السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله على التمام والكمال، والحمد لله يفيض
على عباده من الخيرات والنعم الحسان، أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يتم علينا وعليكم
نعمه، وأن يبلغنا طاعته، وأن يزيدنا من الفضل والهدى، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
بادئ ذي بدئٍ، بعد حمد الله -جلَّ وعلَا- وأصلي وأسلم على نبيه وصفيه من خلفه، وآله
من بعده، وصحبه، وهذا لقاءٌ متجددٌ بكم، في هذه اللقاءات المباركة، وهو ختامها،
وتمامها، وكمالها، أسأل الله أن يكمِّل لنا ولكم الأجور، وأن يتم لنا ولكم الثواب،
وأن يزيدنا وإياكم من العمل والهدى، وأن يجعل ما نقوله حجةً لنا لا علينا، وبُلغةً
لنا عند ربنا، ورفعةً لنا عند لقاء خالقنا، وأن لا يجعل ذلك حسرةً ولا ندامةً، إن
ربنا جوادٌ كريمٌ.
أيها الإخوة الكرام، لم تزل هذه المجالس متكررةً، وكنا في آخر مجلسٍ قد استهللنا،
أو أشرنا إشارةً لطيفةً في أول ما يتعلق بباب المناسخات، في أصل حقيقتها، ولعلنا
-بإذن الله جلَّ وعلَا- أن نذكر، ونكمل ما كنا توقفنا عنده، وتعرفون أن هذا آخر هذه
اللقاءات المباركة، فربما كان القول مقتضبًا، والحديث مجتزأً، لكن لعل في الإشارة
ما يغني عن كثيرٍ من العبارة.
سأجعل صهيب كالعادة يقرأ، لكن بسرعةٍ كبيرةٍ، ويمكن أن نكتفي من ذلك بذكر ما عندنا
بعد ذلك.
{بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لنا ولشيخنا، وللحاضرين
والمشاهدين.
قال المصنف -رحمه الله وإيانا-: باب المناسخات.
إذا لم تُقسم تركة الميت حتى مات بعض ورثته، وكان ورثة الثاني يرثون على حسب
ميراثهم من الأول، قسمت التركة على ورثة الثاني، وأجزأت}.
إذن كما قلت لكم، بأن هذه المناسخات، هي حقيقتها: أن يتتابع الموت بين وارثٍ
ومورثٍ، فبعد ذلك يحصل فيه تداخلٌ، فمن المورث الأول ينتقل المال إلى مورِّثٍ ثانٍ،
فكيف يقسم الفقهاء ذلك، وكيف يبينونه، هذا هو محل بيانه في هذا المقام.
وهو في استهلاله هنا، ذكر ثلاثة أحوالٍ، أو للمناسخات ثلاثة أحوالٍ، ابتدأ بأولها،
وأشار إلى ذلك، وهو أيضًا مقتضبٌ في الكلام فيها، ولم يفض، ولم يطلْ على عادته،
ولأجل أن هذا مختصرٌ، وهو عمدة الفقه.
لكنني لن أنسى ما كنت ذكرته لكم أن هذا الباب باب صعبٌ، وفيه وعورةٌ، وفيه طولٌ،
ولأجل ذلك قلت لكم أنه يُذكر أن الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية، عليه
رحمة الله الواسعة، وجزاه الله جلَّ وعلَا خير ما جزى عالمًا عن أهل بلده، بثَّ
الخير، وأشاع العلم، وأظهر المعروف، ونهى عن المنكر، وأقام القضاء، وكانت له يدٌ
طولى في أبوابٍ عظيمةٍ من العلم والفقه والبذل والأمر والهدى.
يُذكر أنه في ليلةٍ من الليالي، طلب من ابنه الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم
أن يصعد معه إلى السطح في ليلةٍ من الليالي، وكان معه ورقةٌ، فأملى عليه، والشيخ
كفيفٌ، مسألةً من مسائل المناسخات، وفيها أكثر من ستمائة وارثٍ، بعضهم ورث من بعضٍ،
فقال: خُط خطًّا، واكتب: هذا ورثته هؤلاء، ثم خطَّ خطًّا، واكتب أنه توفي الثالث من
هؤلاء الورثة، وكان له ثلاثة ورثةٍ، ثم هكذا، حتى أكمل ستمائة شخصٍ، ثم قسم هذه
المسألة، ينتقل من كل وارثٍ إلى آخر، ومن كل مسألةٍ إلى أخرى، ثم جعل لها جامعةً،
ثم عاد وقسم ما لكل واحدٍ في المسألة الأولى في المسألة الثانية والثالثة والعاشرة،
إلى أن أتم ما لكل واحدٍ من هؤلاء الستمائة وارثٍ في مسألةٍ واحدةٍ، وفي ليلةٍ
واحدةٍ، وهذا من كمال فقههم وعلمهم. وكما قلت: أن الله -جلَّ وعلَا- لفضلهم وعلمهم،
طوَّع لهم العلم، ويسَّره عليهم.
على كل حالٍ، كما قلت لكم: هذه المسائل من الصعوبة بمكان، وهي من أصعب مسائل
الفرائض على ما يعرف أهلها، فلن نستطيع الحقيقة أن نذكرها، ولو وُجدت بعض الأمثلة
هنا، لكن هذه سنجعلها لكم في الموقع، ومن أراد أن يستزيد منها يستزيد، ومن أراد
أيضًا أن ينظر في الكتب التي جعلت بعض الأمثلة فأيضًا سيستفيدها، سيصل إلى المراد،
خاصةً أنهم يقصدون الأمثلة اليسيرة السهلة، فيمكن أن يعرف الإنسان هذا الباب، لكن
لضيق الوقت نحن سنذكره عرضًا.
ذكرنا لكم الحقيقة والحال أنه إذا مات شخصٌ، وقبل أن تُقسم تركته، مات أحد ورثته،
وله ورثةٌ آخرون، فكيف نقسم هذه المسألة؟
العلماء ذكروا أحوالًا ثلاثةً لها: إما أن يكون ورثة الميت الثاني هم ورثة الميت
الأول، لا يختلفون في عددهم، ولا في طريقة إرثهم، فهنا يعتبر كأن الميت الثاني لا
شيء، لا وجود له، وتُقسم المسألة على الباقي من ورثة الميت الأول، ويأخذون المال
الذي تركه هذا وذاك. هذا يعتبر كأن المال واحدٌ، والميت واحدٌ، والورثة هم هم، في
عددهم وفي طريقة إرثهم، فلا يختلف الحكم.
لكن إذا كان ورثة الميت الثاني غير ورثة الميت الأول، يعني على سبيل المثال أنا لن
أقسمها الحقيقة للطول، وسنضيع رءوسكم بدون فائدةٍ، يعني مثلًا لو هلك هالكٌ عن
زوجةٍ، وابنٍ، وبنتٍ، ثم هلكت البنت عن زوجةٍ وبنتٍ، فزوج البنت هل له علاقةٌ
بالميت الأول؟ لا علاقة له بالميت الأول.
فإذن، الحالة الثانية: أن يكون ورثة كل ميتٍ لا علاقة لهم بالميت الآخر، فهنا تجعل
مسألةً للميت الأول، ثم تجعل مسألةً للميت الثاني، ثم تنظر بين سهام الميت الأول،
وأصله مسألته، ثم لها قسمةٌ معروفةٌ، فتأصَّل وتُجعل جامعةً، ثم تقسَّم السهام
عليه.
الحالة الثالثة: أن يكون ورثة الميت الثاني، أو بعضهم، هم ورثة الميت الأول، لكن
يختلف إرثهم منه، كما أن تكون هنا زوجةٌ، وفي المسألة الثانية تكون أمًّا، لو مات
مثلًا شخصٌ عن زوجةٍ، وبنتٍ، وابنٍ، ومثلًا جدةٍ، فالزوجة في المسألة الثانية، ثم
مات الابن، فالزوجة ستكون بالنسبة للميت الثاني أمًّا، فأيضًا لهم طريقةٌ في
قسمتها، فيجعلون هنا مسألةً، وهنا مسألةً، وينظرون ما لكل واحدٍ في كل مسألةٍ، ثم
يجمعون، ثم يجعلون الجامعة، ثم يأخذون سهامه من هذه المسألة، وسهامه من هذه
المسألة، ثم يجمعونه في آخر المسألة الجامعة.
كما قلت لكم: لو بدأنا في ذكر تفاصيل هذه المسألة، وطريقة قسمها، فأنا أظن أنها
ستكون مسألةً طويلةً جدًّا، ولن تستطيعوا أن تدركوا تفاصيلها، فلأجل ذلك لعلنا أن
نترك التفصيل في هذه المسائل.
تقرأ ما بقي، ونشير إليه على وجه العجلة، بدون تفصيلٍ.
{قال: وإن اختلف ميراثهم، صححتَ مسألة الثاني، وقسمتَ عليها سهامه من الأولى، فإن
انقسم صحت المسألتان مما صحت منه الأولى}.
يعني المسألة الثانية لها أصلٌ، فتنظر بين أصلها وسهامه، هو وارثٌ في المسألة
الأولى، وميتٌ في المسألة الثانية، فمسألته التي مات فيها لها أصلٌ، تنظر بين هذا
الأصل، وبين سهامه في المسألة الأولى، فيقول: إن انقسم صحت الجامعة مما صحت منه
المسألة الأولى.
{وإن لم تنقسم ضربتَ الثانية وفقها في الأولى، ثم كل من له شيءٌ من الأولى أخذه
مضروبًا في الثانية أو وفقها}.
نعم، يعني أن تضرب الثانية في المسألة الأولى، ثم من له شيءٌ أخذه مضروبًا في
الثانية، أو وفق الثانية، أخذه مضروبًا في سهام الميت الثاني، أو وفقها، ثم يُقسم
على المسألتين.
{قال المصنف -رحمه الله-: باب موانع الميراث}.
على كل حالٍ، نحن الآن سنترك التفصيل في هذا، يوجد مثالٌ موجودٌ لكم في الموقع،
يمكن أن تنظروا فيه إذا أردتم ذلك.
قال في آخر شيءٍ: ثم تفعل في ما زاد من المسائل كذلك أيضًا، ما معنى هذا؟ يعني لو
مات ميتٌ ثالثٌ أيضًا، ثم ميتٌ رابعٌ، فنجعل فيه ما جعلنا في المسألة الأولى، هو
ورثَ في المسألة الأولى، وهو ميتٌ في المسألة الثالثة والرابعة، نجعل ورثته، ثم
ننظر بين أصل المسألة وسهامهم، وكذلك الميت الخامس، وهكذا حتى قد يصل في بعض
الأحوال إلى عشرة أو اثنا عشر ممن تتابعوا في الموت، ولم تُقسم المسألة.
{قال: باب موانع الميراث}.
هذا الباب معروفٌ ما يتعلق به، وهو.
{قال: وهي ثلاثةٌ: أحدها، اختلاف الدين، فلا يرث أهل ملةٍ أهل ملةٍ أخرى؛ لقول رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم»، ولقوله
-صلى الله عليه وسلم-: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»، والمرتد لا يرث أحدًا، وإن مات
فماله فيءٌ}.
إذن، هذا شروع في موانع الإرث، وأظن أننا في أول درسٍ، أشرنا إلى موانع الإرث مع
أسباب الإرث؛ لأنها أسهل في ذكرها هناك، لكن على كل حالٍ، سنذكرها سريعًا.
اختلاف الدين، وقلنا: إن الكافر لا يرث المسلم، ولا يرث المسلم الكافر، وهذا قد جاء
فيه الحديث في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأيضًا هنا أشار إلى أن أهل
ملتين لا يتوارثون، فإذا مات نصرانيٌّ وله زوجةٌ يهوديةٌ، فلا توارث بينهما.
لقائلٍ أن يقول: هل سيسألوننا؟
نقول: نعم، لو مات مثلًا هنا عندنا، وترافعوا إلى قاضٍ عندنا في محاكمنا، فنحن نحكم
بينهم بما في شرعنا، فنقول عندنا: إنكِ لا ترثين زوجك؛ لأنكِ يهوديةٌ وهو نصرانيٌّ،
وهكذا.
لكن إذا حكموا في ما بينهم، أو انتهوا في ما بينهم، لا نبحث عنهم، ولا نفتش نقول:
لا، تعالوا نقسم بينكم، لا، المقصود في أنهم لو ترافعوا إلينا في مسائل الإرث، في
مسائل النكاح، في مسائل الطلاق، في أي مسائل، فإننا نحكم بينهم بشرعنا ﴿وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: 42]، نحن نحكم بينهم بالعدل،
نحن نحكم بينهم بالقسط، لا نظلم، ولا ننتقل إلى أحكامهم، ولا إلى ملتهم، ولا إلى
شريعتهم، فإنما تُعُبِّدْنَا بكتاب الله -جلَّ وعلَا-، وسنة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فتجري أحكام الكتاب والسُّنة على أهل الإسلام، ومن التزم أحكام أهل
الإسلام من أهل الذمم والمعاهدين ومن في حكمهم. فبناءً على ذلك، إذا ترافعوا إلينا،
نحكم بينهم بذلك.
أما المرتد -نسأل الله السلامة والعافية-، لو أن شخصًا ارتد فمات قبل أن يرجع إلى
دينه، ففي هذه الحالة لا يورث، فماله فيءٌ، يعني لبيت مال المسلمين، يُصرف في
مصالحه. فهذا ما أراده المؤلف -رحمه الله تعالى- بمسألة المرتد.
طبعًا لن نحتاج إلى الأمثلة؛ لأنكم تعرفون هذه قد جاءت الإشارة إليها، فنكتفي بما
ورد. الثاني.
{الثاني: الرِّق}.
يمكن أن تنظروا يا إخوان إلى ما يُعرض في الشاشة، ونكتفي عن ذلك بالقراءة، اختصارًا
للوقت.
وذكر الثاني الرِّق، فإن العبد لا يرث، لماذا لا يرث العبد؟ لأن العبد لا يملك، فهو
مملوكٌ، لو أننا ورَّثنا لعبدٍ، لأفضى ذلك إلى أننا نُدخِل رجلًا غريبًا ليرث من
أناسٍ ليس بهم علاقةٌ.
على سبيل المثال لو أن هذا العبد مملوكٌ لرجلٍ غير مسلمٍ، يهوديٍّ على سبيل المثال،
ومات أخو هذا العبد، وهو حرٌّ، فإذا قلنا من أن العبد سيرث، معنى ذلك أن هذا المال
سينتقل إلى العبد، والعبد وما ملك لسيده، فسيكون لهذا اليهودي، فهذا اليهودي كأنَّا
أدخلناه على هؤلاء فورَّثناه منهم.
فبناءً على ذلك، فإن مالك العبد هو مالكٌ للعبد، ومالكٌ لما عنده، وما كسب، فبناءً
على ذلك، هو لا علاقة له، فلو قلنا من أن العبد يرث، لأفضى ذلك إلى أن نورِّث
الغريب ممن لا علاقة له به، وهذا محل إجماعٍ بين أهل العلم.
لكن من بعضه حرٌّ، طبعًا كيف يكون بعضه حرٌّ؟ يعني لو كان شخصٌ عبدًا لشخصين،
فأحدهما أعتق شقصه ونصيبه، الذي عنده أهل العلم كما دلت على ذلك السنة، أنه يعتق
نصيب الآخر، ثم نقول للذي أعتق؛ لأنه هو الذي تسبب على الثاني، أعط هذا قدر نصيبه؛
لكن في بعض الأحوال ما الذي يكون؟ يكون هذا الذي أعتق نصيبه مُعسرٌ، ما عنده إلا
النصيب هذا، فهو لا يستطيع أن يدفع لشريكه الثاني نصيبه، فالأمر دائرٌ بين أمرين:
بين أن نبقي نصفه عبدًا، وبين أن نفوِّت عليه نصيبه؛ لأننا لو قلنا أعطه نصيبه،
وهذا ما عنده شيءٌ، فسيفوت عليه حقه.
فبناءً على ذلك يقولون: في هذه الحالة يكون مُبَعَّضًا، فالمبعَّض يُعامل بأحكام
الحر، ويُعامل بأحكام العبد، فيرث بحريته، وهو مملوكٌ بعبوديته، فبناءً على ذلك
يقولون: إنه إذا كان ثلثه، فبعض أيامه يكون حرًا فيها، وبعضها يكون عبدًا، بحسب ما
كسب في وقت عبوديته، أو الأوقات التي حاكمنا من أنه فيها عبدٌ يكون لسيده، وما
يكتسبه في وقت حريته يكون له، وهكذا.
ولذلك قال: ومن كان بعضه حرًّا، ورث، وورِّث، وحجب، بقدر ما فيه من الحرية. كذلك لو
مات، فيكون هو بقدر ما فيه من الحرية ماله يرثه ورثته، وجزؤه الآخر، الذي هو عبدٌ
فيه، يؤخذ منه، ويكون لسيده.
هذه المسائل، وأيضًا فيها شيءٌ من التفصيل، وستحتاج، لكن كما تعلمون، أن هذه مسائل
نادرة الوقوع، خاصةً في هذا الوقت، الذي لا يكاد يوجد فيه الأرقاء، وإن كان يمكن أن
يوجد في المستقبل، وأيضًا لم ينفك في بعض الدول التي لازالت على ما كانت عليه، من
بقاء العبيد ونحوهم، فلهم هذه الأحكام مقررةٌ عند علماء الإسلام.
الثالث من موانع الإرث، هو: القتل.
القتل إذا قتل شخصٌ شخصًا وهو وارثٌ له، فإنه بقتله يُمنع من الإرث؛ لأن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال: «لا يرث القاتل».
لكن عند أهل العلم، أنه إنما يكون كذلك إذا كان قتلًا بغير حقٍّ، فخرج منه ما كان
من القتل بالحق، كما لو كان مثلًا هو السياف، وهذا قد مثلًا كان قاطعًا للطريق،
فقُتل حدًّا، فقتله هذا الذي هو ابن عمه، هل نقول ما يرث هذا القاتل الذي قتله؟ لا،
قتله بحقٍّ، فهو وارث. مثل ذلك لو كان قِصاصًا، فالقصاص يعني بأن يكون جنى على أحد
أقاربه، فقتله، مثلًا ابن عمٍّ جنى على أخيه، فقتله قِصاصًا، فله الحق في قتله؛
لأنه قتلٌ بحقٍّ، والشارع قد جاء ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 179]، فإذا قتله، واستوفى بنفسه، بإذن القاضي، بالشروط
المعروفة عند الفقهاء، فأيضًا لا يمنعه من أن يكون وارثًا له.
ومثل ذلك أيضًا: قال: أو قتل العادل للباغي، لو بغى أناسٌ على الولاية الشرعية
الصحيحة، فقاتلهم أهل الحق والعدل، فقتل أحدهم قريبه، فهذا الذي قتل الباغي، أليس
قتله بحقٍّ ومأمورًا بقتله وذلك فاعلًا للعدوان والظلم؟ فبناءً على ذلك نورِّثه ولا
نمنعه من الميراث في مثل تلك الحال.
أما لو قتله ظلمًا، عمدًا أو شبه عمدٍ، أو حتى خطأً، ولهم في هذه المسألة خلافٌ، هل
يرث أو لا يرث، لكن المشهور عند الحنابلة، أنه يكون مانعًا من الإرث.
ويضيفون إلى ذلك أن الدليل يقولون: إنه من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه،
ولئلا يفضي ذلك إلى أن الورثة يستبطئون مورِّثهم فيقتلونه؛ حتى تصل إليهم أمواله،
فمنع الشارع ذلك الباب، وسد الطريق إليه.
بعد ذلك سننتقل إلى ما ذكره المؤلف في قوله هنا: مسائل شتى.
هذه المسائل ذكر المؤلف فيها أربعة أبوابٍ:
أولها باب الحمل، لو مات شخصٌ وفي بطن زوجته حملٌ، الحمل ما يُحمل داخل الشيء،
والحِمل ما يُجعل على الرأس، فلذلك يُقال: حَمل الشجر وحِملها؛ لأن الحَمل يكون
رءوسها، وحِملها، باعتبار أحيانًا أنه في داخلها.
على كل حالٍ، متى يرث الحمل؟
يقول أهل العلم: إن الحمل يرث بشرطين: أولًا: تحقق كونه موجودًا وقت موت المورث؛
لأنه ليس بالضرورة أن يكون ولد الميت، يقولون هو حملٌ، أكيد أنه تلد زوجته، ليس
بالضرورة أن يكون، لو كان مثلًا ابن أخيه، هو الذي سيرثه، فلابد أن يكون الحمل وقت
الموت موجودًا في بطن أمه.
والثاني: أن يحيى بعد ولادته حياةً مستقرةً، فإذا ولد واستهل صارخًا، واستقرت
حياته، ليست مثل حركة المهم يعني حركةً معروفةً في الفقه وعند أهل العلم، فإذا كانت
هذه حركةً غير مستقرةٍ فلا تعتبر، المهم متى ما حي حياةً مستقرةً، فهو وارثٌ.
بناءً على هذا، لو كان شخصٌ لأحد ورثته حملٌ، فالأمر دائرٌ بين أمرين: بين أن
يُنتظر إلى أن يولد، فتُقسم التركة والحمد لله، لكن في بعض الأحوال، قد يتضرر
الورثة، يقولون: نحن نحتاج، نحن جائعون، نحن علينا ديونٌ، هذا حقٌّ لنا، لا
تؤخرونه، فالمشهور عند الحنابلة، وبعض الفقهاء: أن لهم أن يُقسم، لكن يعاملون
بالأضر، فإننا لا ندري قد يكون ولدًا، وقد يكون أنثى، وقد يكون ذكريْن، وقد يكون
أنثييْن، وقد يكون ذكرًا وأنثى. فيجعلون مسألةً على أنه ذكرٌ، ويجعلون مسألةً على
أنه أنثى، ويجعلون مسألةً على أنه ذكران، ثم يجعلون مسألةً على أنه أنثيان، ستة
أحوالٍ بما فيها أنه يكون ميِّتًا، ثم يقسمون التركة.
فمن كان نصيبه لا ينقص بحالٍ من الأحوال، فيأخذ حقه كاملًا، كما لو كان مثلًا زوجةً
وابن أخٍ حملًا، الزوجة لا تتأثر بابن الأخ، تأخذ حقها في كل الأحوال كاملًا، لكن
في بعض الأحوال، قد تتأثر، كما لو كان مثلًا ثلاثة إخوةٍ أشقاء، إخوةٌ لأمٍّ، وأمٌّ
هنا اثنان منهم حملٌ، فقد يؤثرون على الأم في أنهم ينقصونها من الثلث إلى السدس،
فإذن على كل حالٍ، أنهم يعاملون بالأضر، فيُعطى اليقين الذي يُعلم يقينًا أنه لا
يمكن أن ينقص عليه، وأما ما سوى ذلك، فإنه يُحبس، ويُحبس حق هذا الحمل حتى يولد،
ويحيي حياةً مستقرةً، فإذا وُلد أُعطي نصيبه، ثم كُمِّلَ لكل واحدٍ منهم حقَّه الذي
عُرف به.
وهذه لها تفصيلٌ، لكن أيضًا لا يمكننا أن نأتي عليها، لكن في الجملة هذه طريقتها،
لذلك قال: وقفت ميراث اثنين ذكرين، إن كان ميراثهما أكثر، وإلا ميراث الأنثيين، في
بعض الأحوال تكون الأنثيان أكثر، وفي بعض الأحوال الذكران أكثر، فالمهم أن تُعطي كل
وارث اليقين، وتقف الباقي حتى يولد، فإذا وُلد تبينا وأعدنا قسمة المسألة، وكل
واحدٍ كمَّلنا له حقه الذي نقص عليه.
هذه إذن مسألةٌ من مسائل الحمل، وذكر أن يكون المولود ذكرًا فيكون أخًا شقيقًا
للمتوفى، أو أنثى، فتكون أختًا شقيقةً للمتوفى، فنحل المسألة على احتمالين، ونعطي
الورثة ما استيقن لهم، ويُحجز الباقي حتى الولادة.
على كل حالٍ، هذه مسائلهم، لا نريد كما قلت لكم نفصل فيها؛ لأن الوقت لا يُسعفنا.
المسألة الثانية التي ذكرها في مسائل المفقود، ولذلك قال: فإن كان في الورثة
مفقودٌ.
المفقود من انقطع خبره، فلم يُعلم أحيٌّ هو أو ميتٌ، فله تعلُّقان، تعلُّقٌ في إرثه
لو مات مورِّثه، وتعلُّقٌ في متى يُحكم من أنه ميتٌ، حتى ينتقل المال إلى ورثته،
وأيضًا زوجته متى يجوز لها أن تتزوج ونحو ذلك.
فعلى كل حالٍ، اختلف في مسائل المفقود أهل العلم، يعني واحدٌ انقطع خبره، ما ندري
عنه، فأهل العلم يقولون: لا يخلو من حالين: إما أن يكون غالبه السلامة، يعني سافر،
وانقطع خبره، قد يكون عاش هناك، وقد يكون مات، فيقولون: نحكم أنه لابد أن يصل إلى
تسعين سنةً من ولادته؛ لأن في الغالب لا يعيش الواحد أكثر من تسعين سنة، فإذا وصل
إلى هذا العمر، نعتبر كأنه مات، فنفرِّق أمواله، ونحكم بموته، وإن كان في مكانٍ
غالبه الهلاك، كما أن يكون في سفينة انكسرت في عرض البحر، أو فُقِدَ في معركة، من
أنه مات، هذه طريقةٌ لبعضهم.
بعض أهل العلم يقول: تقديرها إلى الحاكم مطلقًا، فينظر في الحال بالقرائن التي
احتفتْ به، فيقدِّر وقتًا يُنتظر فيه، فإذا ذهب الوقت حكمنا بموته.
فبناءً على ذلك في مدة الانتظار ماذا نفعل؟ يُحكم على أنه حيٌّ، فبناءً على هذا، لو
مات شخصٌ في هذه المدة، فنعتبر هذا المفقود كأنه حيٌّ، فيرث، فإذا تبينا بعدين أنه
ميتٌ قبل، نرد، لكن مادام أنه لم يتبين فيبقى له، فإذا انتهت المدة التي ضربها
الحاكم، فنأخذ ماله، وهذا المال الذي وفد إليه، ونقسمه على ورثته. هذه مسألة
المفقود.
إذن، إما في وقت الانتظار، إما أن يُعلم أن المال الذي أخذه كان وقت حياته، فنتيقن
أنه ماله فيرثه بعد انتهاء مدة الانتظار ورثته، وإما أن يأتينا خبرٌ بعد ذلك، أنه
ميتٌ قبل ثلاث سنواتٍ، ووارثه الذي ورِّثناه، أو مورِّثه الذي ورَّثناه وهو منه،
مات قبل سنةٍ ونصفٍ، معنى ذلك ورَّثناه وهو كان قد مات، فنرد هذا المال.
وإن لم يُعلم، هل مات قبل، أو لم يمت، فالأصل في مدة الانتظار أنه حيٌّ، فما قبضه
في تلك المدة هو صحيحٌ، فإذا انتهت مدة الانتظار، سواءٌ قلنا أربع سنين في حال
الخوف، أو تسعين سنةً في حال السلامة، أو قلنا إن مردَّها إلى الحاكم، متى حكم
بمدةٍ، وانتهت هذه المدة، فإن ماله يُقسم بين ورثته، ولذلك قال: وإن كان في الورثة
مفقودٌ لا يُعلم خبره، أعطيت كل وارثٍ اليقين، ووقفت الباقي حتى يُعلم حاله، إلا أن
يُفقد في مهلكةٍ، أو من بين أهله، فينتظر أربع سنين ثم يُقسم.
هذه طبعًا لها مسائل، كما قلت لكم صعبٌ الكلام عليها، لكن نذكرها على سبيل السرعة.
هو ذكر هنا يعني للعلم للإخوة الذين يتابعون الموقع، من المنتمين للبناء العلمي،
ذكر أمثلة المناسخات هنا، فيتنبه لذلك؛ لأنها يعني جاءت في الختام، لو جعلناها على
هذا النحو، يمكن أن يسهل شرحها، لكن أيًّا كان، على كل حالٍ، هذه مسألة المفقود،
بعد ذلك ماذا يبقى؟ بقي لنا مسألةٌ التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- وهي: مسألة
من طُلِّقت في حال المرض، من أجل حرمانها من الإرث.
فإذا طُلِّقت المرأة لئلا ترث، فالأصل طبعًا أن الطلاق يقع، ومن طلق زوجته وهو في
حياته، فهي طالقٌ، لكن إذا اتهم بقصد حرمانها من الإرث، وذلك بأن يكون في مرضه
المخوف، وأن يُعلم أو أن تثبت قرينةٌ على أنه قصد حرمانها من الإرث، فعند ذلك لأهل
العلم في هذا كلامٌ كثيرٌ، لكن ما حكم به الصحابة، وهو عليه العمل عند جمعٍ من
الفقهاء: أنهم يعاملونه بنقيض قصده، فيحكمون بإرثها.
فبناءً على ذلك، لو أن شخصًا لما رأى نفسه قد ضعفت، وهو لتوه قد عقد على هذه
المرأة، ولم يستطع الدخول بها، فخشي أن يدركه المنية، فتدخل في الإرث، فقام وطلقها.
لم طلقها؟ جاء شخصٌ وقال: أنا كنت معه، وأشهد أنه قال: كيف ترث وأنا لم أدخل بها
ولم أتمتع بها ونحو ذلك؟ فإذن قامت البينة على أنه قصد حرمانها من الإرث، فعند ذلك
نقول: حتى ولو ماتت بعد انتهاء عدتها، فإن المشهور عند جمعٍ من أهل العلم أنهم
يورثونها.
وأصل ذلك: أن تماضر زوجة عبد الرحمن بن عوف طلقها، وحكم لها عمر -رضي الله تعالى
عنه- بإرثها، وذلك كأنه ظهرت القرينة أنه قصد حرمانها.
يقول قائلٌ: كيف عبد الرحمن بن عوف يقصد حرمانها، وهو صحابيٌّ؟ نقول: الصحابة ليسوا
بمعصومين، مع بيان فضلهم، والإبقاء على قدرهم، هم بشرٌ، يخطئون، وتكون منهم
المعصية، والهفوة لكن سابق فضلهم، وهجرتهم، وصحبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-،
وغزوهم معه، نعرف به فضلهم، ونبقي لهم قدرهم، ومنهجنا، منهج أهل السنة والجماعة في
الترضي عليهم، والحكم بعدالتهم، وعدم انتقاصهم، أو سبهم، فنقول كما قال النبي -صلى
الله عليه وسلم-: «فوالله لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أحدهم أو
نصيفه»، يعني هذا الذي أنفق هذا هو أكثر مما أنفقت من ملء الأرض ذهبًا.
على كل حالٍ، هذا مما يتعلق بمسألةِ إذا خشي أو إذا كان متهمًا بقصد حرمانها من
الإرث.
طبعًا أما إذا طلقها طلاقًا رجعيًّا لم تنته فيه العدة، فلا شك أنها زوجةٌ من
الزوجات وارثةٌ بدون ما إشكال.
{قال: وإن طلق المريض في مرض الموت المخوف امرأته طلاقًا يتهم فيه لقصد حرمانها عن
الميراث، لم يسقط ميراثها مادامت في عدته، فإن كانت الطلاق رجعيًّا توارثا في العدة
سواءً كان في الصحة أم في المرض}.
طبعًا كما قلت لكم، إذن إذا كان في مرضه المخوف، ما المرض المخوف؟ المرض المخوف
يقول أهل العلم: هو الذي يُفضي إلى الموت غالبًا، لكن لو كان مرضًا غير مخوفٍ،
العادة أن الناس يطيبون منه، لكن قال أحدٌ الغالب أن هذا ما يسلم من هذا المرض
بعينه، هذا لا يعتبر مرضًا مخوفًا، فإذن محل كلامنا المرض الذي جرت العادة عند
الناس أو عند أهل الاختصاص أنه يُفضي إلى أن من أصيب به غالبًا يموت، فهذا يعتبر
مرضًا مخوفًا، فإذا كانت في العدة، في حال الرجعة، فلا إشكال، إذا كان طلاقًا
بائنًا، في العدة، وهو متهمٌ بقصد حرمانها من الإرث، فهنا محل الكلام، فالحنابلة
على توريثها.
بعد العدة، لو ماتت بعد العدة، فيُفهم من كلام المؤلف أنها لا ترث، لكن هذا فيه
كلامٌ لأهل العلم، ومنهم من يورِّثها، حتى ولو تزوجت، فبعضهم يقول: مادامت في
العدة، بعضهم يقول: إذا خرجت من العدة ولم تتزوج، وبعضهم يقول: حتى ولو تزوجت؛ لأن
لها حقًّا، ولأنه قصد حرمانها، فعومل بنقيض قصده.
هذا إذن على سبيل الاختصار، إشارةٌ إلى ما يتعلق بهذه المسألة. بقي المسألة
الأخيرة، وهي مسائل مجهول النسب.
{وإن أقر الورثة كلهم بمشاركٍ لهم في الميراث، فصدَّقهم، أو كان صغيرًا مجهول
النسب، ثبت نسبه وإرثه، وإن أقرَّ به بعضهم، لم يثبت نسبه، وله فضل ما في يد
المقرِّ عن ميراثه.
هذه المسألة من المسائل الحقيقة التي فيها إشكالٌ كبيرٌ، وهذه المسألة لها محالٌّ
للبحث، في باب التوارث، من جهة الإرث، مجهول النسب، ومن يرثه، ومن ادعى نسبه، ومن
لم يدع نسبه، ولها بحثٌ من جهة إثبات نسبٍ مجهول النسب كيف يُثبت، وهذا في باب
اللقيط، وهذا الأصل أنه يُبحث في باب اللقيط.
فعلى كل حالٍ، إذا كان مجهول النسب ومات، فعند ذلك إذا أقر جميع الورثة أن هذا
قريبهم، أنه أخوهم، أو نحو ذلك، فإنهم يثبت نسبه ويرثونه، بشرط أن يكون ذلك ممكنًا،
وأن لا توجد بيِّنةٌ تخالف ذلك وتعارضه، حتى ولو كان عنده مئات الملايين، وكان
يُعرف في حال الحياة أنهم امتنعوا من إثبات نسبه، أو قال: أنا أخوكم، قالوا لا، حتى
وإن كان، لماذا؟ لأن المصلحة عند الشرع في إثبات نسبٍ لإنسانٍ ما، أعظم بكثيرٍ مما
يتعلق بالمال.
وأيضًا هذه المسألة مشروطةٌ بعدم وجود التنازع فيه، فإذا وُجد ناسٌ يدعونه وناسٌ
يدعونه، هنا له منحًى آخر، إما إثباته بالبينة أو بالقافة وطرائق الإثبات بما يحسم
بما جد، كالبصمة الوراثية ونحوها.
لكن إذا لم يكن تنازعٌ وأمكن ونحو ذلك، فهنا يثبَت حتى ولو على اتهمناهم بأنهم
يقصدون الإرث، لماذا؟ لما ذكرنا لكم من أن المصلحة غالبةٌ في إثبات الإرث.
الآن حتى تعرفوا قدر هذه المسألة، لو قيل لأحدٍ من الناس: لك مبلغٌ مثلًا مائة ألف
دينار، أو لك عشرين مليون دولار أو عشرين مليون ريال بشرط أن لا يكون لك بعد اليوم
نسبٌ، وأن تنقطع من كل شجرةٍ، هل أحدٌ منكم يرضى بهذا؟ هل يتصور أن أحدًا يرضى مهما
كانت المبالغ؟ فإذن مصلحة اعتبار النسب أعلى.
فيقول المؤلف -رحمه الله- إذا كانوا قد أثبتوه جميعًا ولا تعارض، لكن إذا كان بعضهم
قد أثبت وبعضهم قد نفى، فمعنى ذلك أن هذا فيه شيءٌ من التنازل، فيقول المؤلف -رحمه
الله تعالى-: لا يثبت النسب إلا بالبينة أو بالاتفاق، فبناءً على ذلك إذا حصل شيءٌ
من الانتفاء، فلا يثبت في مثل هذه الحالة.
لكن من أثبت نسبه فهو مُقِرٌ له بذلك، فإذا مات فإنه يورِّثه، فعليه هذا القدر،
يعني لو كان حيًّا هذا الشخص، ومات هذا الذي أقر بالنسب، فمعنى هذا أنه يرثه، ماذا
قال: وإن اختلفوا.
{وإن أقر به بعضهن لم يثبت نسبه، وله فضل ما بيد المقر عن ميراثه}.
يعني لو قال هو أخونا، بالنسبة للذين نفوا، نقسم المال على ثمانية إذا كان الإخوة
ثمانية، بالنسبة للذين أثبتوا نقسم المال على تسعةٍ، فالتسع هذا من أموالهم يذهب
له؛ لأنهم أقروا أنه وارثٌ، وأن له حقٌّ في الميت الذي يورثه.
هذا إذا كان حيًّا، وإذا كان هو الميت، لا، إنها مسألةٌ أخرى، أيًّا كان هذه كما
رأيتم إشاراتٍ لطيفةً إلى مسائل متفرقةٍ مما جعلها المؤلف -رحمه الله تعالى- في
خاتمة هذا الباب ونهايته.
لا أجد في نهاية هذا المطاف وفي نهاية الكلام في هذه المجالس إلا أن نشكر الله
-جلَّ وعلَا- على ما ييسر وأعان، ورحم الله علماء المسلمين على ما دونوا وحرروا
وكتبوا وبينوا وما حفظوا من السنن، وما فصلوا من الأحكام، وما تأملوا وتفقهوا فيه
من دلالات الكتاب والسنة -عليهم رحمة الله -جلَّ وعلَا- وأعلى درجاتهم في عليين،
وجعلهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وألحقنا بهم ووالدينا وأزواجنا
وذرياتنا، وجميع المسلمين.
ثم أقول لكم: لم يخلُ أو تخلُ هذه المجالس من ارتجالٍ في بعض الأمثلة، أو استعجالٍ
في بعض العبارات، وقد لا تكون محررةً، فأستبيحكم عذرًا على ما يكون فيها من النقص
أو القصور أو الخلل، وكلنا قد يفوت علينا خاصةً في مسائل الفرائض التي تحتاج إلى
شيءٍ من التحرير والتدقيق، فأستبيحكم عذرًا على ما قد استعجل به المقام، وأيضًا كما
قلت لكم وأعيده ختامًا، أن قدرًا ليس باليسير من مسائل هذا الباب إنما عرضناه
عرضًا، وأشرنا إليه إشارةً لتكون بلغةً للطالب في أول مراحل التعلم، وليست نهايةً
يستطيع أن يحكم بها الباب، ويفهم بها تفاصيل المسائل وقسمتها، خاصةً فيما يتعلق
بالمسائل المشتركة بين مسائل الحساب ومسائل الفرائض، فإننا أجملنا فيها إجمالًا
كثيرًا كما مر بنا في هذا اليوم مسائل المناسخات، وأيضًا مسائل المفقود والحمل
ونحوها، جاءت على شيءٍ من العجل، والإشارة العُجلى، وإن كان تركنا بعض الأمثلة كما
قلت لكم في الموقف للطالب الذي يريد الرجوع إليه والاستزادة منه.
أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يزيدكم من هذا الباب، وأن يزيدكم في العلم والجهد
والتقى، إن كان من وصيةٍ باقيةٍ وإن كان من حديثٍ في تمام هذا المطاف، لا يسعنا إلا
أن نشكر الله -جلَّ وعلَا- وأن نشكر كل من قام على نشر العلم وإظهاره، وإذاعته، وأن
يبلغ ما بلغ الليل والنهار، ولا شك أن هذا الصرح وهذا البناء وهذه المجالس بإذن
الله -جلَّ وعلَا- هي مجالس علمٍ وخيرٍ وبرٍّ وهدًى، وهذا بابٌ قد سُد في كثيرٍ من
الأصغار إلا أشياءٍ قليلةٍ، خاصةً في هذا الفراغ الذي هو فراغ الإعلام، حتى مع وجود
بعض الخير فيه، إلا أنه في مواعظ وفي أشياءٍ عابرةٍ، أما أن يكون تأصيلًا للعلم
وإظهارًا لتدرج الطلاب فيه، فإن ذلك أندر من التبر الأحمر والذهب المصفى، ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
فلأجل ذلك فاق إخواننا في هذا المقام أو حازوا قدم السبق وفضل التصدي، أسال الله
-جلَّ وعلَا- أن يزيدهم، وأن يثبتهم، وأن يبلغهم ما تمنوا، وأن يجعل نياتنا ونياتهم
خالصةً لوجهه الكريم.
أنتم أيها الطلاب، طلاب العلم الذين سخروا أوقاتهم وأيامهم للعمل والمتابعة والجد
والمثابرة، لتعلموا أنه من أعظم الأبواب، باب العلم وقد دخلتموه، فإياكم أن تقصروا
أو أن تنقطعوا عنه، الناس محتاجون إلى علومكم، وإلى فهومكم، وإلى أن تتزودوا، وإلى
أن تعظموا لأنفسكم الزاد في هذا الطريق وهذه المفاسد الطويلة التي بدأ الناس
يتخبطون في الجهالة، ويأخذون ما يريدون من الرغبات والشهوات، ويتركون ما يريدون،
فصار الانتقاء والاحتيال على الشرع والتلفيق فيه من أعظم سمات هذا العصر، فلذلك
لابد من أن يوجد طلبة علمٍ ينبغون للعلم، ينفون عنه كل ما لحق به، ويبينون من لفق
فيه أو احتال عليه، أو أراد أن يأخذ بشهوته ورغبته، وأن يغض الطرف عما لم يصادف
رغبةً في نفسه وإقبالًا على ذلك الأمر، ولمعارضته لهواه، فهذا علم الله الذي علمه
نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهذه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي بلغها
أصحابه، وهذه العلوم محررةٌ عند أهل السنة والجماعة وعند الأئمة الأربعة، فمن أخذها
فإنما يأخذها بطريقٍ رصينةٍ وبابٍ معلومةٍ مفتوحةٍ لمن سلكها على وجهها، فإياكم أن
تميلوا وإياكم أن تقصروا، وإياكم أن تأخذوا ما أخذ أهل الضلالات والفتن والبلايا
والمحن.
لا أجد إلا أن أدعو الله -جلَّ وعلَا- أن يبلغكم في العلم مبلغًا عظيما، وأن يرفعكم
فيه درجات كبيرة في الدنيا، وأن يجعل جزاءكم أعظم الجزاء وأرفعه، الفردوس الأعلى في
الجنة لي ولكم ولوالدينا، ولأزواجنا وذرياتنا، وإخواننا، ومن أعاننا ..الدروس
والمجالس والعلم، ومن سخر وقته لبذله وماله للزيادة فيه وبذله لطالبه، جعلنا الله
وإياكم في طريق الخير مهتدين، وعلى طريق العلم والمتعلمين، والمعلمين، والعاملين،
من السائرين غير المنقطعين، أحيا الله بنا السنة، وأظهر بنا الإسلام، وأحيانا على
ذلك، وأحياها في قلوبنا، وأماتنا على ذلك غير خزايا ولا نادمين، إن ربنا جواد كريم
وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.