يُريد أن يتكلَّم هو محيِّصة؛ لأنَّه قد قرُبَ من الحادثة وعنده شيءٌ مباشر.
قال: (فَذَهَبَ مـُحَـيِّصَةُ ليَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ)، يعني: ابتدأ بالكلام.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ»، يعني: ليتكلَّم مَن هو أكبر سنًّا منكَ، وفيه تقديم الكبير في السِّنِّ سواء في الكلام أو في الدَّعوة أو في المجلس ونحوه.
قال: (فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثمَّ تَكَلَّمَ مُـحَـيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ»)، أي: أنَّ اليهود يُخيَّرون بين اثنتين:
• إمَّا أن يدفعوا الدِّية، فقوله: «يَدُوا صَاحِبَكُمْ»، أي: يدفعوا ديته.
• أو يُقاتلهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونهم قد قتلوا هذا الرجل، وذلك قوله: «وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ».
وكأنَّ المراد: إن كان كلامكم يا محيِّصة وحويِّصة صحيحًا فأحد هذين الخيارين: إمَّا أن يَدُوا بدفعِ الدِّيَة، وإمَّا أن يُعلَموا بأنَّهم قد نقضوا العهد، وبالتَّالي نُقاتلهم.
قال: (فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ)، يعني: إلى اليهود، وفيه مشروعيَّة الكتابة، خصوصًا في إثبات الحقوق، وفيه أنَّ صاحب الولاية والقضاء قد يكتب الكتاب من أجل أن يُعرَّف بحقيقة الحال.
وفيه نسبة الفعل لمَن أمرَ به وإن لم يكن مُباشرًا، فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يكتُب، وإنَّما الذي كتبَ أحد الصَّحابة بأمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فردَّ اليهود بكتابٍ فقالوا: (إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لـحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وَعبدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟»)، أي: أتحلفون على شخصٍ بعينه أنَّه هو الذي قتل عبد الله بن سهل، وتستحقون دمَ صاحبكم؟ وهذه هي القسامة.
ولفظ: «وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟» استدلَّ به الجمهور على أنَّ القسَامة يترتب عليها إثبات القصاص.
قَالُوا: (لَ)؛ لأنَّهم لم يشاهدوا مقتل صاحبهم، ولا يعلمون به، وإنَّما عندهم غالب ظنون واحتمالات، ولا يوجد عندهم يقين، ولذا امتنعوا من اليمين.
الشاهد هنا في قوله: «أَتحلِفُونَ؟»، يعني: أيمان القسامة.
وقوله: «وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟»، يعني: يثبت القصاص فيمَن عيَّنتموه، وذكرتم أنَّه هو قاتل عبد الله بن سهل.
فقالو: (لَ)، يعني: كيف نحلف ونحن لم نُشاهد؟!
قَالَ: «فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُوْدُ؟»؛ لأنَّ اليهود هنا هُم المُدَّعى عليهم.
قَال عبد الرحمن وحويصة ومحيصة: (لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ)، وبالتَّالي لن يتورّعوا من اليمين والحلف الكاذب.
فما كان من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا أن سعَى للإصلاح، فقدَّمَ ديةً لهم من عنده، قال: (فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِنْدِهِ).
يقول سهل: (فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةَ نَاقَةٍ)، وهذا مقدار الدِّية.
قال: (حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ)، فيه أنَّ مَن وجبَت عليه الدِّيَة يقوم بتسليم الدِّية لأولياء الدَّم.
فَقَالَ سَهْلٌ: (فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ)، أي: أنَّها قامت بضربه برجلها.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَرَّ القَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَينَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى اليَهُودِ. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
هذا الخبر صحيح الإسناد، أخرجه مسلم.
قوله: (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، لا يضر عدم تسمية الرجل؛ لأنَّ الصَّحابة كلهم عدول.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَرَّ القَسَامَةَ)، يعني: أنَّ القسامة كانت موجودة فيما قبل الإسلام، ويظهر أنَّها منقولَة عن الأنبياء السَّابقين.
قال: (عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ)، يعني: على أحكامها الظَّاهرة.
قال: (وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يدلُّ على استمرار حكم القَسَامة.
قوله: (وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَينَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى اليَهُودِ)، ولعلَّها قصَّة سهل بن أبي حثمةَ التي رواها من طريقِ رجالٍ من كبراء قومه، وفيه أنَّ عبد الله بن سهل هو الذي مات في ذلك اليوم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ صَوْلِ الفَحْلِ وَجِنَايَةِ البَهَائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أُرِيْدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ دُوْنَهُ فَقُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ)
}.
قوله: (بَابُ صَوْلِ الفَحْلِ)، يعني: إذا صالَ عليكَ شخصٌ أو حيوانٌ يُريد قتلك، فإذا لم تستطع أن تتفاداه إلا بقتله فلا حرج عليكَ في ذلك.
وقوله: (وَجِنَايَةِ البَهَائِمِ)، يعني: أفعال البهائم التي ترتب عليها جناية وإتلاف لشيءٍ من المعصوم.
أوردَ في هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، في هذا جواز مُقاتلة مَن أرادَ مالك، وإن كان الجمهور لا يُوجبون ذلك، ولكن يقولون: لو قُدِّرَ أنَّ الذي قاتل دونَ ماله مات فإنَّ له أحكام الشَّهادة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى بنُ مُنْـيَةَ -أَو أُمَيَّةَ- رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهَ مِنْ فَمِهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ -وَفِي لَفظٍ: ثنيَّـتَـيْهِ- فاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَهُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله: (قَاتَلَ)، أي: نازَعَ وخاصمَ خصومةً كانَ فيها اشتباكٌ بينَ الأيدي.
ويَعْلَى بنُ مُنْـيَةَ صحابي، مرَّةً يُنسب إلى أمٍّ له يُقال لها: "منيَّة" ومرَّةً يُنسَب إلى أبيه فيُقال: "ابن أمية".
قال: (قَاتَلَ رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهَ مِنْ فَمِهِ)، أي: سحبها بقوَّة، فأدَّى ذلك إلى نزع ثَنِيَّتَهُ -وَفِي لَفظٍ: ثنيَّـتَـيْهِ- وهما: الأسنان التي في زاوية الفم.
قال: (فاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني: هل في ذلك دية أو لا؟
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ»، يعني: هذه طريقة الفحل، وليست طريقة بني آدم، أنت المتسبِّب في كونه خلعَ سنَّكَ، فهل تريد أن تبقى يده عندكَ وأنت تُؤلمها وتحزها بأسنانك وصاحبها لا يقوم برفعها؟!
ثم قال: «لَا دِيَةَ لَهُ»؛ لأنَّ هذا الذي عضَّ صائل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَو أَنَّ امْرَءًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَفِي لفظٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبُي حَاتِمٍ البُسْتِيِّ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَأُوا عَيْنَهُ، فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ»)}.
ذكر المؤلف قال: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أبو القاسم هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «لَو أَنَّ امْرَءًا »، يشمل أيضًا المرأة؛ لأنَّ الحكم واحد.
قوله: «اطَّلَعَ عَلَيْكَ»، أي: تجسَّسَ على بيتِكَ ومحلِّكَ.
قوله: «بِغَيْرِ إِذْنٍ»، أي: لم يكن عنده إذنٌ سابقٌ.
قال: «فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ»، أي: رميتها عليه.
قال: «فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ»، أي: لا يكون عليك إثم بسبب ذلك.
ثم روى اللفظ الآخر: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَأُوا عَيْنَهُ، فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ»، لا دية ولا قصاص؛ لأنَّه تجاوز في الاطلاع على حال أهل البيت.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ حَرَامِ بنِ مُـحَـيِّصَةَ الْأنْصَارِيِّ، عَنِ الْبَراءِ بنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَكُلِّمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا، فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الحَوائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَحِفْظَ الماشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الماشِيَةِ مَا أَصَابَتْ ماشِيَتُهُم بِاللَّيْلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ مَشْهُورٌ حدَّثَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الثِّقَات)}.
وجه الإشكال في هذا الحديث: أنَّه من رواية حرام بن محيِّصة عن البراء بن عازب، وهو لم يلقَه ولم يروِ عنه، ولذلك تكلم بعض أهل العلم في إسناد هذا الخبر ورموه بالضَّعف.
وقوله: (كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيةٌ)، أي: تعتدي وتتجاوز إلى حقوق الآخرين، وذلك أنَّ بعضَ الإبلِ يأتيهم في زمانٍ شيءٌ يجعلهم يعتَدون على الآخرين، وفيه جواز تملُّك النُّوق واستعمالها.
قال: (فَدَخَلَتْ حَائِطً)، يعني: دخلت بستانًا ونخلًا.
قال: (فَأَفْسَدَتْ فِيهِ)، أي: دخلت حائطًا لغير مالكها فأفسدت الأشجار والثِّمار والزُّروع.
قال: (فَكُلِّمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَ)، يعني: في هذه النَّاقة؛ لأنَّ هذا نوع من الاعتداء والظُّلم على الآخرين.
قال: (فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الحَوائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَ)؛ لأنَّه وقت عملهم ونشاطهم، وبالتالي يتمكنون من حفظ هذه الحوائط.
قال: (وَحِفْظَ الماشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَ)، يعني: على أهل الماشية، وذلك أنَّ الليل محل سكونٍ واضطجاع، وبالتَّالي أسنده إلى أصحاب البهائم.
قال: (وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الماشِيَةِ مَا أَصَابَتْ ماشِيَتُهُم بِاللَّيْلِ)، يعني: ما أصابت بالليل يلزم أصحاب الماشية.
هذا الحديث ظاهره الصحَّة وفي إسناده اختلاف، ولكن لا يؤثِّر ذلك الاختلاف عليهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ، فَهُوَ ضَامِنٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَتوقَّفَ فِي صِحَّتِهِ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَـمْ يسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ جريجٍ غَيْرُ الْوَلِيدِ بنِ مُسْلمٍ، وَغَيْرُهُ يَرْويهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذا الحديث -كما ذكر المؤلف- رواه الوليد بن مسلم، والوليد بن مسلم ثقة من رواة الصحيح، ولكنَّه يُدلِّس، ولذلك لا يقبلون من حديثه إلا ما صرَّح فيه بالسَّماع، وهذا الحديث لم يُصرِّح فيه بالسَّماع ورواه بالعنعنة.
وبعض أهل العلم يقول: إنَّ صحَّة هذا الخبر إنَّما هي عن ابن جريج من كلامه وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والإمام أبو داود توقَّفَ في صحَّته، وكثير من أهل العلم كالنسائي وابن ماجه وغيرهم رأوا التَّوقُّف.
والويد بن مسلم مدلِّس، ويدلس تدليس التَّسوية، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: (وَغَيْرُهُ يَرْويهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلً)، فهو من حديث عمرو بن شعيب مرسلًا وليس مَرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَطَبَّبَ»، أي: مَن دخلَ في باب الطِّبِّ وأصبحَ يُعالج النَّاس.
قال: «وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ»، أي: ليس عنده شهادة طبيَّة؛ فحينئذٍ يكون ضامنًا متى تلفت السِّلعَة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابٌ فِي البُغَاةِ وَالخَوَارِجِ وَحُكْمُ المُرْتَدِّ
عَنْ عَرْفَجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيْعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ». رَوَاهُ مُسلمٌ)
}.
قوله: (بَابٌ فِي البُغَاةِ وَالخَوَارِجِ وَحُكْمُ المُرْتَدِّ).
البغاة: قومٌ لهم منعة يخرجون على صاحب الولاية من أجل أمور دنيا، فهؤلاء يُقال لهم: بغاة.
لماذا سُمُّوا بُغاة؟
لأنَّ الله تعالى قال: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات:9].
وأمَّا الخوارج: فهؤلاء أصحاب عقيدة، وملخَّصها ومؤدَّاها أنَّهم يقولون بجواز الخروج على صاحب الولاية.
وأمَّا المرتد: فهو التَّارك لدينه المفارق للجماعة.
ثم أوردَ المؤلِّف هنا حديث عرفجة، قال: سمعتُ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيْعٌ»، يعني: وأنتم مجتمعون ما عندكم اختلافات.
قال: «عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ»، يعني: قد ولَّيتموه.
قوله: «يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، هذا الرَّجل من البُغاة، وقد يكون من الخوارج ويُريد أن يشق صف المسلمين، ويفرق كلمتهم، وقد أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتله.
وفي هذا بيان حكم مَن خرج على صاحب الولاية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَليٍّ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاقْتُلُوْهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا -لِمَنْ قَتَلَهُمْ- عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَقَالَ البُخَارِيُّ: «فَأَيْنَمَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاقْتُلُوْهُمْ»، وَقَالَ: «وَلَا يُجَاوِزُ إِيْمَانُهُمْ حَنَاجِرَهَمْ» وَلم يَقُلْ: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ»)}.
أورد المؤلف هنا حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ»، يعني: أسنانهم صغيرة.
قال: «سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ»، يعني: ليس لهم عقول تُمكِّنهم من معرفة عواقب الأمور.
قال: «يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ»، أي: يستندون إلى أحاديث منسوبة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد يشمل هذا أيضًا القرآن.
قال: «يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، أي: يخرجون من طاعة الإمام. «كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»
قوله: «فَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ»، أي: وجدتموهم وقابلتموهم.
قوله: «فَاقْتُلُوْهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا -لِمَنْ قَتَلَهُمْ- عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، هذا فيه دلالة على أنَّ الإنسان يجب عليه مُقاتلة الخوارج مع صاحب الإمامة.
والجمهور على أنَّ هذا الوجوب من فُروض الكفايات، ولكن إذا حضر العدو أو القريب؛ فحينئذٍ يُشرَع العمل بما ورد في الخبر.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِـيَ عَلِيٌّ بزَنادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَو كُنْتُ أَنَا لمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، ولَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَزَادَ البَيْهَقِيُّ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: وَيْحَ ابْنَ أُمِّ الفَضْلِ، إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الهَنَاتِ)}.
قوله: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِـيَ عَلِيٌّ بزَنادِقَةٍ)، الزَّنادقة لا يُوقنون ويقطعون بأصل الدين، وقد يكون عندهم خلاف ما ورد به شرع الله.
قال: (فَأَحْرَقَهُمْ)، وقيل: إنَّ هؤلاء الزَّنادقة هم الذين ألَّهوا عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَو كُنْتُ أَنَا لمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، ولَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ»)، في هذا بيان حكم المرتد.
قال: (فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: وَيْحَ ابْنَ أُمِّ الفَضْلِ، إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الهَنَاتِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي مُوسَى فِي حَدِيثٍ لَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»، ثُمَّ اتَّبَعَهُ معَاذُ بنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، وَقَالَ: انْزِلْ، فَإِذا رَجُلٌ عِنْدَه مُوْثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتَلَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبي مُوسَى، قَالَ: قَدِمَ عَلَيَّ مُعَاذٌ، قَالَ: لَا أَنْزِلُ عَنْ دَابَّتِي حَتَّى يُقْتَلَ فَقُتِلَ، وَكَانَ قَدِ اسْتُـتِـيـبَ قَبْلَ ذَلِكَ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي مُوسَى فِي حَدِيثٍ لَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»)، فإنَّ أبا موسى جاء طالبًا لللاية، فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»
قوله: (ثُمَّ اتَّبَعَهُ معَاذُ بنُ جَبَلٍ)، الصَّحابي المعروف ليكون إمامًا.
قال: (فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، وَقَالَ: انْزِلْ) من باب الاحتفاء به.
قال: (فَإِذا رَجُلٌ عِنْدَه مُوْثَقٌ)، أي: مربوط بالحبال الوثيقة.
قال: (قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ)، فحينئذٍ ارتدَّ عن دينه وترك دين الإسلام.
قال أبو موسى لمعاذ: (اجْلِسْ)، أي: نتشاور في أمره.
فقال معاذ: (لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ)، قالها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حتى أَمَرَ بِهِ فَقُتَلَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: حَدَّثَـنَـا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ المِغْوَلَ، فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيـنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَمَعَ النَّاسَ، فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ» فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ، وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيْكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وأَزْجُرُها وَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ: اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ البَارِحَةَ، جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ المِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الإِمَامُ أَحْمدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبدِ اللهِ، وَالمِغْوَلُ بِالـمُعْجَمَةِ: قَالَ الْخطَّابِيُّ: «هُوَ شَبِيْهُ الـمِشْمَلِ وَنَصْلُهُ دَقِيقٌ مَاضٍ»، والـمِشْمَلُ: السَّيْفُ القَصِيْرُ)}.
عكرمة تابعي وقد روى هذا الخبر عن ابن عباس، فقال: (حَدَّثَـنَـا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْمَى)، يعني: أنَّ هناك رجل أعمى.
قوله: (كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ)، أمُّ الولد هي أمة مملوكة حملت من سيدها، فجاءت منه بولد -ذكرًا كان أو أنثى- فهذه تسمى أم ولد.
وحكمها: أن تبقى في الخِدمَة وفي حيازة سيدها حتى تموت، وتُعتَق بموت سيدها، وهذا الولد يُنسَب لأبيه ويرثه وإن كانت أمُّه أمَةً، وأمَّا أمُّه (الأمة) فما دامت مملوكة فحينئذٍ تبقى على كونها مملوكة.
قال: (كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَ)، أي: يُكلمها بشدَّة وخطاب قوي فَلَا تَنْزَجِرُ.
قال: (فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَشْتُمُهُ)، على عادتها، وهذا أمرٌ محرَّمٌ وفعلٌ شنيع.
قال: (فَأَخَذَ المِغْوَلَ، فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَ)، أي: أنَّه أراد أن يقتلها.
قال: (وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَ)، وكانت حاملًا بطفل آخر قال: (فَوَقَعَ بَيـنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ)، أي: لَمَّا ماتت خرج منها دماء كثيرة أثَّرت على جميع الموجودات.
قال: (فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: ذُكر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ هذا الرجل قتل أم ولده التي كانت تشتم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (فَجَمَعَ النَّاسَ)، فيه مشروعيَّة الخطبة عند الأمر الجَلَل العام.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ»، يعني: مَن هو هذا الرَّجل الذي قتلَ أمَّ ولده؟ فليقُم وليأتي إليَّ.
قوله: (فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ، وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ)، يعني: يضطرب.
قال: (حَتَّى قَعَدَ بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنا صَاحِبُهَ)، أي: أنا الذي قتلت أمَّ ولدي.
قال: (كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيْكَ) أي: تسبُّكَ.
قال: (فَأَنْهَاهَ)، أي: أقول لها: اسكتي ولا تتكلمي بمثل ذلك.
قوله: (فَلَا تَنْتَهِي)، بل تستمر.
قوله: (وأَزْجُرُها وَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ)، أي: أنها جاءت بولدين لسيدها، وهؤلاء الأولاد أحرار -كما تقدم- ويرثون، بخلاف أم الولد فإنها تبقى مملكوة ولا تعتق إلا بموت السيد ولا ترث؛ لأنَّ الرِّق والعبودية مانع من موانع الإرث.
قال: (وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً)، أي: أنَّ أم الولد هذه كانت ترأف بي وترفق بي في التَّعامل معي.
قال: (فَلَمَّا كَانَ البَارِحَةَ، جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ)، أي: تسبُّكَ وتقدح فيك؛ فحينئذٍ لم يرضَ ولم يقبل.
قال: (فَأَخَذْتُ المِغْوَلَ)، وهو آلةٌ حديدية فيها جانبٌ حادٌّ.
قال: (فَوَضَعْتُهُ فِي بَطنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَ)، يعني: وضع الآلة الحادَّة على بطنها وأدخلها في بطنها حتى ماتت.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ»، أي: لا يجب فيها ديةٌ بسببِ ذلك.
ثم قال المؤلف: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الإِمَامُ أَحْمدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبدِ اللهِ، وَالمِغْوَلُ بِالـمُعْجَمَةِ: قَالَ الْخطَّابِيُّ: المغول: هُوَ شَبِيْهُ الـمِشْمَلِ وَنَصْلُهُ دَقِيقٌ مَاضٍ، والـمِشْمَلُ: السَّيْفُ القَصِيْرُ).
فهذا بقيَّة ما أردنا أن نشرحه من كتاب دفع الصَّائل.
أسأل الله -جلَّ وعَلَا- أن يوفقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهُداة المهتدي، كما أسأله سبحانه صلاحًا لأحوال الأمَّة، وبُعدًا للنِّزاعِ والشِّقاق عنها، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك