الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

10594 24
الدرس السادس

عمدة الفقه (4)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد، فأسال الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم للبر والهدى، وأن يجنبنا الشر والردى، وأن يجعلنا وإياكم أهل التقوى، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
أيها الإخوة المشاهدون، أيها الإخوة الحاضرون هذا مجلسٌ من المجالس المباركة التي نتلقي وإياكم فيها لنتدارس الأحكام ولنتعلم المسائل، ولننظر فيما سطره علماء الإسلام، فهي مسائل عظيمةٌ وتحريرات جليلةٌ، وفقهٌ كبيرٌ استنباطٌ من كتاب الله -جلَّ وعلَا- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
بين يدي هذه الحلقة أريد أن أنبه إلى مسألةٍ مهمةٍ، وهو أن الطالب متى ما عظَّم كتب أهل العلم، وعرف قدرها ودان لهم بالفضل وعرف ما لهم من السبق، ولم يزل ذلك في قلبه ولهج بذلك لسان دعاءٍ وثناءٍ فإن ذلك أحرى بأن يحصِّل العلم، فإن من الطلاب من يبدأ العلم حتى إذا أحسن فيه مسألةً أو مسألتيْن كان غاية مراده وأعظم قصده أن يستدرك على أهل العلم، فيفرح بثغرةٍ ويُسرع إلى الهفوة، فيشيعها بأن صاحب الكتاب الفلاني قال كذا وأي مسألةٍ هي هذه، وممن انتقده فيها كذا وكذا وكذا، ولا يزال هذا همه من العلم، ومن كان هذا همه فإنه يوشك ألا يحصِّل العلم، بل لم يزل أهل العلم بعضهم يترحم على بعضٍ، وبعضهم يُثني على بعضٍ، ويدعو بعضهم لبعضٍ، وإذا وجد هفوةً سدَّها، وأحسن الجواب عنها، واعتذر لقائلها، هذا إذا كان من أهل العلم الذين هم أقدر على الاستدراك، وأعرف بمواطن الخلل والعثرات.
فما الحال بالطالب إذا كان أصل نظره خاطئًا، وآفته من الفهم السقيم، وما ظن المؤلف أخطأ فيه أو عثر، فإنما ذلك هو في ظنه، وإنما ذلك ظنٌّ منه، وإنما ذلك في ما عزب عن علمه، وقل من نظره، واستعجل من أمره.
ولأجل ذلك ترون، خاصةً مع وجود هذه التواصلات، وفرح بعض الطلاب بالعلو في مراتب أهل العلم، أن أعظم الأبواب يفرح به، هو أن يكون مستدركًا في المسائل، ومصححًا لأهل العلم، وكأنه الإمام الذي لا يُشق له غبارٌ، والإمام الذي لا يأتي بعده إمامٌ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فينبغي لنا أن نعوِّد أنفسنا على سمت أهل العلم، وطريقة أهل الفضل في أن نكون عارفين بأقدار السابقين، مُثنين على العلماء الراسخين، عارفين بقدرهم وفضلهم ومنزلتهم، وما حرروه، وما كتبوه، وما دوَّنوه، وما بينوه من المسائل، وأن يكون لنا مسلكٌ رصينٌ إذا ما وقع الإنسان على هفوةٍ، أو بانت له من أهل العلم عثرةٌ في أن يُحسن الجواب عنها، والاستدراك فيها، والاعتذار لقائلها، استنانًا بسنة من سبق من أهل العلم، ومعرفةً بأهل القدر، ومن كانت هذه سبيله، فإنه يوشك أن يُفتح له باب العلم، وأن يُفتح له باب التوفيق، والعكس بالعكس، فإن من فتح عينه على عثرات الناس، فيوشك أن تُفتح عليه الأعين، فتظهر له العثرات، وتبين له العورات، فكيف إذا كان من يتتبعهم هم من أولي العلم، وأهل الصلاح، والتقوى، والديانة، وهم أقرب إلى الحق وأرجى بحصول الصواب، فلاشك أن هذا مما لا ينبغي.
ولأجل ذلك يقول بعض أهل العلم: إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم المسألة في الدين يتعلم الوقيعة، متى يُفلح؟ إذا كان قبل أن يتعلم المسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس، والكلام فيهم، وفي أهل العلم، متى يُفلح؟ وهذه كلمةٌ عظيمةٌ لمن تدبرها.
لا أريد أن أسترسل في هذا، فإنما هي اقتطافٌ واستهلالٌ ننشِّط به الطلاب، وننبه على ما ينبغي عليه أن يكون عليه أهل الفضل، ومن يريد الوصول إلى درجات العلم، ومنازله العلية.
كنا في المجلس الماضي ابتدأنا ما يتعلق بباب الموصى إليه، ولعل قارئنا أن يستهل الباب حتى نتدارس المسائل التي ذكرها والله -جلَّ وعلَا- يوفقنا للحق والهدى والصواب.
{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
قال المصنف -رحمه الله وإيانا-: باب الموصى إليه، تجوز الوصية إلى كل مسلمٍ عاقلٍ عدلٍ من الذكور والإناث، بما يجوز للموصي فعله، من قضاء ديونه، وتفريق وصيته، والنظر في أمر أطفاله}.
إذن يقول المؤلف -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، ورحمنا والمسلمين أجمعين-: تجوز الوصية لكل مسلمٍ، إذن في باب الموصى إليه، لابد أن يكون مسلمًا، فإن الوصية إلى الكافر لا تجوز، لماذا؟ لأن الموصى إليه يكون له ولايةٌ، والولاية لا تكون لكافرٍ على مسلمٍ، فلأجل ذلك قال: إلى كل مسلمٍ.
يستثنى من ذلك أن يكون الموصي كافرًا، فيجوز أن يوصي إلى كافرٍ مثله، لكن ما حاجتنا إلى هذه المسائل؟ نعم، نحتاج إليها من جهة أنه لو كان الكافر في بلادنا، فترافع إلى قاضٍ من قضاتنا، من أنه أوصى إلى فلانٍ، أو فلانٍ، أو جاء الموصى إليه لتقرير تلك الوصية وإثباتها، فإن له أن يثبتها، وأن يُمضي عليهم تلك الأحكام؛ لأنه عدلٌ في دينه، ولأجله منع أهل الإسلام من ولاية الكافر على المسلم، لا توجد في ولاية الكافر على الكافر.
إذن، إلى كل مسلمٍ، فمن كان مسلمًا جازت الوصاية إليه.
وأن يكون عاقلًا، فلا يكون مجنونًا، ولا يكون سفيهًا، فإن المقصود من الولاية والوصاية، هو القيام بما أوصى إليه الموصي، وتنفيذ ما طلبه، ولا يتأتى ذلك من غير العاقل، ومن جهةٍ ثانيةٍ، فإن غير العاقل يحتاج إلى ولايةٍ، فكيف له أن يكون وصيًّا، وهو محتاجٌ إلى الولاية؟ فلأجل ذلك يقول: لابد أن يكون عاقلًا، والقلم مرفوعٌ عن المجنون حتى يعقل، فدل ذلك على أنه لا ولاية له.
وأن يكون عدلًا؛ لأن الفاسق لا يؤمن، لأن غير العدل هو الفاسق، والفاسق لا يؤمَن أن يكون منه بخسٌ للوصية، أو تغير لها، أو إفسادٌ فيها، أو تتطلع إليه نفسه، فإن الإنسان لا يمنعه إلا عدالته، وديانته، وخوفه من الله -جلَّ وعلَا-، ولأجل ذلك لابد أن يكون عدلًا.
وهنا لما قال: مسلمًا عاقلًا عدلًا، بقي أن يُقال: وأن يكون رشيدًا، لأن الرُّشد هو الذي يحصل معه إنفاذ الوصية، وأهل العلم يجعلون الرُّشد على حاليْن، الرُّشد في ولاية النكاح، يختلف عن الرُّشد في ولاية المال، فالرُّشد في ولاية المال، من يُحسن تقليب الأموال، ولا يُبخس فيها، ويؤدي حقها، وأما الرُّشد في النكاح، فهو من يعرف الأكفاء، والأولى بالتزويج، ومن يقوم بها، فإذن لأهل العلم كلامٌ في الرُّشد، في ما يتعلق من الرُّشد في الأموال، فيختلف ذلك إذن في الحالين، لكن في كل الأحوال لابد أن يكون رشيدًا، فإذا كانت وصياته على القيام على المولية في تزويجها، فلابد أن يكون رشيدًا في اختيار الأكفاء، ومعرفة الرجال، وإن كان ذلك ولايةً في المال، ووصايةً فيه، فلابد أن يكون ممن يُحسن التصرفات.
وهنا ترى أن المؤلف -رحمه الله تعالى- لم يقل حرًّا،وهي إشارةٌ إلى أنه يمكن أن يكون الموصى إليه عبدًا؛ لأن العبد يمكن تصرفه، ويحسن التصرف، لكن يقول أهل العلم: إن كان العبد عبده، فلا إشكال في مثل هذا، لماذا؟ لأن ملكه، وأوصى بالتصرف إليه، فمنافع هذا العبد لسيده، فصح ذلك، لكن إذا كان عبدًا للغير، فيقولون: إنه يُشترط لصحة تلك الولاية، أن يأذن سيده، لماذا؟ لأن هذا العبد منافعه لسيده، وجعل الوصاية إليه تُفوِّت حق السيد، فبناءً على ذلك، إن أذن السيد في أن يتولى هذه الوصية والوصاية، فإنه ينفذ ويكون له ذلك، وإلا فلا.
وهذا الكلام في الموصى إليه، وقد تقدم بكم ما يتعلق في الموصى له، وقلنا إنه إذا أوصي للعبد، فإن كان عبد نفسه، فإن الوصية لا تصح، لماذا؟ لأنه يوصي بملكه لملكه، وهذا لا يصح، كأن يوصي له بالسيارة، السيارة والعبد كلهم للورثة، وإما أن يوصي لعبد غيره، فيقولون: يصح ذلك، ويكون الملك لسيده، لكن بابنا الذي نتحدث فيه، إنما هو في باب الموصى إليه.
قوله: من الذكور والإناث، يعني سواءً كان الموصى إليه ذكرًا أو كان أنثى، أما الذكر فهذا ظاهرٌ، والأنثى كذلك يجوز الوصاية إليها، لأن تصرفاتها صحيحةٌ في نفسها، فجاز لها أن تكون وليةً على غيرها، وكانت عائشة -رضي الله تعالى عنها- تلي أمر الصغار والأيتام، حتى إذا كان النكاح تأمر الرجال فتقول: "اعقدوا، فإن النساء لا يعقدن النكاح"، فدل ذلك إذنٌ على صحة الوصاية إلى المرأة، وهذا قول عامة أهل العلم، وإن من النساء من تكون ولايتها ووصايتها وقيامها على الصغار والأيتام والمعاتيه ومن في حكمهم، أحسن وأقوم من قيام كثيرٍ من الرجال.
إذن عدلٌ من الذكور والإناث، وهنا يقول أهل العلم: حتى ولو كان ذلك الموصى إليه معلقة الوصية، فإنها تصح، كأن يُقال: إذا كبر فلانٌ، وصار رشيدًا، فهو وصيٌّ على أولادي، فيقولون: من أن الوصية هنا صحيحةٌ؛ لأنه جاء في الأثر ما يدل على صحتها كذلك، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الولاية، قال: «إن مات فجعفر، وإن مات فعبد الله بن رواحة..»، وهكذا، فدل إذن على صحتها إذا كانت معلقةً، فمتى ما حصل المعلق عليه، فإن الولاية والوصاية تصح، وإلا يكن ما كبر ذلك الصغير، أو ما عقل، أو نحو ذلك، فإنها تبطل، وينتقل إلى من يستحقها من الورثة والعصبات وغيرهم، أو يكون ذلك للحاكم إن لم يوجد شيءٌ من ذلك.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: بما تجوز فيه الوصية، يعني كأنه أراد بذلك أن يبين المواطن التي تصح فيها الوصية، فاقرأ، قال: بما.
{قال: بما يجوز للموصى فعله، من قضاء ديونه، وتفريق وصيته، والنظر في أمر أطفاله}.
إذا كان مثلًا لا يأمن من ورثته أن يتوانوا في قضاء الديون، فقال: أنت وصييِّ على الديون التي علي، والاستحقاقات التي تلحق ذمتي، وتشغل ذمتي، فأوصى إليه، فإذا هذا الموصى إليه يقوم بتفريقها، هذا إذن الأمر الأول، والثاني: ماذا قال الثاني؟
{وتفريق الوصية}.
وتفريق الوصية، لو كان مثلًا قد أوصى من أن يُعطى الأيتام قدرًا من المال، ويُعطى طلبة العلم قدرًا آخر، ويُعطى مثلًا أقاربه الذين لا يرثون شيئًا من هذا الثلث الذي أوصى به، فقال: أنت يا فلان من يقوم على ذلك، وينجزه، فإنه هو الذي يأخذ هذا المال الموصى به، ويعطي الأيتام، ويعطي الأقارب، ويعطي طلبة العلم، على نحو ما أوصى به ذلك الموصي، فإذن تكون هذه من الأشياء التي له فيها ولايةٌ، والنظر في أمر أطفاله، الطفل هو الصغير، فبناءً على ذلك، لو أنه أوصى في الولاية على أولاده، قال: من يقوم على أولادي في التصرفات، وفي الإنفاق، وفي الإتجار لهم، هو فلانٌ، فنقول: هو وصيٌّ عليهم، ويُقدَّم حتى على أقرب الأولياء، كما لو كان لهم أخٌ كبيرٌ ذكرٌ، شقيقٌ أو من أبٍ، فإن هذا الوصي مُقدَّمٌ عليه، فيكون هو الأولى بالقيام بهذه المهمة، وهو الذي يتعلق به فعل ذلك الموصى به.
متى ما انطبقت الشروط بأن يكون قد علم من نفسه القوة والقدرة على القيام بها، ولذلك قال: والنظر في أمر أطفاله، فيُفهم من هذا، أن شخصًا لو أوصى لوصيٍّ بأن يقوم على أولاده الكبار العقلاء، فإن ذلك لا يكون صحيحًا، لماذا؟ لأن الكبير العاقل ولايته في نفسه، وهو الذي يقوم بها، فمادام أنه لم يكن صغيرًا، ولم يكن معتوهًا، ولا فيه سفهٌ، فإنه لا تكون عليه ولايةٌ، وإنه هو الذي يقوم بنفسه، سواءً كان ذكرًا أو أنثى، لكن الأنثى تكون عليها وصايةٌ في التزويج، فيكون الموصى إليه مكان الموصي، ولذلك يقول أهل العلم: حتى إن الموصى إليه تكون له ولاية الإجبار، فما يجوز للأب أن يُجبر فيه البنت في ولاية النكاح، فإن للموصى إليها أن يُجبر فيه، لأنهم يقولون: إن الأب إنما أوصى إلى هذا الموصى إليه، وقدَّمه على كثيرٍ من الأولياء، لعلمه أنه أكثر شفقةً، وأنه أعظم قيامًا بها، وتحقيقًا للمصالح فيها، ولولا علمه أنه يقوم مقامه، لما كان له أن يقدِّمه على أوليائها، الذين هم عصباتها.
