الدرس التاسع

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

2972 23
الدرس التاسع

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يحييك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- بكتاب الجنايات من كتاب المحرَّر لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ الْجِنَايَاتِ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ».
وَعَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَ)
}.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعدُ:
فالجنايات: جمعُ جناية، مأخوذ من الفعل "جَنَى" يعني: التقطَ الشَّيءَ وأخذَه.
والمراد هنا: الاعتداء على الدِّماء.
والأصل في الاعتداء أنَّه محرَّم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة:190].
والجنايات تنقسم إلى:
• جناية على النَّفسِ.
• جناية على ما دون النَّفسِ، إمَّا يقطع عضوٍ أو بجرحٍ أو نحوه.
والأصل في الجنايات أنها محرَّمة، وأنَّها من كبائر الذنوب، وعظائم الآثام، وأشدُّ ذلك القتل، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمً﴾ [النساء: 93]، وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانً﴾ [الفرقان 68، 69]، الآية.
وجاء في الحديث: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامً» ، وقد عدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جريمة القتل من الموبقات.
والقتل فيه ثلاثة حقوق:
• حقٌّ لأولياء الدَّم: يُستوفَى بالقصاص.
• حقٌّ لله -عزَّ وجلَّ: يُمكن للعبد أن يتخلَّصَ منه بالتَّوبةِ الصَّادقةِ النَّصوح.
• وحقٌّ للميِّتِ: يستوفيه يوم القيامَة.
والجناية في الدِّماء قد أكَّد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على التَّحرُّزَ منها في مواطن عديدة، ففي يوم عرفة وفي أيام مِنَى كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول لأصحابه: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ» .
والجناية بالقتلِ يجب فيها القِصَاص، والعلماء لهم قولان مشهوران في موجَبِ الجناية بالقتل:
• فهناكَ مَن يرى أنَّ الموجب هو القِصَاص عينًا.
• وهناك مَن يرى أنَّ موجَب الجناية إمَّا القِصَاص وإمَّا الدِّية.
ويترتب على ذلك: هل يُلزَم القاتل بالدِّية إذا رغب أولياء الدَّم بذلك أو لا يُلزَم به؟
قد أورد المؤلف هنا حديثين متفق عليهما من حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، فيه دلالة على أنَّ الأصل في الدِّماء هو التَّحريم والتَّشديد في ذلك، وأنَّه يُطلَب الرُّخصة في استباحة الدِّماء، وإلَّا فإنَّ الأصل أنَّها على التحريم.
وقوله: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ»، قد يُطلَق الدَّم هنا على ما يكون في النَّفس، وقد يُطلق على ما يكون أقل منه، وإن كان ظاهر هذا الخبر أنَّ المراد به القتل لا ما دونه.
وقوله: «امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، لا يختصُّ بالذَّكرِ؛ بل يشمل المرأة؛ لأنَّها تُماثل الرَّجل، والأصل في أحكام الشَّريعة مُساواة الرَّجل بالمرأة.
وقوله: «يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، فيه أنَّ دخول الإسلام يكون بهاتين الشَّهادتينِ.
ثم ذكرَ أسباب استباحة الدَّمِ، فذكر أولها فقال: «إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي».
المراد بالثَّيب: مَن سبق له الزَّواج الذي جامع فيه.
والمراد هنا: أنَّ المحصَن الزَّاني يجب رجمه كما وردَ في النُّصوص.
وفي هذا دلالة على ثبوت حكم الرَّجم -كما سيأتي إن شاء الله.
السَّبب الثَّاني الذي يُستباح به الدَّم: القِصَاص، في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ»، وقد قال الله -جلَّ وعَلا: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178].
السَّبب الثَّالث الذي يُستباح به الدم: ما جاء في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ».
والمراد بذلك: المرتدّ عن دين الإسلام الذي فارق جماعة المسلمين ولو أتى بالشَّاهدتين؛ فإنَّه يثبت له حكم القتل حدًّا.
وأمَّا الحديث الآخر: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»، وهذا يشمل الجنايات التي تكون على النَّفسِ، والجناية على ما كان دون النَّفس.
وظاهر هذا الخبر: الاهتمام بقضايا الجنايات والدِّماء في يوم القيامة، حيثُ تُقدَّمُ على غيرها، وذلك أنَّ ما يتعلَّق بالجنايات هو من حقوق النَّاس التي لا يدخلها العفو، ويُستوفَى الحق فيها يوم القيامَة.
وهذا يدلُّكَ على أنَّ قضايا الدِّماء أهمُّ من قضايا الأعراض والأموال، مع أهميَّةِ الجميع.
{أحسنَ الله إليكم يا شيخ..
في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»، لو أتى بأحد هذين الوصفين هل يستحق القتل، أو لابدَّ أن تكون مرتبطة؟}.
تركُ الدِّينِ مفارقةٌ للجماعة، فلا يوجَد انفكاك بينَ الوصفين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بنِ عَبدِ اللهِ السَّوَائِي، قَالَ: قُلْتُ لِعَليٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الـْحَـبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمَاً يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
في هذا الحديث قال أبو جحيفة لعلي: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَ)، فيه دلالة على أنَّ أهلَ البيتِ لا يختصُّونَ بعلمٍ لم يصل إلى غيرهم، وأنَّه ليس عندهم شيء إلا ما بلَّغه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعموم النَّاس.
وفي هذا الحديث:
• القَسَم من علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لتقرير هذا الكلام الذي قرَّره هنا، مع أنَّه لم يُطلَب منه القَسَم.
• دلالة على تمايُز النَّاس، واختلاف منازلهم باختلاف فهمهم للقرآن.
• أنَّ القرآن فيه كنوزٌ من العلم، وينبغي بالنَّاس أن يُراجعوه.
• دلالة على جواز كتابة العلم وكتابة الأحاديث، لقوله: (وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ)، ثم ذكر ما فيها.
• - مشروعيَّة الأخذ بالدِّيَة، فإنَّ (العَقْل) يُراد به هنا: الدِّيَة؛ لأنَّ الإبل كانت تُعقَل -أي تُربَط- وتُسلَّم لأولياء الدَّم.
وقوله: (وفِكَاكُ الْأَسِيرِ)، فيه التَّرغيب في فكاك الأسير من المسلمين، الذي يأسره العدو.
وفي الحديث: دلالة على أنَّ المسلم لا يُقتَل بالكافر على جهة القصاص، وبذلك قال جمهور أهل العلم خلافًا لكثيرٍ من الحنفية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَليٍّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُم، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ)}.
قوله: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ»، أي: أنَّهم يتساوون فيما يتعلق بالقصاص، وفيما يتعلق بالدِّيَة.
وقوله: «وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُم»، أي: يجبُ عليهم أن يتعَاونوا فيما بينهم على الخير والهُدَى والبرِّ والتَّقوَى، كأنَّه جعلهم من اجتماعهم وتآلفهم يدًا واحدة.
وقوله: «وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم»، أي: أنَّ الأمان من أحدهم مقبولٌ، ويجب على البقيَّة أن يلتزموه، ويحرم عليهم أن يخفروه.
ثم قال: «أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، فيه دلالة على أنَّ المسلم لا يُقتَل بغير المسلم على جهة القِصاص، ولكن قد يُقتَل تعزيرًا إذا رأى وليُّ الأمر أنه يكون محققًا للخير والمصلحة.
وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، وهو أنَّ المؤمن لا يُقتَل بالكافر مُطلقًا، سواء كان الكافر حربيًّا أو كان معاهدًا أو كان ذمِّيًا أو مستأمنًا، سواء كان كتابيًّا أو مشركًا؛ وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
وهكذا في قوله: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»، أي: لا يجوز أن يُقتَل المعاهد حالَ استمرار العهد معه.
وهذا مذهب جماهير أهل العلم، وهو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد، أنَّ المؤمن لا يُقتل بالكافر.
وأمَّا عند الحنفيَّة فإنَّهم قالوا: قوله «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، أي: الكافر الحربي، ويدل عليه أنَّه قال: «وَلَا ذُو عَهْدٍ»، أي: لا يُقتَل ذو عهدٍ بكافرٍ -أي حربي.
فكأنَّهم هنا فسَّروا كلمة "الكافر" في الأوَّل أنَّ المراد بها: الكافر الحربي، بناء على قوله: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عهْدِهِ»، أي: وَلَا ذُو عَهْدٍ في عهده بكافر.
وتفسير الجمهور لهذا الخبر أولى؛ لأنَّه على تفسيرهم لا يحتاج الكلام إلى تقديرٍ وإضمارٍ.
أمَّا على مذهب الحنفيَّة فإنَّ يحتاج، كأنَّه قال: (لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ)، فيحصل في تأويل الحنفيَّة تقديم الكلام وتأخير.
وأمَّا على مذهب الجمهور فإنَّه لا يحتاج إلى تقديمٍ وتأخيرٍ في تفسير اللفظِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ-, وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى الْحَسَنِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِهِ مِنْ سَمُرَةَ، وَلأبي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ»)}.
هذا الحديث منقطع؛ لأنَّ الحسن لم يسمع من سمُرَة هذا الحديث، ولهذا لم يأخذ به جماهير أهل العلم.
قوله: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ»، ظاهره ثبوت القصاص بينَ الحرِّ والمملوك.
والعلماء لهم ثلاثة أقوال في هذه المسألة:
• القول الأول: ذهب الحنفية إلى أنَّ الحرَّ يُقتل بالعبد المملوك.
• والقول الثاني: أنَّ الحُرَّ لا يُقتَل بعبدِهِ إذا قتَلَه، ولكنَّه يُقتل بعبدِ غيره إذا قتله.
• القول الثَّالث هو قول الجمهور: أنَّ الحرَّ لا يُقتل بالعبد، سواء كانَ عبدًا له، أو عبدًا لغيره.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ [البقرة: 178]، فدلَّ هذا على أنَّ الحرَّ لا يُقتَل بالعبدِ.
والحنفيَّة يقولون: إنَّ هذا استدال بمفهوم المخالفَة، وهم لا يرونَ حُجيَّتَه.
وقوله: «وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ».
الجَدْعُ: هو قطعُ الأنفِ، وذلك أنَّ الأنفَ ينتهي إلى مفصلٍ، فمن قطع الأنف فإننا نثبت في حَقِّه القصاص.
وقوله في الرواية الأخرى: «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ»، فيه إثبات القصاص في قطع الخصية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الـْحَجَّاجِ بنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُمَرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ, وَقَالَ: "وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلاً، وَهَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ", وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ)}.
الحجَّاج بن أرطاة مختلف فيه، وهو مُدلِّس وقد عنعنَ هنا، فحديثه من قبيل الحديث المنقطع حُكمًا.
ثم وقع اختلاف في هذا الخبر، فإنَّه مرَّةً رُويَ عن عمرو بن شعيب مُرسلًا، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عمر، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه عن عمر؛ ولذا حكمَ كثيرٌ من أهل العلم لى هذا الخبر بالاضطراب.
وقوله: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ»، أي: بان يُقتص، فإذا قتل الوالد ولده فإنَّه لا يثبت القصاص حينئذٍ.
وجماهير أهل العلم على هذا الحكم؛ لأنَّ الأب سبب في وجود الولد، فلا يكون الولد سببًا في إعدام أبيه. والقول بعدمِ ثبوت ذلك هو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد.
وقال الإمام مالك: إنَّ الوالد يُقادُ بولدهِ فيما إذا أضجعه، وأخذ السِّكينَ ونحره كما ينحر الشَّاة، فإنَّه يثبت القصاص حينئذٍ، لتمحُّض العمديَّة في ذلك، وأمَّا إذا قتله بغير هذه الطَّريقة فإنَّه لا يُقادُ به كما قال الجمهور.
وكثير من أهل العلم استدل في ذلك أيضًا بآثارٍ واردةٍ عن الصَّحابة بأنَّه لا يُقاد الوالد بولده.
{أحسن الله إليكم..
هل يقصد الإمام مالك هذه الطريقة بعينها، أو العمد بصفة عامَّة؟}.
يقصد هذه الطَّريقة بعينها، إذا أضجعه ونحره؛ وجب القِصَاص، وأمَّا إِذَا قَتَلَه بغير ذلك حتى ولو كانَ عَمْدًا فإنَّه لا قِصَاص فيه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَينَ حَجَرَينِ فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟ فلَانٌ؟ فلَانٌ؟، حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيَّاً فأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: اقْتَـتَـلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيْدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِها، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ أَغْرَمُ منْ لَا شرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنَ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ». مِنْ أَجْلِ سَجَعِهِ الَّذِي سَجَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)
}.
قوله: (أَنَّ جَارِيَةً)، المراد بالجارية: صغيرة السِّنِّ، وفيه دلالة على أنَّه لا يُشترَط التَّساوي في السِّنِّ بينَ القاتل والمقتول لإثبات القصاص، وأنَّ المكلَّف البالغ إذا قتلَ غيرَ البالغ ثبتَ به القصاص.
وفي هذا دلالة على أنَّ القصاص يثبت بينَ الرِّجالِ والنِّساء، وأنَّه متى قتلَ رجلٌ امرأةً ثبتَ القصاص.
قوله: (وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَينَ حَجَرَينِ)، فيه تفتيش صاحب الولاية على مَن وقعت عليهم شيء من الجرائم، والبحث في أسبابها لإلحاق العقوبة بمَن فعل ذلك.
قوله: (فَسَأَلُوهَ)، يعني سألوها قبل وفاتها، وهي في سياق الموت.
قوله: (مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟ فلَانٌ؟ فلَانٌ؟)، بدؤوا يقرِّرونها بقولهم: (فلَانٌ؟ فلَانٌ؟)
قوله: (حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيَّاً فأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَ)، يعني: نعم، وفيه اعتبار الإشارة، وإجراء التَّحقيق لمعرفة مَن هو صاحب الجناية، ولكنَّ كلامها لا يُعَدُّ شهادةً، وإنَّما هو قرينة تُستعمَل من أجل أخذِ الإقرار، ولذا أُخذَ اليهودي فأقرَّ.
قوله: (فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ)، فيه حبسُ المتَّهم متى قامت عليه القرائن.
وقوله: (فَأَقَرَّ)، أي: اعترف بأنَّه هو القاتل. وفيه إثبات القصاص عندما يقتل الكتابيُّ مسلمًا، وفيه أنَّ الإقرار مُعتبرٌ ويُرتَّبُ عليه أحكام القصاص.
وقوله: (فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ)، فيه دلالة على أنَّ القاتل يُقتَل بمثل ما قتل به، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم.
وآخرون رأوا أنَّه يُقتَل القاتل بالسَّيفِ عينًا، ولا يُعدُّ إلى غيره، وقد وردَ في الخبر أنَّه «لا يُقاد إلا بالسَّيفِ»، وفي ذلك أمنٌ من الحيفِ، وفيه راحةٌ للنُّفوسِ، ورهبة لنفوس مَن يُريد الاعتداء على دماء الآخرين.
ثم أورد المؤلف حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (اقْتَـتَـلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ)، أي: حصلت بينهما مخاصَمةٌ ومشاجرةٌ ومدافعةٌ واقتتالٌ.
قال: (فَرَمَتْ إِحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَ)، أي: أنَّها ماتت من ذلك الحجر، وهنا المرأة قصدت الجناية ولكنها استعملت آلة لا تقتل غالبًا، فجمهور أهل العلم يُسمون هذا قتل شبه العمد، ويرونَ أنَّ الدِّيَةَ فيه مُغلَّظَة.
قوله: (فاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني: أولياء المرأتين اختصموا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (فَقَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيْدَةٌ)، أي: غرَّة الجنين عبدٌ أو أمة، ويقولون: إنَّه يُماثل عُشرَ الدِّيَة.
قال: (وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِه)، يعني: أوجبَ على عاقلة المرأة القاتلة دفع الدية لأولياء المرأة المقتولة، وفي هذا دلالة على أنَّ القتل الخطأ يجب على العاقلة أن تتحمَّل الدِّيَة فيه.
والمراد بالعاقلة: قرابة القاتل، وبعضهم يحصره بالذُّكور، وبعضهم يُعمِّمه.
والصَّواب: أنَّ العاقلة خاصَّة بالذُّكور كما في باب الميراث -على ما تقدَّم.
مَن الذي يرثُها؟
قال: (وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ)، يعني: ولد المرأة وقرابتها الذين يرثون.
قوله: (فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ)، يعني: قال على جهة الاستفسار لا على جهة الاعتراض.
قال حملُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ أَغْرَمُ منْ لَا شرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟)، يعني: كيف أدفع دية من لم يصرخ ولم يبكِ عندماخرج من بطنِ أمِّه؟!
قوله: (فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟)، أي: يُهدَر ولا يُوضَع له ديةٌ ولا قيمة.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنَ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ»، يعني: هذا السَّجع من طريقة أهل الكهانة فيما يتكلَّمونَ به.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ غُلَامَاً لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئاً. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مُخَرَّجٌ لَهُمْ فِي الصَّحِيْحِ)}.
هذا الحديث قد تكلَّمَ فيه كثيرٌ من أهل العلم، حيثُ تفرَّدَ به معاذ بن هشام، ومثله يغلَط ويقع منه أخطاء، ولذلك فإنَّ بعض أهل العلم ضعَّفَ هذا الخبر، وقال بعضهم بتحسينه.
قوله هنا: (أَنَّ غُلَامَاً لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ)، قد يُراد بالغلام الصَّغير، وقد يُراد به المملوك.
قوله: (قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئ)، ظاهره أنَّ هذا القطع لم يكن على جهةِ العمدِ، وإنَّما كان على جهةِ الخطأ، وإنَّما لم يجعل لهم شيئًا ظاهره أنَّه أنَّه قد وداه من عند نفسِهِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَقِدْنِي، فقالَ: «حَتَّى تَبْرَ»، ثمَّ جَاءَ إِلَيهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ. ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي عَرَجْتُ, فَقَالَ: «قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ»، ثمَّ نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمدُ عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: "وَذَكَرَ عَمْرو"، فَكَأَنَّهُ لمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بنِ حِمْرَانَ، وَهُوَ صَالحُ الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ جريجٍ، عَنْ عَمْرٍو)}.
