{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم
معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، وأهلًا وسهلًا، وأشرُفُ بكَ وبمقابلة إخواني ممَّن يشاهدوننا، بارك
الله فيهم ووفقهم لكل خير.
{في هذه الحلقة نستكمل ما بدأناه من باب الدَّعاوى والبيِّنات.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- :
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ
الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُم فِي الْيَمِينِ
أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
الحمدُ لله ربِّ العلمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا الحديث حديثٌ صحيحٌ رواه الإمام البخاري، قال: (وَعَنْ أَبي
هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ)، تُعرَضُ اليمينُ على الْمدَّعى عليهم
إذا لم يكن مع الْمدَّعي البيِّنَة.
إذا رفَضَ الْمدَّعى عليهم أن يحلفوا؛ هل تردُّ اليمين على الْمدَّعي، أو لا تردُّ
ويُقضَى بالنُّكول؟
قال أحمد: يُقضَى بالنُّكول.
وقال الشَّافعيُّ: تُردُّ اليمين.
ولعلَّ قول الشَّافعي أرجح؛ لأنَّ فيه زيادة توثُّق، والْمدَّعي ما ادَّعى بهذه
الأمور إلَّا وعنده يقينٌ بأنَّ ما ادَّعى من ماله، وبالتَّالي لا إشكال في عرضِ
اليمين عليه.
إذن عرض اليمين في الأصل يكون على الْمدَّعى عليه، فإذا ادُّعيَ على جماعة؛ فحينئذٍ
يُطلَبُ منهم جميعًا اليمين، ولكن إن أدَّوا اليمين بترتيبٍ فيما بينهم قُبِلَ منهم
ذلك، وإلَّا فإنَّ القاضي يقوم بتنظيم هذه اليمين.
كيف يكون التَّنظيم بينهم؟
إن كان هناكَ مُدَّعًى عليه أصيل قُدِّمَ، ثم يُقدَّم كلُّ واحدٍ من الْمدَّعينَ
بحسبِ كِبَر حجم مُشاركته في المسألة الْمدَّعى فيها.
وإن تساووا فحينئذٍ قال الجمهور: يُسهَمُ بينهم، واستدلوا بهذا الحديث: (فَأَمَرَ
أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُم فِي الْيَمِينِ)، فتُوضَع قرعة ليُعرَف أيُّهم الذي ينبغي
تقديمه، وأيُّهم يحلف قبل الآخر.
وقد استدلَّ الجمهور بهذا على مَشروعية القُرْعة وضربِ السِّهام، وقد خالف في ذلك
الحنفيَّة فقالوا: هو نوعٌ من أنواع الخرس والتَّخمينِ، والبناء على الظُّنون
المجرَّدة.
نقول: ما دام أنَّه قد ثبتَ فِعله عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
مواطن فوردَ عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه (إِذَا أَرَادَ سَفَرًا
أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِه) ، ونحو ذلك، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ
يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُو» ، ونحو ذلك من
النُّصوص؛ فدلَّ هذا على مَشروعيَّة القُرعَة في التَّمييز بينَ الحقوق التي لا
ينفصل بعضها عن بعضها الآخر.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سِماكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ
الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ،
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ
بَيِّنَةٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ
يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ» فَانْطَلَقَ
لِيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمَّا
أَدْبَرَ: «أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَّنَ
اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»)}.
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم، قال: (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ
كِنْدَةَ)، الأظهر أنَّ حضرموت وكندة قَبَائِل مِن قَبَائِل العَرب، فجاؤوا إلى
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتخاصمين يرفعون الدَّعوى، وفيه تولِّي
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للقضاء.
قوله: (فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي
عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي)، هنا تمييزٌ بينَ الْمدَّعي والْمدَّعى عليه،
لأنَّ القاضي يُطالب الْمدَّعي بالبيِّنة، فإذا لم يكن مع الْمدَّعي بينة ذهب إلى
الْمدَّعى عليه وطلبَ يمينه.
ومناط القضاء: هو معرفة مَن هو الْمدَّعي ومن هو الْمدَّعى عليه.
وبعضهم يقول: إنَّ الْمدَّعي هو المتكلِّم أولًا.
وبعضهم يقول: لا؛ الْمدَّعي مَن إذا تركَ تُرِكَ، بحيث لو تركَ الدَّعوى انتهت،
بخلاف الْمدَّعي عليه، فإنه لو تركَ الدعوى لم تنتهِ الدَّعوى.
وآخرون قالوا: الْمدَّعى عليه هو مَن كانت العَين الْمُتنازَع عليها بيده.
فهذه عَلامات مِن عَ لامات التَّفريق بينَ الْمُدِّعي والْمدَّعى عليه، وأساسُ
القضاءِ في التَّفريق بينهما، ومَن عَرَفَ كيف يُفرِّق بينَ الْمدَّعي والْمدَّعى
عليه أمسكَ بأوَّلِ الطَّريقِ في باب القضاء.
هنا الحضرمي تكلَّم؛ فكأنَّه الآن أصبحَ مُدَّعيًا، فقال: (يَا رَسُولَ اللهِ،
إِنَّ هَذَ)، يعني: الْكِنْدِيُّ (قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ
لأَبِي)، يعني: كان يملكها سابقًا وورثها من أبيه، وفيه إثبات إرث الأرض، وأنَّ
الأبناء يرثون من أبيهم.
فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: (هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي)، أثبتَ وجود يدَه عليها.
قال: (أَزْرَعُهَ)، هنا قرينة وضع اليدِ، وهذه قرينة قويَّة تدلُّ بطريقِ الظَّنِّ
على أنَّ العَين مملوكة لمن هي بيده.
قال: (لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ)، وهذا إنكارٌ للدَّعوى، ولو أقرَّ له لحَكَمَ له؛
لأنَّ الإقرار سيد الأدلّة وهو حُجَّة.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ
بَيِّنَةٌ؟»، الآن عرفنا الْمُدَّعِي من الْمدَّعى عليه، والْمُدَّعي هو الذي
يُطالَب بالبينة وهو الذي ليس معه وضع يدٍ على العين المتنازَع فيها.
قَالَ: (لَ) أي: ليس عندي بيِّنَة.
قَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ»، أي: إذا لم يكن
معكَ بيِّنَة يا أيُّها الْمدَّعي فلا سبيل للحكم إلَّا يمين الْمدَّعى عليه -كما
في الخبر السابق- «ولكن اليمين على المدعَى عليه».
قَالَ الحضرمي: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى
مَا حَلَفَ عَلَيْهِ)، أي: لا يَتورَّع عن أن يحلف وهو كاذب.
قال: (وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ)، أي: لا يدفع عن نفسه اليمين الكاذبة.
وفي هذا: أنَّ السِّباب الْمتعلِّق بالدَّعوى في مجلس القضاء لا يُؤاخذ الإنسان به،
فإذا تكلم عليه بمثل هذا الكلام خارج مجلس القضاء لعُزِّرَ، ولكن لَمَّا تكلَّم به
في مجلس القضاء من أجلِ فائدةٍ وثمرةٍ؛ فحينئذٍ عُفيَ عنه.
والأصل أنَّ المسلم لا يذكر المسلم إلَّا بالخير، إلَّا إذا كانَ هناك مَصلحة
شرعيَّة.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا
ذَلِكَ»، أنتَ لم تحضر البيِّنة، فننتقل إلى الْمدَّعى عليه ونُطالبه باليمين.
قال: (فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ)، أي: الْكِنْدِيُّ وهو الْمُدَّعَى عَليه.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمَّا أَدْبَرَ: «أَمَا
لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَّنَ اللهَ وَهُوَ
عَنْهُ مُعْرِضٌ»، يعني: يوم القيامة.
وفيه شدَّة إثم مَن حلف بيمين كاذبةٍ ليقتطع مال غيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»،
فَقَالَ لَهُ رجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيْـبًا
مِنْ أَرَاكٍ». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»،
أي: مَن أخذَ حقَّ امرئٍ مسلمٍ.
قوله: «بِيَمِينِهِ»، أي: بيمين فاجرةٍ كاذبة.
قال: «فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ»، أي: جعله من أهلها.
قال: «وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، يعني: على سبيل الابتداء.
قوله: (فَقَالَ لَهُ رجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟)، يعني: هل هذه العقوبة
الشَّديدة تتعلَّق بأخذِ مالٍ يسيرٍ؟
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ قَضِيْـبًا مِنْ أَرَاكٍ»، يعني:
السِّواك.
وفي الحديث:
تحريم اليمين الكاذبة، وعظم إثم اليمين الفاجرة التي يترتَّبُ عليها أَخذ أموال
الآخرين.
وجوب أن يتورَّع الإنسان عَن مَال غَيره.
حُكم القاضي بناءً على اليمين الفاجرة لا يجعل المحرمات حَلالًا، وإلَّا لسلِمَ
من العقوبة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ الْأَشْعَثِ بنِ قَيسٍ قَالَ: كَانَتْ بَيْنِي
وَبَينَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ»، فَقُلْتُ:
إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
يَقْتَطِعُ بهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قال الأشعث: (كَانَتْ بَيْنِي وَبَينَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ)، فيه أنَّ
الخُصومَة لا تُنقِص من مكانة الشَّخص ، وهم صحابة في عهد النُّبوَّة.
قال: (فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه
الرجوع إلى القضاء الشَّرعي في منازاعات الناس وخصوماتهم، ولا يُترَك الأمر للهوَى،
ولا يُترَك الأمر لمَن يحكم بخلاف الكتاب والسُّنَّة.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأشعث وهو مُدَّعٍ:
«شَاهِدَاكَ»، أيُّها الْمدَّعي وهي البيِّنَة.
قال: «أَوْ يَمِينُهُ»، يعني: يمين الْمدَّعى عليه، وذلك أنَّ الْمدَّعى عليه الآن
عنده وضع يدٍ على هذه البئر.
فقال الأشعث: (إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي)، أي: لو رددت الأمر إلى
يمينه فلن يتورَّع عن الحلف بيمينٍ كاذبةٍ.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ
بهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ»، يعني: كاذب «لَقِيَ اللهَ»،
يعني: يوم القيامة «وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ»، فيه شدَّة إثم أولئك الذين يحلون
كذبًا وزورًا إذا تعلَّقَ بأيمانهم أخذُ حقوق الآخرين.
وفي هذا الحديث والحديث الذي قبله: إشارة إلى أنَّ القاضي ينبغي به أن يعظ الخصمين،
وأن يذكرهما بالله -جلَّ وعَلَا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سَعيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعيدِ بنِ أَبي
بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي مُوسَى: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دَابَّةٍ لَيْسَ لوَاحِدٍ
مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمدُ
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ:
إِسْنَادُ هَذَا الحَدِيثِ جَيِّدٌ)}.
هذا الحديث وقع الاختلاف في رواته، فاضطرب الرواة فيه واختلفوا، ولذلك ضعَّفَه بعضُ
أهل العلم بسببِ هذا الاختلاف.
قوله في هذا الخبر: (عَنْ أَبي مُوسَى: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دَابَّةٍ)، فيه الرُّجوعِ إلى
القاضي الشَّرعي فيما يحدث من المنازعات بينَ الناس، وفيه أنَّ النَّزاعات قد تكون
في المنقولات كما تكون في العقارات.
قوله: (لَيْسَ لوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ)، يعني: لا يوجد شهود لا مع هذا ولا مع
ذاك، والذي يظهر أنَّه ليس هُناك وضع يد، إمَّا أنَّه لا يوجد يد عليها، أو أنَّها
تحت يد رجل أجنبي كمستأجرٍ استأجر دابَّةً ليركبها، فلمَّا جاء يُعيدها فإذا برجلين
كلٍّ منهما يدَّعي أنَّ الدَّابة له، ونسي المستأجر مَن هي له.
قال: (فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ)، لعدم وجود البيِّنَة في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ
قَتَادَةَ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
شَاهِدَيْنِ، فَقَسَمَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ)}.
هنا لا توجد يد، وكلٌّ من المتخاصمين عنده بيِّنَة، فلمَّا تقابَلت البيِّنتان ولا
نعرف مَن هو الْمدَّعي والْمدَّعى عليه؛ قلنا: تساقطت البيِّنات، وبالتَّالي نُثبت
المِلك لهما على النِّصفين.
لكن لو عرفنا الْمدَّعي مِن الْمدَّعى عليه فإنَّنا نطالب الْمدَّعي بالبيِّنَة،
فإن لم يكن عنده بيِّنَة طالبنا الْمدَّعى عليه باليمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِم، وَلَا يُزَكِّيهِم، وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ
السَّبِيْلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ
بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا؛ فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ،
وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ
مِنْهَا وفَى، وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ،
ولِلبُخَارِيِّ: «وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ؛
لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ»)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ»، يعني: ثلاثة أصناف.
قوله: «لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ»، فيه إثبات صفة الكلام لله -جلَّ وعَلَا- والمراد
هنا: كلام الرِّضا، وليس المراد كلام المحاسَبة.
قال: «وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِم»، فيه إثبات هذا الفعل له -جلَّ وعَلَا.
قال: «وَلَا يُزَكِّيهِم»، أي: لا يُطهرهم، قال: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
أولهم: «رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ»، يعني: على ماءٍ زائدٍ.
قال: «بِالفَلاةِ»، يعني: بالصَّحراء.
قال: «يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيْلِ»، أي: من المسافر المحتاج إلى الماء.
وفي هذا وجوب بذل الماء للمحتاج إليه إذا كنتَ مُستغنيًا عنه زائدًا عن حاجتكَ،
وفيه شدَّة تحريم منع الماء من ابن السبيل إذا كان زائدًا عن الحاجة، وقد وردَ أنَّ
النَّاس شُركاء في ثلاث منها: الماء.
وقيل: إنَّ المراد الماء غير المحوز مثل: مياه الآبار أو مياه الأنهار، أو مياه
الأمطار، أمَّا ما كان محوزًا من المياه فهذا مملوكٌ، وبالتَّالي لا يحق لأحدٍ أن
يستعمله إلَّا بإذن صاحبه.
قال: «وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ
بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا؛ فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ»،
يعني: كاذب، وفيه منع الحلف كذبًا من أجل تنفيق السِّلعة وإمرارها.
قوله: «وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلً» يعني: بائع ومشترٍ، سواء رجل أو امرأة.
قوله: «بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ»، هنا استدلَّ بعض العلماء بهذه اللفظة على
أنَّ اليمين يُمكن أن تتغلَّظ، فإنَّ القاضي قد يرى أنَّ الْمدَّعى عليه قد يتهاون
في اليمين إذا لم تكن مغلَّظَة، فيقوم بتغليظها، والتَّغليظ له ثلاث وسائل:
تغليظ في الزَّمان: كما في هذا الحديث في قوله: «بَعْدَ الْعَصْرِ».
وتغليظ في المكان: كما عند الكعبةِ، وعند منبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وتغليظٌ في الألفاظ.
وبعض العلماء قال بمشروعيَّة التَّغليظ بهذه الأمور الثلاثة، وخالفهم آخرون، وهذا
الدليل دليلٌ لمَن يقول بمشروعيَّة التَّغليظ في اليمين.
وفي هذا الحديث: أنَّه ينبغي للإنسان أن يُصدِّق مَن حلف له بالله -جلَّ وعَلَا.
وقوله: «وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامً»، والمبايعة قد تكون باللفظ، وقد تكون
بالمصافحة، وقد تكون بالاعتقاد، فإذا اعتقدَ صحَّة ولاية هذا الولي يُقال عنه:
بايَعَ، ولا يجوز للإنسان أن يكونَ قلبُه خليًّا من البيعَة، فقد قال النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ
مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» .
قال: «لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَ»، البيعة أمر مشروعٌ وعبادة يُتقرَّب بها
إلى الله -عز وجلَّ- وبالتَّالي ينبغي أن تكون نيَّة الإنسان فيها الآخرة، بيعة
الأئمة وأصحاب الولاية ينبغي أن نتقرَّب بها إلى الله، وأن نجعلها ديانة نعبد الله
-عز وجلَّ- بها.
وبوجود الإمام تسكن أحوال الناس وتستقر أمورهم، ويبتعد عنهم الخوف، وينتشر الأمن،
وبالتالي يتمكنون مِن مزاولة أمور عباداتهم وأمور دنياهم، وأمَّا إذا لم يكن للناس
إمام فإنَّ أحوال الخلق تضطرب ولا يأمنون، وبالتَّالي لا تزدهر أمورهم.
وفي هذا الحديث دليلٌ على مَشروعيَّة وضع الأئمة، وفيه أيضًا أنَّه ينبغي للإنسان
أن يجعل مَقصده ونيَّته في كل أموره للآخرة، يُريد ما عند الله -جلَّ وعَلَا-
ويُريد أن تعلو دَرجته عند الله، وأن يرضى الله-عزَّ وجلَّ- عنه.
قال: «فَإِنْ أَعْطَاهُ وفَى»، يعني: هذا الرجل الثالث الذي لا يكلمه الله ولا ينظر
إليه يوم القيامة ولا يزكِّيه؛ بايع إمامه للدنيا، إن أعطاه من الدنيا وَفَّى وقام
بالبيعةِ، وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ؛ وبالتَّالي ينبغي للإنسان أن
يجعل البيعة أمرًا شرعيًّا مَقصودًا به إرضاء الله والحصول على أجر الآخرة، لا
نسمعُ ونطيعُ من أجلِ وظيفةٍ، أو من أجلِ راتبٍ، أو من أجلِ توفُّر المأكل
والمشارب، أو من أجلِ توفُّر الأموال؛ وإنَّما يُسمَع لصاحب الولاية ويُطاع له
ويُوفَّى ببيعته طاعةً لله -جلَّ وعَلَا- ورغبةً في أجرِ الآخرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ نِسْطاسٍ، عَنْ جَابرِ بنِ عَبدِ
اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ
مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». رَوَاهُ الإِمَامَانِ مَالكٌ وَأَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد
وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ)}.
قوله: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَ»، فيه دليلٌ لِمَن يقول بمشروعيَّة تغليظ
اليمين، وأنَّ من أنواع التَّغليظ: التَّغليظ المكاني.
قوله: «بِيَمِينٍ آثِمَةٍ»، أي: كاذبة، ووصفها بالإثم؛ لأنَّ الإثم أثرٌ وَحُكمٌ
مِن أحكام اليمين الكاذبةِ الفاجرة.
قال: «تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، يعني: على سبيل الابتداء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
عَنْ زَيدِ بنِ خَالِدِ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي
بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَ». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذينَ
يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» قَالَ
عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، «ثُمَّ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ
وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا
يُوفُونَ، وَيَظْهَـرُ فِيهُمُ السَّمَنُ»)}.
الشَّهادات: هي البيِّنَة التي تُثبَت بها الحقوق.
وقال بعضهم: هي أحدُ أنواع البيِّنات، وأدخلوا القرائن في البيِّنات.
والشَّهادة أقوى من القرائن؛ لأنَّ فيها تعليق الحكم بالذِّمم، وبالتَّالي يتعلَّق
هذا الحكم بذمَّة هذا الشَّاهد، فهي أقوى من الكتابات، وأقوى من الرُّهون، وأقوى من
غيرها من أنواع ما يثبت الحقوق، وذلك لأنَّ الحقَّ فيها يُمكن أن يُعلَّق
بذِّمَّةٍ.
قال: (عَنْ زَيدِ بنِ خَالِدِ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟»)، يعني:
بأفضل مَن يشهد.
قال: «الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَ»، يعني: يُبادر
بالشَّهادة، وقد ورد في حديث آخر: «ثُمَّ يَكُونُ بَعدَهُمْ قَوْمٌ يشهدُونَ وَلاَ
يُسْتَشْهَدُونَ» ، يعني: يُبادرون بالشَّهادة ولا تطلب منهم الشَّهادة، وأتى بهم
على صفة الذَّمِّ؛ فكيف نجمع بينهما؟
الجواب: هناك ثلاثة طرق من طرق الجمع:
الوجه الأوَّل: أنَّ قوله: «وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ»، أي: أنَّ النَّاس لا يثقون
فيهم فيُشهدونَ على أمورهم، فلا يُوجَد تعارض، فالاستشهاد هُنا على سبيل المشاهدة
والتَّلقِّي، وليس على سبيل الأداء، بينما الحديث الأول على سبيل الأداء.
الوجه الثَّاني: أنَّ الحديث الأوَّل فيمَن كان لا يُعلَم أنَّ لديه شَهادة فيأتي
بها، والحديث الثَّاني فيمَن يُعلَم أنَّ عندَه شهادة ولم تُطلَب منه، فينبغي به أن
يُخبر أصحاب الحق أنَّ لديه شهادة، ولا يأتي بها حتى يطلبوها منه.
والوجه الثالث: أن قوله: «الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَ»
يعني: أنَّه يُحقِّق الفعل المتعلِّق بإثبات ذلك الحق لأصحابه، وبذلك نعرف وجه
الجمع بين هذين الدَّليلين.
وفي حديث عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي»، فيه فضيلة الصَّحابة
وعِظَم مكانتهم وأجرهم، وعلو منزلتهم عند الله -جلَّ وعَلَا.
قال: «ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ»، أي: من التَّابعينَ، قال -جلَّ وعَلَا:
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَ﴾ [التوبة:100]،
فهذا فيه فضل الصَّحابة وفضل التَّابعين ومَن سارَ على طريقتهم، وفيه المنع من سبِّ
الصَّحابَة، والتَّحذير من سوء عاقبته دنيا وآخرة.
قال: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فيه فضيلة
القرون الثلاثة. قَالَ عِمْرَانُ: (فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثً).
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ»، أي:
يُبادرون للشهادةِ.
قال: «وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ»؛ لأنَّهم لا يُوثَقُ بهم.
قال: «وَيَخُونُونَ»، أي: لا يؤدُّونَ الأمانات إلى أهلها.
قال: «وَلَا يُؤْتَمَنُونَ»، أي: لا يرضى الناس بأمانتهم.
قال: «وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ»؛ لأنَّ مَن نذرَ أن يُطيعَ الله فليُطِعْهُ.
قال: «وَيَظْهَـرُ فِيهُمُ السَّمَنُ»، يعني: في أبدانهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبي بَكْرَةَ قال: كُنَّا
عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَلا
أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ -ثَلَاثًا: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وعُقُوقُ
الْوَالِدَينِ وَشَهَادَةُ الزُّور أَو قَوْلُ الزُّورِ» وَكَانَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا
حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِما، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله هنا: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه
حِرص الصَّحابَة على البقاء عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليستفيدوا
منه ويتعلَّمُوا منه، وفيه التَّرغيب في ذهاب الإنسان إلى أهل العلم ليستفيد منهم.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ»، أي: ألا أخبركم؟
وفي الحديث:
عرض الإنسان ما لديه من العلم من أجل أن يُستفاد منه.
وأنَّ الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وأنَّ الكبائر ليست على رُتبةٍ واحدةٍ؛ بل
بعضها أكبر مِن بعضها الآخر.
تكرار اللفظة من أجلِ شدِّ الأذهانِ، وجعل النَّاس ينتبهون.
وبعضهم قال: إنَّ قوله (ثَلَاثً)، أي: ألا أنبئكم بأكبرِ ثلاث كبائر؟
أولًا: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»، والمراد
به: صرفُ العبادة لغير الله تعالى، كمَن صلَّى لغيرِ الله، وكمَن نذرَ لغيرِ الله،
وكمَن دعا غيرَ الله، والإشراك جريمةٌ كبرى، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
ثانيًا: قوله: «وعُقُوقُ الْوَالِدَينِ»، عقوق الوالدين يشتمل على معنيين:
إيذاءهما.
والتَّقصير في حقِّهما.
والوالدان في الأصالة تُطلَق على الأب والأم، ولكن الأجداد يدخلونَ على جهةِ
التَّبعِ.
ثالثًا: «وَشَهَادَةُ الزُّور»، المراد بالزُّور: الشَّهادة الكاذبَة، واليمين
المتعلقة بخبرٍ مَاضٍ يُخالف به المتكلِّم الواقع، وشهادة الزُّور كبيرة من
الكبائر، وليس فيها كفَّارة، وإنَّما اليمين المكفَّرة تكون الأمور المستقبليَّة،
أمَّا الأمور الماضية فالكذب فيها شهادة زور، ولا يَشرع فيها كفارة يمين.
قال: (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّكِئً)، أي:
قد استندَ على شيءٍ حوله.
قال: (فَجَلَسَ)، أي: وثبَ جالسًا، لاهتمامه بالأمر.
قال: (فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَ)، أي: يُكرر قوله: «وَشَهَادَةُ الزُّور»، وفيه
تَكرار العلم، وفيه التَّنبيه بتَكرار اللفظة.
قال: «حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ»، ليس هذا منهم على جهة الرغبَة عن كلام
رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنَّما المراد أنَّهم أشفقوا عليه،
ورأوا أنَّه قد اهتمَّ من ذكرِ شهادة الزُّور، وبالتَّالي رغبوا أن يبتعد عنه هذا
الاهتمام، وهذا التَّأثُّر بشهادة الزُّورِ وقول الزُّور، ممَّا يدلُّ على عِظَم
إثم أصحابها، خُصوصًا إذا ترتَّبَ عليها ضياع الحقوق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عُمَرَ بنِ الْخطَّاب-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ:
إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطعَ، وَإِنَّمَا
نَأْخُذُكُم الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُم، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا
خَيْرًا أَمَّنَاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ،
اللهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ
وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. رَوَاهُ
البُخَارِيُّ)}.
قوله: (إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ)، فيه التَّحري في أحوال
الشُّهود والرُّواة، وطلب تزكية هؤلاء الشُّهود، وفيه أنَّ المعتبَر في العدالة من
أحوال الشُّهود العدالة الظَّاهرة، وأمَّا الأمور الباطنة فهذه إلى الله -جلَّ
وعَلَا.
وفي هذا أنَّه لا يُشرَع التَّنقيب عن السَّرائر التي تكونُ عندَ الناس، وأن
يُكتَفَى بظواهرهم، إلا أن يَظْهَر من الإنسان بعد ذلك مَا يَدل على مُراده
وحقيقته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ: وَقَالَ لي عَليُّ بنُ عَبدِ اللهِ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى بنُ آدمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبي
الْقَاسِمِ، عَنْ عَبدِ الْمَلِكِ بنِ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ
وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ،
فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ
ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ
وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ،
فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ
شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِه
الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾
[المائدة:106]).
قوله: (وَقَالَ)، يعني: قال البخاري.
قوله: (وَقَالَ لي عَليُّ بنُ عَبدِ اللهِ)، يعني: المديني، ويُحكم على هذا أنَّه
متصلٌ.
قال: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ)، بنو سهم
فَخِذْ مِن قبيلة قريش، ومنهم عمرو بن العاص وجماعة.
قال: (مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ)، الدَّاري نسبة إلى بني عبد الدَّارِ.
قال: (وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ)، أي: خرجوا جماعة.
قال: (فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا
بِتَرِكَتِهِ)، يعني: قَدِم تميم وَعَدي بتركة السهمي.
قال: (فَقَدُو)، أي: فقد أهله وأولياؤه وورثته.
قوله: (جَامًا مِنْ فِضَّةٍ)، نوعًا من أنواع الحلي.
قوله: (مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ)، أي: منقوشًا على صفة الخوص من ذهب.
قال: (فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، أي:
أحلفهما بأنهما لا يعلمون عن هذا الجام شيئًا.
قال: (ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ)، أي: وُجد الجام يُباع في مكَّة.
قوله: (فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ
أَوْلِيَائِهِ فَحَلفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ
الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ)، يعني: أنَّنا نشهد أنَّ هذا الجام لصاحبهم.
قال: (وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِه الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ
اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا
مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي
بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا
إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ﴾).
فهذا بيانٌ لأحكام هذه الشَّهادات، جعلها الله شهادة، وردَّها بوجود ما يُكذِّبها،
ولذلك استُدلَّ بهذه الواقعة على أنَّ الشَّهادة تُردُّ متى وُجدَ ما يُكذِّبها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «لَا تَجَوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا
الحَدِيثُ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بنُ عَمْرو بنُ عَطاءٍ، عَنْ عَطَاءِ
بنِ يسَارٍ)}.
البدوي: هو الذي يتنقَّلُ في البادية وليس من أهل المدن.
وإذا شهد البدوي على صاحب القرية؛ فإنَّ جماهير أهل العلم يقولون: تُقبَل شهادة
البدوي، لعموم النُّصوص التي وردَت بقبول الشهادة.
وبعض أهل العلم قال: تُردُّ الشَّهادة؛ لأنَّ الغالب في صاحب البادية أن يكون من
أهل الجهالةِ بالأحكام الشَّرعيَّة، وغالبًا لا يضبطون الشَّهادة على وجهها، وقد
يُحيلون الشهادة عن وجهها، وبالتَّالي تُؤدِّي إلى معنًى مُغايرٍ لحقيقة الأمر.
والجمهور -كما تقدَّم- يقبلون شهادة البدوي، ويتكلمون في هذه الرواية؛ لأنَّها من
رواية محمد بن عمرو بن عطاء، ومحمد بن عمرو بن عطاء هذا صدوق، وروايته من قبيل
الحسن، ولكن رواه عن عطاء بن يسار، وعطاء أمام، وقد روى عن عطاء جماعات كثيرة،
فقالوا: يبعدُ أن يتفرَّد محمد عمرو بن عطاء بهذا الخبر عن عطاء بن يسار، ولذلك
تكلَّموا فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ رَاشدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ مُوسَى،
عَنْ عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، قالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ
خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ
القَانِعِ لأَهْلِ الْبَيْتِ، وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِمْ». والقَانِعُ:
الَّذِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيْتِ، رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ-
وَأَبُو دَاوُد، ومُحَمَّدٌ وسُلَيْمَانُ: صَدُوقَانِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِمَا
بَعْضُ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ العَبْدِ جَائِزَةٌ
إِذا كَانَ عَدْلً)}.
محمد بن راشد وسليمان بن موسى صدوقان، فحديثهما من قبيل الحسن، وكذلك شُعيب بن محمد
بن عبد الله بن عمرو بن العاص والد عمرو صدوق، وبالتَّالي فالخبر حسن ، وليس من
الأخبار الضعيفة.
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ
وَلَا خَائِنَةٍ»، أي: مَن عُلِمَ عنه الخيانة فيما سبق فإنَّنا لا نُمضي شهادته
ولا نقبلها، لوجود هذا السبب الطَّاعن في شهادته.
قوله: «وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ»، المراد بالغِمر: مَن كان مُبغضًا
مُعاديًا، وفيه أنَّ العداوة مِن أسباب رَدِّ الشهادة، وفيه إشارة إلى وجود الأخوة
الإيمانيَّة، وبالتَّالي ينبغي أن تَنْتَفي البغضاء بينهم.
قال: «وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ القَانِعِ لأَهْلِ الْبَيْتِ»، القانع: هو الذي
يُنفق عليه أهل البيت -كما وردَ تفسيرها- وذلك لأنَّ بينهم مشاركة؛ ولأنَّهم أصحاب
فضلٍ عليه، وبالتَّالي لا تُقبل شهادة القانع لأهل البيت.
قال: «وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِمْ»، يعني: لغير أهل البيت لكونه لا يُتَّهم
في شهادته لغير أهل البيت.
قال البخاري في صحيحه: (وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ العَبْدِ جَائِزَةٌ إِذا كَانَ
عَدْلً)، المراد بالعبد: المملوك. هذه اللفظة مُعلَّقة لم يذكر الإمام البخاري مَن
بينه وبينَ الصَّحابي أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبالتَّالي هذا يُقال له: خبرٌ
مُعلَّقٌ، وأثرٌ مُعلَّقٌ لم يُذكَر فيه بقيَّة رواته.
وقد وردَ عند ابن أبي شيبةَ أنَّه سُئلَ أنس عن شهادة العبيد، فقال: (إنَّها:
جائزة)، ففيه قبول شهادة المملوك، خلافًا لبعض أهل العلم، فليسَ من شرط الشَّهادة
أن يكون الشَّاهد حرًّا؛ بل يجوز أن يكون الشَّاهد مملوكًا.
والأصل أنَّ الشَّهادة لا تُقبَل إلا مِن ذوي العدالة، لقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: 2]، والعدالة تكون باجتناب الكبائر وعدم المدوامة
على الصَّغائر، والابتعاد عمَّا يخرم المروءة.
وهناك موانع تمنع من قبول الشَّهادة، منها:
وجود القرابة.
وجود العداوة.
وجود المصلحة بالشَّهادة.
وهكذا ما ذكر في هذين النَّصين من أسباب تمنع من قبول الشَّهادة، وبالتَّالي نكون
قد انتهينا من كتاب الشَّهادات.
باركَ الله فيك، وفقك الله للخير، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لإخواني ممَّن يُرتِّب
هذا اللقاء من فنيين ومخرج التَّوفيق لكل خيرٍ، وأسأله -جلَّ وعَلَا- صلاحًا لأحوال
كل من يشاهدنا، ولكل طالب علم ينشر الخير والهدَى في الناس، كما أسأله -جلَّ
وعَلَا- أن يعيدنا إلى شرعه ودينه، وأن يجعلنا من المتمسكين بهدي نبيِّه -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أسأله -جلَّ وعَلَا- أن يوفق ولاة أمور المسلمين لكل
خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ،
وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.