{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم
معالي الشيخ}.
الله يبارك فيك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ
وَعَلَا- أن يرزقنا وإيّاهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونية خالصة، كما نسأله
-جلَّ وَعَلَا- أن يمدنا بعونه بمددٍ منه.
{نبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من "باب الوليمة" من كتاب "المحرر" لابن عبد
الهادي.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ الوَلِيمَةِ
عَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ
قَالَ: «مَا هَذَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى
وَزْنِ نَواةٍ مِنْ ذَهَب، قَالَ: «فَبَاركَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَو بِشَاةٍ».
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الوَلِيمَةِ).
الوليمة: ما يُصنَع عند الزَّواج من الأطعمة.
والوليمة سنَّةٌ نبويَّةٌ كريمةٌ، ولكنَّ السُّنَّة ألَّا يحصل فيها إسراف وزيادة
عن الحاجة.
وقد أورد المؤلف في هذا الباب حديث أنس بن مالك: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ)،
هذه الصُّفرة: نوع من أنواع الطِّيب التي يتطيَّبون بها، وفيه جواز استعمال الطيب،
وجواز استعمال الطيب الذي يكون له لونٌ مُؤثِّرٌ على الثياب
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعبد الرحمن: «مَا هَذَا؟»، يعني:
ما هذه الصفرة، ولماذا فعلتَ ذلك؟
قَالَ عبد الرحمن بن عوف: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً)،
فبيَّن له سبب وجود هذا الأثر.
قال: (عَلَى وَزْنِ نَواةٍ مِنْ ذَهَبٍ)، فيه جواز جعل المهر مِن الذهب، وفيه
استحباب التَّخفيف في المهور.
فقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَبَاركَ اللهُ لَكَ»، فيه
ُّالدُّعاء للمتزوِّج، وأنَّ الأولى أن يُدعَى له بالبركة من الله -جلَّ وَعَلَا.
وفيه أنَّ الأصل في البركة: النَّماء والزِّيادة أن تكون من عند الله -جلَّ
وَعَلَا.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلِمْ وَلَو بِشَاةٍ»، "أَوْلِم" فعل
أمر، وفيه مشروعية وضع الوليمة في الزَّواج.
والجمهور: على أنَّ الوليمة مُستحبَّة وليست على الوجوب، وقالوا: إنَّ الأمر هنا
جاء بعد النُّصوص الواردة بمنع إسراف الإنسان، وبمنع الإنسان من التَّصرف في مَاله،
ولذا جاء فيها: "أولم" ليكون أمرًا بعد النَّهي فلا يدلُّ على الإيجاب.
قوله: «وَلَو بِشَاةٍ»، فيه استحباب أن تكون الوليمة بهذا المقدار.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى
وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ: «إِذَا دَعَا
أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا
مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا, وَمَنْ لَمْ يُجِبِ
الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ».
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا
دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ
مُفْطِرًا فَلْيَطْعَم».
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ
شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ». أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَامُ أوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ الْيَوْمِ
الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ
اللهُ بِهِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا
منْ حَدِيثِ زِيَادِ بنِ عبدِ اللهِ، وَهُوَ كثيرُ الغَرَائِبِ وَالمناكِيْرِ"
كَذَا قَالَ، وزِيَادٌ رَوَى لَهُ البُخَارِيُّ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ
وَمُسْلِمٌ)}.
أورد المؤلف عددًا من الأحاديث المتعلقة بإجابة الدَّعوة.
تقدم معنا أنَّ الوليمة: هي ما يوضع من الطَّعام في الزَّواج.
وجمهور أهل العلم على أنَّ إجابة دعوة الوليمة واجبة.
وبعضهم قال: ليست بواجبة؛ لأنَّ الأصل إقامة الوليمة سنَّة، فتكون إجابتها كذلك.
والجمهور يقولون: قد يكون ابتداء الشيء مُستحبًّا ويكون نهايته على الوجوب، مثلًا:
إلقاء السلام مُستحب، وردُّه واجبٌ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ
إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَ»، فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، فالأصل أن يكون
مُفيدًا للوجوب.
قال: (وَلِمُسْلِمٍ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ
أَوْ نَحْوَهُ»)، وظاهر هذا إيجاب استجابة الدَّعوة لأي مُناسبةٍ فيها طعام،
والجمهور يخصون الوجوب بإجابة دعوة وليمة الزواج.
ثم روى من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث صحيح الإسناد،
وأخرجه الإمام مسلم، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَ»، يعني إذا
جاء لها أفراد الناس منعوهم.
قال: «وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَ»، أي: يمتنع من الحضور إليها.
قال: «وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ»، هذا هو
الشَّاهد، وفيه دلالة على وجوب إجابة الدعوة؛ لأنَّ من لم يُجب الدعوة فقد عصى الله
ورسوله.
وكذلك ورد عن أبي هريرة أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ»، ظاهر اللفظ الإطلاق، أي: دعوة،
ولكن جاءنا في الحديث الثَّاني تقييده بدعوة الزواج، ولذا رأى كثير من أهل العلم
أنَّ المطلق هنا يُقيَّد بما في الخبر الآخر.
قال: «فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ»، قيل: إنَّ المراد بهذا الدُّعاء، أي:
يدعو لهم؛ لأنَّ الصلاة في اللغة هي الدعاء.
قال: «وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَم»، أي: ليأكل.
وهذا الحديث أيضًا في صحيح الإمام مسلم.
وجاء أيضًا في صحيح مسلم من حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم إِلَى طَعَامٍ
فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ».
قوله: «فليُجِبْ»، ظاهره وجوب إجابة الدَّعوة، وإجابة الدَّعوة تكون بالحضور ولو لم
يحصل هناك أكل.
وجوب إجابة الدعوة لها شروط:
الشَّرطُ الأول: أَلَّا يكون هناك مُنكر، فإذا كان فيه مُنكر فلا يجوز الذهاب إليه
إلا إذا كان سيُنكره.
الشَّرطُ الثاني: أن تكون الدعوة مُوجَّهةً إلى الشخص بخصوصه، أمَّا دعوة الجَفَلَى
والنَّاس بالعموم كأن يقوم في المسجد ويقول: أنتم مَدعوُّن لوليمة؛ فحينئذٍ نقول:
لا يجب إجابة هذه الدَّعوة.
الشَّرطُ الثَّالِثُ: أن تكون الدَّعوة لأول يومٍ، أمَّا الدعوات الأخرى فهذه ليس
بواجبٍ إجابتُهَا لحديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «طَعَامُ أوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ»، يعني: أول
يومٍ في دعوات الزَّواج، وبالتالي تلزم إجابته.
قال: «وَطَعَامُ الْيَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ»، أي: طريقة متَّبعة لا إشكال فيها،
وبالتَّالي يُستحب إجابة الدَّعوة حينئذٍ.
قوله: «وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ»، أي: تفاخرًا، وبالتَّالي لا يُجاب
له، ولذا قال: «وَمَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ».
هناك اختلاف في الحديث هذا من جهةِ صحَّةِ الحديث، والجماهير على أنَّ هذا الحديث
ضعيف، قالوا: إنَّ من رواة هذا الخبر زياد بن عبد الله البكائي، ولأهل العلم كلام
في زيد، كذلك هو قد رواه عن عطاء بن السَّائب، عطاء اختلط آخر عمره، وزياد روى عنه
بعد اختلاطه، ولذلك تكلموا في هذا الخبر.
هل المراد أن تكون الدعوة لنفس الأشخاص في الأيام المختلفة أو لا؟
مثلًا: في وليمة الزَّواج قد يجعل الإنسان ثلاث أو أربع ولائم، إحداها لقرابته،
والثَّانية لجيرانه في يومٍ آخر، والثَّالثة لزملائه في العمل، والرَّابع لمن
صاحبهم أو كانت بينه وبينهم أي علاقة؛ فليست لنفس الأشخاص؛ فاختلف العلماء حينئذٍ،
هل كل واحدة لها حكمٌ مختص، وبالتَّالي كأنَّ كل واحدة من الولائم لليوم الأول؟ أو
نقول: إنها متعلقة بزواجٍ واحد، وبالتَّالي فيُحكَم عليها بما في هذا الخبر؟
الجماهير يُرجِّحون الثاني؛ لأنَّ مقصود الشَّارع ألا يكون هناك إسراف، وألَّا يكون
هُناك سُمعة ورغبة في الرياء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا يُبَاحُ مِنَ
الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ وَمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَذِكْرِ الْقَسْمِ وَالنُّشُوزِ.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ
مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ
تُقِيْمَهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا
بِالنِّسَاءِ خَيْرً». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَفِي
لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيْمَ
لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، إِسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا
عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُها كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَ»)}.
قول المؤلف: (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ)، أي: ما هي الأخلاق والأحكام والآداب
المتعلقة بحق الزَّوجة على زوجها.
قوله: (وَمَا يُبَاحُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ)، أي: ما هو المقدار سواء في
وقت الطُّهر أو وقت الحيض.
قوله: (وَمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ)، أي: ما هي حدود الزينة المباحة.
قوله: (وَذِكْرِ الْقَسْمِ)، أي: عندما يكون عند الرجل أكثر من زوجة، فكيف يقسم بين
زوجاته.
قوله: (وَالنُّشُوزِ)، يعني: ترك المرأة لبيت الزوجية بدون إذن الزَّوج. وأصل
النُّشوز: عصيان المرأة لزوجها.
أورد المؤلف في هذا الباب حديث أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ».
الإيمان بالله يُحرِّك العبد إلى طاعته؛ لأنه يُؤمن بقوَّته وبقدرته وباطلاعه
-سبحانه وتعالى- وبالتالي يكون خائفًا وجلًا من الله، راجيًا لفضله.
وأمَّا الإيمان باليوم الآخر فهو أيضًا مُهم؛ لأنه يدفع النَّاس لإيفاء الحقوق
لأصحابها، وإعطاء كل ذي حق حقه.
فقال: «فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ»، فيه حق الجار وعظم منزلته.
قال: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرً»، طلب منهم أن يطلبوا الوصية من غيرهم
بالنساء، بحيث يقومون بحقوقهنَّ، وفيه بيان حق المرأة على الزوج.
ثم قال: «فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ»، الضِّلَع: عظام الصدر، وذلك أنَّ هذه
العظام مائلة إلى منتهاها وأصلها، فإنها في الأصل تميل ميلانًا كبيرًا، وبالتالي
يقول: إنَّ المرأة خُلقت من هذه العظام من آدم -عليه السلام- وبالتالي لابد أن
تراعي ما فيها من إعوجاج.
قال: «وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ»، المراد بأعلاه: ما يكون
مُرتبطًا بالعمود الفقري.
قال: «فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمَهُ»، أي: إذا أردتَّ أن تصلبه وتجعله على استقامة
«كَسَرْتَهُ»؛ لأنه ما يُمكن أن يستقيم.
قال: «وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ»، فهكذا النِّساء، إن استمعت بها
وتمكَّنت من حسنِ عشرةٍ معها على ما هي عليه؛ فحينئذٍ ستستمتع بها، وأمَّا إن
أردتَّ أن تكون معك مائة بالمائة، وأن تقوم بما تطلبه مائة بالمائة؛ فحينئذٍ لن
تستقيم الحياة بينكما.
قال في لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ
تَسْتَقِيْمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، إِسْتَمْتَعْتَ
بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُها كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا
طَلَاقُهَ».
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا
المدِينَةَ، ذَهَبْنَا لنَدْخُلَ، فَقَالَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا
-أَيْ عِشَاءً؛ كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ المُغِيْبَةُ». مُتَّفق
عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَلِلْبُخَارِيِّ: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ
الغَيْبَةَ، فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلً»)}.
قول جابر هنا: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
غَزَاةٍ)، فيه ذهاب الناس مع إمامهم.
قال: (فَلَمَّا قَدِمْنَا المدِينَةَ)، يعني: رجعنا.
قال: (ذَهَبْنَا لنَدْخُلَ)، يعني: ندخل المدينة ونذهب إلى بيوتنا وعند زوجاتنا.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلً»،
أي: لا تستعجلوا في الدُّخول، فهم قدموا في النَّهار، فأراد أن يكون هناك وقت بحيث
يعلم النَّاس بقدومهم، وبالتَّالي يستعدون لهذا القدوم، فقال نبقى حتى الليل -أي
عشاءً.
قال: «كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ»، الشعثة: التي في شعرها شعثٌ وعدم استقامة،
فتقوم بتسريح الشَّعر.
قال: «وَتَسْتَحِدَّ المُغِيْبَةُ»، تستحدّ: أي: تحلق الشَّعر الزَّائد الذي لا
يُراد من شعر عانةٍ ونحوه.
وقوله «المغيبة»؛ لأنَّ المرأة إذا غَابَ زَوجُها فإنها قد تترك هذه الأمور لعدم
وجود الزَّوج.
وفي الحديث ترغيب النِّساء أن تستعد الواحدة منهنَّ لزوجها، وأن تُهيِّئ نفسها
لزوجها بالتَّجمُّل كما تُهيِّئُه بالتحبُّبِ في أخلاقها.
قوله في الحديث الآخر للبخاري: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الغَيْبَةَ»، أي: الأسفار
ونحوه.
قال: «فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلً»، أي: لا يدخل عليهم في الليل، حتى لا يدخل
عليهم وهم غير مُستعدين له، فقد يرى مِن المرأة شيئًا لا يتناسب مع الحال الكاملة،
وبالتَّالي يُؤدي إلى النُّفرةِ منها.
وَفَهِمَ بعض النَّاس أن هذا يكون عند النِّساء شيءٌ من الأخلاق غير المرغوب فيها؛
وهذا فهمٌ خاطئ!
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ
النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى
الْمَرْأَةِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
قوله هنا: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ»، فيه تفاوت الناس في منازلهم في ذلك اليوم، وفيه أنَّ الإنسان ينبغي
به أن يجعل الآخرة بين عينيه قبل أن يُقدم على أي فعلٍ.
قوله: «الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى الْمَرْأَةِ»، أي: يصل إلى خصائصها، سواء بالجماع
أو بغيره.
قوله: «وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَ»، يعني: يجد عندها أشياءً
داخليَّة خاصَّة لا يُطَّلع عليها فيقوم بنشر هذا السِّر، وفي هذا وجوب ستر الأسرار
وتحريم إذاعتها، وفيه أيضًا أنَّ كلًّا من الرجل والمرأة ينبغي لهما ألا يُظهر كل
منهما عيوبَ صاحبه، فلا يجوز للرجل أن يُظهر عيوب امراته، ولا يجوز للمرأة أن تُظهر
عيوب زوجها حتى ولو حصل بينهما خصومةٍ أو نزاعٍ، أو حتى ولو كان بينهما طلاق؛ وإنما
يذكر الإنسان منها الخير، وتذكر منه الخير، قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ
اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمً﴾ [النساء: 130].
وهكذا ينبغي أن يكون شأن أهل الإسلام فيما بينهم، يحفظ كل منهم مكانة الآخر، حتى
ولو رأى منهم أشياء غير محمودة فلا ينقلها ولا يتكلم بها، وإنما يكتفي بذكر الأشياء
الحَسنة والأمور الفاضلة.
{قال: (وَعَنْ حَكِيْمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللهِ مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تُطْعِمُهَا إِذَا
أَكَلْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلَا
تُقَبِّح، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا
لَفْظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه)}.
الأصل في لفظة "الزوج" أن تطلق على الرجل والمرأة، ولذلك عند ذكر حواء في الآيات
القرآنية يقول: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾
[البقرة: 35].
قال مُعَاوِيَةَ: (يَا رَسُولَ اللهِ مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟)، يعني:
ما حق المرأة التي تزوَّج عليها أحدنا.
فقَالَ: «تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ»، وفي هذا وجوب النَّفقة في الطَّعام بشرط أن
يكون قادرًا.
قال: (وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ)، فيه وجوب الكسوة.
وفيه إشارة إلى أنَّ الكسوة بحسب أعراف النَّاس، وبحسب قدرتهم، وقد استدل بعض
العلماء على أنَّ النَّفقة تكون على مِقدار قُدرة الزَّوجِ، وهذا أحد أقوال أهل
العلم.
والصواب: أنه لابدَّ من مُراعاة حال الزَّوج وحال الزَّوجة، وسيأتي -إن شاء الله-
تفصيله في باب النَّفقات.
قال: «وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ»، فيه المنع من ضرب الوجه، وذلك أنَّ الوجه مجامع
الحسُن، وتظهر فيه آثار الضرب، وأدنى شيء يُؤثر عليه، ولذلك أكَّدَ على المنع من
ضربه.
قال: «وَلَا تُقَبِّح»، أي: لا تصفها بالقبح، ولا تدعو عليها بالقُبح، فلا يقول:
قبح الله وجهكِ ونحو ذلك.
قال: «وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ»، أي: لا تفارق المرأة إلا في البيت،
والمراد بالبيت: المضطجع الذي ينامون فيه، وبالتالي لا يتحول الزوج عنها ولا تتحول
هي عنه.
{قال: (وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، قَالَتْ:
حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُنَاسٍ، وَهُوَ
يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ
وَفَارِسٍ فَإِذَا هُمْ يُغِيْلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ
ذَلِكَ شَيْئً» ثمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الوَأْدُ الْخَفِيُّ، وَهُوَ: ﴿وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ [التكوير: 8]». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَجُدَامَةَ
بِمُهْمَلَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ)}.
قوله هنا (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ)، أي: ما هي الطريقة المناسبة في التعامل مع
النِّساء؟ وما هو الواجب الشَّرعي في هذا الباب؟ ويدخل فيه معاملتهم في الفِراش
وغيره.
قوله: (عَنْ جُدَامَةَ)، بعضهم روى (جُذامَةَ)، وقد أشار المؤلف إلى أنَّ الصَّواب
أنها بالمهملة يعني: أنَّ الدال ليس عليها نقط.
قالت: (حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُنَاسٍ)،
يعني: مجموعة من الخلق.
وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ»، الغيلة: أن
يُجامع الرجل زوجته وهي في وقت الرَّضاع، فكانوا يعتقدون أنَّ المرأة إذا أتت بولدٍ
ثم أتت بولد بعده في وقت إرضاعها للولد الأول فيؤثر هذا على المرأة، ويؤثر على
الجنين الذي سيأتي، لكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسٍ فَإِذَا
هُمْ يُغِيْلُونَ أَوْلَادَهُمْ»، أي: يُجامعون زوجاتهم في وقت الرَّضاع فيحملن في
ذلك الوقت.
قال: «فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئً»، أي: يأتون بهم أصحاء على حالٍ
جميلة.
وفي هذا دلالة على جواز جماع المرضع، وعلى جواز أن تحمل المرضع، وعلى جواز الانتفاع
بما لدى الأمم الأخرى، وفيه أنَّ بناء أمور الحياة على التجارب وتكرار الأمور
ونحوها.
قالت: (ثمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ)، العزل: أن ينزع الرجل ذكره عن المرأة عند
قرب الإنزال، من أجل أَلَّا يُنزل في فرجها رغبةً في عدم وجود الولد منها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الوَأْدُ
الْخَفِيُّ»؛ لأنه بمثابة قتل الأولاد.
قال: (وَهُوَ: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ [التكوير: 8])، أي: تُسأل يوم
القيامة.
وظاهر هذا أنَّه منعٌ عن العزل، وقد جاء في حديثٍ آخرٍ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا سُئِل عَن العَزل قال: «لو أراد أن يخلق الله منه شيئًا
خلقه»، وفي لفظٍ: «ما استطعت أن تضره».
وجاء في الحديث الآخر عن جابر: (كنَّا نعزل والقُرآنُ يَنزل، فلا نُنْهَى عن ذلك).
ولذلك رأى الجماهير أنَّ العَزل ليس مَنهيًّا عنه، خُصوصًا إذا كان هناك حاجة، ومثل
هذا ما قد يحدث في أزمنتنا من أشياء تقوم بمنع وصولِ ماء الزوج إلى زوجته.
{قال المؤلف: (عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنَّ لي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنا
أَكْرَهُ أَنْ تَحمِلَ، وَأَنا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ
تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ مَوْؤُدَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ, لَوْ
أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ
وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ, وَفِي إِسْنَادِه اخْتِلَافٌ)}.
هذا الحديث من رواية أبي مطيع بن رفاعة، وأبو مطيع هذا مجهول، قال عنه الذهبي: "لا
يُعرَف"، ولذلك ضعفه كثير من أهل العلم.
وهناك مَن رواه عن أبي رفاعةَ عن أبي سعيد، والذي يظهر أنَّ أبا رفاعة هو أبو مطيع
الذي ذكرناه، لأنه من بني رفاعة بن الحارث.
وفي بعض الألفاظ قال: (عنْ رِفاعة)، وفي بعض الألفاظ ورد عن ابن ثوبان عن جابر،
ولكن هذه الروايات لا يصح أن نقابل بها الروايات الأولى، ولذلك تكلَّم أهل العلم في
هذا الخبر.
قوله: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَ)، أي: لا
أنزل في فرجها عند الجماع.
قال: (وَأَنا أَكْرَهُ أَنْ تَحمِلَ، وَأَنا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ)، أي:
من الجماع. قال: (وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ مَوْؤُدَةُ
الصُّغْرَى، قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا
اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ»).
{قال: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ. مُتَّفَقٌ
عَلِيْهِ، ولمسلمٍ : كُنَّا نَعْزِلُ على عَهْدِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَبلغَ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلمْ
يَنْهَنَ)}.
هذا الحديث من أدلة مَن يُجيز العزل، ويرى أنه ليس بممنوع منه، وهذا من أنواع
السُّنَّة الإقراريَّة، فأقرَّهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم
يُنكر عليهم.
وبعض أهل العلم يقول: هذا من إقرار الله للناس في زمن النُّبوَّة لقوله:
(وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ).
وبعضهم يقول: بل هو إقرار صريح لقوله في اللفظ الآخر: (فَبلغَ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلمْ يَنْهَنَ).
{قال: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذا
أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ
أَحْوَلَ، فَنزلتْ: ﴿نِسَائُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوْا حَرْثكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ﴾ [البقرة:223]، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ، وَلَهُ : إِنْ
شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي
صِمَامٍ وَاحِدٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى رَجُلٍ
أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَأَبُو يَعْلى وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ،
وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفً)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، يعني: عن جابر.
قَالَ: (كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ
دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ)، هذا جماع في القُبُل، ولكنه
يأتيه من طرف الدبر، وكانت اليهود تنهى عن ذلك، وترى أنه من أسباب وجود الحَوَل عند
الولد.
قال: (فَنزلتْ: ﴿نِسَائُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوْا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾
[البقرة:223])، يعني: إن أراد مُقبلة أو أراد مُدبرة، بشرط أن يكون في صمَّامٍ
واحدٍ، وهو الفرجُ والقُبُل.
قال: (وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ، وَلَهُ: إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً)، يعني: مُنكبَّة على
وَجهها.
قال: (وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ)،
المراد به: القُبُل.
ثم أورد المؤلف من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- حديثًا قد وقع
الاختلاف فيه، فرواه بعضهم مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينما
رواه آخرون مَوقوفًا على ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ»، يعني: نظر تقديرٍ ونظرَ خيرٍ ورحمةٍ.
قال: «إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَ»، في هذا تحريم وطء
المرأة في دبرها، والتَّشديد في مثل ذلك.
{قال: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ،
اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا،
فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ
أَبَدً»)}.
هذا الحديث متفقٌ عليه.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ»، يعني: يُجامع زوجته.
قال: «قَالَ: بِسْمِ اللهِ»، أي: أتوكَّلُ عليه وأعتمدُ عليه.
قوله: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ»، أي: أبعد عدونا الشَّيطان عنَّا.
قوله: «وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَ»، أي: أبعد الشَّيطان عن ما رزقتنا
من الأولاد.
قوله: «فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ
شَيْطَانٌ أَبَدً»، ليس معنى هذا أنَّه لا يوسوس الشيطان له، أو أنَّه لا يستجيب
للشَّيطان، لكن لن يضره ضررًا مستمرًا، قد يستجيب للشيطان ولكن يُوفَّق للتوبة بعدَ
ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا
تَزَوَّجْتُ قَالَ لي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَتَّخَذْتَ أَنْمَاطًا؟» قُلْتُ: وأنَّى لَنا أَنْـمَاطٌ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهَا
سَتَكُونُ»، قَالَ جَابِرٌ: وَعِنْدَ امْرَأَتِي نَـمَطٌ، فَأَنَا أَقُولُ:
نَـحِّيْهِ عَنِّـي, وَتَقُولُ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : «إِنَّهَا سَتَكُونُ»، وَفِي لفظٍ: «فَأَدَعُهَ». مُتَّفقٌ
عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
جابر بن عبد الله تزوَّج بعدَ يومِ أُحد لَمَّا مات أبوه عبد الله، وكان عنده عدد
من الأخوات، فتزوج بامرأة من أجل أن تقوم بأخواته.
فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَّخَذْتَ أَنْمَاطًا؟»،
الأنماط: بُسُط أو نمارق.
قال: (قُلْتُ: وأنَّى لَنا أَنْـمَاطٌ؟)، أي: من أين نأتي بأنماطٍ ونحن على فقرنا!
قَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهَا سَتَكُونُ»، أي:
ستكون لديك أنماط.
قَالَ جَابِرٌ: (وَعِنْدَ امْرَأَتِي نَـمَطٌ)، يعني: الآن اتَّخذنا أنماطًا.
قوله: (فَأَنَا أَقُولُ: نَـحِّيْهِ عَنِّـي)، أي: أنا لستُ مُعتادًا عليه، فأبعديه
عنَّا في ذهابي وإيابي.
فتَقُولُ الزوجة: (قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
«إِنَّهَا سَتَكُونُ»)، أي: هذا إقرار مِنَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لهذه الأنماط.
قوله: (وَفِي لفظٍ: «فَأَدَعُهَ»)، أي: أتركها من أجل ترك جابر لها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وعَنِ ابنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبيَّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَعَنَ الوَاصِلةَ وَالـمُسْتَوصِلَةَ
والواشِمةَ والـمُسْتَوشِمَةَ. مُتَّفَقٌ عَليهِ)}.
قوله: (لَعَنَ)، يعني: أبعد الله عن رحمته، وهذا دليل على أنَّ هذه الأفعال من
الكبائر.
قال: (لَعَنَ الوَاصِلةَ)، الواصلة: هي التي تقوم بإتيان شعر وتقوم بربطه بشعرها،
لما في ذلك من الغش والتَّدليس، ويُمكن أن يكون له آثاره.
قال: (وَالـمُسْتَوصِلَةَ)، هي التي تطلب أن يُوصَل الشَّعر.
قوله: (والواشِمةَ)، هي مَن تأتي بإبرةٍ وتقوم بغرزها في الجلد من أجلِ أن يسودَّ
المكان، فيكون هناك وشمٌ، ومرَّات قد يُشكِّلونَ منه أشكالًا ونحو ذلك، وقد يضعون
فيه كحلٌ أو نيل؛ فيكون لونه أسود أو أزرق أو أخضر.
قوله: (والـمُسْتَوشِمَةَ)، هي التي تطلب ذلك.
ففي الحديث: تحريم الوصل والوشم، وأنَّ ذلك من الكبائر، وأنه يُمنَع منه الرِّجال
والنِّساء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ فيَعْدِلُ وَيَقُولُ:
«اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ»
يَعْنِي الْقَلْبَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ, لَكِنْ قَدْ رُوِيَ
مُرْسَلًا، وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ)}.
هذا الحديث اختلف الرُّواة فيه، فبعضهم لم يذكر فيه الصَّحابي، وبعضهم ذكر فيه اسم
الصحابي؛ فيكون حينئذٍ قد اختُلف في وصله وإرساله.
والأصوب أنه مُرسل، وليس ثابتًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وبالتَّالي فصواب الرواية أنه من حديث أبي أيوب عن أبي قلابة مرسلًا.
قوله هنا: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ)،
يعني: بين زوجاته، وفيه مشروعيَّة القسم بين الزَّوجات، ووجوب العدل في ذلك.
قوله: (فيَعْدِلُ)، أي: في القسم.
ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ»، أي: في توزيع نوبات النَّهار
فيما بينهنَّ.
قوله: «فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي الْقَلْبَ وما فيه، وفيه
دلالة على أنَّ ما يكون في القلوب لا يؤاخَذ به العبد، وأنَّه لا يلزم الزوج أن
يعدل بين زوجاته في المحبَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بنِ
أَنَسٍ، عَنْ بَشيرِ بنِ نَهيكٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ
امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهِ
مَائِلٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَابْنُ مَاجَه
وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَسْنَدَ هَذَا الحَدِيثَ
همَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتوَائيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
كَانَ يُقَالُ)}.
قوله: (قَالَ: كَانَ يُقَالُ)، أي: لم ينسبه للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
إذن أشار المؤلف إلى الاختلاف في الحديث، فبعضهم يقول إنَّه صحيح الإسناد، وكل
رجاله ثقات.
وبعضهم يقول: فيه خطأ، والصَّواب أنَّه من أخبار بني إسرائيل، فقتادة كان يقول فيه:
(كَانَ يُقَالُ).
قوله: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ»، يعني: زوجتان.
قوله: «فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَ»، أي: فيما يجب التَّسوية فيه بينهما.
قوله: «جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهِ مَائِلٌ»، لكونه لم يعدل بين هؤلاء
النِّساء، مع أنَّ العدلَ بينهم واجب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ
أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ [عَلَى
الْبِكْرِ]، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمُّ قَسَمَ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ:
وَلَو شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
إذا قال الصحابي (مِنَ السُّنَّةِ)، فيُنسَبُ الحديث للنَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمراد بها: الطريقة التي سار عليها النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا
سَبْعًا وَقَسَمَ)، أي: أقام عند البكر سبعة أيَّام، ثم بعد ذلك يقسم على الزوجات،
سواء جعل لكل زوجةٍ ليلة ليلة، أو جعل لكل زوجة ليلتنا متتاليتان.
بينما إذا تزوج الثيب قعد عندها ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك يقسمُ بين زوجاته.
{قال: (وَعَنْ أبي بَكرِ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تَزَوَّجَ
أُمَّ سَلَمَةَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِكَ عَلَى
أَهْلِكَ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكَ سَبَّعْتُ
لِنِسَائِي». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
لَمَّا تزوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم سلمة كانت ثيِّبًا، فأقام
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندها ثلاثة أيَّام، ثم قال: «إِنَّهُ
لَيْسَ بِكَ عَلَى أَهْلِكَ هَوَانٌ»، أي: نقصان منزلة.
قال: «إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكَ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي»،
في هذا تخيير الزوج لزوجته عنده زواجه بثيِّبٍ أن يجلس عندها ثلاثة أيَّام ثمَّ
يدور، أو يُسبِّع لها كالبكر، ولكن يلزم من ذلك أن يُسبِّع عند غيرها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ سَوْدَةَ
بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ لعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ)}.
في هذا الحديث:
جواز أن تهب الزَّوجة ليلتها لزوجها ليجعلها عند مَن شاء من النِّساء.
وفيه جواز أن تهب المرأة ليلتها لزوجة أخرى بعينها، كأن يكون عنده أربع نسوة؛
فتقول الكبيرة: أنا ما عندي قدرة على القيام بحقك، وأَهب يوم للزَّوجة الثَّانية
فلانة؛ فحينئذٍ يجوز له أن يختار ذلك، ويجوز له أن يمتنع من الذَّهاب إلى الزَّوجة
الأخرى ويقول لها: يلزمكِ أن تقومي بحقي.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ:
«أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ
لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ
عِنْدَهَا, قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِي اليَوْمِ الَّذِي يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ
فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ اللهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي،
وخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا ابْنَ
أُخْتِي, كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُفَضِّلُ
بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِندَنَا، وَكَانَ قَلَّ
يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيْعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ
مِنْ غَيرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيْتُ عِنْدهَا.
رَوَاهُ أَحْمدُ، وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ
فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْها الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ». مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَلمسْلمٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا
مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِراشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا، حَتَّى يَرْضَى عَنْهَ»)}.
في هذه الأحاديث:
طريقة ترتيب الليالي بين الزَّوجات.
وفيه أيضًا أنه يجوز للزوج أن يسأل زوجاته أن يُسقطنَ حقَّهنَّ في المبيت لحاجته،
فإذا أسقطنَه سقطَ.
وفيه أن الرجل يجوز له حال المرض أن يبقى عند إحدى نسائه بعد أخذ إذن بقيَّة
النساء.
وفيه فضل عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
وفيه أنَّه يجوز للإنسان أن يمرَّ على جميع نسائه في كل يوم، ولكن لا يحق له أن
يمرَّ على نسائه في ليلة فلانة، ولا يمر عليهن في ليلة الأخرى.
وفيه وجوب أن تستجيب المرأة لطلب زوجها إذا دعاها إلى الفراش، وأنَّه لا يجوز لها
أن تمتنع، وأنَّ الامتناع مِن كبائر الذنوب.
فهذا شيء من الأحكام المتعلقة بهذه الأحاديث، بارك الله فيك، ووفقك الله لكل خير،
ووفق إخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- للجميع هدايةً وصلاحًا،
واستقامةً ورفعةَ شأنٍ، وعزًّا وعلوَّ درجةٍ، كما أسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يُسبغ
علينا جميعًا النِّعَم، وأن يوالي علينا الخيرات، وأن يُوفِّقَ ولاة أمورنا لكلِّ
خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.