قوله هنا: (قال: "وَذَكَرَ عَمْرو")، يعني: أنَّ ابن إسحاق لم يروِ هذا الخبر متَّصلًا، وإنما قال ابن إسحاق: (ذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده...) وساقَ الحديث، ولذلك رأى كثير من أهل العلم أن الخبر منقطع، وابن إسحاق مدلِّس ولم يُصرِّح فيه بالسَّماع.
قوله: (أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَقِدْنِي، فقالَ: «حَتَّى تَبْرَ»)، فيه أنَّ القصاص فيما دون النَّفس لا يستوفى حتى يبرأ الجرح، خشية من أن يسريَ الجُرح فيأخذ أكثر ممَّا حصلت الجناية عليه.
قوله: (ثمَّ جَاءَ إِلَيهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ)، يعني طلب من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القصاص ضدّ هذا الشَّخص الذي جنى عليه، فأقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القصاص على صاحبه.
ثم بعد مُدَّةٍ جاء صاحب الدَّم إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: (يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي عَرَجْتُ)، يعني: أنَّ الجناية تجاوزت مكانها، ولم تقف عند مكانها الأوَّل.
فنقول: إذا سرَت الجناية فهل يكون القصاص حتى فيما سرَت إليه الجناية؟
ننظر:
• إن كان قد استُوفيَ القصاص قبل ذلك فإنَّنا لا نلتفت إلى سراية الجُرح.
• وأمَّا إذا كان لم يُتقص منه: فإنه حينئذٍ يكون جرحًا واحدًا.
• وفي هذا الحديث:
• ينبغي للإنسان أن يستشير أهل العقل والفضل.
• وأنَّه لا يجوز أن يُقتصُّ من شخصٍ في جرحٍ حتى يبرأ صاحبه ويتيقَّن من حاله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ الرُّبَيِّعَ، عَمَّتَهُ، كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلبُوا إِلَيْهَا الْعَفوَ فَأَبَوا، فَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا، فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبَوا إِلَّا الْقِصَاصَ, فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقِصاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ, لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ» فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
في هذا الحديث أنَّ الأسنان يثبت فيها القصاص، وفيه أنَّه يُقتصُّ للصغير من الكبير، فهذه الجارية صغيرة السِّن، ومع ذلك لمَّا جَنَت عليها الرُّبيع وهي كبيرة السِّن؛ ثبتَ القصاص بذلك.
قال: (فَطَلبُوا إِلَيْهَا الْعَفوَ فَأَبَو)، يعني: طلبوا إلى الجارية وإلى أوليائها العفو فَرفضوا.
قوله: (فَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْ)، أي: عرضوا قيمَة النَّقص الحاصل عليها، فرفضوا ذلك، وأبوا إلى القصاص.
قوله: (فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقِصاصِ)، فيه إثبات مشروعيَّة القصاص في الأسنان.
قوله: (فَقَالَ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ), الثَّنيَّة: الأسنان التي تكونُ في زاوية الفم، وفيه دلالة على أنَّ القصاص في الأسنان إنَّما يكونُ بأخذِ سنٍّ يُماثل السِّن الذي حصلَت عليه الجناية.
قوله: (لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَ), فيه الحلف بالله -جلَّ وعَلا- وفيه أنَّ الاعتراض على الأحكام الشَّرعيَّة لا يُلتفت إليه، ولو كان من تأسيسٍ شرعيٍّ أو علةٍ وشُبهةٍ شرعيَّة.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ»، أي: هذا أمرٌ نافذٌ، وأمرٌ حتميٌّ، وبالتَّالي لا تدخل فيه شَفَاعات، ولا يدخل فيه شيءٌ ممَّا يُراد به إبطال القِصَاص.
قوله: (فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَو)؛ لأنَّ القصاص يسقط بالعفو ويسقط بأخذ ديته، وفيه جواز العفو.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ»، أي: يوجد من عباد الله.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»، ذلك أنَّ أنس بن مالك أقسَم لمَّا قال: (لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَ).
ولا ينبغي للإنسان أن يُقسِمَ على الله -جلَّ وعَلا- لأنَّه قد لا يُستجاب له، وبالتَّالي تجب عليه ديةٌ وكفَّارة.
وهذا خلاصَة ما في هذا الباب من أحكام.
بارك الله فيك، ووفقكَ الله للخير، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك