{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشيخ}.
الله يبارك فيك، وأحيِّيكَ وأحيِّي إخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ
وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "الرَّجْعَةُ والإِيلاء والظِّهار" من
كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ يزِيدَ الرِّشْكِ، عَنْ مُطَرِّفِ بنِ عَبدِ
اللهِ، أَنَّ عِمرَانَ بنَ حُصَيْنٍ سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ،
ثمَّ يَقعُ بِها وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟
فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيرِ سُنَّةٍ وَراجَعْتَ لغَيرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى
طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا وَلَا تَعُدْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ
مَاجَه، وَلَيْسَ عِنْدهُ: وَلَا تَعُدْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مُخرَّجٌ لَهُم فِي
الصَّحِيحِ)}.
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمرسَلين،
أمَّا بعد:
فإنَّ كلمة الرَّجعة يُراد بها: إعادة الرَّجلِ زوجتَه المطلَّقة إلى عِصمته.
ويُشترط للرَّجعة شروط:
أن يكون الطَّلاق رجعيًّا، فيكون بطلقةٍ أو طلقتين، أمَّا إذا كان بثلاثٍ فحينئذٍ
لا رَجْعَة.
أن تكون الرَّجعة في وقتِ العِدَّةِ، فإن مَضت العِدَّةُ ولم تحصل رَجْعَة فلا
تثبت رجعة حينئذٍ.
أمَّا الإيلاء فالمراد به: حَلِفُ الزَّوج أَلا يقربَ زوجتَه مُدَّةً تَزيد عن
مُدَّة الأربعة أشهر.
أمَّا الظِّهار: فهو تشبيه الرَّجلِ زوجتَه بمَن تحرم عليه على جهة التَّأبيد، كما
لو قال لها: "أنتِ عليَّ كظهر أمي". وسيأتي أحكامه.
قال: (أَنَّ عِمرَانَ بنَ حُصَيْنٍ سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ،
ثمَّ يَقعُ بِها وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟)، هل
الجماع هنا يُعدُّ رجعة؟
طلقها طلقةً أو طلقتين، ثُمَّ جَامعها، فهل يُعدُّ ذلك رجعة أو لا؟
هذا من مواطن الخلاف:
فعند أحمد: أنه يُعدُّ رجعةً.
وعند أبي حنيفة والشَافعي: لا يُعدُّ رجعة.
وعند مالك: بحسبِ النِّيَّة، فإن نَوى بجماعه لها أنَّه يرتجع الزَّوجة؛ حَصَلت
الرَّجعة بذلك.
قال: (سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثمَّ يَقعُ بِه)، يعني: يقع
بها قبل أن يتلفَّظ بالرَّجعة، فإنَّ الرَّجعة قد تكون بلفظٍ قوليٍّ، وقد تكون
بفعلٍ.
قال: (وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟ فَقَالَ:
طَلَّقْتَ لِغَيرِ سُنَّةٍ)؛ لأنَّه طلَّقَ امرأته ويبدو أنه لم يُشهِد عليها.
قال: (راجَعْتَ لغَيرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا
وَلَا تَعُدْ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَة -رَضِيَ
اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: آلَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ
نِسَائِهِ وَحَرَّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ
كَفَّارَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ)}.
عَنْ عَائِشَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (آلَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ نِسَائِهِ)، يعني أقسَمَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ألا يقرب نساءه.
قالت: (وَحَرَّمَ)، يعني أنَّه حكم بالحُرمَةِ.
قالت: (فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً)، كأنها
تقول أنَّ الأَيمان في الإيلاء ونحوه فيها كفارة يمين. وهذا أحد الأقوال في
التَّحريم.
فهناك مَن يقول: إنَّ التَّحريم يقتضي أن يكونَ ظِهارًا.
وبعضهم يقول: هو طلاق.
وبعضهم يقول: هو طلاق معلَّق.
والصَّواب: أنَّه يمينٌ، ولذا قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (آلَى رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ فَجَعَلَ
الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً)، يعني فيما فعله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ
عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ
يَوقِفُونَ الْمُولِي. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ)}.
المراد بالمُولِي: مَن أقسَم ألا يقرب زوجته مدَّة أكثر من أربعة أشهر، فإذا مضت
أربعة أشهرٍ؛ فماذا نفعل؟
الإمام أبوحنيفة يقول: إذا مضت الأربعة أشهر وقع الطلاق، ولا نحتاج إلى إيقاف
المولي ولا سؤاله.
الجمهور يقولون: نوقف المولي الذي أقسَمَ ألا يقرب زوجته، ونقول: أنت بالخيار،
إمَّا أن تطلِّق، وإمَّا أن تسترجع.
قال سليمان بن يسار: (أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَوقِفُونَ الْمُولِي)، يعني بعد
الأربعة أشهر يسألونه؛ هل تريد إمضاء العقد أو الفسخ؟
وقوله: (كُلُّهُمْ يَوقِفُونَ الْمُولِي)، معناه أنَّه لا ينفسخُ عقدَ النَّكاحِ
بالنِّسبة للمُولِي بمجرد مضي المدة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ الحكمِ بنِ أبانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدْ
ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَته فَوَقعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي
ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قبلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ: «مَا
حَمَلَك َعَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟» قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالهَا فِي ضَوءِ
الْقَمَرِ، قَالَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ» رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ
وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ رُويَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ منَ
الْمُسْنَدِ، قَالَهُ النَّسَائِيُّ)}.
قوله هنا: (عنِ الحكمِ بنِ أبانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، هكذا في
الرِّواية، وفي بعض الرِّوايات يكون مُرسلًا بدون ذكر ابن عباس.
والمتتبِّعُ للحديث يجد أنَّ هناك اختلافًا كثيرًا في هذا الباب، وقد حَكَمَ
المؤلِّف أنَّ المُرسل أولى بالصَّواب مِن المسنَد، ونَسَبَهُ إلى النَّسائي
-رَحمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدْ
ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَته)، أي: شبَّه امرأته بمَن تحرُم عليه على جهة التَّأبيد،
فقال لها مثلًا: "أنتِ كأُمِّي، أو أنتِ حرامٌ عليَّ كجدَّتي".
قال: (فَوَقعَ عَلَيْهَ)؛ لأنَّ مَن ظَاهرَ ممنوع أن يَطأ الزَّوجة.
فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتي فَوَقَعْتُ
عَلَيْهَا قبلَ أَنْ أُكَفِّرَ)، أي: جامعها قبل أن يُكفِّر.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَك َعَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ
اللهُ؟». قَالَ: (رَأَيْتُ خَلْخَالهَا فِي ضَوءِ الْقَمَرِ)، يعني: تحرَّكت نفسه
لها، فلذلك جامعها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا
أَمَرَكَ اللهُ»، أي: لا تُجامعها مَرَّة أخرى حتى تفعل ما أمرك الله به.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الْأَيْمَانِ
عَنِ ابْنِ عُمرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ
أدْرَكَ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ فِي ركْبٍ، وَعُمَرُ يَـحْلِفُ بِأَبِيهِ،
فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا إِنَّ اللهَ
يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ
بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»)}.
المراد باليمين: تَوثِيقُ الكلامِ بذكرِ مُعظَّمٍ.
والمراد باليَمينِ في اللِّسانِ الشَّرعيِّ: الحَلِفُ بالله تعظيمًا للكلام،
وتصديقًا له.
قال: (عَنِ ابْنِ عُمرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنَّهُ أدْرَكَ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ فِي ركْبٍ)، يعني: كان عمر يسير، والنبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وراءه فلحقَهُ.
قال: (وَعُمَرُ يَـحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، كأنَّه قد رفع صوته بذلك.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ
تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ
لِيَصْمُتْ»، فيه تحريم الحلف بغير الله، والنَّهي عنها.
{قال: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ:
بِاللَّاتِ، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ:
تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ
لمسْلمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي
حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ» هذا حَلِفٌ بغير الله، والحلف بغير الله ثلاثة أنواع:
النَّوعُ الأوَّلُ: أن يحلف بغير الله مُعظمًا له، فهذا شركٌ أكبر.
النَّوعُ الثَّاني: أن يحلف بهذه الأصنام توثيقًا للكلام بدون أن يكون قاصدًا
لتعظيم هذه الأصنام، فهذا شرك أصغر لا يَخرج به الإنسان من الملَّة.
النَّوعُ الثَّالثَ: ما يجري على اللسان، ومِن أمثلته اللغو، ونحوه؛ فهذا أرشد
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صاحبه إذا نطق به أن يقول: "لا إله إلا
الله"، أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله.
وفي هذا: مقابلة السَّيئة بالحسنة حتى تمحُها كما أخبر النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ».
القمار أمرٌ محرمٌ، وهو غُرمٌ محَقَّق وغُنمٌ مشكوكٌ فيه، وقد جاءت النُّصوص
بتحريمه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90].
ولكن مَن قال لصاحبه: "تَعَالَ أُقَامِرْكَ" باللسان بدونِ أن يقصدَ القِمارَ
المنهي عنه في الشَّرع؛ فعليه أن يتصدَّق مِن أجل أن يُوازي ما فعله من قوله
لصاحبه: "تَعَالَ أُقَامِرْكَ".
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِيْنُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ»، وَفِي
رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ». رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
قوله: (وَعَنْه)، يعني: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِيْنُكَ»، أي: تأكيدُكَ الكلام
بالقَسَم يُحمَل ويُفسَّر على ما يُصدِّقكَ به صاحبك، وهذه قاعدة في باب تفسير
الألفاظ.
والأصل أنَّ اليَمين تكون على نيَّةِ المخاطَب لا على نيَّة المتكلِّم، ولكن وجدنا
في بعض المواطن أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاز يمينًا على
نيَّةِ المتكلِّمِ لا على نيَّةِ المخاطَب، فقد ورد في الحديث أنَّ عمران بن حصين
أقسَم لجماعة يُريدون رجلًا أنَّه ليسَ صاحبَهم، وحلفَ عل ذلك، فحلفَ أنَّه أخوه؛
وهو يقصد أخوة الإسلام؛ فأجاز النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلك اليمين،
فحينئذٍ كيف نجمع؟
بعض الفقهاء قال: في مجلس القضاء على نيَّة المحلوف له، وفي غيره على نية المخاطَب.
وهناك مَن قال: المواطن التي يُقرُّ فيها العدل كمجالسِ القضاء اليمين على نية
المحلوف له، وليست على نية الحالف.
وهناك أقوال أخرى في المسألة، ولكن هذين القولين أشهر الأقوال.
وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ»، يعني: على نيَّة
الطَّالب لليمين.
أنا آتي لك بمثال: إذا قال: "والله ما لفلان شيءٌ عندي"؛ فحينئذٍ ظاهره النَّفي،
وقد يكون يريد الإثبات كأنه يقول: "والله مال فلان شيء عندي"؛ فهو نوى بها معنًى
مغايرًا لما قد يفهمه الآخرون.
فحينئذٍ نقول: اليمين على نيةِ الحالف أو على نية المحلوف له؟
نقول: إذا كانَ المحلوفُ له غيرَ ظالمٍ، وهذا المحلوف له ليس في مجلسِ القضاء؛
فحينئذٍ اليمين على نية المحلوف له.
إذن؛ في مجلس القضاء وفي مواطن الظُّلم يكون اليمين على نيَّة المحلوف له، وفي غير
ذلك على نية المتكلم الحالف.
وهناك مَن يقول: كل يمين يُخاطَب بها الآخرون الأصل أنَّه إنما يُريد ما ينويه
المخاطب هنا.
وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ»، يعني: تُفسَّر بما
في نية المستحلف الطالب لليمن.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإنَّكَ إِنْ
أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ
مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ
غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ».
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفظٍ للْبُخَارِيِّ: «فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ
يَمِيْنِكَ»، وَفي لَفْظٍ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلى يَـمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَـمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هَوَ خَيْرٌ».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَإسْنَادُهُ صَحِيحٌ)}.
قوله: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ
لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ
سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ»)، الإمارة مَنهي عن سؤالها، إلا في أحوالٍ
خاصَّة، وما ذاك إلا أنَّ العبدَ المؤمن لا يُريد الرِّفعة لذاتِ الرِّفعَةِ، وإنما
يُريدها تأييدًا لدين الله -عز وجل.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ
مَسْأَلَةٍ»، أي: أُعطِيتَ الإمارة.
قوله: «وُكِلْتَ إِلَيْهَ»، أي: جعلك الله تعتمد على قدرتك، وحينئذٍ يكون الأمر
عليك.
قوله: «وَإِنْ أُعْطِيتَهَ»، أي: كُلِّفتَ بها، وطُلبَ منكَ تولِّيها.
قوله: «عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَ»، فإنَّ الله يُعينك عليها.
وفي هذا: الاستعانة بالله -عز وجل- ومشروعيَّة أن يعلِّق الإنسانُ قلبَه بربِّ
العزَّة والجلال.
ثم قال: «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ»، أي: أقسمَت بيمينٍ لتأكيد كلامك.
الإقسام على اليمين قد يكون على أمر ماضٍ، وقد يكون على أمرٍ مستقبل، ونحن نتحدَّث
عن الأمر المستقبل، فقال: «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيرَهَا
خَيرًا مِنْهَ»، أي: أفضل وأحسن.
قال: «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، أي: خير مما هو موجود
عندك.
وبالتالي نعلم أنَّ اليمين لا ينبغي أن تُقدَّس حتى تَمْنع الإنسان مِن فِعل الخير؛
بل فيه طريق للخلاص منها وهو الكفَّارة، وكفارةُ اليمين مَذكورة في قوله تعالى:
﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ﴾ [المائدة:89].
وَفِي لَفظٍ للْبُخَارِيِّ: «فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ
يَمِيْنِكَ»، هل يقدم التكفير أو الحنث؟
الظَّاهر أنه لا حرج في الأمرين، وكلاهما ورد في الخبر.
وَفي لَفْظٍ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلى يَـمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا
مِنْهَ»، أي: أفضل وأحسن عند الله -جلَّ وعَلا.
قال: «فَكَفِّرْ عَنْ يَـمِينِكَ»، أي: ادفع كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو
كسوتهم أو تحرير رقبة.
قال: «ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هَوَ خَيْرٌ»، الخلاف الذي بين هذه الرِّواية والرِّواية
التي قبلها أيهما يقدم؛ الحنث أو الكفارة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمر -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ».
رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَحَسَّنَهُ-
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه وابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أحَدًا رَفَعَهُ غَيرَ أَيُّوبَ
السَّخْتِيَانِيِّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَابَعَهُ أَيُّوبُ بنُ مُوسَى عَنْ
نَافِعٍ)}.
أيوب السختياني مرَّةً يرفع هذا الخبر، ومرة يقف فيه، وبالتَّالي وقع التَّردُّدُ
في إسناد هذا الخبر، والجمهور على أنَّ هذا الخبر جيد الإسناد، ولكن بعضهم حَكَمَ
بأنَّه مَوقوف وليس مَرفوعًا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ
شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، فيه أنَّ الاستثناء مِنَ اليَمين مُؤثِّر
ونافع.
وقوله: «فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، أي: لا تجب عليه كفارة اليمين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ اللِّعَانِ
عَنْ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قَالَ: سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ فِي امْرَأَةِ
مُصْعَبٍ، أَيُفَرَّقُ بَينَهُمَا؟ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمضَيْتُ إِلَى
مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَةَ، فَقُلْتُ للغُلامِ: اسْتَأْذِنْ لي، قَالَ:
إِنَّهُ قَائِلٌ، فَسَمِعَ صَوتِي، قَالَ: ابْنُ جُبَيرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ:
ادْخُلْ فوَاللَّهِ مَا جَاءَ بَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ، فَدَخَلْتُ
فَإِذا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً، مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً حَشْوُها لِيفٌ، قُلْتُ:
أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ، الـمُتَلاعِنَانِ أيُفرَّقُ بَينَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ
اللهِ، نَعَمْ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فلَانُ بنُ فلَانٍ، قَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَو وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ،
كَيفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتْ
عَلَى مِثْل ذَلِكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي
سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ
هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: ﴿وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾
[النور:6] فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرهُ أَنَّ
عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا
وَذَكَّرَهَا، وأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ
الْآخِرَةِ، قَالَتْ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ،
فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّه لـَمِنَ
الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ، ثمَّ ثنَّى بِالْمَرْأَةِ فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ
إِنَّهُ لَـمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَة أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ
كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ، ثمَّ فَرَّقَ بَينَهُمَا. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
اللعان: قيل هي أيمان تكون بين الرجل وامرأته بعد قذف الرَّجلُ لامرأته، من أجل درء
حد القذف عنه.
قال سعيد بن جبير: (سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ)، الزَّوج يتهم زوجته بفعل
الفاحشة، فيتلاعنون ويُفرَّق بينهما.
قال: (سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ فِي امْرَأَةِ مُصْعَبٍ، أَيُفَرَّقُ
بَينَهُمَا؟ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ
بِمَكَةَ)، فيه مُراجعة أهل العلم، والتنقل من بلد إلى بلد مِن أجل مَسألة فقهيَّة
واحدة.
قال: (فَقُلْتُ للغُلامِ: اسْتَأْذِنْ لي)، أي: على ابن عمر، وفيه الاستئذان قبل
الدخول.
قال: (قَالَ: إِنَّهُ قَائِلٌ)، أي: قد نام نَومة الظُّهر.
قال: (فَسَمِعَ صَوتِي)، أي أن ابن عمر سمع صوت سعيد بن جبير.
قوله: (قَالَ: ابْنُ جُبَيرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ادْخُلْ فوَاللَّهِ مَا جَاءَ
بَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ)، أي: هناك سبب يجعلك تقدم في مثل هذه
الساعة.
قال: (فَدَخَلْتُ فَإِذا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً)، البرذعة: هي ما يوضع على ظهر
الدابة من حمارٍ ونحوه.
قال: (مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً حَشْوُها لِيفٌ، قُلْتُ: أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ)،
أبو عبد الرحمن هو عبد الله بن عمر.
قوله: (الـمُتَلاعِنَانِ أيُفرَّقُ بَينَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، نَعَمْ)،
أي: يُفرَّق بينهما.
قال: (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فلَانُ بنُ فلَانٍ، قَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَو وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ،
كَيفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتْ
عَلَى مِثْل ذَلِكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَلَمْ يُجِبْهُ)، أي: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينتظر
الوحي.
قوله: (فَلَمَّا كَانَ بَعدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ
عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيْتُ بِهِ)، وفي هذا أن الإنسان لا يفرض الفروض الباطلة
المزيفة، والمعنى: أنَّ الذي سألتك عنه قد وقع لي في أهل بيتي.
قال: (فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ:
﴿وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ [النور:6]، فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ
وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ)، تلا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الرجل
الذي يُرلد منه اللعان.
قال: (وَأَخْبَرهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ،
فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَ)، أي: لن
يُثنيني كلامكَ عمَّا أنا عليه.
قال: (ثمَّ دَعَاهَ)، يعني دعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المرأة.
قوله: (فَوَعَظَهَا وَذَكَّرَهَا، وأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ
منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ
لَكَاذِبٌ) كأنها تقول: لا تصدقه.
قوله: (فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ)، أي: يطلب منه أيمان اللعان.
قوله: (فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّه لـَمِنَ الصَّادِقِينَ،
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
هنا إشكال: هل اللعان شهادة أو يمين؟
موطن خلاف بينهم.
قال: (ثمَّ ثنَّى بِالْمَرْأَةِ)، فيه أنَّ الرجل هو الذي يُبدأ به في اللعان.
قال: (فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَـمِنَ الْكَاذِبِينَ،
وَالْخَامِسَة أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ، ثمَّ
فَرَّقَ بَينَهُمَ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلمُتَلاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا
عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيْلَ لَكَ عَلَيْهَ» قَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟ قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا،
فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتُ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا
فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمتلاعنين: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ،
أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيْلَ لَكَ عَلَيْهَ»، هذا فيه موعظة الخصوم قبل
الحكم، والنظر في قضاياهم، وفيه التذكير بمراقبة الله -جلَّ وعَلا- ومحاسبته للعبد
على أعماله.
فقال الرجل: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟)، يعني لما انتهى اللعان، قال الرجل:
أعطوني مالي الذي أعطيتها إيَّاه من مهرٍ ونحوه.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ
عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتُ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ
عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَ»، فيه أنَّ اللعان لا يُردُّ فيه المهر.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَهُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَئَلْتُ
أَنَسَ بنَ مَالكٍ -وَأَنا أُرَى أَنَّ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمًا- فَقَالَ: إِنَّ
هِلَالَ بنَ أُميَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا
الْبَراءِ بنِ مَالكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلُ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ،
قَالَ: فَلَاعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا قَضِئَ الْعَينَيْنِ، فَهُوَ
لهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ
السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ» قَالَ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا
جَاءَتْ بِهِ أكَحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ)}.
قوله: (وَلَهُ)، يعني: للإمام مسلم.
قوله: (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ)، يعني: محمد بن سيرين.
قَالَ: (سَئَلْتُ أَنَسَ بنَ مَالكٍ -وَأَنا أُرَى)، يعني: أظن وأعتقد.
قوله: (أَنَّ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمً)، فيه أنَّ الإنسان لا يَسأل إِلا مَن غَلَبَ
عَلى ظَنِّه أنَّ ذلك المسؤول عِنده عِلم من المسألة.
فَقَالَ: (إِنَّ هِلَالَ بنَ أُميَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ،
وَكَانَ أَخَا الْبَراءِ بنِ مَالكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلُ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي
الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلَاعَنَهَ)، فيه جواز اللعان.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصِرُوهَ»، أي:
تابعوها بعد ولادتها.
قال: «فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا قَضِئَ الْعَينَيْنِ»، أي: أن عيناه
فاسدتان «فَهُوَ لهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ»
قال: «وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ
بْنِ سَحْمَاءَ»، أي: الذي اتُّهِمَت به، فنظر إلى صفات البدن.
قوله: (فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أكَحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ)،
يعني على الوصف المكروه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ رَجُلًا -حِينَ أَمَرَ
الـمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلاعَنا- أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَقَالَ:
«إِنَّهَا مُوجِبَةٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ لَا
بَأْسَ بِهِ)}
هذا الحديث فيه وضع الأيدي بحيث لا تُحرَّك عن وجود اللعان، وقال: «إِنَّهَا
مُوجِبَةٌ»، يعني: أنَّ هذه الخامسة مُوجبة للأثر المترتب على اللعان.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ شهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ
عُوَيـْمِرًا الْعَجْلَانيَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ
عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أمْ كَيفَ يَفْعَلُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نَزَلَ فِيْكَ
وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَ» قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنا، وَأَنا
مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا
فَرَغَا -مِنْ تَلاعُنِهِما- قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنْ أَنَا أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ المتلاعِنَينِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ذَلِكَ
التَّفْرِيقُ بَينَ كُلِّ مُتَلَاعِنَينِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
أورد المؤلف هنا هذا الحديث وهو في الصحيحين (عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ
عُوَيـْمِرًا الْعَجْلَانيَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَسَطَ النَّاسِ)، يعني: يسأله، وهذا سؤال مُلفت لوجود جمع الناس.
فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا
أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أمْ كَيفَ يَفْعَلُ؟)، في هذا مشروعية القصاص في
القتل.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نَزَلَ فِيْكَ
وَفِي صَاحِبَتِكَ»، يعني: نزل قرانٌ يُتلَى.
قال: «فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَ»، يعني: ائت بالمرأة.
قَالَ سَهْلٌ: (فَتَلَاعَن)، أي: كلٌّ من الزوج والزوجة.
قال: (وَأَنا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِما قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ
عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَنَا أَمْسَكْتُهَ)، يعني: يريد أن يُطلقها.
قال: (فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ المتلاعِنَينِ).
هذه أحكام مما يتعلق باللعان، وما يترتب عليه من الآثار، ولعلنا نرجئ البحث في بعض
آثاره لأيامٍ قادمة، بارك الله فيكم جميعًا، وفقكم لكل خير، وجعلنا الله وإيَّاكم
مِنَ الهُداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.