الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

10594 24
الدرس السابع

عمدة الفقه (4)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها الإخوة الكرام، أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات، لم تزل هذه المجالس بإذن الله جلَّ وعلَا- عامرةً بما يُذكر فيها من قول الله -جلَّ وعلَا-، وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والفقه في كتاب الله، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما سطَّره علماء الإسلام، وما بيَّنوه من الأحكام، وما أحكموه من المسائل؛ لزيادة العلم والإفهام.
حينما نتحدث في هذه المجالس، فقد اعتدنا وإياكم أن نحرِّك النفس، ونشحذ الهمة في بداية الحلقة، بشيءٍ مما يحتاج إليه طالب العلم.
أيها الإخوة، أنتم في ميدانٍ عظيمٍ، وحق هذا الميدان عليكم أن تجدوا وتجتهدوا، وأن تبذلوا وتكدحوا، وأن تعلموا أن لن تؤتوا باب العلم، حتى تنفقوا فيه كل شيءٍ، وحتى تذهب عليكم الملذات، وتفوت عليكم ما يدركه الناس من الشهوات، حين ذلك، فاعلم أنك على باب العلم، وأنك منه قريبٍ، وأنك -بإذن الله جلَّ وعلَا- موفَّقٌ فيه، وداخلٌ في ميدانه؛ لأن هذا العلم لا يقبل شراكةً ولا يقبل أنصاف الحلول، ولا يمكن أن يؤتيك بعضه، حتى تؤتيه كلك، ولذلك يقول القائل:
تمنيت أن تمسي فقيهًا مُناظرًا

بغير عناءٍ والجنون فنونُ

هو جنونٌ أن تظن أن هذا العلم يُدرك من أول وهلةٍ، أو بأبسط مسألةٍ، أو بقراءةٍ عابرةٍ، أو بساعةٍ مارةٍ، وإنما هذا علمٌ هو ميراث النبوة، والشيء العظيم لا يُدرك إلا بالعمل العظيم، ونحن أحوج ما نكون إلى العلم في هذه الأوقات، التي كثر فيها الجُهَّال، وكثر فيها المتعالمون، وكثر فيها المتقولون، ليس كل من لبس عباءةً وتزين بحلية أهل العلم أنه منهم، وليس كل من نطق بقول الله -جلَّ وعلَا-، وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو عارفٌ بما احتوت عليه من الدلائل والأحكام، وليس كل من عرف شيئًا من ذلك مستأمنٌ عليه، فإن هذا العلم كما أنه علمٌ فإنه ديانةٌ، وإن الإنسان لا يؤمن عليه حتى يكون أهلًا لذلك، بما يكون بينه وبين الله -جلَّ وعلَا-، من إصلاح النفس، والإقبال عليها.
إذا تقرر ذلك، فاعلموا أنكم مبتلون بهذا الأمر، وأن الله -جلَّ وعلَا- ناظرٌ ماذا تصنعون، لئن انكب أناسٌ كثيرون على الشهوات والملذات، فانكبوا أنتم على الكتب والمسائل والقراءة والمطالعات. ولتعلموا أن ذلك أُنسٌ لأهل العلم، وبه يجدون لذتهم، وبه يفوزون عند لقاء ربهم.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كان يُذكر عنه أنه ربما قام في الليلة الواحدة أكثر من عشرين مرةً، تعرض له المسألة، فيقوم فيوقد السراج، فيكتبها، خشية أن تفوت عليه.
ومحمد بن طاهر المقدسي، له مقولةٌ عظيمةٌ، حين قال: "بِلتْ الدم في طلب الحديث مرتين: مرةً ببغداد، ومرةً بخراسان" كان يستعجل إلى الحلقة، وهو حافٍ، والشمس حارةٌ، حتى يبول الدم، من شدة ما يجد.
وابن القاسم، الإمام المالكي -رحمه الله تعالى- تزوج في مصر، ثم رحل إلى الإمام مالك في المدينة، فبقي عنده، فيقولون: بعد خمسة عشر عامًا، جاء وفدٌ من مصر للحج، فإذا شابٌّ يافعٌ فتيٌّ، يقول: أفيكم ابن القاسم؟ أو يسأل عن ابن القاسم، فيقول: إنه ذاك، يقول: فجاءني وضمني فشممت فيه رائحة الولد، فإذا هو ولده، قد ولدت زوجته، وشب، وكبر، حتى بلغ، وأتى للحج، ووالده لم يره من خمسة عشر عامًا، وما ذاك إلا هجرةً للعلم، وإقبالًا عليه، وإنفاذًا للأوقات فيه.
هذا الحديث ربما ليس لي منه حظٌّ إلا الكلام، لكن أرجو منكم أيها الإخوة المشاهدون، وأرجو منكم أنتم أيها الطلاب، أن ينال منكم أذنًا واعيةً، ونفسًا متطلعةً، وفتيةً في الخير والعلم والهدى، فتُقبل على ذلك بكليتها، وأرجو الله أن يريني فيكم وفي الإخوة المشاهدين الخير والهدى والعلم والتقى، وأن يجعلكم من علماء هذه الأمة ومفاتيها.
كنا لا نريد الحقيقة أن نسترسل في مثل هذه المقدمة، لكنها اعتدنا أن تكون إطلالةً كل درسٍ من دروسنا.
كنا في المجلس الماضي ابتدأنا ما يتعلق بالكلام على باب الموصى إليه، وذكرنا الأصل في هذا الباب، وهو أنه جاءت به دلالات النصوص في الكتاب والسنة في عمومامتها، واستنبط ذلك صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك كان ذلك كالمستقر عندهم قولًا وفعلًا، وحكمًا واعتبارًا، فالموصى إليه معتبر عندهم، وقائمٌ مقام الموصي في كل ما أوصي إليه.
وذكرنا أيضًا قبول الوصاية، وأنها مهما قيل من أنها عمل خيرٍ، إلا أنه لا يتصدى لها إلا من وجدت عنده صفتان: أن يكون قويًّا قادرًا، وأمينًا على ذلك، فالقوة تنافي الضعف، والأمانة تنافي الخيانة، فلابد أن يكون كذلك حتى يتصدى لها، ويقوم بها.
ذكرنا أيضًا جملةً من المسائل: أولها: ربما أشرنا إليها إشارةً عابرةً، وهو أنه لابد أن تكون الوصية في أمرٍ معلومٍ، ولذلك قال: كالقيام على أطفاله، أو تنفيذ وصاياه، أو رد ديونه، أو شيءٍ آخر معلومٍ، وأما الوصية بأمرٍ مجهولٍ، أو نحو ذلك، فإنه لا ينفع ولا يفيد؛ لأنه يدخل في النزاعات، ويتنازع مع الورثة، ومع من لهم الحقوق من غير الورثة. هذا مما ينبغي الإشارة إليه.
ذكرنا بعد ذلك تصرفات الموصى إليه، وأنه يسعى لهم في الأحظ، وأنه تبعًا لذلك له أن يأكل بالمعروف، وذكرنا أن الأكل بالمعروف أن يأكل أو أن يأخذ إذا لم يكن غنيًا ﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 6]، وأن المعروف بما لا يكون فيه إسرافٌ ولا زيادةٌ، وإذا تردد بين أن يكون أُجرته أكثر، أو أكله بالمعروف أكثر، فإنه يأخذ الأقل منهما؛ لأنه إن كان أكله بالمعروف أقل، فهذا هو نص الآية، وإن كانت الأجرة هي الأقل، فإنه إنما أخذ مقابل عمله، وليس له أن يأخذ ما زاد على ذلك.
ذكرنا قول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وليس له أن يوصي بالمعروف ما أوصي إليه به"، وذكرنا أنه إنما ارتضاه الموصي، ولو يرتضي غيره، فليس له أن ينقل الوصية، إلا في حالٍ واحدةٍ، وهي: أن يكون الموصي قد جعل له الوصاية، فقال: أنت وصيِّ على بناتي على سبيل المثال، أو من أوصيتُ إليه، أو من أوصى إليه فلانٌ بن فلانٍ، فيكون بذلك له حق التوصية في مثل تلك الحال.
ثم: "ولا أن يبيع ويشتري من مالهم لنفسه"، وذكرنا ما يتعلق بذلك، لعلك أن تكمل حتى لا يذهب علينا الوقت، ونقطع ما قدرنا عليه -بإذن الله جلَّ وعلَا- في هذا المجلس.
{بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد، قال المصنف -رحمه الله-: ولا أن يبيع ويشتري من مالهم لنفسه، ويجوز ذلك للأب}.
قال: "ولا أن يبيع ويشتري من مالهم لنفسه" ذكرنا أن الولي بالوصاية في مثل هذه المسألة، هو قائمٌ بما فيه مصلحةٌ لهؤلاء الأيتام، أو هؤلاء المجانين، أو هذا السفيه، ومن في معناه، وطلب الأحظ يتأتى لما يبيع مع الأجنبي أو الغير، لكن إذا باع من نفسه، فإن النفس مجبولةٌ على أن تجر الخير إلى نفسها، فلما كان الأمر دائرًا بين أن يجلب المصلحة لمن هو وصي عنه، وبين أن يجلب المصلحة لنفسه، والغالب أن نفسه تنزع منزعًا قويًا، وتقوى عليه وتسيطر، فربما فوَّت مصلحتهم، منع الفقهاء من أن يبيع لنفسه، فلا يبيع، وقلنا إنه إذا لم يكن بدٌّ من شرائه، أو لم تكن المصلحة إلا أن يشتري هو، فيمكن أن يُرفع ذلك للقاضي، فيجعل لهم في هذه المسألة من يلي الأمر، ثم يشتري هو، وإلا فلما كان غالبًا أن يجلب المصلحة لنفسه، ويفوِّت المصلحة عليهم، فإن ذلك ممنوعٌ منه، بل يمكن أن يُقال: حتى لو أنه استنفذ وسعه في جلب المصلحة لهم، فإنه لا يؤمن أن يتهم في ذلك، إذا زادت الأسعار، أو حصلت له فيه فرصةٌ طيبةٌ، أو نحو ذلك، قالوا: لقد لعب على الأيتام، أو أضر بهم، أو نحو ذلك، فلأجل ذلك مُنع من هذه التعاملات.
وهنا الحقيقة يا إخوان مسألةٌ مهمةٌ، يكثر وقوع واللعب بها، وهو أن من أوصي إليه بوصيةٍ، فالغالب أنه يجعل نَصب عينيه، كيف يتحصل على مصلحة من خلال هؤلاء الأيتام، حتى ولو لم يُضر بهم كمال الإضرار، لكنه لا يطلب لهم تمام الإصلاح، والحق والواجب والذي سيسأل عليه بين يدي الله -جلَّ وعلَا-، أن يستنفذ وسعه في طلب ما يكون أصلح لهم، وأنفع لهم، وإذا لم يكن كذلك فهو خائنٌ للأمانة، غير مؤدٍ للوصاية، فهو مسئولٌ بين يدي الله -جلَّ وعلَا-، ولذلك امتلأت المحاكم بالقضايا، والمرافعات بين الأيتام والأوصياء، وإذا كانت المحاكم قد امتلأت بشيءٍ من ذلك، فما خفي أعظم، وما لم يصل إلى المحاكم أكثر، وما لم يطلع عليه أولئك الأيتام، أيضًا أعظم من ذلك وأكثر، لكن الله مطلعٌ وقد أحصاه وكتبه، وبيَّنه وأعده، وهو مسئولٌ بين يدي الله -جلَّ وعلَا- عنه، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
ويمكن أن يُقال في المقابل هنا: إنه ينبغي للأيتام إذا كبروا، أن يحفظوا الود، وأن لا يتسرعوا في رمي الوصي بالخيانة، وما يتبع ذلك من النزاع والمطالبة؛ لأن والدهم قد جعله وصيًّا واستأمنه، فلا يجوز لهم أن يخوِّنوه إلا بيقينٍ، ولم يزل قالة السوء يكثرون، ولم تزل الأمور تتغير، ولم تزل بعض الأمور يمكن أن تُقرأ على أن فيها شيئًا من الخيانة، ويمكن أن يُقال إنه اجتهد وأوسع في الوصاية، لكنه لم يوفَّق، ويمكن أن يكون وفِّق، لكن نفوسهم الجشعة، ونفوسهم الحريصة، حملتهم على أن يطلبوا ما ليس لهم، أو أن يدخلوا في ما لا يحق لهم الدخول فيه.
وهذا بابٌ ينبغي الانتباه له، وأيضًا فإن الله -جلَّ وعلَا- سائلهم، وأنهم إذا خوَّنوه، فإن الله -جلَّ وعلَا- مستوقفهم، فإن لم يكن لهم بذلك برهانٌ، وإن لم يكن عليه دليلٌ، وإن لم يكن لهم حجةٌ قائمةٌ ظاهرةٌ جليةٌ، فإنه لا يجوز لهم أن يُدخلوا أنفسهم في شيءٍ من المنازعات، التي تُفضي إلى كثير من البلاء والخيانات، والله -جلَّ وعلَا- المستعان.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "ويجوز ذلك للأب"، يعني أن للأب إذا ولي مال ولده أن يبيع من نفسه، لماذا؟ لأن الأب يجوز له أن يتملك من ماله ولده، فإذا جاز أن يأخذ بغير بيعٍ وشراءٍ أصالةً، فإنه لو حابى نفسه، أو أنقص من قيمته، فما جاز أصالةً، جاز تبعًا من بابٍ أولى، أليس كذلك؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما اشتكى ذلكم الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أباه يأخذ ماله، فقال: «أنت ومالُك لأبيك»، وإن كسْب الرجل من كسْب أبيه، فللأب أن يأخذ من مال ولده، وهذا مشهورٌ عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- بشروطٍ سبعةٍ، وتقدَّم بكم ذلك في باب الهبات، أو باب الأعطيات، وقد بُيِّنَ ما يتعلق به، وتعرفون لما امتنع الابن، قال في الأبيات المشهورة:
غدوتك صغيرًا ومِنتك يافعًا
تعلو بما أجني عليك وتنهلُ

إذا ليلةٌ ضاقت بالسَّقمِ لم أبت
لسقمك إلا ضائقًا أتململُ

كأني أنا المطروق بالذي
طُرِقَتَ به دوني فعيناي تَهْمُلُ

فليتك إذ لم ترعَ حقَّ أبوتي
فعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفعلُ

فالأب قال هذه الأبيات لما علم أن ابنه قد اشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «دعنا من الشكاية، وأخبرنا بشيءٍ قلته في نفسك ما سمعته أذناك»، التي هي هذه الأبيات، قال: والله يا رسول الله، مازال الله يزيدنا بك يقينًا، يعني من أين عرفت أنني قلتها؟ فقال هذه الأبيات، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنت ومالُك لأبيك».
فإذن من جهة الأب، لما كان له التملك أصالةً، فمن بابٍ أولى أن يبيع ويشتري من نفسه؛ لأن باب المحاباة أقل من باب التملك أصالةً، فجاز ذلك.
ولأن الأب أيضًا لا يُتَّهم، شفقة الأب عظيمةٌ، ورحمته لولده كبيرةٌ، وهو أكثر ما يكون بخسًا لنفسه لأجل ولده، ولذلك جاء في الحديث: إن الابن مَجْبَنَةٌ للأب مَبْخَلَةٌ، لما يبخل؟ يبخل على نفسه حتى يعطي ولده، ويبخل على أمه، وعلى أبيه، حتى يعطي ولده، فهو غير مُتَّهَمٍ إذن في تفويت المصلحة عليهم.
{الأب المباشر، أم يدخل فيه الأعمام والأجداد؟}.
يقول: إن الأب هنا هل يدخل فيه الأعمام والآباء والأجداد؟
أما الأعمام ليسوا داخلين في اسم الأب، وإنما كلام أهل العلم: هل الجد وأبو الأب، وجد الأب، وجد أبي الأب، وجد أبي الجد، وخذ ما شئت مما ارتفع، على أن هذا مختصٌّ بالأب الصلبي، ولذلك اختلف أيضًا، هل تدخل الأم في ذلك أو لا تدخل؟ ولهم في هذا تفصيلٌ.
وعلى كل حالٍ، هذه من المسائل التي انفرد بها الحنابلة، فالجمهور لهم في ذلك نظر في ما يتعلق بهذا الحديث.
{فلا يلي مال الصبي والمجنون إلا الأب، أو وصيه، أو الحاكم}.
قال: "فلا يلي مال الصبي والمجنون إلا الأب، أو وصيه، أو الحاكم".
الذي يلي مال الصبي والمجنون هو الأب، هذا ظاهرٌ لا إشكال فيه، ما وجه ذلك؟ أن الأبوة مبناها على الولاية، ولذلك تكاثرت بذلك النصوص: «كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته، فالأب راعٍ، ومسئولٌ عن رعيته»، فمن ذلك قيامه على ولده في مصالحه، سواءً كانت في ذلك الدينية أو الدنيوية، فمتى كان صغيرًا، أو كان مجنونًا، أو سفيهًا أو نحو ذلك، فإن الأب يقوم عليه، وهذا بإجماع أهل العلم، ولا اختلاف فيه، أن الأب له ولايةٌ، ولكمال شفقته، وأبوته، وحنوه على ولده، فإنه تكون له الولاية في ذلك.
الوصي بعد الأب، وذكرنا أنه لما كان الأب شفيقًا على ولده، فإنه لم يكن له ليوصي وينقل الولاية منه إلى أحدٍ، إلا لعلمه أنه يقوم على ولده بالوجه المطلوب، هل يمكن وهل يتصور أن الأب يجعل مال ولده إلى خائنٍ؟ أو إلى من يعتقد أنه فاجرٌ يلعب بالأموال ويفسدها ويسرقها؟ لا يمكن، أليس كذلك؟ فبناءً على هذا، ما كان ليوصي إلا لعلمه أن هذا الموصي يقوم كما يقوم هو على ولده، أو أبلغ من ذلك.
ثم الحاكم، والحاكم أيضًا له ولايةٌ بإجماع أهل العلم، والدليل على ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث: «والسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له»، فإذا لم يكن لليتيم ولا الصبي أبٌّ ولا وصيٌّ، فالأمر دائرٌ ين أن تضيع ولايته، وبين أن يكون إلى الحاكم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «والسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له»، فكانت ولايته بهذا الحديث، فسواءٌ قام بها الحاكم بنفسه، وهذا يتصور في مثل البلدان الصغيرة، والأماكن الضيقة، التي يمكن للسلطان أو الحاكم ومن ينوب أن يقوم على الأيتام، أو من ينيبه، فإذا كانت البلدان الكبيرة، والشاسعة، وفيها أيتامٌ كُثر، وفيها المجانين، فلا أقل من أن يوصي بولايتهم إلى من يعتقده قائمًا بذلك، من أقاربهم، أو من جيرانهم، أو من عُرف بصلاحٍ، أو علمٍ، أو ديانةٍ، أو إمامةِ مسجدٍ ونحوها.
هنا مسألةٌ مهمةٌ، تتعلق بهذا، وهو: أين الولاية للعصبات؟ فإن في ما يُقارب ذلك، ويشابهه، في النِّكاح، الولاية للأب، والابن، والأخ، والجد، والعم، وابن العم، على ما جاء في ترتيب العصبات.
الحقيقة أن هذا فيه شيءٌ من الإشكال، لكن يمكن أن يُقال: أن ولاية النِّكاح ولايةٌ يسيرةٌ، وعارضة، إنما هي في التزويج، فتأتي في أمرٍ يسيرٍ، أما ولاية المجانين والصغار، فإنه لا يتصدى لها إلا من يُفرِّغ لذلك وقته، ويحتاج منه إلى أن جهدٍ كبيرٍ، وقُدرةٍ بالغةٍ، فلما كان لا يتأتى لكثيرٍ من الناس، فإنه جُعل الأمر إلى الحاكم، وإن الحاكم إذا رأى أحد عصباته قائمًا بذلك، قادرًا عليه، فإنه يستمد ولايته من ذلك، ولن يجد الحاكم أحسن له من أخيه، أو عمه، أو ابن أخيه، أو ابن عمه ونحو ذلك.
هذا إذن في ولاية أموال هؤلاء.
مثل هذه المسألة، وهي كثيرة الوقوع، وهو: إذا انقطع الإنسان، أو مات في مكانٍ لا ولي فيه ولا أحد، كأن يكونوا مثلًا في سفرٍ، فيموت ميتٌ، وله معهم مالٌ، أو اشترى بضاعةً، ويمكن أنهم إذا انتظروا بهذه البضاعة إلى أن يرجعوا إلى بلادهم أن تفسد، وأن تضيع، ففي هذه الأحوال، يقول أهل العلم: إن من حضره من المسلمين يكون وليًّا عليه؛ لئلا تضيع مصالحه، و «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم»، و «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضً»، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الولاية، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]، فمقتضى الولاية النُّصرة والإعانة والتسديد، لأجل ذلك أخذ منها الفقهاء، أنه إذا احتاج إلى أحدٍ من المسلمين فإنه يكون وليًّا عنه، ولذلك حتى لو احتاج إلى نفقةٍ، ولو احتاج إلى كفنٍ، ولو احتاج إلى أشياءٍ كثيرةٍ، ولم يحضره إلا هؤلاء، لوجب عليهم أن يقوموا به، ولم يجز لهم أن يتخلوا عنه ويتركوه، وهذه من خصائص أهل الإسلام، ومما جعله الله -جلَّ وعلَا- رحمة للأنام.
{قال: فصل، ولوليهم أن يأذن للمميز من الصبيان بتصرف، ليختبر رشده، والرُّشد هنا: الصلاحُ في المال}.
هذا الباب، وهو في تصرفات الصغير، متى يُحكم بصحتها؟ فلما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: لوليهم أن يأذن للمميز من الصبيان" فدل ذلك على أصلٍ، وهو: أن الأصل في تصرفات الصغير أنها غير صحيحةٍ، أن تصرفات الصبي غير صحيحةٍ، فلو جاء شخصٌ مثلًا وأخذ هذا البيت، جاءه صاحب البيت، قال: هذا بيتي، قال: ابنك باعني إياه، بكم باعك إياه؟ قال: بمائة ريال، الصبي لا يعرف شيئًا، فلو صححنا ذلك، فلربما أفسد، حتى ولو كان هذا البيت للولد نفسه، ومِلكًا له، فإنه قد يُفوِّت على نفسه مصلحةً كبيرةً، وقد يُدخل نفسه مداخلَ عسيرةً، فلأجل ذلك كان الشرع مانعًا من التصرفات مُطلقًا، وهذا هو الأصل.
استثنى بعضهم الأمور اليسيرة أو الحقيرة، وذلك مثل ما يشتريه عندنا بالريال والريالين، والحلوى ونحوه، يعني بضعهم قال: إن هذا مستثنى، وبعضهم قال: لا، هذا ليس بمستثنى، وإنما دلت القرائن على الإذن فيه، فإن عادة الناس أن يأذنوا لصغارهم بهذه التصرفات، واستدلوا بأنه جاء عن بعض الصحابة أنه اشترى من صغيرٍ طائرًا بدرهمٍ أو نحوًا من ذلك.
فعلى كل حالٍ، سواءٌ قلنا إن هذا مُستثنى في الأشياء اليسيرة، أو احتفت من القرائن ما تدل على الإذن، والثاني أولى؛ لأنه لو دعا أنه لم يأذن له لكان صحيحًا، لكن في بعض الأحوال يدل على ذلك، لو رأيت الصغير مثلًا جاء إلى البقالة واشترى صابونًا للبيت، فالغالب أنه ينقدح في الأذهان أن والدته أرسلته لهذه الحاجة، أليس صحيحًا؟ لكن لو جاء إلى صاحب البقالة، أو كذا ليبيع عِقدٍ من الذهب، يُعلم غالبًا أنه ثَمَّ قرينةٌ تدل على الإذن فيه، وإنما هو افتأت في ذلك ولعب. فإذن الأصل ألا يؤذن، والإذن إنما هو معقودٌ في الأشياء اليسيرة؛ لقرينة الإذن في ذلك، وهذا غالبٌ ظاهرٌ.
لما كان هذا الأصل، قال: ولوليهم أن يأذن للمميز من الصبيان بتصرف، ليختبر رشده، يعني الله -جلَّ وعلَا- في كتابه قال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، فالأمر دائرٌ بين إما أن نعطيه المال، ولا ندري أنه رَشُدَ فيفسد عليه المال، وإنما أن نحجب عنه المال، ونُبقي عليه الولاية، وهذا أيضًا فيه إضرارٌ به، فلما كان الأمر كذلك، وُجِدَ أمرٌ بينهما بدلالة الآية، وهو أنه يُختبر، ولو حصل عليه شيءٌ من الغَبنِ في هذه المسألة، إلا أن المصلحة المتعلقة بها، وهي اختباره والعلم برشده من عدمه، أبلغ وأتمُّ من ما يحصل من الغبن بالشيء اليسير، أو الزيادة عليه بالشيء الحقير، أو نحو ذلك.
فاغتُفرت هذه المسألة الصغيرة من أجل المصلحة الكبيرة، وهو ألا نعطيه ماله، وألا نسلِّم له ماله، إلا بيقينٍ أنه يُحسن التصرفات، ويسلم من الغبن والمغالبات.
وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، ولذلك قال: ليختبر رشده، فيُعطى للتصرف، وإن كان بعض الفقهاء حتى في هذه المسألة قيَّدوها، كما هو عند فقهاء الشافعية ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، يقولون: إنه يُدفع إليه المال، ثم يُنظر، يعني ما يبيع ويشتري، ولكن يُراقب في مقدمات البيع والشراء، فإذا رؤي أنه يتعاطاها على وجهٍ صحيحٍ، فالغالب أنه لا يُغبن، فبناءً على ذلك يُعطى، وإلا فلا، حتى هذه المسألة منعوها؛ حرصًا على ألا يحصل من الصبي لعبٌ بماله، وتفويته على نفسه بإيراد نفسه في المهالك، وتضييع ما له من إرثٍ أو حقٍ أو هبةٍ أو نحوها.
هذا بيانٌ لقوله: بالتصرف ليختبر رشده، ثم قال: والرُّشد هنا: الصلاحُ في المال، هذه مسألةٌ مهمةٌ، وهو: أن الله -جلَّ وعلَا- أناط الحكم في تسليم الصغير ماله إذا كبر وبلغ، أن يكون منه رشدٌ، فضد الرُّشد هو السَّفه، يعني ألا يكون رشيدًا في المال، بأن يكون سفيهًا، والسفيه كمثل من يشتري الشيء الحقير بالمال الكبير، وكمن يبذل المال في ما لا يُنتفع به، فهذا كله سفهٌ، فضده الرُّشد، فما حقيقة هذا الرُّشد؟ قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: الصلاحُ في المال، ما حقيقة الصلاح في المال؟ ألا يُغبن فيه، فلا يشتري الشيء الحقير إلا ما يناسبه من المال، ولا يشتري الأمر الكبير إلا أيضًا حيث يعتقد أنه يوازيه ما بذل فيه من ذهبٍ، أو فضةٍ، أو دنانير، أو دراهم، أو غيرها من سائر العملات والأموال. وتمام ذلك أيضًا ألا يشتري ما لا يحتاج إليه، وألا يُنفق المال يُنفق المال في ما فيه سفهٌ.
إذن الرُّشد هنا، هو الصلاح في المال، يعني أن يكون مُصلحًا في ماله، فلا يكون فيه مُفسدًا، والمُفسد إما مثل ما ذكرنا، أن يبذل المال في غير وضعه، أن يُعطي الشيء الحقير بالأموال الكثيرة، ألا يُحسن المماكسات والبيع والشراء والأخذ والرد، فإذا بلغ ذلك فإنه يُعطى المال، وإلا فلا.
وهنا لما قال: والرُّشد هنا، ما أراد بها؟ أراد أن يبين مسألةً مهمةً، وهو: أن الرُّشد في المال، يختلف عن الرُّشد في النكاح، فقد يكون الشيخ رشيدًا في ماله، وليس رشيدًا في ولاية نكاحه، ولاية النكاح على مولياته، فهناك الرُّشد هو البحث عن الكفء، فبعض الناس من أحسن الناس بيعًا وشراءً، لكنه لا يعتني بأمر النساء، فقد يزوِّجها بغير كفءٍ، ويضعها عند من لا يلائمها، ويقوم عليها قيامًا صحيحًا في أمور دينها ودنياها.
إذن الرُّشد في كل شيءٍ بحسبه، فمحل الكلام هنا إنما هو في الرُّشد في المال، الذي هو الصلاح، وهو أن يُنفقه في ما يكون صالحًا فيه، حتى إذا رآه أهل الرُّشد والعقل، قالوا: أحسن فلانٌ ولم يسيء، وأتقن ولم يُخطئ، فيشتري ما للتجارة للتجارة، ويشتري ما يلائمه لنفسه، فلا يشتري لنفسه شيئًا، فيحمِّلها ما لا يطيق، ولا يكبِّدها الديون، ولا يُدخلها في مداخل ضيقةٍ، فيكون عليها في ذلك بلاءٌ كثيرٌ، فلأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: والرُّشد هنا: الصلاح في المال.
{قال: فمن آنسَ رُشدهُ دفعَ إليهِ مالهُ إذا بلغَ وأشهدَ عليه ذكرًا كان أو أنثى}.
فمن آنسَ رُشدهُ، الخطاب لمن؟ للولي، يعني من آنس الولي رشده دفع إليه ماله، فهنا إنما كانت وظيفة الولي والوصي أن يحفظ مال هذا الصغير من الضياع، فلما بلغ هذا الصغير مبلغ الرجال، وعرف تصريف الأموال، ولم يكن في ذلك عليه غبنٌ فإنه يُعطى ماله؛ ليتصرف فيه؛ لأننا لم نحسب المال عنه مَنعًا، ولا ظُلمًا، ولا احتقارًا وإهانةً، وإنما أردنا ألا يُفسده، فلما بلغ أن يكون صالحًا في تصرف الأموال، فإنه يُبذل إليه، ولذلك قال: دُفِعَ إليه.
ذكرًا كان أو أنثى، يعني أن الحكم هنا لا يختص بالرجال دون النساء، فإن المرأة إذا بلغت، فإن لها ولايةً على مالها، لها أن تبيع، ولها أن تشتري، ولها أن تفتح حسابها في البنك، ولها أن تتعاطى التجارة، ولها أن تفعل ما شاءت، مادامت أنها قد انطبق عليها هذا الوصف، وهو الرُّشد في المال، وأن تكون مُصلحةً له غير مفسدةٍ فيه.
ويختلف هذا باختلاف الأزمان والأماكن والأحوال، فقد يُعتبر في مكانٍ صلاحًا، وقد لا يكون كذلك في زمانٍ آخر، أو عند أناسٍ آخرين، بحسبِ أحوالهم.
إن قال قائلٌ، وهذه مسألةٌ مهمةٌ، وهو: لم اعْتُبِرَ للمرأة الولاية في مالها؟ ولم يُعتبر لها الولاية في نكاحها؟
{لا يصلح لها أن تعقد النكاح}.
لماذا لم يكن لها أن تعقد النكاح؟ هذا هو محل الكلام؟
{لأن من شروط الولي في النكاح لم تُذكر المرأة}.
لماذا لم تُذكر؟ نحن هنا لأجل أن نقف على هذا الملحظ الشرعي؟
أولًا: من هذه المسألة لما جُعِلَ للمرأة ولايةٌ في مالها، فإن الشرع لم يكن يمنع الولاية عنها في النكاح ظُلمًا ولا اعتداءً، ولا احتقارًا، وإلا لو كان الأمر كذلك، لمُنعت أيضًا من التصرف في مالها، ولكن الأمر في ذلك أنه طُلبت مصلحتها، ولما كان أمر النكاح، مما يخفى على النساء العلم بالأكفاء؛ لأن العلم بأكفاء الرجال، إنما يتأتى ذلك بالخلطة والمخالطة، والعلم بحقائق الأمور، والمرأة ربما استدلت في هذا الأمر بعاطفتها، ورقتها، ونحو ذلك، فقد تُدخل على نفسها ما لا يكون مناسبًا لها.
ولما كان ذلك من الأمور التي جرت العادة أن النساء يستحين من هذه الأمور، فإنما لم تكن لها فيه ولايةٌ، وإن وُجِدَ ذلك عند بعض النساء، لكن الحكم في الشرع إنما هو للغالب، الشائع، فتُبنى الأحكام على ذلك، ولا يُنظر إلى المستثنيات، أو النوادر، أو الشذوذات، ولذلك هذا وقتٌ أو زمانٌ قد ارتفع كلام أهل الباطل وعلا، ودخلوا مداخل كثيرةً في أن المرأة تزوج نفسها، وتلي نفسها، وفتحوا على الناس أبوابًا، هل كان أكثر هناءً للبيوت؟ أو استقرارًا لها؟ أو تحصيلًا لمصالحها؟ هل سُجِّلَ في ذلك خيرًا؟ وسُدَّ باب شرٍّ؟ أم أنه لم تزل الأمور أكثر فسادًا، فانتهكت الأعراض قبل النكاح، وحصلت المداخلات غير الشرعية، والمخالطات المحرَّمة، وتعلق بعد ذلك من المطالبات والمناوشات والمنازعات ما الله به عليمٌ، ومع بعد هذا كله، بعد ما طلبوه من التَّعرُّف والمداخلة والمجالسة، والمؤانسة المحرَّمة، وبعد ذلك بعد النكاح لم ينفكوا من أن يكونوا أكثر عُرضةً للشقاق، وأسرع إلى الطلاق. مما يُعلم به ما ذكرناه، وإن كنا أطلنا في هذه المسألة، لكنها من المسائل الحية، التي يحتاج الناس إلى الحديث فيها، وقد أُشيعت عبر القنوات، وعبر كثيرٍ من المنتديات ونحوها، التسويق لهذه الدعوة، والشبهة التي جاءت من الغرب، وجاءت ممن لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، بهذه الدعاوى الفاسدة، التي سرت في المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: فإن كان ذكرًا أو أنثى، مادام قد رَشُدَ في نفسه، وتعطيه في المال.
ويُشهد، لماذا؟ لأنه لما مثل هذه الأمور مبناها على احتمال الإنكار، والجحود ونحوها، فإنه يُطلب منه الإشهاد؛ طلبًا لبراءة ذمته، ومنعًا لدخول الشيطان عليهم، من أنه لم يستلم، أو أنه استلم البعض ولم يستلم الجميع، أو أنه الذي أخذه إنما كان ريع ماله، وغلة دخله، وليس هو كل ماله، إلى غير ذلك من الأشياء التي تحصل تبعًا لذلك.
فلما كان الأمر فيه شيءٌ من الاتهام، وكان فيه مدعاةً إلى الظن بالولي الظنون السيئة، والوشاة في ذلك كثيرٌ، مُنع هذا الباب، وسُدَّ هذا الطريق بالشهادة، في أن هذا الصبي كبر، وأنه عقل، وأنه تصرف تصرفًا صالحًا، وأن الأموال التي عندي هي في الحسابات رقم ورقم ورقم، وأنه استلم العقارات الموجودة عندي، سواءً كانت ذلك المال كثيرًا، أو كان قليلًا، فالإشهاد عليه يزيد من براءة ذمته، ويمنع الدخول عليه، ويسلم -بإذن الله جلَّ وعلَا- في دنياه، وفي آخرته، وأقْطَعَ لداعي الشيطان، أو تحريك الوساوس وما تُمليه النفوس، لتغير حالٍ، أو حصول أمرٍ. لو بعد خمس سنواتٍ، اغتنى هذا الولي، لتحرَّك فيهم مُتحركٌ أنه إنما كان هذا هو مالنا، وقد أخفاه عنَّا، أليس صحيحًا؟ وقل مثل ذلك أبوابٌ كثيرةٌ في هذا الشأن، فلما كان الأمر كذلك، فإنه يُقطع باب الشهادة، ولما أمر الله -جلَّ وعلَا- بالشهادة في هذا الباب، وأيضًا في البيع، وفي مواطن كثيرةٍ، ولذلك نَصَّ الله -جلَّ وعلَا- في الآية: ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبً﴾ [النساء: 6].
{قال: فإن عاود السَّفهُ أُعيدَ عليه الحجْر}.
"فإن عاود السَّفهُ" يعني أعاد السَّفه إلى هذا اليتيم بعد بلوغه، بأي سببٍ من الأسباب، إما لأنه لما اختبر لم يكن ذلك من حذقه، وإنما كانت موافقةً منه، أو أمرًا عارضًا، فيعود الحجْر عليه؛ لأن الحكم منوطٌ بعلةٍ وجودًا وعدمًا، فهو ارتفعت عنه الولاية لرشده، فتعود عليه الولاية لسفهه، فحتى لو قد شابت لحيته، أو كبرت سنه، أو كان له أولادٌ كثيرٌ، لكن تصرفاته تصرفات السفهاء، فإنه يعود الحجْر عليه، وسيأتي ما يتعلق بمن يتولى ذلك، ونحن في زمانٍ الحقيقة أن السَّفه عند كثيرٍ منَّا في الأموال، والفقهاء -رحمهم الله تعالى- قد ذكروا الحقيقة ما لو جُعِلَ في هذه الأزمان، لكان الحجْر على أكثر الناس، فإنهم يقولون: إن من النفط من يشتريه ويحرقه، النفط تعرفون ما هو؟ النفط عند الفقهاء نصوا عليه، هي التي يسميها الناس اليوم الألعاب النارية، التي يشتريها ويُشعلها وتحترق، هذه كانت موجودةً عند الفقهاء، ويسمونها النفط، فيقولون: من يشتري هذه فيُحرقها، كأنما يُحرق ماله، فهو سببٌ من أسباب الحجْر عليه، فإذا كان الأمر كذلك، فأظن أنَّا لا نسلم من أشياءٍ كثيرةٍ فيها تصرفاتٌ مشينةٌ، تُلحق بالإنسان الحجْر، بعض الأسفار، وبعض الأشياء التي يشتريها الإنسان لبيته، أو لنفسه، المبالغة في الكماليات، والإقبال عليها إقبالًا زائدًا أو محمومًا، الحقيقة مما ينبغي النظر معه، وقد يلحق بالإنسان هذه الأحكام، وإن كانت أيضًا مدارات هذه الأمور على العرف، فما قد يكون سفهًا عند شخصٍ، قد لا يكون سفهًا عند آخر، فلو اشترى إنسانٌ مثلًا هذه السيارة بسبعين ألفًا، لكان سفهًا، لكونه مثله ينبغي ألا يشتري بأكثر من عشرة آلافٍ، أو خمسة عشر ألفًا، ولو اشترى آخر بخمسمائة ألفٍ، لم يكن ذلك منه سفهًا؛ لأن هذا هو الذي يليق به، لكثرة ماله، وقدرته ونحو ذلك، فهذه المسائل إذن مناطها إلى العرف.
نعود إلى أصل المسألة، وأنه متى ما عاد إليه السَّفه، عاد إليه الحجْر، ونظر الحاكم في ولاية عليه.
{ولا ينظر في ماله إلا الحاكم}.
ما الذي يريده المؤلف -رحمه الله تعالى- بهذه الجملة لما قال: "ولا ينظر في ماله إلا الحاكم"؟
يعني أن الولي الذي قد انتهت ولايته، لا تعود إليه الولاية بمجردها، إلا أن يكون منصوصًا على ذلك، فلو كان مثلًا قد كتب الموصي في وصيته: ووصيِّ على أولادي، فلانٌ حتى يبلغ، انتهت ولايته، إذا أخذوا أموالهم بعدلهم وعقلهم، فإذا عاد يكون النظر للحاكم، لكن لو أن الولي قال: فوصيِّ عليهم فلانٌ، وأنه متى ما لحق به وصف السَّفه، أو بقي فيهم الجنون، ففلانٌ هو الوصي، فنقول: في هذه الحالة يعود، لكن الأصل إذا انتهت الولاية، ثم عاد الحجْر، فهذا السَّفه، فالسَّفه سببٌ جديدٌ، فلم يكن النظر فيه إلا من له النظر، والنظر إلى الحاكم، فينظر الحاكم في الوصي، إن كان هذا أو غيره، فمن كان أرشد، ومن كان أقوم عليهم، فإن هذا هو الذي يقوم عليه «والسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له».
إذن، لما قال المؤلف -رحمه الله-: ولا ينظر في ماله إلا الحاكم، يعني أنه لا تعود الولاية بعد انتهائها لذلك الوصي، وإنما تعود إلى الحاكم، فهو وليُّ من ولا وليَّ له.
بقيت مسألةٌ، لكن أظن أن الوقت قد لا يسعفنا الآن، وهي: ولا ينفك عنه الحجْر إلا بحكمه، لعلنا أن نجعلها في مقدمة المجلس القادم -بإذن الله جلَّ وعلَا-.
شكر الله لكم إنصاتكم، شكر الله للإخوة المشاهدين إقبالهم على الدرس، ومتابعتهم له، وليس عندي شيءٌ أذكره سوى ما ذكره المؤلف، فأنا ما أنا إلا مُبيِّنٌ وموضِّحٌ للعبارة، وإلا فالعلم في جوف الفِراء، والفِراء عند هذا الإمام، أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، ورحم الله علماء الإسلام، على اختلاف مذاهبهم، واختلاف أعصارهم وأماكنهم، جعل الله -جلَّ وعلَا- الجنة بحبوتهم، والفردوس الأعلى منازلهم، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ونحن معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين، ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين، والله تعالى الموفِّق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك