{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشَّيخ}.
بارك الله فيك، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبِّتي الكرام ممَّن يُشاهد هذا
اللقاء، سواء في بثِّهِ الأوَّل أو في إعادته.
{ما زلنا في باب حد السَّرقة من كتاب المحرَّر.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي أُمَيَّةَ الـمَخْزُومِيِّ:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ
اعْتِرَافَاً وَلم يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَا إِخالُكَ سَرَقْتَ؟» قَالَ: بلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ
مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثاً، فَأَمَرَ بِهِ فقُطِعَ، وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ:
«اسْتَـغْـفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ
إِلَيْهِ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» ثَلَاثاً. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَأَبُو
دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ)}.
أكثر أهل العلم يُضعِّفونَ هذا الحديث؛ لأنَّه من رواية أبي المنذر مولى أبي ذر عن
أبي أميَّة، وأبو المنذر هذا مجهول، وبالتَّالي فإنَّ الخبرَ لم يثبت عن النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ)، يعني:
بسارقٍ.
قوله: (قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافَ)، هذا دليل على أنَّ الاعتراف طريق مِن طرق
وسائل إثبات السَّرقة.
قال: (وَلم يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ)، يعني: المتاع الذي سرقه.
هنا لم يُؤمَر بردِّ المتاع، فأخذَ منه الحنفيَّة أنَّ السَّارق إذا قُطع فإنَّه لا
يلزمه ردُّ المتاع، وهذا خلاف ظواهر النُّصوص كما في حديث «عَلَى الْيَدِ مَا
أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَا إِخالُكَ
سَرَقْتَ؟»، يعني: لا أظنُّكَ سرقتَ، وهذا فيه تلقين المقرِّ بفعل الجريمة
الحدِّيَّة.
قَالَ الرَّجل: (بلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثاً، فَأَمَرَ بِهِ
فقُطِعَ)، فيه أنَّه إذا أقرَّ مرَّتين قُبِلَ منه، وبعضُ أهلِ العلم قال: إذا
أقرَّ ثلاثَ مرَّات.
قوله: (وَجِيءَ بِهِ)، يعني: بعدَ إقامة الحد عليه.
فَقَالَ له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَـغْـفِرِ اللهَ وَتُبْ
إِلَيْهِ»، أي: اُطلب من الله المغفرة والعفو.
فَقَالَ الرجل: (أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ). فَقَالَ النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» قالها ثَلَاثاً.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ رَافعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ
وَلَا كَثَرٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ
الصَّحِيحَيْنِ)}.
قوله: «لَا قَطْعَ»، أي: أنَّ يدَ السَّارق لا تُقطَع متى وُجدَت السَّرقة في
المسألتين الآتيتين:
• في الثَّمر: المراد به ما عُلِّقَ على الشَّجرِ، أو ما كان لازالَ في شجره، فهذا
إذا سَرَقَه الإنسان فإنَّه لا قطع؛ لعدم وجود الحِرزِ، ومن شرط تطبيق الحد وجود
الحرز
• في الجُمَّار، وذلك في قوله: «وَلَا كَثَرٍ»، وهو ما يكون في قلب النَّخلة، وهذا
لا يجب فيه القطع.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ المِسْوَرِ بنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبدِ
الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذا أُقِيمَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ،
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ
عبدِ البَرِّ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيرُهمَ)}.
قوله هنا: (وَعَنِ المِسْوَرِ بنِ إِبْرَاهِيمَ)، المسور من تابع التَّابعين، وهو
لا يروي عن جدِّه عبد الرحمن بن عوف إلا بواسطةٍ، فلمَّا حدَّثَ هنا عن عبد الرحمن
مُباشرة بدون ذكر الواسطة تبيَّنَ أنَّه مُدلِّس، وبالتَّالي لابدَّ أن يذكر
الواسطة بينه وبينَ شيخه.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا
يُغَرَّمُ»)، أي: لا يُطلب من السَّارق أن يدفع قيمة ما سَرَقَه، ولذا قال: «لَا
يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»، كأنَّه يقول: اكتفوا
بالحدِّ، وهذا مذهب الحنفيَّة، واستدلُّوا بأدلَّة منها هذا الخبر.
وهناك مَن قال: إنَّه يُغرَّم وهو مذهب جماهير أهل العلم.
والمسألة الأخرى: هل يجب إعادة قيمة ما سرقه، أو عينه إذا كانت لازالت عينه باقية
أو لا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ وَذِكْرِ الْأَشْرِبَةِ
عَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ أُتِـيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَينِ
نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمرُ
اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ،
فَأَمَرَ بِهِ عُمرُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لفْظُ مُسْلمٍ، وَهُوَ أَتَمُّ.
وَلهُ: عَنْ حُصَيْنِ بنِ الْمُنْذرِ أَبي سَاسَانَ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بنَ
عَفَّانَ وَأُتِيَ بِالوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:
أَزِيدُكُمْ؟ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ
الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ
اللهُ عَنهُ: إِنَّهُ لمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ،
قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ
الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّها مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: يَا عَبدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ
يَعُدُّ، حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ
النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ
أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ)}.
قوله هنا: (وَلهُ) يعني: لمسلم.
قوله: (عَنْ حُصَيْنِ بنِ الْمُنْذرِ) أو حُظَين بن المنذر.
قال: (شَهِدْتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ)، وكان الخليفة، وفيه أنَّ الأقضية التي
تكون من الخلفاء تشتهر.
قال: (وَأُتِيَ بِالوَلِيدِ) الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، وهو مِن قَرابة عثمان.
قوله: (قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ)، على ما هو المشروع.
ثُمَّ التفت عليهم وهو لازال في الصَّلاة لم يُسلم بعد فقال: (أَزِيدُكُمْ؟
فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ)، فيه إثبات إقامة حد الشرب بشهادة الرجلين.
قال: (أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ
رَآهُ يَتَقَيَّ)، فيه أنَّ الشَّهادة قد تكون بإثبات رُؤية الشُّرب، وقد تكون
بإثبات رؤية أثرٍ من آثار السُّكرِ، وفيه أنَّ حدَّ الشُّرب يثبت بالشَّهادة للشرب،
وبالشَّهادة أنَّه قد رُؤيَ يتقيَّأ.
فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (إِنَّهُ لمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى
شَرِبَهَ)، فهذا فيه دلالة على شُربِهِ.
فَقَالَ عثمان: (يَا عَلِيُّ، قُمْ فَاجْلِدْهُ)، يحتمل ثمانين جلدة ويحتمل أربعين
جلدة.
وعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- له مكانته ومنزلته، ولذا فلم يُرد أن يُباشر ذلك،
فقال: (قُمْ يَا حَسَنُ)، وهو ابنه الكبير.
قال: (فَاجْلِدْهُ)، أي: حد الشُّرب.
فَقَالَ الْحَسَنُ: (وَلِّ حَارَّها مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَ)، يقول: الذين كان
يُعطيهم عثمان ويولِّيهم ويلتفت إليهم؛ فكانوا يتولَّونَ قارَّها -أي باردها-
فهؤلاء ينبغي كما أنَّهم أخذوا هذه الأعطيات ونحوها، أن يتولوا حارَّها، ومن ذلك
إقامة الحدود، فكأنَّ عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يرضَ من الحسن هذه الكلمة،
وأراد منه أن ينفِّذَ أمر أمير المؤمنين؛ لأنَّ حق السَّمع والطَّاعة له واجب.
قال: (فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ)، يعني: غضب منه وبقيَ في نفسه تجاهه كراهية
لموقفه ذاك.
فَقَالَ: (يَا عَبدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ)، ابن جعفر بن أبي طالب، فهو ابن أخي علي
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (قُمْ فَاجْلِدْهُ)، يعني: يجلد الوليد.
قال: (فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ)، يعني: يعدُّ عددَ الجلدات.
قال: (حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ)، أي: توقَّف.
قال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ).
كيف يُخالفهم عمر؟
نقول: وهذه سياسة من عمر؛ لأنَّه رأى الناس يَتَسارعون في الشُّربِ فأراد أن يقطعَ
منهم ذلك.
قال: (وَكُلٌّ سُنَّةٌ)، فَفِعْلُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَفِعْلُ أبي بكر سُنَّة، وَفِعْلُ عمر أيضًا سُنَّة؛ لأنَّه يُقتضَى به، والظَّاهر
أنَّ اختلاف عدد الجلدات مع اختلاف الحال؛ هل انتشر الشُّربُ في الناس أو لا؟.
قال: (وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ)، المراد به جلد الأربعين أو جلد الثَّمانين،
وكلاهما محتمل، والجمهور على أنَّ المراد به جلد الثَّمانين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: «إِذا شَرِبَ
فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الثَّالِثَةَ
فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا عُنُقَهُ». رَوَاهُ
أَحْمدُ -وَالَّلفْظُ لَهُ- وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ رَوَى جمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ هَذَا
الحَدِيثِ)}.
قوله: (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ)، يعني: مَن ثبتَ عليه أنَّه شرب الخمر
ولو مرَّةً واحدة.
قال: «إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ»، يعني: فاجلدوه حدَّ المُسكِر ثمانين جلدة، أو
أربعين على الخلاف السَّابق.
قال: «ثُمَّ إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الثَّالِثَةَ
فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا عُنُقَهُ»، كأنَّه يقول:
لم يعُدْ هناك طرق لإصلاح هذا الرَّجل.
وبعض أهل العلم قال: إنَّ القتل في الرابعة مَنسوخٌ لِمَا وردَ في الحديث أنَّ
النُّعيمان كان يُؤتَى به مرارًا مُتعدِّدَة ولم يكن من شانه -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقتله؛ بل يُكرر عليه الحد.
ولعلَّ هذا من عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من باب السِّياسة؛ لأنَّه رأى النَّاس
يتتابعون ويتسارعون في الشُّربِ فأرادَ أن يجزمَ في ذلك فأمر بالجلد ثمانين.
{أحسن الله إليكم، هل ضرب العنق في الرابعة من قول عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أم
جاء في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}.
وردَ ذلك عن عمر، ووردَ في الحديث.
وقال طائفة: إن قوله في الحديث: «ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا
عُنُقَهُ» إنَّه على البتِّ ولكنَّه منسوخ بحديث النُّعيمان عندما أُتِيَ به قد
شربَ مرارًا ولم يضرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنقه.
وآخرون قالوا: إنَّ هذا على سبيل السِّياسة، فمتى رأى صاحب الولاية قتله في
الرَّابعة فإنَّه حينئذٍ يجوز له أن يفعل ذلك، ولكن ليس على سبيل الحدِّ، وإنَّما
على سبيل سياسة الخلق، ومعالجةِ أحوالهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنِهُمَا،
قَالَ: سَمِعْتُ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّهُ نَزَلَ
تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ،
وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْـخَـمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ،
وَثَلَاثٌ أَيُهَا النَّاسُ، وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْداً نَنْتَهِي إِلَيْهِ:
الْـجَـدُّ، وَالكَلالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنَ أَبْوَابِ الرِّبَا. مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ).
قوله: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنِهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ عُمرَ بنَ
الْخطَّابِ)، فيه رواية الرَّجل عن والده.
قوله: ( عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ )، فيه
الرِّواية عن الكلام الذي يُحدَّث به العموم، ومن ذلك الرِّواية عن الرَّجل فيما
ذكره من أحاديث في خطبة الجمعَة.
قوله: (يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ)، هذه اللفظة للفصل بعدَ الحمد والثَّناءِ على الله
-جلَّ وَعَلا- والصَّلاة على نبيِّه؛ فيُؤتَى بهذه الكلمة للفصل.
قال: (أَيُّهَا النَّاسُ)، فيه نداء النَّاس في خطبة الجمعة.
قال: (فَإِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ)، يعني: عندما نزل تحريم الخمر في قوله
-جلَّ وَعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:90]، وكانت في ذلك الزَّمان تُصنَع من خمسة
أشياء هي الموجودة عند العرب: (من العنب، ومن التّمرِ، ومن العسل، ومن الحِنطة ،
ومن الشَّعير).
وفيه دلالة على أنَّ الخمر مُحرَّمَة، وأنَّه لا يُفرَّق بينَ ما إذا كانت مِن
تَمرٍ أو من عِنبٍ أو من عسلٍ أو حنطةٍ أو شعير؛ فالعبرة من كونها مُسكِرَة.
قال: (وَالْـخَـمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ)، أي: ما خالطه وغطَّى عليه، فكل ما
يُغطي العقل فإنَّه يُحكم عليه بذلك.
قال: (وَثَلَاثٌ أَيُهَا النَّاسُ، وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْداً نَنْتَهِي إِلَيْهِ)،
يعني: كنتُ أرغبُ أن يكون هناك بيان واضحٌ جليٌّ في هذه الأمور
قوله: (الْـجَـدُّ)، يعني: في الميراث، إذا ورث جد وإخوة، فهذه من مسائل الخلاف:
• بعضهم يقول: الجد يَحجب الإخوة.
• وبعضهم يقول: الإخوة يُشاركون الجَدَّ في ذلك.
قوله: (وَالكَلالَةُ)، الكلالة: مَن ماتَ وليس له أبناء ولا بنات، ولا أُصول، فماذا
يُفعل بتركته؟
قال: (وَأَبْوَابٌ مِنَ أَبْوَابِ الرِّبَ)، فإنَّ الرِّبا شأنه عظيم، وبالتَّالي
كان بودِّ عمر أن تكون أحكام الرِّبا واضحة جليَّة لا احتماليَّة فيها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ:
لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ، وَمَا
بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَـمْرٍ)}.
هذا فيه الرَّد على الحنفيَّة الذين يقولون: إنَّ الخمر إنَّما تكون من العنب فقط،
وأمَّا ما عداه؛ فإنَّه لا يحرم منه إلا المقدار المُسكِر.
والجمهور يقولون: ما أسكَرَ كثيرة فقليله حرامٌ.
أمَّا الحنفية فيقولون: هذا نطبِّقه فيما يُطلَق عليه اسم الخمر في لغة العَرب، وهو
ما كان مأخوذًا من العنب فقط، وأمَّا ما عداه من السِّلعِ فإنَّنا لا نحكم
بالتَّحريم حتى يُوجد وصف الإسكار.
قال أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ
فِيهَا الْخَمْرَ)، أي: الآية التي في سورة المائدة.
قال: (وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَـمْرٍ)، ومثل هذا يبعُد
ألا يُنكر عليه بقيَّة الصَّحابَة لو كان خطأً.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ،
وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
هذا الخبر من أدلة الجمهور على أنَّ الشَّراب الذي من شأنِهِ أن يُسكِر فهو حرامٌ،
أيًّا كانَ مَصدرَه ولو لم يكن مُسكرًا حقيقةً لكن من شأنه أن يُسكِر، فإنَّه
يُمنَع منه.
قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، أي: لا يجوز تناوله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ
حَرَامَ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ والطَّحَاوِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَقَدْ
رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو
وَغَيرِهِم).
قوله هنا: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ»، أي: ما كانَ حدُّ الإسكارِ مِن هذا المائع شيء
كثير؛ فبالتَّالي أدنى نسبة وأقل كميَّة فإنَّه يُحكَم عليها بالتَّحريم ولو لم تكن
مُسكِرة، ولذلك نقول في العلَّة: أنَّ ما كان من شأنه أن يُسكِر، حتى ولو لم يكن
يُسكِر حقيقةً، ولذا فإنَّ الظَّاهر أنَّ ما صُنِعَ من غير الأعناب فإنَّه يحرُم
تناوله متى كان كثيره مُسكِرًا.
وهذا الحديثُ حسنُ الإسنادِ على ما ذكرَ العلماء، وذلك أنَّه مِن رواية داود بن بكر
بن أبي الفرات، وهو صدوق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَخْلِطَ بَينَ الزَّبِيبِ
وَالتَّمْرِ، وَأَنْ نَخْلِطَ البُسْرَ وَالتَّمْرَ، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ شَرِبَ
النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا فَرْدًا، أَو تَمْرًا فَرْدًا، أَو
بُسْرًا فَرْدً». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الخليطين في الأسقيةِ خشيةً من
أن يتأثَّرَ بعضها ببعضها الآخر، وبالتَّالي يكون لها أثرٌ على الإنسان في صحَّتِهِ
أو في زوالِ عقلِه، ولذا قال أبو سعيد: (نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَخْلِطَ بَينَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ)، كلاهما مِن
الأمور التي قد يُؤخَذ منها الخمر.
قال: (وَأَنْ نَخْلِطَ البُسْرَ وَالتَّمْرَ)، البُسْرَ هو: الرُّطب الذي جُنيَ
حديثًا من النَّخلة.
قال: (وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا
فَرْدً»)، اسم النَّبيذ يصدُق على كلِّ ما نُبِذَ فيه ما يُؤثِّر عليه، فالعصيرات
على نوعين:
• عصير تُطحَن مادته ويُضاف إليها الماء.
• وهناك ماء تطرحُ فيه بعض ما يُغيِّره، فهذا يُقال له: نبيذٌ، من النَّبذِ وهو
الإلقاء.
قال: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم»، يُراد به: ما أُلقيَ فيه مُخالِطه من
الفواكه ونحوها، وليس من شأنه أن يُسكِر.
قال: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا فَرْدً»، أي: غير
مُختلطٍ بغيره من الأنواع. قال: «أَو تَمْرًا فَرْدًا، أَو بُسْرًا فَرْدً».
{هل هذا على الوجوب؟}.
اختلف أهلُ العِلم في النَّهي عَن الخليطين، هل حُكمه باقٍ أو هو مَنسوخ؟ والجماهير
على أنَّه منسوخ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنْبَذُ
لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاءِ فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ والغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ،
فَإِذا كَانَ مسَاءَ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ
أَهْرَقَهُ)}.
قوله: (وَلهُ)، يعني: للإمام مسلم.
قال: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ)، يعني: يُطرَح له
الزبيب.
قال: (فِي السِّقَاءِ)، وهو ما يُوضع فيه الماء، وبالتَّالي يُغيِّر طعمه ويُصبح
فيه حلاوة.
قال: (فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ والغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ)، فيه النَّهي عن النَّبيذ
بعد ثلاث؛ لأنَّه في الغالب يشتد ويتغيَّر.
قال: (فَإِذا كَانَ مسَاءَ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ)، أي: لم يُبقي منه
شيئًا، أو يقوم بسقيه لغيره.
قال: (فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَقَهُ)، هذا فيه دليل على أنَّه لا يُشرَب
النَّبيذ بعدَ ثلاث.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ التَّعْزِيرِ
عَنْ أَبي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ
إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
التَّعزير في لغة العرب: تقوية الشَّيء بالشَّيء، أو العقوبة غَير الْمُقدَّرة.
وذلك أنَّ العقوبات في الشَّرع على نوعين:
النوع الأول: عُقوبة مُقدرة مَعروفة الْمقدار يُقال لها: الْحَدُّ.
ومن أمثلة ذلك: حَدُّ السَّارق، حّدُّ الزَّاني، حّدُّ القاذف، حّدُّ الرِّدَّة.
النوع الثَّاني: عُقوبات غير مُقدَّرة، فيأتي الفقيه الحاكم فيقوم بوضع تقديرٍ
لها، وهذه تُسمَّى العقوبات التَّعزيريَّة، وهي غَير مَعروفة المعالم؛ بل يأتي
المجتهد فيجتهد في تطبيقها على أَجزائها.
والعُقوبات التَّعزيريَّة تُفارق الْحَدُّ في مسائل منها:
• أنَّ الحُدود مُقدَّرة، والتَّعزير ليس بمقدَّر.
• وأن التَّعزير يجوزُ العَفو عنه، وبحسب ما يَراه صاحب الولاية مِن المصالح، بخلاف
الحدود فإنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يعفوَ عنها.
واختلف الفقهاء في المقدار الذي يجوز أن يصل إليه التَّعزير:
• فهناك طائفة قالوا: لا يُجلَد في التَّعزير إلا في عشرةِ أسواط فما دون.
• ومنهم من يقول: في التَّعزير نصل إلى الحد الذي يكون على جنس تلك الجريمة، فمثلًا
لو فَاخَذَ ما نزيده عن مائة التي هي حَدُّ الزِّنَا.
• ومنهم من يقول: لا حدَّ لأكثره، ولكن يُراعَى الحال التي يكون عليها صاحب تلك
الجريمة.
وقد أوردَ المؤلف هنا حديث أبا بردة الأنصاري، وهو حديث صحيحٌ مُتفقٌ عليه، قال
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ
إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»، استدلَّ به مَن قال: إنه لا يجوز أن يتجاوز
التَّعزير العشرة أسواط.
وآخرون قالوا: في قوله: «فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» ليس المراد به الحدود التي
هي العُقوبات المقدَّرة، وإنَّما المراد به المعاصي كما في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَ﴾ [البقرة:229]، فعشرة أسواط فما دون يجوز أن
تستعمل في التَّأديب وفي الإصلاح، ولكن في العُقوبات المبنيَّة على معاصٍ لا تدخل
في هذا الخبر لقوله: «إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»، وبالتَّالي قالوا:
إنَّ هذا الخبر في التَّأديب وليس التَّعزيرات، فقوله: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ
عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» يعني: أنَّ الحدود يُمكن
أن يُتجَاوز بها هذا المقدار.
وبالتَّالي نعرف أنَّ أهل العلم قد اختلفوا في أعلى مِقدار التَّعزير، ومِن ثَمَّ
ينبغي أن يوضَع لأصحاب الولاية القضائيَّة تقدير ذلك بما يرونَ أنَّه يُحقِّق
المصلحة التي جاء الشَّرعُ بتحصيلها وتحقيقها.
وتُلاحظ في باب العُقوبات أنَّه ليس مُراد الشَّارع العُقوبة لذاتِ العُقوبة، وليس
المراد به أن يكون هناك تقليل من مكانة مَن يُطبَّق عليه الحد؛ وإنَّما المراد بهذه
الحدود وهي العقوبات أمور:
أولًا: الرَّدعُ والزَّجر لئلا يفعل الآخرون مثل هذا الفعل، فيكثر في الناس تلك
الجرائم.
ثانيًا: أن ينتهي صاحب تلك الجريمة، وأن يُغفَرَ ذنبه، وبالتَّالي يكون هذا من
أسباب صلاح أحواله، وقد جاءت النُّصوص بفضل مَن أقام الحدود وَعِظَمِ أَجْره عند
الله -جلَّ وَعَلا.
ولعلَّنا نترك كتاب القضاء وما يتعلَّق به من أحكام للقائنا القادم -بإذن الله عزَّ
وجلَّ- أسأل الله أن يُبارك فيكَ يا أبا أحمد، وأن يوفقك لكلِّ خيرٍ، كما أسأله
-جلَّ وَعَلا- لكلِّ مَن ساهمَ معنا في التَّرتيب والتَّهيئةِ من مخرجٍ وفنِّيين أن
يُوفقهم الله لما يحب ويرضى، وأسأله -جلَّ وَعَلا- لمن يشاهدنا علمًا نافعًا، وأن
يكونوا ممَّن وقفوا عندَ حدود الله -جلَّ وَعَلا- كما أسأله -جلَّ وَعَلا- لجميع
المسلمين حمايةً من كلِّ شرٍّ وسوءٍ، وأن يُصلح الله أحوالهم، وأسأله -جلَّ وَعَلا-
لولاة أمور المسلمين أن يكونوا مِن أسباب الهُدى والتُّقَى والصَّلاح والسَّعادة،
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا مُحدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العُمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.