الدرس الثامن

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4168 23
الدرس الثامن

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر الشَّثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
باركَ الله فيكَ، أهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبَّتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يستعملنا وإيَّاهم في طاعته، وأن يبارك لنا ولهم في جميع أمورنا وشؤوننا.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- كتاب "الرَّضاع" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ».
وعَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَعَنْها: أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟ قَالَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ». أَخْرَجَهَا مُسْلمٌ.
وَعَنْها قَالَتْ: دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ: «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ».
وَعَنْها: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبي القُعَيسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّها مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيدَ عَلَى ابْنةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِيْ، إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّحِمِ»، وَفِي لفظٍ: «مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ-، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ أَوَّلَهُ.
وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: لمْ يُسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ غَيرُ الْهَيْثَمِ بنِ جَميلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافظٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: غَيْرُ الْهَيْثَمِ يُوقِفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: وَهُوَ الصَّوَابُ)
}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعدُ:
قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ الرَّضَاعِ).
المراد بالرَّضاع: رضْعُ حليب الآدميَّة، أمَّا إذا رضعَ من الحيوان فإنَّه لا ينتشر به تحريم.
وقد جاءت الشَّريعة بإثبات أثر الرَّضاع على التَّحريم، كما في قوله تعالى في عداد المحرمات: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: 23]، فهذا دلَّ على أن الرَّضاعة لها أثرٌ في التَّحريمِ.
والرَّضاعة ينتشر بها ما ينتشر بالقَرابة والمصاهرة من جهةِ التَّحريم، لذلك فإنَّ عددَ المحرمات بواسطةِ الرَّضاعة أحد عشر امرأة.
وإذا تقرَّرَ هذا فإنَّ الجماهير لا يشترطون أن يكون الحليب في الرَّضاع قد ثابَ عن حملٍ؛ً لأنَّ النُّصوص بإثبات المحرميَّة بالرَّضاع عامَّة.
والإمام أحمد يشترط أن يكونَ اللبن قد ثاب عن حملٍ.
وبعض النِّساء قد يُدرُّ لبنها مع أنَّها كبيرة أو صغيرة وليس لها أولاد، وذلك نتيجة للحنين الذي تجده عندها في صدرها تجاه هؤلاء الأطفال، وفي وقتنا الحاضر قد يوجد مَن يُعطي أدويةً تُدرُّ المرأة بها، فمثل هذا هل ينتشر به الرَّضاع أو لا؟
قال الحنابلة: لا ينتشر؛ لأنَّ الرَّضاع المعهود هو الرضاع الذي يعود على لبن ثاب من حمل.
والجمهور يقولون: يثبت به الرَّضاع.
وقول الجمهور أقوى من قول الحنابلة في هذه المسألة.
أورد المؤلف عددًا من الأحاديث؛ أولها فيما يتعلق بعددِ الرَّضاعات، كم مقدار الرَّضاعة المحرِّمَة، فقد ورد عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ».
مفهوم هذا أنَّ الثَّلاث رضعات تُحرِّم.
ثم أورد من حديثها -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّها قالت: (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: ﴿عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ﴾، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ).
هناك ثلاثة أقوال في عدد الرَّضعات المحرِّمات:
- ذهب مالك وأبو حنفية -رحمهما الله تعالى: أنَّ المُحرِّم وجود رضاع ولو كان رضعة واحدة، قالوا: والنصوص التي وردت بالتَّحريم مُطلقة، فلا يصح أن نقيدها بأخبار الآحاد هذه.
- وذهب الإمام أحمد والشَّافعي إلى أنَّ المحرِّم هو خمس رضعاتٍ كما هو حديث عائشة (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: ﴿عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ﴾، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ).
وقولها -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ)، يعني أنَّ هذا من القراءة الشَّاذَّة التي روتها عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- والصَّحيح أنَّ القراءة الشَّاذَّة يُؤخذ منها حُكم، ولكن ليست من القرآن.
- والظَّاهريَّة يقولون: المُحرِّم ثلاث، لحديث عائشة: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ»، فيفهم منه أنَّ الثَّلاث محرمات.
ولكن عندنا تصريح في الحديث الآخر بأنَّ المحرِّم خمسٌ، وعندنا مفهوم؛ فالمنطوق أقوى من المفهوم، ولذلك فإنَّ الأظهر هو القول بأنَّ المُحرِّم خمس رضعات، وهذه الخمس رضعات قد تكون في مجلسٍ واحدٍ، وقد تكون في مجالس مُتعدِّدَة.
وقوله: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ»، فيه إشارة إلى اسم الواحد أو المفرد، وبالتَّالي إذا أخذَ الصَّبيُّ الثَّديَ فلَقِمَهُ فرضعَ، ثم تركَهُ لالتفات ونحوه؛ فحينئذٍ تُعدُّ رضعة تامَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْها: أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟ قَالَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ». أَخْرَجَهَا مُسْلمٌ)}.
قوله: (أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو) زوجها أبو حذيفة.
قوله: (جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ)، يعني: يدخل معهم في البيت ويخرج وكان صغيرًا.
قالت: (مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟)، فكان النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لهنَّ بوجوب أن يحتجبوا من الغلام، وفيه دلالة على أنَّ كون الرَّجل يُشاهد المرأة، أو شاهدها قبل التَّوبة، أو قبل الإسلام، أو لكونه كان زوجًا سابقًا لها؛ فهذا لا يعني أنَّها لا تحتجب منه، فلا تقول: إنه كان سابقًا يُشاهدني وسبق أن رآني وحفظ شكلي!
نقول: لا، هذا حكمٌ شرعيٌّ قد جاء في شريعة الله -جلَّ وعَلا.
قولها: (وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ)، أي: وصل سنَّ البلوغ.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ».
مسألة الرَّضاعة للكبير: هل ينتشر بها التَّحريم أو لا؟
لا يُتصوَّر أنَّ الكبير يلتقم الثَّديَّ مُباشرة، وهذا فيه دلالة على أنَّ الحليبَ قد وُضِعَ في إناء فشربَه، وفيه دلالة على أنَّه لا يُشترط في الرَّضاعة المحرِّمَة أن تكون الرَّضاعة مُباشرة.
وفي قوله: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» دلالة لمذهبِ مَن يرى الاقتصار بإثبات التَّحريم بالرضعة الواحدة، ولكنَّ الصَّواب أنَّ ليسَ فيه دليل.
وقد استدلَّ بعضهم بالحديث على أنَّ الرَّضاعة لا يُشترط أن تكون من حليبٍ ثابَ عن حملٍ؛ فالظَّاهر أنَّ سهلة بنت سهيل لم تكن حاملًا ولم تضع مولودًا قريبًا، وبالتالي فإنَّ المحرمية تنتشر بالرَّضاعة ولو لم يكن هناك رضاعة مباشرة، ولو لم يكن هناك حليب ثابَ عن حملٍ.
يقول الجمهور: إنَّ الرَّضاع للكبير غيرُ مُؤثِّر، ولا تنتشر به المحرميَّة. واستدلوا على ذلك بعددٍ من الأدلة، ومنها قوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 233]، معناه: أنَّ بعدَ الحوليْنِ لا يثبت به حكم للرَّضاعة، وقوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرً﴾ [الأحقاف: 15].
الفصال هو: الرَّضاعة.
وقوله: ﴿ثَلَاثُونَ شَهْرً﴾؛ لأنَّ أقل مدَّة الحمل ستَّةَ أشهرٍ، فلمَّا نحذفها يبقى أربعة وعشرون شهرًا، هي مدَّة الرضاع.
وبعض العلماء قال: إنَّ هذا الحديث خاصٌّ لسالم مولى أبي حذيفة.
وبعضهم قال: إنَّ هذا في أوَّل الإسلام، ثمَّ نُسِخَ، بدلالة الأحاديث الآتية.
متى يتوقَّف حدُّ الرَّضاعة المحرِّمَة؟
قال أحمد والشَّافعي: لسنتين، فاليوم الذي تنتهي فيه السَّنتان لم يعُد للرَّضاعة محرميَّة، فإذا رضَعَ بعد ذلك فلا تثبت المحرميَّة.
وقال الإمام مالك: يُتجاوز عن المدَّة اليسيرة كالشهر والشَّهرين.
وقال الإمام أبو حنيفة: له إلى السنتين وستَّة أشهر.
والأوَّلون يستدلُّون بحديث: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ»، من حديث ابن عباس، ولكنَّ هذا الحديث قد تُكُلِّمَ فيه، وكثير من أهل العلم قال: إنَّ الصواب أنَّه موقوفٌ على ابن عباس، وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويدل لمذهب الجمهور: الأحاديث التي ذكرها المؤلف هنا، من مثل قوله: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ»، فهذا فيه دليل لمذهب الجمهور في ذلك.
وبالتَّالي يظهر رجحان مَن يقول: إنَّ رضاع الكبير لا ينتشر به التَّحريم.
وأورد المؤلف حديثًا آخرَ عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ)، فيه تحريم ذلك عليه، وفيه تحريم دخول الرجال على النساء الأجانب، ولذلك اشتدَّ عليها.
قالت: (وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ؟)، فيه إثبات المحرميَّة بطريق الأخوَّة إذا كان في الرَّضاعة.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ»، أي: تأكَّدنَ من ذلك.
قال: «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ»، فيه دليل على أنَّ الرضاعة لا يثبت حكمها إلا للصَّغير، أمَّا الكبير فإنَّه لا يثبت حكمها.
وفي هذا أإيضًا: أنَّ المرأة تُصدَّق في دعوى الرَّضاعة متى كانت معروفة بالأمَانةِ والثِّقَةِ.
وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبي القُعَيسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَ)، يعني: يستأذن على عائشة.
قوله: (وَهُوَ عَمُّها مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ)، يعني رفضتُّ وامتنعتُ خشيةَ أن يكونَ أجنبيًّا.
قالت: (فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ)، يعني: من منع أخي أبي القعيس، قالت: (فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ).
وفي الحديث:
- الاستئذان في الدُّخول حتى ولو على القرابة.
- وفيه هذا أنَّ الرضاعة تتعلق بلبنِ الفحلِ. وبالتَّالي ينتشر التحريم من قِبَل الزَّوج، كما ينتشر من قبلِ الزَّوجةِ.
وفي هذا أيضًا أنَّ الحجاب أمر مشروعٌ قد أمرَ الله -عزَّ وَجلَّ- به، وأنَّه في أوَّلِ الإسلامِ لم يكن هناك حجاب، ورُفع حكم ذلك.
قالت عائشة: (فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ)، فيه احتياط الإنسان في أمرِ عبادته لله -عزَّ وَجلَّ- ومن ذلك ما يتعلق بأمور المحارم.
قالت: (فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ)، يعني من منع أخي أبي القعيس.
قالت: (فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ)، فيه تسمية الفتوى أمرًا، وفيه رجوع المرأة إلى زوجها فيمَن يدخل عليها.
ثم أوردَ من حديثِ ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيدَ عَلَى ابْنةِ حَمْزَةَ)، أي: طُلِبَ منه أن يتزوَّج من ابنة حمزة بن عبد المطلب عم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِيْ»، يعني: لا يجوز لي أن أتزوجَ بها.
قال: «إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ»؛ لأنَّه كان هناك رضاعة بين حمزة وبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتَّالي امتنع من الزَّواج بها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّحِمِ»، وَفِي لفظٍ: «مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»؛ فيه إثبات التَّحريم بناء على الرَّضاعة في الأصناف السَّبعة: "أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت".
هل يشمل هذا الأربع المحرمات في المصاهرة وهنَّ: "زوجة الأب، وزوجة الابنِ، وبنتُ الزَّوجة، وأم الزَّوجة"؟
نقول: الصَّواب أنَّه ينتشر التَّحريم في الرَّضاعة فيهنَّ، ويدلُّ على بعض النُّصوص الأخرى الواردة في هذا الباب. وفي هذا إثبات تحريم النِّكاح بناءً على الرَّضاعة.
وقوله «إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ»، فيه انتشار المحرميَّة بالرَّضاعة لابنة الأخ، وفي هذا أيضًا تقديم الشَّورى والرَّأي للإنسان من أجل أن يتزوَّج بالمرأة التي يرونَ أنَّها مُناسبة له.
ثم أوردَ حديث أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ»، وهذا في مسألة سنِّ الرَّضيع.
وذكرتُ لك أنَّ الرَّضاعة ثلاثة أنواع:
- قد تكون الرَّضاعة من قِبَلِ أمِّ الأوَّلِ.
- وقد تكونُ من قِبَلِ أمِّ الثَّاني.
- وقد تكونُ من أجنبيَّة.
فإذا كانت الرَّضاعة من أمِّ الأوَّلِ؛ فحينئذٍ هذا الأوَّل أجنبٌّي بالنِّسبة لبقيَّةِ إخوة الرَّاضع، والرَّاضع يكونُ أخًا لمن رضعَ معه وأخًا لإخوانه، وعمًّا لأبناء أخيه، وابنُ أخٍ لأعمامه.
وإذا كانت أجنبيَّة؛ فحينئذٍ لا ينتشر حكم التَّحريم إلا بينهما، وبقيَّة عائلتهم وأسرهم -أمه وأبوه وإخوانه- لا علاقة لهم بالتَّحريم، إنَّما التَّحريم في الرَّاضع وأبنائه.
وإذا كانت الرَّضاعة من أمِّ أحدهما؛ فحينئذٍ الرَّاضع من غيرِ أمِّه يكونُ قريبًا لقرابةِ تلك المراة المرضِعَة، ولكن قرابة الرَّاضع لا عَلاقة لهم بالحكم إلَّا في أبنائه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ»، وهذا لا يكون إلا للصغار. قال: «وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ».
وفي حديث ابن عباس: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ»، وفيه الحكم الماضي فيما يتعلق بوقت الرَّضاعة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ النَّفَقَاتِ وَالحَضَانَةِ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْـبَةَ امْرَأَةُ أَبي سُفْيَانَ، عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ لَا يُعْطِيْنِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَليَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيْكِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)
}.
قوله: (كِتَابُ النَّفَقَاتِ).
المراد بالنَّفقات: التَّكفُّل بما يلزم الشَّخص من أمورٍ ماليَّة، سواء في ملبسه، أو في طعامه، أو في سُكناهُ، أو نحو ذلك من حوائجه.
والحضانة: هي ضمُّ الصَّغير والعناية به.
أوردَ المؤلف حديث عائشة في نفقات الزَّوجات والأبناء، قَالَتْ: (دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْـبَةَ امْرَأَةُ أَبي سُفْيَانَ، عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ)، فيه استفتاء المرأة للمفتي، وأخذ الأحكام منه.
قالت: (إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ)، هذه غِيبة، ولكن لَمَّا كانت في الاستفتاء الذي سيُبنَى عليه حكمٌ كان هذا مُستثنًى.
قالت: (لَا يُعْطِيْنِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ)، في هذا دلالة على أنَّ نفقة الزَّوجة بقدرِ كفايتها.
قالت: (إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ)، في هذا أخذ المرأة نفقتها ونفقة أبنائها من زوجها، إن علمَ فهو أولى، وإن لم يعلم أخذته ولو لم يعلم.
قالت: (فَهَلْ عَليَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟)، أي: إثم
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ»، يعني: من مال زوجها أبي سفيان.
قال: «بِالْمَعْرُوفِ»، أي: بحسبِ ما يتعارَف النَّاس على إنفاقه على الزَّوجات والأبناء.
وفي هذا الرُّجوع إلى العُرف لتحديد ما لم يرد تحديده وتقييده في الشَّرع ولا في اللُّغةِ.
قوله: «مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيْكِ»، في هذا دلالة على أنَّه إذا دفعَ الإنسان ما يكفي الأبناء أجزأ وكفاه ذلك.
وفي قوله: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ» ارتباط النَّفقة بالكفاية، وفيه دلالة على أنَّ النَّفقة لا يشترط فيها التَّساوي، فالهبةُ والعطيَّةُ من الوالد لأولاده لابدَّ فيها من التَّساوي، ولكن بالنِّسبة لبابِ النَّفقات فإنَّه لا يُشترط فيه التَّساوي بينَ الأبناء؛ لأنَّ النَّفقة مبناها على الكفاية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ طَارقٍ الـمُحَارِبيِّ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذا برَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى الـمِنْبَرِ يخْطُبُ النَّاسَ، وهُوَ يَقُولُ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: طَارِقٌ لَهُ حَدِيثَانِ رَوَى أَحَدَهُمَا رِبعيٌّ عَنْهُ، وَالْآخَرَ جَامِعُ بنُ شَدَّادٍ، وَكِلَاهُمَا مِنْ شَرْطِهِمَا، وَهَذَا الحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ جَامِعٍ عَنْهُ)}.
في الحديث الأول: نوعين من النفقات:
النَّوع الأوَّل: نفقات الزَّوجات؛ خاصِّيتُها أنَّها تجبُ ولو كان الزَّوجُ فقيرًا، وتجبُ ولو كانت المرأة غنيَّةً، فلا يشترط فيه فقر الزَّوجة، والنَّفقة فيها من جانب واحد، وهو من جانب الزَّوج على الزَّوجة.
النَّوع الثَّاني: نفقة الأصول والفروع -الأولاد والآباء- وهذه تجب مع وجود الحاجة، وتكون من الغني ِّ إلى الفقير المحتاج.
قال: (قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذا برَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى الـمِنْبَرِ يخْطُبُ النَّاسَ)، فيه مشروعيَّة وضع المنابر في المساجد وللخطبة، وفيه خطبة النَّاس ولو لم يكن يوم جمعةٍ.
وهُوَ يَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَ»، فيه التَّرغيب في العطيَّة، وبيان أنَّ صاحبَها صاحب المقام الأعلى.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ»، أي: بمن يجب عليكَ أن تنفق عليهم ممَّن يعودون إليكَ، وتقوم بحوائجهم.
ثم قال: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ»، فيه وجوب النَّفقة على الأقارب، الأصول والفروع وبقيَّة الأقارب.
متى تجب النَّفقة للأقارب؟
إذا قُدِّرَ أنَّ هذا القريب إذا مات سيعود ورثه عليك، ولذا قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 233]، إذن نفقة القريب في غير الأصول والفروع لا تجب إلا إذا كنتَ ستَرِث مَن تُنفق عليه إذا مات، ويترتَّب عليه أنَّه إذا وجبت نفقتكَ له لم يجُزْ أن تعطيَه من زكاة مالك.
أضربُ لذلك مثلًا: هل يجب عليكَ أن تنفق على أخيك؟
نقول: فيه تفصيل؛ إن كان هذا الأخ إن ماتَ ورِثْتَهُ وجبَ عليكَ أن تنفق عليه، وإذا ما مات لا تَرِثْه فلا يجب عليك نفقته، ويجوز أن تعطيه من زكاة مالك.
ما هي الأحوال التي لا ترثه فيها؟
إذا كان هناك أبٌ أو كان له أبناء ذكور.
ولذا قال: «وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ»، يجب عليك النَّفقة عليهم إذا قُدِّرَ أنَّك سترثهم إذا ماتوا.
قال: «ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»، يعني الأقرب إليك فالأقرب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيْقُ»)}.
هذا هو الصِّنف الرَّابع.
• الصِّنف الأوَّل: نفقات الزَّوجات.
• الصِّنف الثَّاني: نفقات الأصول والفروع.
• الصِّنف الثَّالث: نفقات القرابة من غير الأصول والفروع.
• الصِّنف الرابع: نفقات المماليك، فيجب على الإنسان أن يُنفق على مماليكه في أكلهم وفي لباسهم.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيْقُ».
تبقى هناك نفقات البهائم التي يملكها الإنسان، فإمَّا أن يُنفق عليها، وإمَّا أن يُطلقها، وإمَّا أن يبيعها لمَن يُنفق عليها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْني هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ وعَاءً، وثَدْيِي لَهُ سِقاءً، وحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ منِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ)، هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فلما يقول عمرو بن شعيب: "عن أبي عن جدي" أبيه هو شعيب، وجده يحتمل أنَّه محمد، فيكون الخبر مُرسلًا، ويحتمل أنَّه جد شعيب -وليس جد عمرو- وبالتَّالي يكون المراد هو عبد الله بن عمرو، ولذلك ضعَّف بعض أهل العلم هذه السلسلة، ولكن الرِّواية التي عندنا تثبت أن شعيبًا روى عن جده هو -عبد الله بن عمرو بن العاص- وبالتَّالي تكون الأحاديث متَّصلة.
قال: (أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ)، فيه تقدُّم النِّساء للرجال في موضوع التَّقاضي والحضانة، وفيه أنَّ الحضانة تؤخذ بالأحكام الشَّرعيَّة، فمن جاءنا وقال: إنَّ أمور النساء تحكم فيها النساء وتقضي فيها النساء! قلنا: لم يكن هذا من شأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقالت المرأة: (إِنَّ ابْني هَذَ)، يعني: الذي أمامهم.
قولها: (كَانَ بَطْني لَهُ وعَاءً)، يعني: وقت الحمل.
قالت: (وثَدْيِي لَهُ سِقاءً)، يعني: أنَّه كان يشرب من ثديها لَمَّا كان صغيرًا في الرَّضاع.
قالت: (وحِجْرِي لَهُ حِوَاءً)، يعني: إذا جاء أجلسته في حجرها.
قالت: (وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي)، يعني: والد هذا الغلام.
قالت: (وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ منِّي)، كأنَّها تريد أن يبقى عندي، وهذه الخصومة والنِّزاع في الحضانة.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي».
قال بعض أهل العلم: هذا على سبيل الفتوى.
وبعضهم قال: على سبيل القضاء، ولكن هناك شيء لم يُذكر، وهو أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استدعى والد الغلام فجاء إليهم فسأله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»، فيه أنَّ الأم أحق بحضانة الولد.
وهناك من الصِّغار إلى التَّمييز، ومن التَّمييز إلى البلوغ، وعندنا شيء للذكور، وشيء للإناث.
نبدأ بالذُّكور:
- إلى السابعة: يكونُ الحق للأم في الحضانة.
- ما بين السابعة والبلوغ: ورد فيه أحاديث أنَّه يُخيَّر الصَّبيُّ فيها، وسيأتي في الحديث الذي يليه.
- بعد البلوغ: أصبحَ رجلًا، وبالتَّالي يجلس حيثُ يشاء، هنا أو هناك.
وهذا التَّقسيم ما لم يكن هناك مصلحة للغلام تخالف ذلك.
أمَّا بالنسبة للفتيات:
- ما دون السَّبع: تكون الحضانة عند الأم، فهي أعرف بها.
- ما بين سنِّ التمييز إلى سن البلوغ:
• قال بعضهم: تكون الحضانة للأب، لأنَّه أرعى لها.
• وبعضهم يقول: تكون الحضانة للأم.
• وبعضهم يقول: تُخيَّر كالغلام.
- ما بعدَ البلوغ: يكون حق الحضانة للأبِ.
قوله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»، فيه دلالة على أنَّ حقَّ الأمِّ في الحضانة يُنزَع منها متى تزوَّجت.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي مَيْمُونَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ أَبي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي، إِنَّ زَوجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْني وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَاني مِنْ بِئْرِ أَبي عِنَبَةَ، فجَاءَ زَوجُهَا وَقَالَ: مَنْ يُخَاصِمُني فِي ابْنِي؟ فَقَالَ: «يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ» فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَهَذَا لَفظُهُ، وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَراً وَصَحَّحَهُ، وأَبُو مَيْمُونَةَ اسْمُهُ سُلَيمٌ، وَقِيْلَ: سَلْمَانٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي مَيْمُونَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ أَبي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه التَّقاضي عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَتْ له: (فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي، إِنَّ زَوجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْني وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَاني مِنْ بِئْرِ أَبي عِنَبَةَ)، هذه البئر معروفة بالمدينة جهة بدر.
وقولها: (وَقَدْ نَفَعَنِي)، أي: أصبح يقوم ببعض حوائجي.
قوله: (فجَاءَ زَوجُهَ)، يعني استُدعيَ الزَّوج وطُلبَ منه أن يأتي.
وَقَالَ الرجل: (مَنْ يُخَاصِمُني فِي ابْنِي؟)، يعني هذا ولدي، وأبغى ولدي يكون عندي.
فَخيَّر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغلام بين أبيه وأمِّه فقَالَ: «يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ»، فأخذ بيد أمِّه فانطلقَت به.
لماذا خيَّرَ هذا الولد؟
بعض العلماء يقول: لأنَّه غلامٌ ناضج، ويفهم الأمور.
وبعضهم يقول: هذا التَّخيير من سنِّ التَّمييز إلى سنِّ البلوغ، ولعل هذا القول هو الأظهر.
وفي الحديث: المخاصمة بينَ الزَّوجين فيما يتعلق بأمور الحضانة.
إذن؛ هذه أحكام من أحكام الحضانة، وبيَّنَّا أقوال أهل العلم في المسائل الفقهيَّة التي تتضمَّنها هذه الأحاديث.
ولعلنا نُرجئ كتاب الجنايات ليومٍ آخر، فهو موضوع مستقل، ولا يُناسب أن نضعه مع الأبواب المتعلقة النَّكاح وتوابعه.
أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوقفنا وإيَّاكَ لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاك من الهداة المهتدين، كما أسأله سبحانه أن يرضَى عنَّا جميعًا رضًى لا يسخط بعده أبدًا، وأسأله -جلَّ وعَلا- صلاحًا لأحوال المسلمين، واستقامةً لأمورهم، وألفةً بينَ قلوبهم، وجمعًا لكلمتهم، وتعاونًا فيما بينهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك