{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم
معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أُرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل
الله -جلَّ وعَلَا- لنا ولهم توفيقًا ونجاحًا وسدادًا ورِفعَةَ درجةٍ في الدُّنيا
والآخرة.
نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "القضاء".
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الْقَضَاءِ.
عَنِ ابنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي
الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ
عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّار،
وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فَقَضَى للنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي
النَّارِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ,
وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ)}.
الحمدُ لله ربِّ العلمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ الشَّريعة المباركَة سَعت إلى نزعِ النِّزاع، وإلغاءِ الخصومات
بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ، وذلك من خلالِ زرعِ مخافة الله في القلوب، وجعلِ النَّاس
يستشعرونَ أنَّ الله يراقبهم، وتخويفهم من أن يأخذوا أمولًا لغيرهم، حتى ولو كان
ذلك من طريقِ القضاء، ولذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ
بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ،
فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا
أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
ومِن هُنا لابدَّ أن نعلمَ أنَّ للشَّريعة طرائق كثيرة للقضاء على النَّزاعات، ومن
ذلك: أمر النَّاس بالرَّدِّ إلى الكتاب والسُّنَّة، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلً﴾ [النساء: 59].
وممَّا جاءت به الشَّريعة: تقرير مبدأ القضاء في الفَصلِ بينَ الخصومات ورفعِ
النَّزاعات التي تكون بين النَّاس، ولإيصال الحقوق إلى أصحابها، ومن هنا كان
النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتولَّى القضاء بنفسه، وأرسلَ أصحابه
ليتولوا القضاء، فأرسلَ عليًّا ومعاذًا وجماعةً من الصَّحابة ليعملوا بعمل القضاء.
وحاولَ أن يُوجِدَ في النَّاس مهابةً لهذا المنصب العظيم من خلال بيان شيء من
الشُّروط التي تكون لمن يتولَّى هذا العلم العظيم، ومن خلال زراعة مخافة ربِّ
العزَّة والجلال، ومن هنا أشارَ المؤلف إلى بعض الأحاديث الواردة في ترهيب النَّاس
من أن يتولَّوا القضاء، فلا يعطوه حقَّه من الاهتمام والعناية، وذلك أنَّ القضاء
يحتاج إلى تأهيلٍ قبلَ الدُّخول فيه، فيحتاج إلى معرفة الله -جلَّ وعَلَا- ومعرفة
الكتاب والسُّنَّة، ومعرفة طرائق فهم الكتاب والسُّنَّة، وطرائق تطبيق النُّصوص على
الوقائع والأحكام التي تقع عند النَّاس.
ومن هنا جاء حديث بريدة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث أشار المؤلِّف إلى أنَّ
إسناده جيد، فهو لم يبلغ رتبة الصحَّة، وبعضهم حاولَ أن يتكلَّمَ في ابن بريدة من
هو، وأشار طائفةٌ من أهل العلم إلى أنَّه عبد الله بن بريدة أو هو سليمان، وكلاهما
ثقة، وبعضهم تكلَّم في بعضِ رواة الصَّحيح، ولكن درجة رواته لا تنقص عن درجة الحسن،
سواء شريك، أو خلف بن خليفة، أو غيرهم من الرواة؛ ولذا فالخبر حسن الإسناد، وكما
قال المؤلف: (وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ).
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ»، يعني: ثلاثة أصناف
وليس ثلاثة أفراد، ولا يلزم منه التَّساوي في العدد.
قال: «اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ»، يعني: من جِهة الاستحقاقِ
الابتدائيِّ، وإلَّا فمِنَ المعلوم أنَّ صاحب التَّوحيد عاقبةُ أمرهِ إلى الجنَّة
كما وردَ في النُّصوص.
أولهم: «رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ»، أي: كانَ عنده الأهليَّة للقضاءِ ولِتَمييز
الحقوق، فقضَى بما يعرفه من الحقِّ، فهذا قد أحسنَ، وبالتَّالي يكون له الأجر
والثَّواب، فيُقضَى عليه بأنَّه من أهل الجنة.
والثَّاني: «وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الحُكْمِ»،
أي رجلٌ عرف الحق ولكنَّه لم يقضِ به، ويجور في الحكم -بمعنى مالَ في الحكم- بحثُ
أوصلَ الحق لغير أصحابه. قال: «فَهُوَ فِي النَّار».
والثالث: «وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ»، يعني: جاهل.
قال: «فَقَضَى للنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ»، إمَّا لكونه لا يعرف النُّصوص أو لا يعرف
كيفيَّة فهمها، أو لا يتمكَّن مِن تطبيقِها على الوقائع، أو لا يكون له أهليَّةٌ في
فَهم القضايا التي تُعرَض عليه فَهُوَ فِي النَّارِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ
جُعِلَ قَاضِيًا بَينَ النَّاسِ، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ». رَوَاهُ
أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَحَسَّنَهُ)}.
السِّكين آلةٌ حادَّةٌ، والذَّبحُ بها يكون سببًا مِن أسباب السُّرعَةِ في الموت،
ومعنى قوله: «فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» أنَّه تعذَّبَ كثيرًا فيما ذُبِحَ
به، وهذا ترهيبٌ من هذا العمل العظيم.
وبعضُ أهلِ العلم قد تكلَّم في هذا الحديث؛ لأنَّه مِن رواية عثمان الأخنسي، وقد
وقع الاختلاف فيه، وروى عنه جماعة، ووثقة ابن معين وابن حبان، وتكلَّم فيه آخرون،
وقالوا ليس بذاك.
وعلى كلٍّ؛ فليسَ المراد أنَّ القاضي يُعذَّبُ بسببِ ذلك، وإنَّما المرادُ به أنَّ
القضاء مهنةٌ صعبةٌ، وعملٌ ليسَ بالسَّهل، وبالتَّالي فذلك الذي تولَّى القضاء دخلَ
بابًا عظيمًا، ومن ثَمَّ قد دخلَ أمرًا فيه اضطرابٌ لنفسه وقلقٌ عليه في حياتِه،
وهذا يجعلنا نُشفِقُ على هؤلاء القُضاة ونعلم أنَّ ما يؤدُّونه من أعمالٍ هي أعمال
جليلة وعظيمة، وبالتَّالي يتقرَّب الإنسان لله -جلَّ وعَلَا- بالدُّعاء لهم أن يسهل
الله لهم في مهمَّتهم.
وهكذا ينبغي لمَن يدخل سِلكَ القَضاء أن يكونَ متوكِّلًا على الله -جلَّ وعَلَا-
مستعينًا به، فهي مهمَّة عظيمة ليست بالسَّهلة، ولذا شبَّهها النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالذَّبح بغيرِ سكِّينٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ
اللهِ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ, إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ
مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ
مَالَ يَتِيمٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
قوله: «يَا أَبَا ذَرٍّ»، هذه وصيَّة من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
للصَّحابي الجليل أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وليس المراد هنا نهي الجميع عن
الإمرة، ولذا قال: «إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفً»، فمن كان كذلك فإنَّه ينبغي به أن
يجتنَّب الولايات العامَّة، وأن يُحاول أن يتبعِدَ عنها بكلِّ ما استطاع،
وبالتَّالي تبرأ ذمَّته في ذلك.
وأمَّا مَن كان قويًّا ويعرف مِن نفسه أنَّه لن يتأثَّر بالمؤثِّرات التي تأتيه؛
فحينئذٍ لا حرجَ عليه في أن يتولَّى مثل هذه الأعمال، وكما ذكرتُ لك أنَّ النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعددًا من أصحابه كان يتولَّونَ الولايات
العامَّة، سواء في إلإمارةٍ أو في قضاءٍ أو في غيرها.
وينبغي للإنسان ألَّا تكونَ نفسُه توَّاقة لذلك لذاتِ العمل، أو لذاتِ الأمرِ
الدُّنيوي، وإنَّما يكون مرادُ الإنسانِ أن يرفع درجته في آخرته، فمتى كانت نيَّته
كذلك كان هذا من أسباب عون الله -جلَّ وعَلَا- له، وبالتَّالي قبلَ أن يدخل الإنسان
شيئًا من هذه الولايات لابدَّ أن يُلاحظ بعض الأمور:
قوَّته في الحقِّ.
وإخلاصه في نيَّته.
ومعرفته بطرائق هذا العمل، وكيفية أدائه ليؤدِّيَه على الوجه المطلوب منه
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ
لِنَفْسِي»، في هذا أنَّ الإنسان ينصح غيره، حتى ولو لم يكن المنصوح قابلًا
للنَّصيحة، أو قد يفسِّرها بغير ظاهرها.
ثم قال: «لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ»، وذلك لأنَّ مثلَ هذا قد يجعل الإنسان
يحيف مع أحدهما، وقد لا يُؤدِّي العمل المطلوب منه على أكمل الوجوه.
قال: «وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»، أي: لا تكون وليًّا على اليتيم في ماله؛
لأنَّه يخشَى أن تكونَ ما في نفسه من ضَعفٍ من أسبابِ ضياعِ شيءٍ من أموال اليتيم.
وكما تقدَّم أنَّ هذا ليسَ نهيًا للجميعِ، وإنَّما هو نهيٌ لمَن كانَ على صفةِ أبي
ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولو تركَ النَّاس كلُّهم الإمارة لفسدت أحوالُ النَّاس،
ولتمكَّنَ منها مَن ليس أهلًا لها، ومَن يُريد أن يُحقِّقَ مقاصدَ دنياه، وإنَّما
المراد مَن كانَ على صِفة أبي ذر. ومثله في مال اليتيم، لو تركه الصُّلحاء وأهل
الخير تولَّاه الفُسَّاق فأخذوا ماله ولعبوا به.
ومن ثَمَّ فيُقال: هذا الخبر إنَّما هو لأشخاص معيَّنين، مَن لا يكون عندهم قدرة أو
قوَّة في الحقِّ بحيث يتمكَّنونَ من القيام بمثل هذه الأعمال على خيرِ الوجوه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّكُم سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ
وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ
الفَاطِمَةُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: «إِنَّكُم سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ»، هذا خبرٌ نبويٌّ كريمٌ وقعَ
مؤدَّاه في خطابه للصَّحابة وخطابه للأمَّة، ولذلك لا ينبغي بالإنسانِ أن يحرص على
أن يتولَّى الأعمال العامَّة، وينبغي بالمؤمن أن يكونَ توَّاقًا لأن يتخلَّصَ منها،
سواء كان في الولايات أو كانَ في الوزارات، حتى في الأعمال الدِّينيَّة، سواء في
الإفتاء، أو في رئاسة جمعيَّة أو مركَزٍ، أو نحو ذلك، ترغب نفسه أن يُكفَى مثل ذلك
العمل، وأن يوجَد من هو أطيب منه ومَن هو أفضل وأصلح منه لمثل هذه الولايات
والإمارات.
قال: «وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، يقول: كأنَّكم في أوَّل الأمر
تحرصون عليها، ولكنَّكم في آخرِ الأمر ستندمونَ على تلك الولايات التي كنتم تحرصون
عليها.
وليس في هذا التَّحذير من الولاية لذاتها، وإنَّما فيه التَّحذير من الحرصِ عليها
والرَّغبةِ فيها، وتمنِّيها لذاتها.
ثم قال: «فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ»، أوَّل ما نبدأ تأتينا المرضعة، وبالتَّالي فهي
في أوَّلها أمرٌ مستحسنٌ مقبولٌ ترغبه النُّفوس.
قال: «وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ»، يعني في آخر ِالأمر سيكون هناك ندامة، فالإرضاعُ في
أوَّل الأمرِ، وفَطْمُ الرَّضيع في آخره، فعندَ الفطمِ يحسُّ الإنسان بما فيه من
آثار ومن ندامة حصلَت عليه بسبب تولِّيه مثل هذه الأعمال.
وبعض أهل العلم يقول: ليسَ المراد هنا بــالفاطمة الانتهاء مِن العمل، وإنَّما
المراد بها الموت، لأنَّه يقطع عليه منافع تلك الولايات التي كان يتولَّاها.
وعلى كلٍّ؛ فينبغي للإنسان أن يعرف أنَّ هذه الأعمال إنَّما هي وسائل، فمَن جعلها
وسيلة لاستجلاب رضا الله ورفعة درجته في الآخرة، وخدمة عباد الله؛ كان مأجورًا
مثابًا في أدائه لهذه الأعمال والمهام، وأمَّا مَن جعلها لتحصيل الدُّنيا، ومن أجل
الرِّفعَةِ فيها، ومن أجل أن يكون للإنسان مكانة في النُّفوس ويُثنَى عليه ويُمدَح
بأفعاله؛ فحينئذٍ ينبغي به ألَّا يدخل في هذا الباب.
وعلى الإنسان أن يتفقَّد نيَّته في أيِّ عملٍ قبلَ أن يُقدِمَ عليه، فمن رغب الآخرة
وعمل لها سهَّل الله له أمر دنياه وأمرَ آخرته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ
إليَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ،
فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ
حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً
مِنَ النَّارِ»)}.
هذا الحديث متَّفقٌ عليه.
قوله: «إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ»، يعني: في القضاء والخصومات، وهذا فيه دليل
أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتولَّى القضاء، وفيه إشارةٌ
إلى أنَّ عمل القضاء عملٌ عظيمٌ، ولذلك قام به الأنبياء-عليهم السّلام- وذلك للآثار
الجميلة المتحقِّقَة من القضاء، ولا يلزم منه أن يكون القاضي مصيبًا في كل ما
يُعرَض عليه، فقد يكون مخطئًا، ولكنَّه لا يحكم إلَّا بما يكون ظاهرًا.
قال: «ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ»، يعني:
يستطيع أن يتكلَّمَ بها بما يجعل النَّاس يفهمونها على الوجه الذي تكون به حجَّة،
بحيث يكون أعرَف بحجَّته وأفطنَ لمعانيها.
قال: «فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ»، يأتي أحدُ الخصمين
ويعرف الدَّليل ويعرف مناط المسألة، والوصف الذي يُعلق به.
قال: «فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئً»، أي: مَن حكمت له بحكمٍ
قضائيٍّ ترتَّب عليه أن يأخذ شيئًا من حقوق الآخرين.
قال: «فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»،
وبالتَّالي لا يجوز له أن يأخذ به.
وفي هذا دليل على أنَّ حُكم القاضي لا يُغيِّر المسائل ولا يقلب الحلال ليكون
حرامًا، أو الحرام ليكونَ حلالًا، وهذا على ثلاثة أنواع:
النَّوعُ الأوَّلُ: إذا كانت المسألة فيها دليلٌ قطعي؛ فحينئذٍ قضاء القاضي لا
يُغير حقيقة الأمر باتِّفاق، ويجب نقض هذا الحكم القضائي.
النَّوعُ الثَّاني: إذا كان الحكم مبنيًّا على مناطٍ خاطئ، مثلًا أتى بشهودٍ فحكموا
أنَّ الحق لفلان، أو الحق ليس لفلان؛ فحينئذٍ هل حكم القاضي يُغيِّر حقيقةَ المسألة
ويقلب الحل ليكون حرامًا والعكس؟
جمهور أهل العلم قالوا: لا، شهادة الشُّهود والبيِّنات ومناط المسألة لا يُغيِّر
حقيةَ الأمر، ولا يُغيِّر الحكم في المسائل المقضي فيها، ولا يقلب الحلال ليكون
حرامًا.
وهناك مَن فرَّقَ بينَ القضايا الماليَّة وقضايا الأنكحة وغيرها، فقال: إنَّ ذلك
يقلب الحق في أحدهما دون الآخر.
ولكن ظواهر النُّصوص ومنها هذا النَّص يدلُّ على خلاف ذلك.
النُّوعُ الثَّالثُ: المسائل الاجتهاديَّة التي قع فيها اختلاف واجتهاد، فحينئذٍ
حكم القاضي يرفع الخلاف.
مثلًا: قد يختلفون في الشُّفعَة التي تكون للجار؛ هل تثبتُ له أو لا؟
الحنفية يقولون: نعم.
والجمهور يقولون: لا.
فلو كانَ القاضي يرى أحد الرأيين فحكم به؛ فحينئذٍ برئت ذمَّته ووجبَ على كلٍّ من
المتقاضيين أن يعمل به.
فعملُه بما عَرِفَ فهذا محلُّ إجماعٍ، وأمَّا عملُه بما له فهو مِن مواطن الاختلاف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ
ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ
أَجْرٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمدُ بِإِسْنَادٍ لَا يَصِحُّ منْ حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ
عَمْرٍو: «إِذا قَضَى القَاضِيَ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ،
وَإِذا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ كَانَ لَهُ أَجْرٌ أَو أَجْرَانِ»)}.
قوله هنا: «إِذا حَكَمَ الْحَاكِمُ»، المراد بالحاكم: القاضي، والمعنى: إذا قَضى
القاضي.
قوله: «فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ»، فلابدَّ أن يكونَ مؤهَّلًا،
ولابدَّ أن يكون قد اجتهدَ في المسألة؛ فحينئذٍ إذا أصابَ كانَ له أجران، أجرٌ على
الاجتهاد، وأجرٌ على الإصابة.
قال: «وَإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، فحينئذٍ هو معذورٌ
في هذا الخطأ، ويكون له أجرٌ على اجتهاده.
وهذا يُبيِّنُ لك أنَّه لا يجوز للإنسان أن يتكلَّم في القضاة، حتى ولو حكموا بما
يُخالف اعتقاد الإنسان في الحقِّ والباطل، حتَّى ولو حكموا عليك فيجب عليكَ أن
تتقيَ الله في لسانك فلا تذكرهم إلا بالخير.
وأمَّا الحديث الآخر ففيه راوٍ مجهول اسمه سلمة بن أكسوم، وبالتَّالي لا يُعوَّل
على هذه الرِّواية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بن أَبي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ
أَبي -وَكَتَبْتُ لَهُ- إِلَى عُبيدِ اللهِ بن أَبي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ
بِسِجِسْتَانَ، أَنْ لَا تَحْكُمَ بَينَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي
سَـمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ
أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»)}.
هذا الخبر متفقٌ عليه.
أبو بكرة صحابيٌّ جليل، وكان ممَّن أسلمَ يوم فتح الطَّائف، فتدلَّى من الحصن،
ودرسَ أولاده العلم وأصبحوا من أهله فتولوا القضاء.
قال عبد الرحمن بن أَبي بَكْرَةَ: (كَتَبَ أَبي)، فيه مشروعيَّة الكتابة بالنَّصائح
والإرشاد، وفيه أنَّهم كانوا يحرصون على كتابة الأحاديث النَّبويَّة.
قال: (كَتَبَ أَبي -وَكَتَبْتُ لَهُ- إِلَى عُبيدِ اللهِ بن أَبي بَكْرَةَ، وَهُوَ
قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ)، سِجِسْتَانَ منطقة في وسط آسيا.
قال: (أَنْ لَا تَحْكُمَ بَينَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ)، غضبان صفة على وزن
"فعلان" تعني الامتلاء من الشَّيء، تقول: "ملآن، وجوعان، وظمآن، ونحوها"، فمَن
امتلأ من الغضب فحينئذٍ لا يجوز له أن يقضي.
لم يقل: "لا تحكم بين اثنين وفيك غضب"، وإنما قال: (وَأَنْتَ غَضْبَانُ)، وهذه جملة
حاليَّة.
قال: (فَإِنِّي سَـمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ»)، «لَا يَحْكُمُ» برواية الرَّفع للإخبار، وبرواية الجزم
«لَا يَحْكُمْ»، للنَّهي، وخبرُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون
على الإيجاب، وإذا كان خبرًا بالنَّفي يكون على النَّهي.
قوله: «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ»، أيًّا كان هذا الحكم، سواء بين
متخاصمين في مالٍ، أو متخاصمين من زوجين في قضايا اجتماعيَّة وأُسريَّة، أو في
قضايا التَّحكيم.
قال: «وَهُوَ غَضْبَانُ»، يعني وهو ممتلئ من الغضب، وذلك لأن الغضبان يكون ذهنه
مشوَّشًا، وبالتَّالي لا يتأمَّل في الحُجج والبيِّنات التي تُلقَى عليه.
وحينئذٍ نقول: إنَّ كلَّ ما يشوِّش ذهن القاضي فإنَّه يمنع من تولِّيه للقضاء، كما
لو كان تعبًا يعجز عن النَّظر في تمام القضيَّة، أو كان سهرانًا، أو كان جوعانًا،
أو يُريدُ قضاء حاجته؛ فإنَّ هذه أمور مشغلات للذهن، وبالتَّالي لا تُمكِّنه من
استيعاب النَّظر في القضيَّة، وبالتَّالي قد يحكم بغير الحق فيها.
وفي هذا دليل على أنَّه لابدَّ من تهيئة الأسباب التي تجعل القاضي يحكم بالحقِّ،
سواءً بإحضار الخصوم، أو بالاستماع إليهم، أو بتمكينهم من الإلقاء بحججهم أو
بإعطائهم الأسباب التي تُبعد عنهم رهبةَ مجلس القضاء ونحو ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ
مَعَهُمَا ابنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ
هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابنِكِ أَنْتِ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى:
إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلكُبْرَى،
فَخَرَجَتا عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-
فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا,
فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ هُوَ ابْنُهَا, فَقَضَى بِهِ
للصُّغْرَى». وَقَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ
بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نقُولُ إِلَّا: الـمُدْيَةَ.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: «لَا
تَفْعَلْ, يَرْحَمُكَ اللهُ»)}.
هذه واقعة وردت في الصَّحيحين مِن قضاء داود وسليمان بن داود -عليهما السَّلام- وقد
نُقل اختلافات في القضاء والحكم بينهما في مَسائل مُتعدِّدَة، وفي غالب هذه القضايا
كان سليمان هو المصيب فيها، ولذا قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا
آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً﴾ [الأنبياء: 79].
وهذه القضيَّة مُتعلِّقة بقضايا الأمم السَّابقة، فهي نوعٌ مِن أنواعِ شرعِ مَن
قبلنا، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّما حكاها لتكونَ لها فائدة،
ومِن ذلك التَّأسِّي بهما في طريقةِ القَضَاء.
قال: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ
بِابْنِ إِحْدَاهُمَ»، فيه وجوب التحرُّز على الذُّريَّة وعدم تمكِين الأسباب
المؤدِّيَة إلى التَّلفِ منهم، ومن ذلك تركهم للذِّئاب أو للهوامِّ، أو لمن يعبث
بهؤلاء الأطفال.
قال: «فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابنِكِ أَنْتِ»، وانظر
إلى ما في هذا من ذنبٍ عظيمٍ من حيث أنَّه سيترتَّب عليه إدخال أحدٍ في نسبِ تلك
المرأة ونسب زوجها، فيترتَّب عليه مسائل مثل مسائل الميراث أو المحرميَّة
والزَّواج، ونحو ذلك.
فكلاهما قالت للأخرى: «إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ».
قال: «فَتَحَاكَمَا إِلَى دَاوُدَ»، فيه أنَّ القضاء يفصل بين النِّزاعات
والخلافات.
قوله: «فَقَضَى بِهِ لِلكُبْرَى»، هنا اجتهدَ فأخطأ في هذا الاجتهاد، وإنَّما حكم
به للكبرى لكِبَرِ سنِّها، أو لما أدلَت به مِن حجَّةٍ.
قال: «فَخَرَجَتا عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ»، يعني
لمَّا خرجتا من مجلسِ الحكمِ، فإذا بسليمان أمامهما، فأخبرتاه.
قوله: «فَقَالَ: ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَ», أي: أنَّني سأقوم
بإعطاء كلِّ منكما نصف الولد، فهو يُريد أن يختبر هاتين المرأتين لماذا تطالبان به،
هل لأنَّه ابنٌ أو لأنَّها تريد أن يلحق الأخرى من التَّلهُّفِ على ابنها مثل ما
لحقها، وبالتَّالي قالت الصغرى: «لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ هُوَ ابْنُهَ»، يعني لا
تشق هذا المولود يَرْحَمُكَ اللهُ، فظهرت الشَّفقة عندَ الصُّغرى، فدلَّ ذلك على
أنَّ الابن للصُّغرَى، إذ لو كان للكبرَى لمنعت الكبرى من شقِّه. قال: «فَقَضَى
بِهِ للصُّغْرَى».
وفي هذا: القضاء بالقرائن المغلِّبَة على الظَّنِّ متى كان لها درجة مقاربة لليقين.
وفي هذا: الاستدلال بالقرائن على الإقرار، فيستجلب الإقرار من خلال عرض القرائن على
الخصمين، وبالتَّالي يُقرُّ مَن عليه الحق بوجوب ذلك الحق عليه.
وفي الحديث: إخبار الإنسان أنَّه سيفعل شيئًا وهو لن يفعل استجلابًا لما يُحقق
المصلحة، فسليمان -عليه السَّلام- قال: «ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ
بَيْنَكُمَ»، وهو لن يفعل ذلك، وإنَّما أراد أن يختبر شفقة كلٍّ منهما.
وفي الحديث: أنَّ اللُّغة العربيَّة واسعة، وفيها من المترادفات الشَّيء الكثير،
وأنَّ بعض الألفاظ قد تخفى على بعض أهل اللغة، ولذا لم يكن أبو هريرة يسمع بلفظ:
"السِّكين"، وكانوا يُطلقون عليها "المُديَة"، وهناك أسماء أخرى للسِّكين غير هذا
الاسم، وإنَّما المراد هو إحضار أحد هذه الأسماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَن عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ ليْ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا تَقَاضَى إِلَيْكَ
رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ، فَسَوفَ
تَدْرِي كَيفَ تَقْضِي»، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًَا بَعْدُ. رَوَاهُ
أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِي كِتَابِ الْعِلَل، وَقَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ كُوفِيٌّ وَإسْنَادُهُ صَالحٌ)}.
هذا الحديث وقع الاختلاف في تصحيحه وتضعيفه، ومنشأ الخلاف فيه هو الكلام في أحد
الرواة يُقال له حنش بن المعتمر، فإنَّ كثيرًا من أهل العلم قد ضعفه، ولكنَّهم
قالوا إنَّه يُقوَّى به الأخبار، وهناك مَن قال إنَّه لا بأسَ به، أو صدوق فيكون
خبره من قبيل الحسن، ولكن الحديث معناه معنًى صحيحًا، وقد وردت آثار مرفوعة وموقوفة
ومقطوعة تدل على نفس معنى هذا الأثر من أنَّه لابد من استماع القاضي لكلام الخصمين
قبل أن يقضي.
قال: «إِذا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ»، رجلان هنا صيغة تغليب، وإلا فالمراد
خصمان أيًّا كانوا.
قال: «فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ»، أي بمجرَّدِ سماعِ كلامه.
قال: «حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ»، وبالتَّالي تُميز بين الكلامين وتقارِن
بينهما.
قال: «فَسَوفَ تَدْرِي كَيفَ تَقْضِي»، لأنَّه إذا سمع لهما عرف المدَّعِي من
المدَّعَى عليه، وتمكَّن من مقابلة الكلام ببعضه، وبالتَّالي المحق من غيره.
وقد ورد عن بعض السَّلف أنَّه قال: "مَن أتاكَ وعينُه مفقوءةٌ فلا تستعجلِ بالحكم
معَه، فقد يكون خصمه قد فُقئت عيناه معًا"، وبالتَّالي لابدَّ من استماع الإنسان
لكلام الخصوم.
وفي قصة داود -عليه السَّلام- في مسألة الشَّريكين اللذين اشتركا في بهيمة الأنعام؛
كان من أسباب اللوم أنَّه استمع لأحد الخصمين دون أن يستمع لخصمه الآخر، وبالتَّالي
عتَبَ الله -جلَّ وعَلَا- عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الدَّعَاوَى والبَيِّنَاتِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم؛ لادَّعَى نَاسٌ
دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَزَعَمَ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرينَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَعْمُهُ مَرْدُودٌ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى
الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»)}.
هذا الحديث صحيح كما ذكر المؤلِّف، وقد أخرجه الشَّيخان.
وقوله هنا: (بَابُ الدَّعَاوَى)، يعني رفع الخصومات والمنازعات للقضاء.
قوله (والبَيِّنَاتِ)، هي الأدلة التي تثبت الحقوق لأصحابها، وبعضهم يقصر اسم
"البيِّنة" على الشُّهود، وآخرون يعمِّمونَ اسم "البيِّنة" على كل ما وضَّحَ الحقَّ
وأبانَه.
وهذا الحديث قد تكلم فيه بعضهم فقال: إنَّه موقوفٌ وليس مرفوعًا للنَّبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُنسب هذا إلى الأصيلي، ولكن هو حديث صحيح ثابت
الإسناد، رُوي من طرائق متعدِّدَة، ودلَّ عليه وشهد له عدد من الأدلَّة.
قال: «لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم»، يعني لو قدَّرنا أنَّ كلَّ مَن ادَّعى
دعوى أُعطِيَ بناءً على دعواه فقط؛ فحينئذٍ ستطيع الحقوق وستذهب إلى غير أصحابها،
لأنَّه ما من شخصٍ يرغبُ في شيءٍ إلَّا وسيُقدِّم دعواه فيه متى كانت دَعواه سببًا
مِن أسبابِ تحقيقِ مراده، ولذلك وُضع لنا قانون في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»، بمعنى أنَّ
المدَّعِي هو المُطالَب أولًا بالبيِّنات، فإذا لم يكن عندَ المدَّعي بيِّنات رجعنا
إلى المدَّعَى عليه وطلبنا منه اليمين، وهذا هو الأصل والقاعدة العامَّة، ولكن لها
مخالفات في مسائل عديدة.
ولذا فإنَّ الدعوى إذا لم يكن معها بيِّنة فلا قيمةَ لها حتى يكون معها بيِّنات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ وَشَاهِدٍ. رَوَاهُ مُسلمٌ، وَتكَلَّمَ فِيهِ
البُخَارِيُّ والطَّحَاوِيُّ)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، يعني عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ
وَشَاهِدٍ)، يعني شاهد واحد.
الأصل في الحقوق أنَّها تثبت بشهادة شاهدين، كما قال تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾ [البقرة: 282]، يعني أن تنسى إحداهما
فتذكرها الأخرى.
فالقاعدة: أنَّه لابدَّ من شهادة اثنين، أو شهادة رجل وامرأتين في الحقوق
الماليَّة.
هل يُمكن أنَّنا نقتصر على شهادة شاهدٍ واحدٍ مع يمين المدَّعي فقط أو لا؟
الجمهور يقولون: يكفي ذلك، لما وردَ من الأحاديث (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ وَشَاهِدٍ).
وحديث ابن عباس هذا قد تكلَّم فيه بعضهم، وذلك أنَّ هذا الخبر من رواية قيس بن سعد،
وقد روى عن عمرو بن دينارٍ عن ابن عباس، وقالوا: قيس بن سعد لا يُعلَم أنَّه قد
حدَّثَ عن عمرو بن دينارٍ بشيءٍ.
وردَّ عليه الجمهور فقالوا: قيس بن سعد ثقةٌ ولا يُعرَف عنه تدليس، وقد حدَّث عن
عمرو بن دينار بصيغة التَّحديث الثَّابتة، ولذلك فهذا الحديث صحيح، ولذا أخرجه
الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- في صحيحه.
وبالتَّالي نعرف الحكم في أنَّ القضايا الماليَّة التي لا يملك المدَّعي فيها شهادة
رجلين أو رجل وامرأتين؛ فحينئذٍ هل نقبل يمين المدَّعي وشاهدٍ واحد، أو نقول لابدَّ
من شاهدين؟
قال الجمهور: يكفي شاهدٌ مع يمين المدَّعي لهذا الخبر وما ماثله.
وقال آخرون: لا نقضي إلا بشهادة اثنين، وهذا مذهب الحنفيَّة، قالوا: لأنَّ النُّصوص
التي وردت ليس فيها إثبات قبول شهادة شاهد واحد مع يمين المدَّعي، فهذا الحكم زائدٌ
على ما ورد في القرآن، والزِّيادة على نصِّ القرآن لا تقبل إلا بخبرٍ متواترٍ، وهذه
أخبارُ آحادٍ.
والصَّحيحُ أنَّ الزِّيادةَ على النَّصِّ بيانٌ وليسَت نسخًا، وبالتَّالي لا مانعَ
من إثباتِ الحكمِ بناءً على شاهدٍ واحدٍ مع يمينِ المدَّعي، لهذا الخبر.
وبعضهم قال: إنَّ هذا الخبر قد نَسِيَه راويه.
والصَّحيح أنَّ نسيانَ الرَّاوي لِمَا روى لا يقدَح في روايتِه إذا وُجِدَ مَن
يَروي عنه قبلَ نسيانه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عُقْبَةَ بنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ
يَحْيَى بِنْتَ أَبي إهَابٍ فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ
أَرْضَعْتُكُمَا, قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَعْرضَ عَنِّي, قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ،
فَقَالَ: «وَكَيفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَـتْكُمَا؟» فَنَهَاهُ عَنْهَا,
وَفِي لَفْظٍ: «دَعْهَا عَنْكَ»، رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ:
«دَعْهَا عَنْكَ لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَ»)}.
عقبة بن الحارث صحابي، كان يسكن في مكَّة، وتزوَّج أم يحيى بنت أبي إهاب، وجاءت له
بأولاد، وبعدَ مدَّة جاءت أمة سوداء فقالت: (قَدْ أَرْضَعْتُكُمَ)، وهذه شهادة
امرأة واحدة.
فجاء عقبة إلى المدينة فذكرَ كلام الأمة السوداء من أنَّها ادَّعت أنَّها أرضعتهما،
فأعرض النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنه، قال: (فَتَنَحَّيْتُ،
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَيفَ
وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَـتْكُمَا؟»)، والرَّضاع يمنع من النِّكاح كما في
قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾
[النساء: 23].
ولا يلزم في الرَّضاعة أن تكونَ قد رَضَعْتَ من أمِّ المرأة، أو تكون هي رَضَعَتْ
من أمِّكِ، فقد ترضعان معًا مِن امرأةٍ أجنبيةٍ، فتصبح أختك من الرَّضاعة، وهو ما
حدث هنا.
وفي الحديث:
- دليل على أنَّ الرَّضاع تُقبَل فيها شهادة المرأة الواحدة.
- وأنَّه لا يُشترط في الشَّهادة الحريَّة.
- وأنَّه إذا ثبتت الرَّضاعة بعدَ النِّكاح؛ فحينئذٍ ينفسخ النِّكاح ولا يبقى له
أثر، وأَّما ما مضى فإنَّ الوطء كان بشبهةٍ، وبالتَّالي يثبت به نسب الأولاد.
والقولُ بأنَّ الرَّضاعَ يَثبت بشهادةِ المرأةِ الواحدة هذا مذهبُ أحمد، قال:
لأنَّه من الأمور الخفيَّة التي لا يطَّلع عليها إلَّا النِّساء.
وقال الإمام الشَّافعي: لا يكفي فيه شهادة المرأة الواحدة، ولابدَّ من أربعٍ من
النسوة، ورأى أن الحديث على سبيل الاحتياط، وليس على سبيل الوجوب.
والجواب: أنَّ قوله (فَنَهَاهُ عَنْهَ) الأصل أنَّ النَّهيَ يكون للمنعِ
والتَّحريمِ.
وَفِي لَفْظٍ: «دَعْهَا عَنْكَ»، هذا لفظُ تحريمٍ صريحٍ، فيدلُّ على تحريم النِّكاح
وتحريم البقاء معها. وفي لفظٍ قال: «دَعْهَا عَنْكَ لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَ».
وبذلك نكون قد شرحنا هذا الخبر، باركَ الله فيكَ، ووفقكَ الله لكلِّ خيرٍ، وجزى
الله المشاهدين الكرام كلَّ خيرٍ وباركَ فيهم، ورزقهم العلمَ النَّافع، والعملَ
الصَّالح، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لجميع المسلمين أن تجتمع كلمتهم وتتآلف قلوبهم،
وأن تُحقَنَ دماؤهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه
أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.