بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدة من حلقات البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور:سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة
الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن
يرزقني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، والنية الخالصة.
{نستأنف في هذا الفصل -بإذن الله- ما توقفنا عنده في الفصل الماضي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ النِّكَاحِ
عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عبدِ اللهِ بمنىً، فَلَقِيَهُ
عُثْمَانُ، فَقَامَ مَعَهُ يُحدِّثُهُ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبدِ
الرَّحْمَنِ، أَلا نُزَوِّجكَ جَارِيَةً شَابَّةً لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ
مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟ قالَ: فَقَالَ عبدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، لَقَدْ
قَالَ لَنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ
الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ
لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ،
فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».
وَعَنْ أَنسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوا أَزوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَتَزَوَّجُ
النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا
أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ
أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ
وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ
مِنِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ
بِالْبَاءةِ وَينْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيْدًا وَيَقُولُ: «تَزَوَّجُوا
الوَدُودَ الْوَلُودَ؛ إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ».
رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَسَمُّوَيهِ وَابْنُ حِبَّانَ)}.
قول المؤلف -رحمه الله: (كِتَابُ النِّكَاحِ).
لفظة "النِّكاح" في اللغة: تطلق على معنيين:
- أحدهما: الوطء.
- ثانيهما: العقد.
وبالتالي وقع اشتراك في لفظ "النِّكاح" بين هذين المعنيين، وكثير من النُّصوص قد
يشتمل لفظها على المعنيين معًا، ومن هنا قيل في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230]، وهذه الآية في
المطلقة ثلاثًا، فإنها لا تحل لمطلقها حتى يعقد عليها غيره ويطئها، جمعًا بين هذين
المعنيين.
والنِّكاح مُرغَّبٌ فيه في الشَّرع، وقد جاءت النُّصوص بِحَثِّ المؤمنين عليه، وقد
وصف الله -جلَّ وعَلا- الأنبياء عليهم السَّلام بأنهم لهم أزواج ولهم ذريَّة.
والنِّكاح هو شأن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد كان يتزوج النِّساء،
ويرغب أصحابه في التزويج، وقد ذكر المؤلف هنا ثلاثة أحاديث تدل على هذا المعنى:
أولها: حديث علقمة، قال: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عبدِ اللهِ)، يعني عبد الله بن
مسعود.
قوله: (بمنىً)، وذلك في أيام الحج.
قال: (فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ)، أي: عثمان بن عفان، الخليفة الراشد.
قال: (فَقَامَ مَعَهُ يُحدِّثُهُ)، أي: يكلمة.
قوله: (فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ)، يعني: عبد الله بن
مسعود.
قال: (أَلا نُزَوِّجكَ جَارِيَةً شَابَّةً)، فيه الترغيب في التزويج، وفيه حرص
الصَّحابة على أن يكون الرجل معه امرأة، وظاهر هذا أنَّ زوجة ابن مسعود قد توفيت،
فأراد عثمان أن يكون مع ابن مسعود زوجة تقوم به.
قال: (لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟)، مما يكون بين
الرجل وأهله خاصة.
قالَ: (فَقَالَ عبدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ)، كأنه فهم منه أنَّه إنما قال له
هذا الكلام لكبر سنِّ ابن مسعود، فأراد أن يؤكد عليه هذا المعنى، فقال: لئن كنت
تذكر ذلك انطلاقًا من كبرِ سنِّي، فلقد كنت يومًا من الأيام على عهدِ الشباب وكان
عندي القوة، ولذلك قال لنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا
مَعْشَرَ الشَّبَابِ»، المعشر: الجماعة. والشباب هو: مُقتبل العمر.
قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ
البَاءَةَ»، الباءة: ما يُهيَّئ للنِّكاح، والأصل فيها المنزل، يُقال: بوَّأه الله
مَنزلًا من الجنة، أي: هيَّأ له مَنزلًا من الجنة.
وأيضًا يُمكن أن يُطلق على القُدرة على إتيان النساء.
قال: «فَلْيَتَزَوَّجْ»، فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، ولذلك قال بعض الظاهريَّة:
إنَّ الزواج واجب شرعي يحرم على الإنسان أن يتركه، واستدلوا على ذلك بأنه مُقتضى
مفهوم الأمر.
وذهب الجمهور إلى أنَّ الزَّواج ليس بواجب، وإنما هو من المستحبات، وقالوا: إنَّ
الأمر هُنا مصروف من الوجوب إلى الاستحباب، واستدلوا عليه بأنه قد عُلِّلَ بعلَّة،
فقال: «فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، فالمعنى أنَّ من
استطاع أن يغضَّ بصره ويحصِّن فرجَه فإنَّه لا يجب عليه النِّكاح. وقول الجمهور هنا
أقوى.
وقد اختلف العلماء في مسألة أيهما أفضل: الزواج أو التَّخلِّي للعبادات؟
الجمهور على أنَّ الزواج أفضل، ويستدلون عليه بهذا الحديث، والحديث الآتي.
والشافعية: على أنَّ التَّخلي للعبادات أفضل، واستدلوا عليه بأنه مِن فِعْل النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل عهد النُّبوة، حيث كان يتخلَّى في غار حراء.
وأكثر الأصوليين على أنَّ أفعال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل
البعثة لا يُؤخذ منها حُكمٌ شرعي.
وفي الحديث: الترغيب في غض البصر وعدم إطلاقه، ومن ذلك ألا ينظر الإنسان إلى وجوه
النِّساء الأجنبيات أو إلى مفاتنهنَّ، سواء كان هذا بالرؤية المباشرة، أو كان هذا
من خلال وسائل الإعلام وقنوات الاتصال، ولا شكَّ أنَّ غضَّ البصر له ثمرة عظيمة،
وقد أمر الله -جلَّ وعَلا- في قوله: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور:30]، وجاء في الحديث أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ
تَرَكَهَا من مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» .
وأصل الكلام هنا في غَضِّ البصر، ويصدق عليه أيضًا كل ما كان مُهيِّجًا للإنسان في
هذا الشَّأن، فإنَّه يأخذ حُكمه.
قوله: «وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، أي: أنَّ الزواج سببٌ من أسباب تحصين الفرج عمَّا
لا يحل للإنسان، وقد قال الله -جَلَّ وعَلا- في وصف المؤمنين أصحاب الجنان:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المؤمنون:5].
وقوله: «وَمنْ لَمْ يَسْتَطِعْ»، أي: من لم يستطع الزواج.
قال: «فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ»، أي: يُعوِّض عنه بالصوم.
قال: «فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، الوجاء: رض العرق الذي يكون بين الخصيتين والقضيب.
وبعضهم يقول: رض الخصيتين رضًّا شديدًا يُذهب شهوة الجماع.
وفيه الترغيب لغير المتزوجين بالأكثار من الصِّيام؛ ليكون هذا من أسباب انطفاء
شهواتهم.
ثُمَّ أورد المؤلف بعد حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (أَنَّ نَفَرًا مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوا أَزوَاجَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟)،
أرادوا أن يقتدوا به، وفيه مشروعية الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وقد قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيرً﴾ [الأحزاب:21]، وقال: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
[الأعراف:158].
وفيه السؤال عن أحوال الفاضل من النَّاس ليُقتَدى به.
قوله: (فَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا
آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ)، وفي بعض الروايات
المراد بقوله: (لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ)، أنهم يتركون النِّكاح، فظنُّوا أنَّ
هذا من القُرَب، وبالتَّالي عهدوا لله -جلَّ وعَلا- بفعله، والصَّواب أنَّ هذا ليس
من القُرَبِ، وبالتالي لا يحق للإنسان أن يُفاخر به، أو أن يتعبد لله -جلَّ وعَلا-
به.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحْمَ)، أي: يتركه زُهدًا فيه ورغبةً عنه،
ويظن أنَّ ذلك من القُربات.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ)، أي: لا يتمكَّن النَّوم
منِّي، بل أتقرب إلى الله بأن أكون مستيقظًا غير نائمٍ طوال وقتي.
فلمَّا جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأُخبر بمقالتهم، فوجدهم، فقام
خطيبًا (فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ)، وفي هذا مشروعية بداءة الخطب بحمد
الله والثناء عليه، كما فيه موعظة الإمام لعموم النَّاس بما قد يشاهده من مُنكراتٍ
أو مُخالفاتٍ تحصل من أفراد الناس.
وفي هذا: أنَّ القيام على الأمر المخالف في أول نشأته من أسباب اضمحلال أمره.
وفي هذا أيضًا: مشروعية الخطبة العامَّة للتَّنبيه على خطأ وقع في خاصة بدون أن
يذكر شيئًا من صفاتهم.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا
وَكَذَ»، يعني: ما السبب الذي يجعل بعض الأقوام يقولون كذا وكذا -من المقالات
السابقة.
فأخبرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هديه فقال: «لَكِنِّي أُصَلِّي
وَأَنَامُ»، يُصلي بعض الليل، وينام أغلبه.
قال: «وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ»، يصوم لرؤية الشهر، ويفطر عند وجود العلة التي لا تمكن
من الصوم.
قوله: «وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»، أي: من هديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أن يتزوج النِّساء، وهذا يدلك على أنَّ العبادات لا تُؤخذ من الرأي المجرد، لابد أن
تستند إلى النُّصوص، وهكذا لابد من النَّظر في سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهديه، ولذا قال: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي»، أي: مَن لم يرضَ بمثل
ذلك «فَلَيْسَ مِنِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
ثم أورد من حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِالْبَاءةِ)، الباءة: النِّكاح.
قوله: (وَينْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ)، التبتل: ترك النِّكاح على جهة التَّقرب لله
-جلَّ وعَلا.
قوله: (وَيَقُولُ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ»). الودود: المرأة التي من
شأنها أن تتحبَّبَ لزوجها. الولود: هي كثيرة الولادة.
قد يقول قائل: كيف يَعرف أنَّ هذه المرأة صاحبة ولادة، وليس بينه وبينها معرفة
سابقة؟
قيل: بالنظر في ذريتها، وكيف كانت معهم، هل رُزقت بمولود، وقيل: بالنظر في قرابتها،
فإذا كان النِّساء مِن قرابتها يلدنَ فلا بأسَ حينئذٍ أن يكون الزواج من إحداهنَّ.
وفي هذا الترغيب في الحبابة واللطافة وحسن الخلق، وأنَّه ينبغي أن يُؤتى الزوج من
ذلك ما يُؤتاه غيره من أفراد الناس.
قوله: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ»، الولود: كثيرة الولادة، ونعرفها بولادة
لها سابقة، أو بالنظر إلى صفات قرابتها.
ثم قال: «إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ»، أي: مكاثر بأولادكم
أعداءكم يومَ القيامة.
وأخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث: الترغيب في إعداد بيت الزوجيَّة وتهيئته.
وفي الحديث: مساعدة أهل الخير الذين يُريدون الزواج.
وفيه أيضًا: النَّهي عن ترك النِّكاح على جهة التَّقرب لله -جلَّ وعَلا.
وقوله: «تَزَوَّجُو»، الأصل أنَّ هذا أمر، لكنه قد صُرف عن الوجوب إلى الاستحباب؛
لأنَّ الشرع قد جاء بالترغيب في الصَّبر على من لم تكن من أهل الود والحصافة.
ثم علل ذلك بقوله: «إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ»، أي: يغبط
الله -عز وجل- هذه الأمة بكونها تكثر أعدادها، وبالتَّالي يكون هذا محل مقارنة
النبي لأمته بغيرها من الأمم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ
لأَرْبَعٍ: لِمَالِها، ولِحَسَبِها، ولِجَمَالِها، ولِدِيْنِها، فَاظْفَرْ بِذَاتِ
الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
في هذا الحديث بيان الصفات التي يُرغب الشَّرع في تفقدها عند المرأة التي يُراد
الزواج بها، فقال: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ»، يعني: هناك أربعة أسباب يجعل
الناس يبحثون عن المرأة التي يريدون الزواج بها:
الصفة الأولى: «لِمَالِه»، فهناك مجموعة من الناس يتزوجون بعض النساء لما لديهنَّ
من المال، وفي مرات كثيرة يكون هذا المال سببًا من أسباب طُغيان الزوجة على زوجها.
الصفة الثانية: وهي صفة الحَسَبِ والنَّسَبِ، بحيث تكون من العوائل أو القبائل
المعروفة؛ لأنَّ بعض الناس يقصد أن يرفع نفسه بزواجه من هؤلاء.
الصفة الثالثة: قال: «ولِجَمَالِه»، أي: أنَّ بعض الناس يتزوجون النِّساء من أجل
ما لديهنَّ من الصفات الحميدة.
الصفة الرابعة: قال: «ولِدِيْنِه»، أن يختار المرأة من أجل دينها، والذي يتزوج
المرأة من أجل دينها يجد عددًا من الفوائد، منها:
- الأولى: أنَّ المرأة تراعي حق الله في التَّعامل معه، وبالتالي تُحسن التَّعامل
معه ولو أساء.
- الثَّانية: أنَّ الدِّين يحث صاحبه على الصبر، فتكون من أهل الصبر.
- الثَّالثة: أن تُحسن تربيتها لأبنائها.
- الرابعة: أنَّ المرأة تُتزوَّج لدينها يأمن زوجها عليها، ويطمئن قلبه عند ذهابه
منها.
قوله هنا: «فَاظْفَرْ»، هذا أمر بأن يختار ذات الدِّين للفوائد السَّابقة.
قوله: «بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»، قيل: إنَّ المراد أن يدعو له أن يُقبَر
بعد موته، بحيث لا يُلقى إلى السِّباع أو في البحار، فإذا قُبِرَ فإنه حينئذٍ
تتحلَّل يده وتصبح ترابًا، ولذا قال «تَرِبَتْ يَدَاكَ».
وبعضهم قال: إن لفظ «تَرِبَتْ يَدَاكَ» من الاستغناء. وبعضهم يقول: هي من الفقر،
يقول القائل: ترِبَ الرجلُ، إذا افتقر، أي: أصبح جزءًا من التراب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذا رَفَّأَ الإنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَاركَ
اللهُ لَكَ، وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ -فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ -
وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، أي: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذا رَفَّأَ
الإنْسَانَ)، معناه: إذا دعا لإنسان مُتزوِّج، وكانوا في الجاهلية يقولون: "بالرفاة
والبنين"، وبعضهم يقول: "منك الأولاد ومنها الإناث"، ونحو ذلك، وهذه كلها ليست
واردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليست من الألفاظ المستحسنة في
هذا الباب.
قال: (كَانَ إِذا رَفَّأَ الإنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَاركَ اللهُ لَكَ،
وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ»)، هذه هي اللفظة المشروعة أن
تقال عندما يوجد عقد النكاح.
قوله: «بَاركَ اللهُ لَكَ»، أي: عظم ما تنتفع به من أمور الدنيا، يقال: هذا رزق
مُبارك، أي: دارٌّ. ويُقال: هذه سيارة مباركة، أي: لم يقع منها شيء من الاعتداء؛
فهذا أيضًا وصف.
وبالتالي نفهم معنى البركة، أن يبارك الله لك في زوجك، بحيث تصبح أخلاقها عالية،
وتصرفاته جميلة، ويعطيك الله من محبتها في قلبك. وهكذا من البركة: تيسير أمور
الدنيا في نكاحات ونحوها.
قال: «وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ»، أي: اجتمعتما في أمرٍ
من أمور الخير، ومن ذلك أن يجتمعا في بيت مَن يقوم بترتيب هذا الصُّلح ونحوه.
قال المؤلف: (رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ -فِي
الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ - وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبدِ اللهِ
قَالَ: علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ
فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجةِ، قَالَ: التَّشَهُّدُ فِي الحَاجَةِ:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ
شُرورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِي اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا
هَادِيَ لَهُ، وَأشْهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ:
حَدِيْثٌ حَسَنٌ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ)، هو عوف بن مالك.
قال: (عَنْ عَبدِ اللهِ قَالَ: علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ)، التَّشهد ركنٌ من أركان الصَّلاة، ويكون
بعد الفراغ من الركعة الثَّانية، وفي آخر الصَّلاة، سمي بالتَّشهد؛ لأنَّه يُختَم
بالشهادتين.
وموطن التشهد هو: الجلوس الذي يُسلَّم بعده، أو الجلوس الذي يكون بعده الوقوف
للثالثة مُباشرة.
قال: (علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي
الصَّلَاةِ)، أي: الألفاظ التي نقولها في التشهد، وهذا الذكر المذكور هنا هو رواية
ابن مسعود.
قال: (وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجةِ)، أي: علمنا أيضًا التشهد للحاجة، فقال:
(التَّشَهُّدُ فِي الحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ للهِ)، أي: الثناء بالجميل الكامل
إنما يكون لله -سبحانه وتعالى- وحده.
قال: (نَسْتَعِيْنُهُ)، أي: نطلب منه العون -سبحانه وتعالى.
قوله: (وَنَسْتَغْفِرُهُ)، أي: نطلب مغفرة الذنوب.
قوله: (وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَ)، ما من إنسان إلا وعنده شرور
في نفسه، قد يعلمها وقد لا يعلمها، وبالتالي على الإنسان أن يتحرَّزَ منها، إذا قد
ياتي الشيطان فيحرك كوامنها، وبالتالي تعود بالسوء والشَّرِّ والضرر على الأُمَّة
جمعاء.
قال: (مَنْ يَهْدِي اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ)؛ لأنَّ الهداية بيد رَبِّ العِزة
والجلال.
قال: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ)، هذه صفة ينفرد الله -جلَّ وعَلا- بها،
ولا تذكر في الكلام إلا إذا ذكر معها الهداية، ولذا قدمت الهداية عليها.
قال: (وَأشْهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، شهادة التَّوحيد، فهو يُقر ويعترف
جازمًا بذلك، عالمًا بأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله، فلا يجوز
صرف شيءٍ من العبادات إلى غيره.
قال: (وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وقد روى بعض الأئمة هذا الخبر وحسَّنوه وصححه الإمام أبو الأحوص، وجماعة من أهل
العلم.
وبالتالي نعلم فضل هذا الخبر، وما فيه من الفوائد، فهذه خطبة عظيمة.
قوله: (وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ)، المراد بها:
أولًا: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
ثانيًا: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا
كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً﴾ [النساء:1].
ثالثًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدً﴾ [الأحزاب:70].
فكأنَّه يقول: إنَّ هذه الآيات والاستدلالات جعلتني ممن أُحجم أن أتكلم في ذلك
المحفِل.
وهذا اللفظ مما يُستحب للإنسان أن يُوضع له ويُهيَّأ له بعد وفاته.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ
الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا
فَلْيفْعَلْ» قَالَ جَابِرٌ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَكُنْتُ
أَتَخَبَّأُ لَهَا تَحْتَ الكَرَبِ حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا بعضَ مَا دَعَاني إِلَى
نِكَاحِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا. رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد،
مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقٍ وَهُوَ صَدُوقٌ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَينِ وَهُوَ
مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ وَاقدِ بْنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ثِقَةٌ
،عَنْ جَابِرٍ)}.
هذا الحديث ظاهره أنَّه حسن الإسناد، إِلَّا أنَّ فيه علَّة، وهو أنَّه من رواية
ابن إسحاق -صاحب السيرة- وهو مُدلِّس، فإذا رَوَى عن غير الشَّاميين فلابد من
تحديثه، وهنا لم يُذكر التَّصريح من ابن إسحاق أنه استمعه مُشافهةً.
قوله: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ»، فيه مَشروعية القُدوم على المرأة من
أجل الخِطبَةِ.
قوله: «الْمَرْأَةَ»، يعني: المرأة التي يُريد الزَّواج بها.
قال: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا
فَلْيفْعَلْ»، هذا أمر، ولكنه مُعلق بالمشيئة، ولذا قال: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ
يَنْظُرَ»، وحينئذٍ صرفناه ليكون دالًّا على الإباحة.
بعض الفقهاء يقول: إن النَّظر إلى المخطوبة مُستحبٌ.
والجماهير يقولون: إنَّه مُباح وليس بمستحبٍ.
قوله: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا
فَلْيفْعَلْ»، فيه استحباب نظر الزَّوج الخاطب للمرأة المخطوبة.
قال جابر: (فَخَطَبْتُ جَارِيَةً)، أي: بنتًا صغيرة مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فكان
يُريد أن يشاهدها قبل أن يدخل بها، فكان يتخبَّأ تحت الكرب، أي: أجزاء النخلة التي
تكون في ساقها.
قال: (حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا بعضَ مَا دَعَاني إِلَى نِكَاحِهَ)، يقول: أعدت
النظر وقلَّبته، ووجدتُّ أنَّ الزواج بها مُناسب لما تشتمل عليه من صفات،
فَتَزَوَّجهَا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ
بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا يَخْطُبَ الرَّجلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ
حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ. مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ)}.
قوله هنا: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ
بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)، أصل البيع مشروع وجائز، ولكن هذه الصُّورة
مُستثناة من ذلك الأصل، والأصل في النَّهي أن يكون طلبًا لترك الفعل غَير جازمٍ.
قوله: (أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)، فإذا وجدته قد اشترى سلعةً
فلا تقل له: سأعطيكَ أحسنَ منها، وردَّها وخذ بضاعتي، وأعطيك أقل منها سعرًا، ونحو
ذلك؛ فهذا ليس من شأن أهل الإيمان.
قال: (وَلَا يَخْطُبَ الرَّجلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ)، إذا خُطبت امراة فلا يجوز
للرجل أن يخطبها مرة أخرى؛ لأنها مَشغولة بحق الخاطب الأول.
قال: (حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ)، فهذا
الخاطب الجديد قد تكون نفسه مُتعلقة بهذه المرأة فيذهب إلى خاطبها ويقول: أنا أريد
أن تُعينني على زواج فلانة ونحو ذلك.
قوله: (أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ)، أن يقول له: أذنتُ لك مثل هذا.
{أحسن الله لكم شيخنا..
ما هي الحالات التي يجوز فيها للرجل أن يخطب امرأة قد خُطبَت من قبل؟}.
هذا الحديث الذي معنا يُبيِّن عددًا من الحالات التي تتعلق بهذا السؤال:
الحالة الأولى: فهناك امرأة خُطِبَت فعدلَ الخاطبُ عن خطبة المرأة، فيجوز لغيره أن
يخطبها.
الحالة الثانية: إذا رُدَّ الخاطب الأول، فحينئذٍ يجوز لغيره أن يخطبها.
الحالة الثالثة: إذا كان في حالة الانتظار، لم يُعطَ جوابًا بالموافقة، فقد جاء في
الحديث أنَّ فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- جاءت إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا جهمٍ ومعاوية خطباني، فأمرها
النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تنكح أسامة؛ والمعنى أنها لم تُجِب
بعدُ.
الحالة الرابعة: إذا أذن الخاطب الأول، جاء الخاطب الثَّاني واستأذن من الخاطب
الأول، فأذن له؛ فحينئذٍ يجوز له أن يخطب.
فيما عدا هذه الحالات لا يجوز للإنسان أن يخطب امرأة قد خطبت قبله.
والخطبة: إحدى المراحل التي تسبق عقد الزواج، ويُقال: "الخِطبة" بكسرِ الخاء ويُراد
به خِطبة النِّكاح.
وأما "الخُطبة" فهي الكلمة والموعظة تُلقَى بينَ الناس.
وهذا الحديث فيه النَّهي عن أن يبيع بعضنا على بيع بعضٍ.
وإذا كانت الخِطبة من مُقدمات الزَّواج؛ فقد تقدم معنا أيضًا أنَّ من مُقدمات
الزَّواج خُطبة الحاجة، وتقدم معنا ما يتعلق برؤية المخطوبة وأحكام ذلك.
وتقدم معنا حكم أصل النِّكاح، وذكرنا أنَّ الجمهور يرون أنَّ النِّكاح مُستحب إذا
لم يكن هناك سببٌ داعٍ.
إذن في تحرير محل النزاع نقول: إذا خشي الإنسان على نفسه من الوقوع في الحرام وجب
عليه أن يتزوَّجَ، أمَّا إذا لم يخشَ على نفسه من الوقوع في الحرام، ففي هذه الحال
قال الجمهور: هو مُستحبٌّ، واستدلوا على ذلك بالتعليل في قوله: «فَإِنَّهُ أَغَضُّ
لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، ولكون بعض الصَّحابة لم يُبادر إلى الزَّواج،
ولذا خاطبهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحديث ابن مسعود السَّابق.
والظاهرية يقولون: إنَّ الزَّواج واجب، واستدلوا عليه بالأمر في قوله: «مَنِ
اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ»، واستدلوا عليه بما ورد في حديث
أنس، أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يَأْمُرُ بِالْبَاءةِ وَينْهَى
عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيْدً)، والأمر للوجوب، والنَّهي يُفيد التحريم.
والجمهور يقولون: إنَّ النَّهي هنا عن اتَّخاذ تركِ الزواج دِيانةً وعبادةً
يُتقرَّب بها لله -جلَّ وعَلا- ولذلك الرجل الذي جاء فقال: (لَا أَتَزَوَّجُ
النِّسَاءَ)، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا
كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ
النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وبالتالي نعلم المراد بهذه الأحاديث الواردة في هذا الباب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ سَهْلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي لَكَ،
فَنظرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصَعَّدَ
النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لم يَقْضِ
فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنْ لمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيْها، فَقَالَ: «فَهَلْ
عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «اذْهَبْ
إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟» فَذَهَبَ، ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ:
لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيْدٍ»،
فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتِمٌ
مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إزَارِي؟ -قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ، فَلَهَا
نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ
بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ
لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ» فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا
طَالَ مَجْلِسُهُ، قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ
مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ مَعِيَ سُورَةُ كَذَا وَسُورَة وكَذَا- عَدَّدَهَا،
فَقَالَ: «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اذْهَبْ
فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ،
وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ
زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ»، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ:
«أَمَلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»)}.
هذا الحديث الشريف فيه فوائد كثيرة.
قال: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)،
فيه قُدوم النِّساء إلى أهل الفضل، وليس معناه أنَّ هُناك خُلوة أو اختلاط، فإنَّ
الاختلاط هو الإتيان المتكرر للمكان الواحد، بخلاف ما كان للمرة الواحدة وبدون
ترتيب مُسبق.
فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي لَكَ)، هبة المرأة نفسها
للرجل خاص بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقول الله -جلَّ وعَلا:
{وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون
المؤمنين} [الأحزاب/50]، فلما قال: {خالصة لك} معناه أن الحكم يختص بالنبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأما ما عداه فإن المرأة لا تهب نفسها للرجل.
وبعض الحنفية استدل بهذا على أنه لا يلزم وجود ولي، ولكن ليس في الحديث دلالة على
ذلك، فهذه المرأة امرأة منقطعة، ويظهر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لما زوجها الرجل زوَّجها بحكم ولايته، ولذا لم يجعلها تباشر عقد النِّكاح بنفسها،
وإنما الذي باشر عقد النِّكاح هو النِّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما
يدل على لزوم وجود الولي.
قال: (فَنظرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصَعَّدَ
النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ)، ظاهر هذا أنَّ المرأة المتحجبة التي لم يَظهر مِن
بَدنها شيء يجوز النَّظر إليها وتصويب النَّظر؛ لأنَّ ذلك ليس فيه شيءٌ من كشفِ
بدنها.
والذي يظهر أنَّ هذا في حالة عدم سفور المرأة، وفي حالة عدم بيان جلباب المرأة
لشيءٍ من أعضاء بدنها.
قال: (ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ،
فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لم يَقْضِ فِيهَا شَيْئً)، يعني: لم يردها،
ولم يفعل شيئًا تجاه طلبها عندما طلبت منه أن يتزوج منها، فجلست.
قال: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لمْ
يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيْه)، فيه طلب الرَّجل الزَّواج بالمرأة.
هل يُستدلُّ بهذا الحديث على أنَّ المرأة يجوز لها أن تعرض نفسها للرجل كما قال
بذلك طائفة؟ أو نقول: إنَّما يُستحب ذلك في حقِّ الولي أن يَعرض موليَّته على الرجل
الكفء لئلا يفوت؟
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟»،
أي: هل لديك مهر تتمكَّن به من دفعه لهذه المرأة التي تريد الزَّواج منها؟
في هذا دلالة على أنَّه لابد أن يكون في الزَّواج مَهرٌ، ولا يجوز أن يكون هناك
زواج اتُّفق على أنَّه لا مَهر فيه، ولو قُدِّر أنَّه تَزَوَّج امرأةً وشرطت أَلَّا
مهر لها؛ فإنَّه يثبت لها حينئذٍ مَهر المثل؛ لأنَّ هذا شرط فاسد، ولكنه لا يفسد
العقد؛ لأنَّه مُتلعق بأثرٍ مِن آَثَار العقد، وليس مُتعلقًا بصلب العقد.
فقال الرجل: (لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: ليس عندي شيء أتمكَّن من دفعه
مهرًا للمرأة.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ
هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟»، أي: تجد أمرًا له قيمة تتمكن به من دفع مَهر هذه المرأة.
قال: (فَذَهَبَ، ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا وَجَدْتُ
شَيْئً)، أي: لم أجد شيئًا أقوم بدفعه لهذه المرأة ليكون مهرًا لها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِمًا
مِنْ حَدِيْدٍ»، فيه دلالة على أنَّ المهر يجوز أن يكون مالًا قليلًا، وهذا مذهب
أحمد والشَّافعي.
وخالفهم الإمام مالك، فقال: لابد أن يكون بمقدار ثلاثة دراهم.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنَّ أقله عشرة دراهم.
وهذه الأقوال تحديدات، وليس على فرضها شيءٌ ثابت، وقياسها على غيرها من المسائل
قياسٌ مع الفارق.
واستدل بهذا الحديث على جواز لُبس خاتم الحديد، وأنَّه لا حرج في ذلك.
قال: (فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا
خَاتِمٌ مِنْ حَدِيدٍ)، أي: لم أجد لها مهرًا حتى الخاتم الحديد.
قال: (وَلَكِنْ هَذَا إزَارِي؟)، الإزار: هو قطعة القماش التي يقوم الرجل بلفها على
أسفل بدنه، فيغطي بذلك عورته.
قال المؤلف: (قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ)، الرداء: قطعة القماش التي تكون في
أعلى البدن، فلم يكن لديه إلا إزار فقط.
فقال الرجل: (فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟»)، أي: ما تستفيد هذه المرأة من الإزار الذي
ستدفعه لها؟!
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا
مِنْهُ شَيْءٌ»، وبالتالي هذا يتنافى مع ما قصده الشَّارع من أمر الزَّوجية.
قال: «وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ»، أي: إذا لبست المرأة
هذه الإزرة لم يكن على الرجل منه شيء، ولم يتمكَّن من غطاء عورته.
قال الراوي: (فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ)، يعني: تطاول به
الزمان.
قال: (قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَلِّيً)،
أي: قافلًا راجعًا.
قال: (فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ لَهُ)، أي: أن يرجع له.
قال: (فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ مَعِيَ
سُورَةُ كَذَا وَسُورَة وكَذَا- عَدَّدَهَا، فَقَالَ: «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ
قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ
الْقُرْآنِ»)، في هذا دلالة على فضل القرآن، وعلى حرص الصَّحابة-رضوان الله عليهم-
على حفظ القرآن، وبعض العلماء يَستحب أن تكون القراءة من المصحف نَظَرًا، ولعل
الأظهر أنَّ المستحب أن يقرأها عن ظهر قلب، لا حال قراءته من المصحف، ولا شك أنَّ
المصحف فاضل، وأنَّه ينبغي للإنسان تقديره واحترامه، لكنَّ القِراءة عن ظهر قلبٍ
أولى، إذ فيها مُتابعة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيها استحضار
وتذكر آيات القرآن.
قَالَ الرجل: (نَعَمْ)، يعني: أقرأ هذه السور عن ظهر غيب.
فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ»، أي: عُدْ إلى أهلك.
قال: «فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»، أي: عقدتُّ لكَ عليها
مقابل ما معك.
وهنا إشكالان:
الإشكال الأول: أنَّ بعض الفُقهاء قال إن هذا الحديث دليلٌ على أنَّ عقد النِّكاح
قد ينعقد بألفاظ مُغايرة لألفاظ النِّكاح والتَّزويج.
الإمامان الشافعي وأحمد يقولان: عقد النِّكاح لا ينعقد إلا بهذه الصِّيغة. وبالتالي
لا تكن لفظة «ملكتكه» من ألفاظ العقد عندهم.
وعند الإمامين أبي حنيفة ومالك -رحمهما الله: أنَّ عقد النِّكاح ينعقد بكل لفظٍ
يدلُّ عليه، ومن ذلك لفظ التَّمليك.
الإشكال الثاني: في قوله «بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»، فكيف يزوجه المرأة وهي لا
تستفيد ممَّا معه، وإنما هو يحفظ آيات القرآن؟
أُجيبَ عن هذا بأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قصد بهذا أنَّ
الزَّوج يُعلم زوجته هذه الآيات القرآنية.
ولذا جاء في لفظ: «انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ
الْقُرْآنِ»، وهذا يدلنا على أنَّه لم يعْطِه مَهرًا.
وقد استدلَّ بعضهم بهذا الخبر على استحباب أن لا يطلب الإنسان من غيره شيئًا، كما
استدلَّ به على استحباب تقليل مهر النِّكاح، وعدم المزايدة والمبالغة فيه.
فهذا شيء من معاني هذه الأحاديث التي وردت في أوائل باب النكاح، وذكرنا فيها عددًا
من الأحكام الفقهية المأخوذة منها، وبالتالي نكون قد استكملنا هذا الخبر.
بارك الله فيك، ووفق الله لخيري الدنيا والآخرة، وجعلنا الله وإيَّاك من الهداة
المهتدين، كما أسأله سبحانه لجميع إخواني وإخوتي ممَّن يشاهدوننا التوفيق لكل خير،
وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا ونيَّة خالصة، هذا
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى
ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}.