{قال: ومتى أوصى إليه بولاية أطفاله، أو مجانينه، ثبتت ولايته عليهم، ونفذ تصرفه لهم بما لهم فيه الحظ، من البيع والشراء، وقبول ما يوهب لهم، والإنفاق عليهم، وعلى من تلزمهم مئونته بالمعروف}.
يقول: ومتى أوصى إليه بولاية أطفاله، أو مجانينه، ثبتت ولايته عليهم، فهي ثابتةٌ، فيتولاها منذ موت الموصي، فيتعلق به إنفاذ هذه الوصية، والقيام عليها، فيتولى أمر أطفاله، في ما يكون من النفقة وتحصيل أموالهم، وفعل ما يكون الأحظ لهم، في جميع التصرفات.
قال: ثبتت ولايته عليهم، ونفذ تصرفه لهم بما لهم فيه الحظ، من البيع والشراء، ولاحظ هنا قول المؤلف -رحمه الله-: ونفذ تصرفه لهم، بما لهم فيه الحظ، فليس له نفاذ التصرف المطلق، وإنما تصرفه بحدود المصلحة، فمتى ما كان تصرفه لمصلحتهم نفذ، ومتى ما كان تصرفه لغير مصلحتهم لم ينفذ، فلو أنه مثلًا كانت لهم دارٌ، يسكنونها، فقام وباعها، وقال: نتجر فيها، هل لهم في هذا مصلحةٌ؟ أليست مصلحتهم في الاستقرار في هذه الدار، وملكهم لها أولى من مصلحتهم في الإتجار الذي هو عرضةٌ للربح والخسارة، وذهاب المال، وعدم رجوعه، وكساده وتغير حاله؟ ومع تصور أو توقع ربحهم، إلا أن توقع خسارتهم ظاهرٌ، وحصول حاجتهم ممكنٌ، فبناءً على ذلك المصلحة في بقاء هذه الدار مقدمةً على البيع، فلما لم يكن في تصرفه في مثل تلك المسألة نفع لهم، فإنه لا يكون صحيحًا.
ومثل ذلك لو أنه لما أمسك أموالهم، قام وتصدق، قال: الصدقة بركةٌ، وخيرٌ، وإحسانٌ إليهم، وإن شاء الله يبارك الله لهم، نقول: صحيحٌ أن الصدقة خيرٌ، لكن ولاية الموصى إليه إنما هي في التصرفات الصحيحة، لا التبرعات، فباب التبرعات ليس له وصايةٌ فيها، ولأن التبرع مبناه على النية، فلابد أن يكون ذلك من الصغير، وهو لا يتصور منه صحة النية، فلا يكون، فبناءً على ذلك لا يصح تصرفه البتة، فلا يصح تصرفه في التبرعات البتة.
أما لو كان التصرف في بذل زكاتهم، فإن الزكاة في قول جمهور أهل العلم كما مر بكم، وهو مشهور مذهب الحنابلة، وهو قول الصحابة، أنها تجب في أموال الصغار، والمجانين، والمعاتيه، والسفهاء، ونحوهم، لتعلقها بالمال، فبناءً على ذلك يُخرجها، أما التبرعات غير الواجبة، أو التبرعات المستحبة، فإنها لا تنفذ، فلأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله-، وهذا الذي ينبغي أن تتنبهوا له، ويتنبه له طلبة العلم المشاهدون، أن كلام الفقهاء دقيقٌ، فهم أنفذوا تصرف الموصى إليه والوصي، لكنه إنما يكون كذلك بما يكون لهم فيه الحظ، فلو أنه باع مثلًا أرضًا لهم، وبيعها مصلحةٌ لهم، لكن باعها بدون ثمنها، بدون ما تساوي، إما لكونه ذلك الذي باعه أخًا له، أو ابنه، أو محاباةً له، أو كأنه هو الذي اشترى في الخفاء، فأراد أن ينتفع بذلك ويلعب بهؤلاء الصغار، فنقول من أن ذلك ليس بصحيحٍ، فمتى ما تبين أن تصرفه على غير تحصيل المصلحة، ولم يثبت ذلك، فإنه إذا ارتفع الأمر إلى القاضي، فإن له أن ينقضه، وإذا تبين تفريط ذلك الوصي، فإنه يمكن نزع ولايته؛ لأنه تبين أن غير قائمٍ لهم بالمصلحة، ولا محصِّلًا لهم لما يكون لهم فيه المنفعة.
ومثل ذلك قال: وقبول ما يوهب لهم، الهبة لهم منفعةٌ، فبناءً على ذلك هو يقبلها، لكن هل قبول الهبة دائمًا فيه مصلحةٌ؟ ليس في كل الأحوال، لو كانوا قد وهبوا مثلًا بعض الأموال التي قد كسدت، وهي مما يتطلب إنفاقًا كثيرًا، كما لو وهب إليهم بعض البهائم التي قد ضعفت وهزلت، والناس لا يشترونها أصلًا، ففي قبول الهبة في مثل هذه الحال، ربما تبعةٌ عليهم، فهم سيحتاجون إلى أن يشتروا طعامًا، أو أن يولوا عليها أحدًا، يقوم برعيها، والإحسان إليها، والقيام بها، وقد يكلفهم ذلك أكثر مما ينتفعون به.
فإذن هو له قبول الهبة؛ لأن قبول الهبة في الغالب مصلحةٌ، لكن ذلك مقيدٌ أيضًا بحصول المصلحة، فإذا تبين خلاف ذلك أو ظهر، أو كان ذلك غالبًا، فإنه لا يكون له القبول، ولا ينبغي للوصي أن يقوم بها، فإن ذلك ليس من الأمانة على هؤلاء الصغار والمعاتيه والمجانين.
قال: والإنفاق عليهم، وعلى من تلزمهم مئونته بالمعروف، الإنفاق على الصغار ونحوهم، لاشك أنه أعظم المصلحة، فإنه لو قبض عنهم، فإن ذلك يُفضي إلى أن يهلكوا، أو أن يلحق بهم شيءٌ من الهلكة والضعف، وربما فوَّت عليهم بعض قوة أبدانهم، ونحو ذلك.
فإذن النفقة فيها مصلحةٌ، فيقوم بها، لكنها نفقةٌ بالمعروف، فإذا كان ذلك فيه تضييعٌ للأموال، وشراء ما ليس بلازمٍ، من الكماليات والتحسينيات ونحوها، فإن هذا تضييعٌ للأموال، فإذا كان مثلًا يحصل لهم قوتهم بغذاءٍ معلومٍ، ومعروفٍ، وفيه إدامٌ تحصل به الكفاية، فاشترى لهم أطيب اللحم، وهو غالٍ غلاءً فاحشًا، لا يأكله إلا مثلًا الأغنياء من الناس، فإن هذا ليس من المعروف، وليس مما يلائم حالهم، ويناسبه، فإن المعروف في كل أحدٍ بحسبه، فإذا كانوا في طبقة الفقراء، فيشتري لهم ما يألفه الفقراء، وما يكون مناسبًا للأموال التي يملكونها، وإذا كانوا فوق ذلك كذلك، يعطيه بما يناسب طبقتهم، ويكون فيه مصلحةٌ لهم، وهو المعروف الذي يعرفه الناس، ليس فيه إنفاقٌ للأموال وإفسادٌ لها، وليس فيه إضعافٌ لهم وإهلاكهم، أو إنقاصهم عما يناسبهم، وكلما كانوا أتم حالًا، فإن يُنفق عليهم بالحال التي تلائمهم، وهذا هو الإنفاق عليهم بالمعروف.
وعلى من تلزمهم مئونته؟ هل على الصغير تلزم مئونة أحدٍ أو المجنون؟
نعم، قد تلزم مثلًا لو كان لهذا الصغير عبدٌ، أو له أمةٌ، لنقول أنه ورثها، فالإنفاق عليه واجبٌ فيها، أو لكون ذلك مثلًا المعتوه والمجنون، له هذه الأمة، وهي مما يحتاج إليها؛ لأنها ترعاه وتقوم عليه، ولا يصبر عليه أحدٌ غيرها، فإنه ينفق عليها، ولذلك أمثلةٌ، وقد تتوجب عليه نفقة زوجةٍ، قد يحتاج إلى تزويج ذلك الصغير، لوجهٍ من الوجوه، وهذا سيأتيكم في كتاب النكاح، في تزويج الصغير، وما يتعلق به، وما جاء عن ابن عمر في ذلك، لكن لا نستبقه قبل الوصول إليه.
إذن قد تلزمه هذا الصغير، وذلك المجنون نفقةٌ، فهذا الوصي، فإنه يقوم بالإنفاق على هؤلاء بالمعروف، أو بما يلائم، فلا يزيدهم، فيكون في ذلك إتلافًا لأموال هؤلاء الصغار والمجانين، ولا ينقصهم، فيكون ذلك تضيعًا لما ائتمن عليه من القيام عليهم بالمعروف.
{قال: والتجارة لهم، ودفع أموالهم مضاربةً بجزءٍ من الربح}.
قال: والتجارة لهم، لأنه معطوفٌ على: وقبول ما يوهب، ما أدري، هل هي راجعةٌ إلى من البيع والشراء وقبول، والتجارة، ويمكن أن تقول: والتجارة، باعتبار القطع، فتقول: والتجارة يعني مما يقوم بها.
فإذن من الناحية الفقهية، فإن الوصي يتجر للأيتام، ويتجر للمعاتيه، ويتجر لمن في حكمهم، والسفهاء، ولذلك جاء عن عثمان: "اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة".
وقوله: والتجارة له، يعني في أن يليها هو أمر التجارة ويقوم بها، وذلك أن يكون ممن يحسن هذا الباب، ويعرفه، فيقوم لهم بها، ويكون ذلك من حقهم عليه، ومن حسن الولاية، والقيام بالوصاية، فإن الوصيَّ لما أوصى إليه بالولاية، كان من جملتها أن يرعاهم كما لو كان أبوهم حاضرًا، أو حيًّا، فإنه يقوم عليهم بذلك، فكذلك هذا الوصي، يفعل نحوًا من هذا.
قال: ودفع أموالهم مضاربةً بجزءٍ من الربح، يعني لو كان هذا الوصيُّ لا يُحسن التجارة، أو ليس عنده الوقت الكافي في القيام بها، فإنه أيضًا لا يترك أموالهم، لا تزال في نقصٍ وذهابٍ، وتلفٍ وبوارٍ، بل يمكن أن يدفعها إلى من يقوم بها، يحركها، ويديرها، ويعملها، حتى تنمو وتربح، حتى يكون لهم في ذلك المصلحة.
ودفع أموالهم مضاربةً، إذن تُدفع مضاربةً، يعني شركة المضاربة، وهي الشركة التي يكون المال من شخصٍ، والعمل من شخصٍ آخر، والربح بينهما على ما يتفقان عليه، ولأجل ذلك قال: بجزءٍ من الربح، وينظر في هذا في أمرين، في أول من يحسن المضاربة والأعمال، والثاني: أن يكون الجزء الذي اقتطعه للمضارب بقول بعض الفقهاء، أو المضارب باعتبار أنه هو الذي يعمل، جزءٌ يماثل ما يأخذه أمثاله، فإذا كان مثلًا قد شاع في مثل هذه الأعمال، وفي مثل قدرة هذا الشخص، أنه يأخذ ثلث الربح، فلا يعطيه أكثر من ذلك، وإذا كان مثلًا العادة في مثل هؤلاء، ومن يملك هذه الخبرات، أن يأخذ خمسةً وعشرين في المائة، ما يأتي الوصي فيعطيه أربعين في المائة، فإذا أعطاه أربعين في المائة، فكأنه أخل بما يجب عليه، بل بجزءٍ من الربح، يعني بحسب المعتاد، وبحسب ما يليق بالحال.
فلو أعطاه أربعين في المائة، نقول: ليس بصحيحٍ، ولو رُفع إلى القاضي، فإنه يُبطل ذلك، لكن لو ذكر سببًا صحيحًا، كأن يقول من أن هذا صحيحٌ، أنه مثل فلانٍ، وفلانٌ قد أخذ خمسةً وعشرين في المائة، لكن هذا يختلف عن فلانٍ في أمرٍ، فإن هذا مصرَّحٌ له بالعمل في هذا الباب، فلا يُخاف على المال من النقص، ولا يُخاف عليه من حصول الإشكال، وأما ذاك، فإنه أنقص إلى خمسٍ وعشرين، لكونه لا تصريح معه، فيمكن أن يلحقه بذلك إيقافٌ عن العمل، ومنعٌ من الإتجار ونحو ذلك، فإذا ذكر سببًا صحيحًا فذاك، المهم أو حاصل ما ذكر المؤلف من المسألة، أن الوصي من ضمن ما يتعلق به من الوصاية والولاية، أنه يتجر لهم، أو يدفعها لمن يتجر لهم إذا تعذر عليه القيام بذلك، لسببٍ من الأسباب، ويكون ذلك في من يقوم بها على وجهها، ويقتطع له من الربح، بحسب ما يناسب من الحال، وما يلائمه، لا يكون في ذلك زائدًا، ولا يكون مُنقصًا.
{قال: وإن اتَّجر لهم بنفسه، فليس له من الربح شيءٌ، وله أن يأكل من مالهم عند الحاجة بقدر عمله، ولا غُرم عليه}.
إذن يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: وإن اتَّجر، يعني هذا عودٌ إلى المسألة الأولى، وهي في ما إذا قام بالتجارة بنفسه، وأسندها إلى فعله، فاتَّجر لهم، فاشترى لهم البضائع، وأعاد بيعها، أو اشترى لهم الماشية، ونماها، وهكذا، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: ما الحكم في هذه الحال؟ فكأنه يقول: لا يكون حكمه حكم المضارب، بل هذا موصًى إليه، والموصى إليه له حكمٌ يخصه، ما يقول والله فلانٌ من الناس يتجر معه لأولاد فلانٍ، ويأخذ عليهم الربع، فإذا أنا سآخذ عليهم الربع، أو أخذ عليهم النصف، فأنا سآخذ النصف، فيقال: إن تلك حالٌ، وهذه حالٌ، فتلك حال مشاركةٍ، وهي مضاربةٌ، ولها أحكامٌ تخصها، وأنت لست ممن دخل في ذلك، بل أنت موصىً إليه، والموصى إليه له أحكامٌ تخصه. ما الحكم الذي يخصه؟ هو الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من أن له أن يأكل من مالهم عند الحاجة بقدر عمله.
فبناءً على ذلك، أو تحصيل هذا الكلام، أنه يأخذ بقدر حاجته، فإذا كانت حاجته أكثر من عمله، لا يأخذ، أو بعبارةٍ ثانيةٍ، كأنهم يقولون: يأخذ الأقل من حاجته، أو قدر عمله، فإذا كان مثلًا قدر عمله أن مثله يُعطى كل شهر عشرة آلافٍ، وحاجته سبعة آلافٍ، فيأخذ سبعةً، وإذا كان هو قدر عمله عشرة آلافٍ، وحاجته في العادة تكون اثنى عشر ألفًا، خمسة عشر ألفًا تتراوح، نقول: لا يأخذ أكثر من عشرة آلافٍ، فهذا قول المؤلف -رحمه الله تعالى- في قوله: وله أن يأكل من مالهم عند الحاجة بقدر عمله، وأصل ذلك أنه جاء في الحديث، وقوَّى بعضهم أسانيدهم، أن لولي اليتيم أن يأكل من مال اليتيم غير متأثلٍ ولا متمولٍ، يعني يأخذ بقدر الحاجة، ولأن أهل العلم يقولون: جاء أنه يأكل بالمعروف، أليس كذلك؟ والإذن له في هذا، وأن هذا مقابل عمله، فبناءً على ذلك لم يكن له ليزيد عن عمله، ولم يأخذ إلا بقدر حاجته، فإن كانت الحاجة أقل، أخذ بها، وإن زادت الحاجة فإن ما أخذ بقدر عمله، فبناءً على ذلك لا يزيد على قدر العمل، فيكتفي بقدر العمل، ولا يزيد.
وهذا الباب من أكثر الأبواب فسادًا عند من لا أمانة له، وعند من لا يخاف الله، خاصةً إذا كان الأيتام، أو السفهاء، والمجانين والمعاتيه، ممن ليس وراءهم أحدٌ من العصبات يلاحظه وينظر في تصاريفه للأمور، فإن أناسًا كثيرين ربما أفسدوا في ذلك غاية الفساد، فبعضهم -نسأل الله السلامة والعافية- يبتدئ هذا الأمر قصدًا للفساد، وفرحًا بالاستغلال، ومنهم من يبدأ أيضًا بنيةٍ صالحةٍ، ورغبةٍ خالصةٍ، حتى إذا أدار العمل، وأمضى وقتًا تغيرت النية، إما لكثرة المال، وإما لحاجته، أو لغير ذلك من الأسباب، وفي كلا الحالين لا يجوز للإنسان أن يفعل ذلك، ولهذا على الوصي أن يتقي الله -جلَّ وعلَا- ابتداءً، وأن يعود إلى نفسه محاسبة بين الفينة والأخرى، كي لا يكون منها الزلل، ولا يحصل منها الخطل، فإن ذلك خطيرٌ على الإنسان، ويوشك أن يوبق بدنياه آخرته، ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرً﴾ [النساء: 10]، فتوعدهم الله -جلَّ وعلَا- بأعظم الوعيد، لأن الأيتام ليس لهم من يسندهم، ولا من يدافع عنهم، ولا من ينتزع منهم حقوقهم، ولأنه ائتمن على هذا، فيصعب ظهور خيانته، واكتشاف زلله ونقصه.
قال: ولا غُرم عليه، يعني كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- أراد أن يبين أنه لو اتَّجر لهم، فلم يوفَّق، أو حصل كسادٌ لتلك التجارة ونقصٌ، مع استنفاذه للوسع، وإكماله للعمل، وعدم حصول تفريطٍ منه، ولا تضييعٍ، ولا بخسٍ للمال، ولا لعبٍ، فإنه لا غُرم عليه إذا ذهب المال أو بعضه، لماذا؟ لأن هذا من أبواب الأمانات، فهو أمينٌ، والأمين لا يضمن إلا أن يتعدى أو يفرِّط، فمادام أنه لم يتعدَّ ولم يفرِّط، فإنه أمينٌ، والأمين لا غُرم عليه، كمثل من استودع وديعةً فضاعت بدون تفريطٍ منه ولا تعدٍّ، ومثل الشريك إذا خسر المال، وقد استنفذ وسعه، وأدى ما عليه، فإنه ليس عليهم في ذلك شيئًا.
{قال -رحمه الله-: ولا يأكل إذا كان غنيًّا، لقول الله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 6]}.
أما إذا كان غنيًّا، فإن الله -جلَّ وعلَا- أمره بالتعفف، ومنعه من الأخذ، فبناءً على هذا لا يأخذ، ولا يحق له الأخذ.
لقائلٍ أن يقول: فما حاصل عمله؟ وما ينفقه من جهد وعمله؟ فنقول: إن باب الوصاية هو باب التبرع، وباب الإحسان، فهذا الموصى إليه قد تبرع بالقيام على هؤلاء الأيتام، وقد تبرع بالإحسان إلى هؤلاء المعاتيه، أو المجانين، وقد تبرع بإنفاذ وصية ذلك الموصي وقبولها، فهو مأجورٌ، ومثابٌ عنه الله -جلَّ وعلَا-، ويوشك أن يعقبه الله بركةً وخيرًا في دينه ودنياه، فبناءً على ذلك مادام غنيًّا فإنه لا يأخذن.
أما إذا كان محتاجًا، فقد جاء النص بالإذن له، ﴿وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 6]، والمعروف بقدر حاجته، فإن كان حاجته كبيرةً، فلا أكثر من قدر عمله، لأنه هو الوجه الذي استحق به ذلك المال، ولأنه لو كان يأخذ أكثر من عمله، لأمكن أن ينقله إلى آخر، فيأخذ مقابل ذلك العمل، فيكون أنفع لهؤلاء الأيتام، أن يوكل ذلك العمل إلى شخصٍ غيره.
{قال: وليس له أن يوصي بما أوصي إليه به، ولا أن يبيع ويشتري من مالهم لنفسه}.
قال: وليس له أن يوصي بما أوصي إليه به، هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، في ما ذكرناه في أول المجلس، من أنه إذا أوصي إليه، فإنما استأمنه ذلك الموصي، فبناءً على ذلك، متى ما أمكنه القيام بها قام، وإن تعذر عليه القيام بها، فإن الولاية ترجع إلى مستحقها، من العصبات، ومن له حقٌّ من أهل الولايات، فإن لم يكن له وليٌّ، فالولاية للحاكم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «والسلطان وليُّ من ولا وليَّ له»، ويُقصد بالسلطان هو السلطان الأكبر، ومن ينوب عنه في الولايات وهو القاضي، فإذن ليس له أن يوصي، إلا أن يُجعل له ذلك، فلو أنه قال في الوصية: ووصيتي أن يقوم على أولادي الصغار فلانٌ بن فلانٍ، فإن كان مشغولًا، أو ضعف به الأمر، فمن يوصي به من الرجال، الأقارب، أو ممن يراه من طلبة العلم، أو غير ذلك ممن يذكره بالأوصاف، أو يجعل الاختيار إليه مطلقًا، فيقول: من يختاره فلانٌ، فهو وصيِّ بعده، فيستحق بذلك الوصاية؛ لأن هذا من جملة ما أوصى به مستحق الولاية أصالةً، وهو الأب، ومن جعل الله -جلَّ وعلَا- إليه استحقاق ذلك بالشرع.
ثم قال: ولا أن يبيع ويشتري من مالهم لنفسه.
لما كان مأمورًا بأن يطلب لهم الأحظ والأنفع، فإن الإنسان إذا باع من نفسه، فإن الإنسان مجبولٌ على أن يطلب لنفسه الأحظ، وأن يتجاهل سواه تحصيلًا لمصلحته، وهذا مما جُبلت عليه النفوس، حتى لو أراد الإنسان أن يدفعها لوجد أنه عسيرًا أن يدفع ذلك، وأن يطلب الخير لمقابله أكثر من الخيرية لنفسه.
فلما كان الأصل في أن الإنسان إذا باع من نفسه، أن يطلب المصلحة لنفسه، وهو في الحال نفسها، قد طُلب منه أن يطلب المصلحة لهؤلاء الأوصياء، فإنه لن ينفك من أن يجنح إلى نفسه، فبناءً على ذلك يفوِّت الوصاية، فمنع من هذا التعامل، فبناءً على ذلك ليس له أن يبيع من نفسه، حتى ولو طلب واستنفذ وسعه، فيمكن أن يُظن به ظن السوء، فقُطع دار ذلك، ولذلك يقول أهل العلم: فإذا لم يكن أحدٌ ليشتري هذه السلعة غيره، فيمكن أن يرفعها إلى القاضي أو الحاكم، فيقول: إن هذه بضاعةٌ أو سلعةُ مولي فلانٍ، أو من أتولاه وأوصي إليه بالقيام إليه، وعرضتها للشراء، فلم يشتريها، وإني أحب أن أشتريها بكذا، فيكون في تلك الحال الوصي عليها هو القاضي، وهو المشتري، فينتفي في ذلك ما يكون من الإشكال، وما يتصور من حصول المحاباة، والتضييع مصلحة لأولئك الصغار.
إذن هذا إشارةٌ إلى ما يتعلق من بعض تصرفات الوصي، لعلنا أن نشير إليها في مقدمة الحلقة القادمة، لأن الوقت قد أزف بنا، أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يجزيكم خيرًا، وأن يُتم عليكم النعمة، ويُعظم بكم المنة، وأن يجعلكم من أهل الفقه والعلم، وأن يُعلي لكم في ذلكم الدرجة، وأن ينفع بكم الإسلام والمسلمين، وأنتم كذلك أيها المشاهدون والمشاهدات، جعل -جلَّ وعلَا- أوقاتكم عامرةً بالعلم، ظاهرةً فيه، وأن يستبقينا وإياكم مقيمين للعلم قائمين به، وأن يميتنا على ذلك غير حائدين، ولا منحرفين، إن ربنا جوادٌ كريمٌ، وأقام للعلم منارةً، ولأهله طريقًا مستقيمًا، وأعلى منزلتهم في الدارين، وشكر الله لمن قاموا على هذه المجالس، وجعل الله -جلَّ وعلَا- ذلك في موازين حسناتهم، والله تعالى الموفق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك