السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على النبي
المصطفى، وعلى آله وأصحابه، ومن بهديه اقتفى، أما بعد.
فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من عباده العالمين العاملين، وأن
يوفقنا للهدى والتقى والفقه في الدين، وأن يجعلنا عليه مستقيمين غير حائدين ولا
منحرفين، وأن يحفظنا من كل بلاءٍ وفتنةٍ، ومن كل شرٍّ ومحنةٍ، وأن يحيينا على
الإسلام والسنة، وأن يقبضنا على الإسلام والسنة مسلمين، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
أيها الإخوة الكرام، هذا مجلسٌ من المجالس المباركة، الذي نتدارس وإياكم فيه ما
يفتح الله -سبحانه وتعالى- من المسائل والأحكام، وما سطَّره علماء الإسلام في هذا
الباب المبارك، وفي هذا الفقه العظيم، كتاب الوصايا بعد أن أخذنا جملتها، وأتينا
على تمامها، ونستهل -بإذن الله سبحانه وتعالى- في هذا اليوم كتاب الفرائض، ولن نخرج
عن ما سطَّره علماء الإسلام، ولن نتجاوز ما ذكره الفقهاء الأعلام، فإن الخير في جوف
الفرا، وقد استنبطوا الأحكام ودونوها، ورتبوها، وأحسنوا أيما إحسانٍ، فلهم منا
الدعاء، بأن يتولاهم الله -جلَّ وعلَا- برحمته، وأن يجزيهم بفضله، وأن يجعلهم في
بحبوحة جنته، وأن يعقبهم في ذلك رفعةً في الآخرة، كما كان ذلك رفعةً لمن سلك سبيلهم
في الدنيا.
أيها الإخوة، حينما نبدأ في كتاب الفرائض، فسنحتاج إلى مسائلَ أو مقدماتٍ، قبل أن
نُدلف إلى التفصيلات، لكن بين يدي ذلك، من الحَسن أن نقرأ ما سطَّره أبو محمدٍ عبد
الله بن أحمد بن قدامة -رحمه الله تعالى- في عمدة الفقه، الذي هو محل دراستنا، ومتن
بحثنا في هذه المجالس المباركة.
{بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين
والمشاهدين.
قال المصنف -رحمه الله-: كتاب الفرائض، وهي قسمة الميراث، والوارث ثلاثة أقسامٍ: ذو
فرضٍ وعصبةٌ وذو رحمٍ}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "كتاب الفرائض" فكتاب الفرائض مِن الأبواب التي
ذكرها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في ضمن أبواب الفقه، وما يتعلق بمسائله.
ولما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- في ما مضى ما يتعلق بالهبات والأعطيات، التي هي
في الدنيا، والتبرعات، التي هي الوقف ونحوها، وأعقب ذلك بما يكون مقدماتٍ للموت، من
الوصايا، وما يستعد له الإنسان بعد وفاته، مما يرى أنه من الأهمية بمكانٍ، فيحضِّر
له، عسى الله -جلَّ وعلَا- أن يبلِّغه ما أوصى به، وما رغب إلى الله -جلَّ وعلَا-
فيه، من الحفظ والصيانة، ومن الخير والتبرع والإحسان.
بعد ذلك يكون الحديث عن ما يحصل بعد الموت، وهي الكلام في الفرائض وقسمة المواريث
وما يتعلق بها.
وكما قلتُ لكم: الفقهاء جعلوه بابًا من أبواب الفقه، وكتابًا من كتبه، يدرسونه على
طريقة الفقهاء، وربما زاد الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في هذا العلم خصيصةً فجعلوه
مدوِّنًا في كتبٍ مختصةٍ، وجعلوا له شرحًا موضَّحًا مبيَّنًا مُفرَّعًا زادوا فيه
من التوضيح، وأكثروا فيه من التمثيل، وخصُّوه بزيادةٍ من الإيضاح والبيان، وذلك
لخصوصية هذا العلم من جهتين:
أولًا: ما جاء فيه من الفضائل، وما اختُص فيه من الأحاديث، الدالة على علو منزلة
متعلمه، وما له من الأجر والثواب.
والثاني: أيضًا ما اختُص به هذا العلم، من الحاجة إلى شيءٍ من التفصيل والبيان.
ويمكن أن يُقال، وهذا على سبيل التأمل: إنه من عظم الفرائض أن الله جلا وعلا قسمها
في كتابه، فبيَّنها تفصيلًا وتوضيحًا، فكان مِن أثر ذلك، أن سُخِّرَ له علماء
الإسلام أيضًا، زادوا في توضيحه، وبيَّنوا ما جاء في كتاب الله -جلَّ وعلَا-، فيكون
ذلك استنانًا بما جاء في الكتاب، واتباعًا لما دلت عليه الآيات، وما جاء في القرآن،
فلأجل ذلك تكاثرت الكتب عند العلماء المتقدمين، والمتأخرين، على اختلاف مذاهبهم في
تدوين هذا العلم، على سبيل الانفصال والاختصاص.
كما قلتُ لكم: ثمَّ مسائل يُحتاج إلى الحديث عنها، في مقدمة الكلام على هذا الباب.
قبل أن ندخل في التعريفات ونحوها، فإن مشروعية الفرائض في كتاب الله -جلَّ وعلَا-
جاءت في غير ما آيةٍ ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ [النساء: 12]،
وقبلها: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11].
إذن قد جاء في كتاب الله -جلَّ وعلَا- ما يدل على قسمة المواريث واستحقاقها، ومن
يكون أولى بها، وتكاثرت بذلك السنن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، دالةً على
المشروعية، كما في الحديث الذي في الصحيح، من حديث ابن عباس: أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجلٍ ذكرٍ»، وثمَّ أحاديث
كثيرةٌ.
والإجماع مُنعقدٌ عند أهل العلم على قسمة المواريث، واستحقاق قرابة ومن أدلى بسببٍ
صحيحٍ في الجملة، عند أهل العلم، وهذا الباب محل اتفاقٍ وإجماعٍ، وسيأتي تفصيل
الكلام فيه، ولما كان مفصَّلًا في كتاب الله -جلَّ وعلَا- أيضًا، كانت أكثر مسائله
على الاتفاق والإجماع، لا اختلاف فيها، وقلَّ فيها باب الاجتهاد والاختلاف، في
مسائل يسيرةٍ، وكان أيضًا القول فيها اعتبارًا بما نُقل عن الخلفاء والصحابة، الذين
هم أكثر الناس فهمًا وأعمقهم فقهًا.
هذا ما يتعلق بالكلام على مشروعيته، وإذا قلنا من أن الله شرع، فليس شيءٌ أتم من
شرع الله، ولا أعظم مما جعله الله -جلَّ وعلَا- للعباد، ويسَّره للخليقة، وبيَّنه
للمخلوقين، فلن يكون مساويًا له دستورٌ ولا قانونٌ ولا ما اعتاده مجتمعٌ، أو ما كان
عوائد وألفه أهل بلدٍ، فليس بعد حكم الله حكمٌ ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
قِيلً﴾ [النساء: 122]، ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: 50]، فكل
ذلك لا يُجدي على أهله شيئًا، ولما كانت هذه الأزمنة من الأزمنة التي طاشت فيها
الفهوم، وتغيرت فيها النفوس، وركن أقوامٌ كثيرٌ إلى ما عند الغرب أو الشرق، إما
ضلالًا وزيغًا في قلوبهم، وإما إعجابًا بدنياهم، والله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿لَا
يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: 197]، فكل ذلك لا يُجدي على
أهله شيئًا، لكن مع ذلك لم يزل أولئك الأقوام لما شرقت قلوبهم بكتاب الله -جلَّ
وعلَا-، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأملت عليهم شياطينهم ما ألفوه في الغرب
أو في الشرق من أحكام ما يسمونها قانونيةً، أو مدنيةً، أو غيرها، فغيَّروا بها
أحكام الله -جلَّ وعلَا-، وغيَّروا ما جاء في كتاب الله -سبحانه وتعالى-، وظنوا أن
ذلك أهدى سبيلًا، أو أصلح للعباد، أو أنه أقوم للعدل، ولذلك تجدون أنهم كثيرًا
يقولون: العدل والمساواة، وهذا ليس من العدل، ثم يوردون كلامًا كثيرًا.
فهنا أولًا: لو تأملتم جميع ما جاء في الدساتير الجديدة، أو ما عُرف في العوائد
القديمة، عند أهل المجتمعات عامةً، فلن تجد أتم ولا أعدل ولا أنجح ولا أنجع ولا
أكمل من ما جاء في كتاب الله -سبحانه وتعالى-.
ولو بحثت فيها ليس بحثًا عميقًا، ولا نظرًا كثيفًا، ولكن نظرًا يسيرًا بسيطًا،
لرأيت فيها من التناقض والعوار، والخلل، والثغرات، والإشكالات، ما الله به عليمٌ.
ولما كان حُكم الله -جلَّ وعلَا- الذي يعني أتم الملة، وأوضح السبيل، وبيَّن للعباد
ما يكون به صلاح دينهم ودنياهم، فإنك لن تجد أصلح للعباد من حكم الله -سبحانه
وتعالى-، هذا على سبيل الإجمال.
لكن إذا دخلنا إلى شيءٍ من التفصيل، فإنهم أكثر ما يلمزون به قسمة المواريث
والفرائض مسألة ما يكون من أن يُجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقولون: إنه ليس من
العدل ولا من المساواة، فهنا وقفةٌ،
أولًا: أن التعبير بالمساواة ليس بصحيحٍ؛ لأن المساواة هو التسوية، والتسوية على
الإطلاق ليست صحيحةً، وإنما الحق والعدل، وهو أن يُعطى كل ذي حقٍّ حقه، فلو سوِّي
من يستحق القليل بمن يستحق الكثير، لكان ذلك ظلمًا وانحرافًا، فلأجل ذلك هذه
العبارة، وهي تجري أيضًا على أفواه بعض أهل الفضل، وربما بعض طلبة العلم، ليست
قويةً.
فنقول: الشرع جاء بالعدل، ما نقول: والمساواة؛ لأن المساواة أخذوها هم من كلام بعض
هؤلاء الغربيين، ونحن ليس عندنا تسويةٌ، وإنما عندنا العدل، فلا يسوَّى البعيد
بالقريب، أليس كذلك؟
وأما ما جاء من المباينة، أو الاختلاف أو إعطاء الذكر ما للأنثيين من البنات
والإخوة ونحوهم، فنقول:
أولًا: يجب أن يُعلم أن مبنى الأحكام على الانقياد والتسليم، وعلى هذا أصل الملة
والتوحيد، فإن في هذه الدنيا ابتلاء، وإنما يكون المؤمن مؤمنًا بحكم الله -جلَّ
وعلَا- غير معترضٍ ولا رادٍّ ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء: 65]، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولَا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]، ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينً﴾ [الأحزاب: 36]، والضلال ليس في الآخرة فقط، بل هو
حتى في ما يتعلق من أمور الدنيا ومصالحها، فإنه لا يكاد ينتقل إلا إلى بلاءٍ، وإلى
شرٍّ، وإلى سوءٍ، وإلى ما لا يحصل به صلاحٌ.
المسألة الثانية: أن الله -جلَّ وعلَا- حكم فعدل، ولذا قال الله -جلَّ وعلَا-:
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا
اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: 32]، فإذن هذا دليلٌ آخر
لمنع الاسترسال مع هذه الشُّبه، أو التمسك بها، أو اعتبارها ومصادرة الشرع فيها.
والثالث: أن الغُنم بالغُرم، كما أن الشرع جاء في مسائل كثيرةٍ بتعليق المسئوليات
والإنفاق والتبعات على الرجال، فقد جعل لهم مقابل ذلك ما اختصوا به من الميراث على
النساء.
وإن كان أيضًا ليس في كل الأحوال أن الرجل أكثر من الأنثى، فثم مسائل قد يستويان،
وثم مسائل قد تكون الأنثى أكثر من الرجل، لكن ما ذكروه بالنسبة للبنات مع الأبناء،
أو الأخوات مع الإخوة، فيعني سواءً أشقاء أو لأبٍ، فهذا صحيحٌ، وهو مما جاء به
الكتاب صريحًا.
ثم هؤلاء الذين يقولون التسوية بين الرجال والنساء، فإن لو طُلبت، هل المقصود
التسوية في كل شيءٍ؟ لا يتصور هذا، فإنما جعل الله -جلَّ وعلَا- للمرأة مختصةً به
غير ما جعل للرجل مختصًا به، أليس كذلك؟ مما خُلقوا في أصل خلقتهم، وفي ما استقر في
نفوسهم، وطريقة تعاطيهم للدنيا وغيرها، ولو أردت للمرأة أن تكون رجلًا، أو للرجل أن
يكون امرأةً، لكلَّفته بما يكون عليه فيه بلاءٌ كثيرٌ، سواءٌ كان ذلك بطبيعة المرأة
ومشاعرها، أو ما تحمل به، وما يكون فيها من الطمث والحيض وغير ذلك، وما اختصت به من
المشاعر وما تقوم به من رعاية الصغار، فهل يمكن أن نقول: لابد أن ننقل رعاية الصغار
إلى الرجال؟ لا يتصور هذا، ولا يمكن أن يقوم بها على وجهها، وكذلك ما جُعل فيه
الرجال من الذَّبِّ عن النساء، والإعانة على نوائب الدنيا، وجمع المال، والتغرب في
الأوطان، وتحمل ما يكون به الكدح والتعب والجد والاجتهاد ونحو ذلك، فجعل الله -جلَّ
وعلَا- لها شيئًا، وجعل الله للرجل شيئًا آخرًا.
فمثل ذلك كما أنه لا يمكن أن يُقال إن مثلًا في من وُلد مريضًا، أو وُلد مُعاقًا،
أو وُلد أعمى، أو وُلد زَمِنًا أو نحو ذلك من العاهات، فإن هذا من الابتلاء في
خصوصية أناسٍ، فكذلك ابتُلي جنس النساء بشيءٍ لم يبتلَ به الرجال، وتعلق بالرجال
أحكام لم يتعلق بهن النساء، فنقول: يا أيها المدعون لدعوة التساوي، فإذا لم تكونوا
قادرين على التسوية في كل شيءٍ، فقد بطلت طلبتكم، وهذا لا يمكن أن يقول به أحدٌ،
فبقي أن نقول: إما أن يكون التفريق بما نراه، والناس في ذلك مختلفون، وإما أن يكون
ما جاء من الله، والله أعلم بخليقته أجمعين.
وهذه من المسائل التي يكثر الحديث عنها كثيرًا، بعض المسائل التي جاء الشرع في
اختصاص النساء في مسائل أو ما جُعل للرجال أيضًا من أحكامٍ، ويُكثر فيها البلبلة
والأخذ والرد، بعضُ المغرورين بحضارة الغرب، والمتبعين لها، فلا يزال ذلك يُفسد
عليهم دينهم، وربما أعقبهم خُسرانًا مُبينًا -نسأل الله السلامة والعافية-.
ولا ينبغي للإنسان أيضًا أن يُصغي بأذنه لمثل هذه الأطروحات، فإنه ما من شيءٍ في
هذه الدنيا إلا وإذا أُعيد فيه الأخذ والرد فربما تجد فيه ثغرةً، ومبنى الدنيا كلها
على التسليم والإيمان والابتلاء، فمن لا يسلِّم لا يكاد يستقر له قلبٌ، ولا تسلم له
حياةٌ، ولا يطمئن في هذه الحياة.
ثم بالنظر إلى الواقع -كما قلت لكم- لو استعرضتهم، وإن كان للحديث أو الوقت معنا
قصيرٌ، وإلا لو كان عندنا متسعًا من الوقت، لعرضت لكم كثيرًا من القوانين سواءً
الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية وغيرها، وفي كلها من الإشكالات وظهور
التناقضات والبلايا ما يعلم بها إلا الله، سواءً كان ذلك فيما مضى من الأزمان أو ما
تجدد في هذه الأعصار من قوانينهم وطرائق قسمتهم ونحوها، وكلها بلاءٌ وفتنةٌ، ولذلك
ما أحسن أن تستحضروا في هذا قول الله -جلَّ وعلَا-: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ﴾
[النساء: 11]، فقد يكون في بعض المسائل وجود شخصٍ سبب فوات بعض المال، وقد يكون
وجوده زيادةً لآخر، وهكذا، والله -جلَّ وعلَا- يقسم للعباد ما يكون خيرًا لهم.
إذن هذا من جهةٍ، وينبغي أن يستقر في أذهاننا وفي أذهان الإخوة المشاهدين، وهي من
المسائل التي يكثر الأخذ والرد فيها خاصةً أن بعض بلاد المسلمين مما انجرت إلى بعض
هذه القوانين، فجعلت قسمة المواريث على ما استوردوه من تلك الدساتير الغربية،
والقوانين غير الإسلامية، وضلوا بذلك ضلالًا مبينًا، فأفسدوا على أنفسهم دينهم،
وأفسدوا على أنفسهم أيضًا دنياهم، فإن الخير كله في الدين والدنيا في إتباع ما جاء
به كتاب الله -جلَّ وعلَا-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا إذن من المسائل المهمة التي يحسن منها التوطئة والتقدمة بها بين يدي الحديث عن
الفرائض والمسائل المتعلقة بها.
من المسائل أيضًا المهمة ربما وهي أيضًا لا يحسن بنا الإشارة إليها، ولكن نشير
إليها على شيءٍ من الاستعجال أيضًا طلبًا للاختصار وهو ما جاء في هذا العلم من
الفضل بخصوصه، فإن علم المواريث والفرائض مما جاءت بها أحاديث دالةً على فضلها، فمن
ذلك أنه جاء عند أهل السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «العلم ثلاثةٌ: آيةٌ
محكمةٌ، وسنةٌ قائمةٌ، وفريضةٌ عادلةٌ».
وأيضًا جاء عند الترمذي وغيره، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «تعلموا الفرائض
وعلموها، فإنها أول علمٍ يفقد» أو «أول علمٍ ينزع، حتى يختلف الرجلان في الفريضة لا
يجدان من يحكم فيه»، وروي برواياتٍ مقاربةٍ لذلك، ولذا يقول الناظم:
وهو أول علمٍ يفقد
في الأرض حتى لا يكاد يوجد
إذن هذا «تعلموا الفرائض وعلموها، فإنها نصف العلم» فإذن في هذا الحديث دلالةٌ على
الأمر بتعلم الفرائض بخصوصها، والثاني: أنها نصف العلم، والثالث: أنها أول ما
يُفقد، ما حقيقة هذا الفقد؟ ربما يكون فقد العلم بها كما جاء في الرواية الأخرى
«حتى يختلف الرجلان في الفريضة لا يجدان من يحكموا به» وربما يكون تفسيرها أيضًا
ما آل إليه أمر الناس من الاستبدال بهذه القوانين والدساتير وغيرها، حتى أعرضوا عما
جاء في هذه التفصيلات الربانية التي جاءت في كتاب الله -جلَّ وعلَا- وسنة رسوله
-صلى الله عليه وسلم-.
أما كونها نصف العلم، فهذا مما تأمل فيه بعض أهل العلم، ولهم في ذلك أجوبةٌ كثيرةٌ،
بعضهم يقول وهي لطيفةٌ، يقول: إن العلوم إما علومٌ متعلقةٌ بالدنيا كالنكاح والبيع
والشراء والعبادات ونحوها، وعلمٌ متعلقٌ بما بعد الموت، فهو إما الأولى أو الآخرة،
فلما كان هذا متعلقًا بالآخرة أو ما بعد الموت، كان نصفًا للعلم وقسيمًا له، وبعضهم
يقول: أنه من جهة الأجر والثواب، ذلك أنه جاء في بعض الأحاديث ما يدل على تفضيل
العلم بأحكامها حتى جعلها أكثر بمائة درجةٍ من المسائل فيما سواه، وربما قالوا بغير
ذلك، بعض الحنابلة استحسن أن يقول إن المِلك بكسر الميم، بعض الناس يقولون المُلك،
لا المُلك بكسر الميم، لأن المُلك بالضم لا يقصد بها التملك وإنما يقصد به السلطان،
ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا- في كتابه: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ [الزخرف: 51]
لأنه له سلطانٌ، أما الأراضي والبيوت فهي مِلك أصحابها، فالملك بالنسبة للتملك
بالكسر، بالضم يكون السلطان والنفوذ والأمر والنهي ونحو ذلك، من جهة المِلك يقولون:
إنه إما مِلكٌ اختياريٌّ في البيع والشراء والإهداء ونحو ذلك، لأنه لا يشتري
الإنسان إلا باختياره، ولا يقبل الهبة والهدية إلا باختياره، ومِلكٌ قصريٌّ أو
قهريٌّ وهو الإرث، لأنه بمجرد موت المورث يدخل المال في ملك الوارث قهرًا، اختار أو
لم يختر، فهذا من أجوبتهم في الكلام على هذا الحديث.
على كل حالٍ ربما لا يسعفنا الوقت أيضًا لشيءٍ من التفصيلات في هذا، لكن حسبنا ما
ذكرناه في مثل هذه المسائل.
نعود إذًا إلى كتاب الفرائض، قلنا إن الكتاب بمعنى المكتوب وهو الذي تُجمع فيه
الأشياء الكثيرة ومنه الكتيبة، وذلك لأن كتاب الفرائض فيه أبوابٌ متنوعةٌ وفصولٌ
ومسائلُ، فكانت كتابًا.
والفرائض جمع فريضةٍ، والفريضة فعيلةٌ بمعنى المفروضة، يعني الشيء المقدر، وأصله في
اللغة إما من التوقيت ﴿فمن فرض من الحج﴾ يعني بمعنى الوقت، ومنه أن يكون بمعنى الحز
والقطع، ويطلق ويراد به التقدير، يراد به الشيء المقدر، ولهم في ذلك أيضًا معانٍ
كثيرةٌ وهذا من جهة أصل الكلمة في اللغة.
أما الفرائض من حيث هو علمٌ، فهم يقولون: العلم بقسمة المواريث فقهًا وحسابًا، إذا
هو تعلم قسمة المواريث، والقسمة معلومةٌ هي: تقسيم الشيء بعد أن كان مجتمعًا على
مستحقيه، والمواريث؟ الإرث من جهة الأصل هو البقاء والانتقال، والموروث هو
الْمُبَقَّى والمنقول، ولذلك يطلق الإرث ويراد به الموروث، لأن الميت بعض موته
يُبَقِّي وينقل ما كان له وملكًا له إلى ورثته، فيتلقونه عنه، العلم بقسمة المواريث
فقهًا، يعني لأنه ليس الأمر بنظرٍ عقليٍّ وإنما فقهٌ في كتاب الله، فقهٌ شرعيٌّ،
استنباطٌ من الأحكام، استنباطٌ للأحكام من كتاب الله -جلَّ وعلَا- وسنة رسوله -صلى
الله عليه وسلم-، وحسابًا، علم الفرائض الحقيقة لو جئتم لتأمله لرأيتم أنه نصفان أو
شطران أو جهتان، جهةٌ تتعلق بالناحية الشرعية وهي قسمة المواريث، ومن يستحق، وكم
يستحق، ومتى يستحق، ومتى لا يستحق، ومتى يمكن سقوطه، ونحو ذلك من المسائل، والجهة
الثانية كيف يصل إليه حقه، فإذا قلنا هذا مستحقٌّ للربع، كيف يعطى الربع، وكيف يحسب
الربع، وهذا له ربعٌ وهذا له سدسٌ، وهذا له ثلثٌ، كيف يقسم ذلك، فهذا هو الحساب.
والحقيقة أن هذا الحساب من حيث النظر المستقل فهو ليس من علوم الشريعة، ولكن
الفقهاء -رحمهم الله تعالى- لما كان لا يتوصل إلى تمام العلم بهذه الأحكام إلا بهذه
الحسابات، طرقوها وبحثوها، وأحسنوا فيها، ولأجل ذلك لو جئت إلى القسم الثاني ربما
تجد أنك لست في أي بحثٍ من بحوث الشريعة، وإنما بحوث الحساب والعلوم التجريبية هذه،
لكنها كالمكمل له، وكما قلت لكم إن الفقهاء في هذا على وجه الخصوص ربما بسطوا ما لم
يبسطوه في أبوابٍ أخرى، وربما كانت لها تعلقاتٌ بمسائل غير شرعيةٍ، مثل أوقات
الصلاة، أوقات الصلاة قد يستدل عليها بحركة الشمس ودورانها، وما يتعلق بعلوم الفلك
ونحو ذلك، ومع ذلك أشار إلى بعض الطرق لتحصيل القبلة أو تحصيل الوقت أو نحوها،
إشاراتٌ سريعةٌ، لكن في هذا العلم بخصوصه أفاضوا، وكما قلت لكم أولًا لوعورته
واحتياج الأمر إلى ذلك، والثاني: أن الله -جلَّ وعلَا- تولى تفصيله، فكان ابتداء
أهل الإسلام بما جاء في كتاب الله -جلَّ وعلَا- من تمام التوضيح وكمال التفصيل ما
دعاهم إلى ذلك، ولأنه أيضًا محل قسمة الأموال، والأموال تشح فيها النفوس وتختلف على
القليل قبل الكثير، فاحتيج إلى الفصل في النزاع والقطع للخلاف، فبسطوا ما يتعلق
بالحساب الذي يتحصل به إيصال أقل القليل، وأدنى الأجزاء من الأموال إلى مستحقيها.
إذن يتخلص لنا مما ذكرناه أن محل البحث هو في الفرائض هي التركات، فهذا هو محل
البحث، فما يتركه الميت بعد موته وما يخلفه، فإن هذا هو محل بحثه هنا، وإذا مات
الميت، المؤلف -رحمه الله تعالى- لم يشر إليها هنا، وهي من المسائل التي يشير إليها
كثيرٌ ممن بحثوا في هذا الباب سواءً كان هذا في كتب الفقهاء أو في الكتب المختصة،
يقولون بأي شيءٍ يبدأ به بعد موت الميت؟ يبدأ بخمسة أشياءٍ مركبةٍ.
أولها: ما يحتاج إليه الميت من أجرة تغسيلٍ وقيمة كفنٍ، وحفر قبرٍ، ودفنٍ ونحوها،
وذلك لأنها من أهم ما يحتاج إليه الميت، وهو لباسه الذي يستر به وثيابه التي يقدم
بها على ربه -جلَّ وعلَا-، فكانت أهم ما يكون، والتقديم هذا هو مشهور مذهب الحنابلة
وقول جماعةٍ من أهل العلم، وإن كان بعضهم يقول إن الديون المتعلقة بعين التركة أو
الحقوق المتعلقة بعين التركة، كالديْن المرهون الذي له رهن ونحوه، ومثلًا أرش
الجناية بالنسب للعبيد ونحوها، فيجعلونها مقدمةً؛ لأنها متعلقةٌ بعين ذلك المال،
لكن مع هذا قال الحنابلة: إن الإنسان لا ينفك عن لباسه، حتى المفلس لا يؤخذ منه
لباسه الذي عليه، ولا يجرد من ما تقوم به حياته الأصلية، من مطعمٍ ومشربٍ ومسكنٍ
ونحو وذلك.
الثاني: هي الديون المتعلقة بعين التركة، كالموثقة برهنِ وأرشِ الجنايات في العبيد
ونحوهم، وما في معنى ذلك من الحقوق، وهذان الاثنان فيهما خلافٌ من جهة أيهما الأول،
فبعضهم يقدم ما يحتاج إلى الميت كما قلنا، وبعضهم يقدم الديون المتعلقة بعين
التركة.
الثالث: الديون التي تعلقت بذمة الميت، يعني ما فيها رهنٌ، أعطاه ديْنًا وأرسله،
قال هو متعلقٌ بذمتك، متى ما قدرت رده علي، بعد حقوق الميت من أجرة تغسيلٍ ونحوها،
وبعد ديونٌ متعلقةٌ بعين التركة، كالديون المرهونة ونحوها، الديون المرسلة
والمطلقة، ثم إذا بقي بعد ذلك بقيةٌ ينظر في الوصية وقسمة المواريث، طبعًا لا يمكن
للوصية أن تستوعب المال لما ذكرنا سابقًا أن الوصية لا تزيد الثلث، إذا بقي ثَم
وصيةٌ فسيبقى للورثة، إلا أن يكون أوصى بجميع ماله وأجازه الورثة، فلا يبقى لهم
شيءٌ، وسبق أن قلنا إن الله -جلَّ وعلَا- قال: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: 11] فهنا قدم الوصية على الديْن، ونحن قدمنا الديْن على
الوصية، قال أهل العلم: إن التقديم هنا مع أن الوصية تبرعٌ والديْن المتعلق بالذمة
أو المتعلق بعين التركة سابقٌ وواجبٌ، لكن لما كانت النفوس لا تنبعث إلى بذل
التبرعات والوصيات، بدأ الله به تأكيدًا، وإلا الديْن له من يطالبه حتى لو لم
يحاولوا، لو أن الورثة ضعف دينهم أو وجد عنهم شيءٌ من الجشع والحرص، وأرادوا ألا
يعطوا أصحاب الحقوق حقوقهم، فثم أصحاب الديْن يطالب بديْنه، لذلك أكد الله -جلَّ
وعلَا- ذلك فقدمه، لا أنه مقدمٌ من جهة الاستحقاق.
ثم يأتي تقسيم التركة الذي هو محل بحثنا، طبعًا بدأ المؤلف -رحمه الله تعالى-
بأحوال الورثة، وهذا لأن الكتاب مبناه على الاختصار، لكن أهل العلم كثيرًا حتى
الفقهاء في الكتب التي أطول من ذلك بقليلٍ، يذكرون أسباب الميراث، لأن الأسباب هو
الطريق المدلي إلى الاستحقاق، وقد قال الناظم في ذلك:
أسباب ميراث الورى ثلاثة
كلٌّ يفيد ربه الوراثة
وهي نكاحٌ، ولاءٌ ونسب
ما للمواريث بعدهن سبب
فأسباب الميراث عند أهل العلم ثلاثةٌ مجمعٌ عليها، أولها: النكاح، والمقصود بالنكاح
عقد الزوجية الصحيح، فلو كان عقدًا باطلًا، يعني نكاحًا ليس بصحيحٍ، باطلٌ، مجمعٌ
على أنه باطلٌ، كالنكاح الذي على معتدةٍ مثلًا، امرأةٌ لازالت في العدة فعقد عليها
نكاحًا، هذا لا يصح، فلو مات شخصٌ وقد عقد على معتدةٍ، ثم جاءت تطلب الميراث وقالت
هو عقد علي، فنقول: مادمتِ معتدةً من فلانٍ فهذا العقد باطلٌ، فلست له بزوجةٍ فلا
تستحقين شيئًا، ومثل ذلك النكاح الفاسد، لماذا يفرقون بين الباطل والفاسد؟ لأن
الفاسد مختلفٌ، فيه بعضهم يصححها وبعضهم لا يصححه، فلو كان مثلًا عقدت بدون وليٍّ،
فإن العقد بدون وليٍّ فاسدٌ عند جماهير أهل العلم خلافًا لأبي حنيفة، فبناءً على
ذلك لا ترث به المرأة عند جماهير أهل العلم، وله أمثلةٌ، فإذن عقد الزوجية صحيحٌ،
فإذا كان العقد قد تمت الشروط فكان صحيحًا، فلو مات الزوج حتى ولو لم يدخل بها،
فإنها تستحق الميراث.
والثاني من أسباب الميراث هو القرابة، فكل من كان قريبًا يستحق، لا، من حيث الجملة
القرابة سببٌ مدنيٌّ، أما من حيث التفصيل لا، فيه من يدخل في الاستحقاق وفيه من لا
يدخل على ما سيأتي بيانه -بإذن الله جلَّ علَا- من أين أخذ استحقاق القرابة؟ من قول
الله -جلَّ وعلَا-: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال:
75] وأيضًا كل آيات المواريث الثلاثة ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
وَلَهُ أُخْتٌ﴾ [النساء: 176]، الآيتان الأخريان في القرابات، بعد في تتمة الآية:
﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ
فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ﴾ [النساء: 12] فهو في إرث الإخوة لأمٍّ.
حديث ابن عباس متقدمٌ معنا.
إذن الدلالات في ذلك كثيرةٌ على أن القرابة مستحقةٌ أو سببٌ من أسباب التوارث، وهو
حقيقة القرابة كل من يدلي إلى الميت بقرابةٍ نَسبيةٍ، وليس من ذوي الأرحام، فذوو
الأرحام لا يرثون إلا عند عدم من يستحق ذلك من القرابة، وسيأتي تفصيل الكلام عليها،
على سبيل المثال الخال والخالة والعمة، من ذوي الأرحام لا يرثون، لكن قد يستحقونه
بوجهٍ آخر، سيأتي تفصيله -بإذن الله جلَّ وعلَا- في حينه، إذن هذا بالنسبة القرابة.
الثالث: الولاء وهو المقصود بالولاء يعني الإعتاق، فمن أعتق شيئًا فإنه يكون وارثًا
له لو مات، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الولاء لمن أعتق»، وقال النبي
-صلى الله عليه وسلم-: «الولاء لُحمةٌ كلُحمة النسب»، فكما أنه يرث بالنسب فكذلك
يرث بالإعتاق، وهذا محل إجماعٍ واتفاقٍ بين أهل العلم، وهذا على قول الناظم، لذلك
قال: "ما للمواريث بعدهن سببٌ"، ذكر غيره بعض الأسباب، كمن أسلم على يديه شخصٌ،
فإنه يرثه لو مات، ولذلك جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان في الحديث ضعفٌ
«أنه أولى به في محياه وفي مماته»، يقولون والنعمة التي تحصل لهذا الشخص بسببها
الإسلام أعظم من النعمة التي تحصل بسبب الزوجية أو بعض القرابة، فبعضهم جعلها من
أسباب الميراث، اللقيط للملتقط فيكون من التقط شخصًا فرباه وأحسن إليه، فيكون له
ميراثه، وهذه من الأشياء المختلف فيها، وذكروا بعض الأشياء، لسنا بحاجةٍ إلى
التفصيل والدخول في هذه المسائل.
الثاني، لما ذكرنا الأسباب من المهم جدًّا أن نشير ولو على سبيل الإجمال إلى ما
يقابل الأسباب وهي الموانع، فالموانع مهمةٌ لتعرف من لا يستحق الميراث لوجود مانعٍ
من تلك الموانع، والناظم الرحبي يقول، وأنا بهذه المناسبة أوصي الإخوة المشاهدين
والمشاهدات، وأوصيكم أيضًا أنتم وقد حَرَّصْتُكُمْ قبل أن نبدأ المحاضرة، يعني أنا
أوصي الإخوة أن يحضروا هذه المنظومة فهي ثلاثمائة وشيءٌ من الأبيات، جميلةٌ جدًّا،
يسيرٌ حفظها، نافعةٌ، قريبةٌ فهمها، تعين الإنسان في هذا العلم أيما إعانةٍ.
فإنه يقول في موانع الإرث:
ويمنع الشخص من الميراث
واحدةٌ من عللٍ ثلاث
رقٌّ، وقتلٌ واختلافُ دينٍ
فافهم، فليس الشك كاليقين
الرق من كان رقيقًا فإنه لا يملك، فبناءً على ذلك لا يرث، لأن لو ورثنا الرقيق
لأفضى ذلك إلى أن ينتقل المال إلى الأجنبي؛ لأنه إذا أخذ الرقيق المال فسيكون
لسيده، وقد يكون سيده ليس له علاقةٌ بهذا الميت من وجهٍ قريبٍ ولا بعيدٍ، فلما كان
الرقيق لا يملك بإجماع أهل العلم، فإنه لا يستحق الميراث.
الرق والقتل، ما معنى الرق؟ أو ما مثاله؟ لو أن ابنًا مات، وأبوه رقيقٌ، وهذا الابن
له مالٌ فالأصل أن الأب يرث، لكن لما كان هذا الأب رقيقٌ فإنه ممنوعٌ من الإرث.
"رقٌّ وقتلٌ واختلاف دينٍ"، أيضًا القتل -نسأل الله السلامة والعافية- لو أن شخصًا
قتل مورثه، كأن يقتل الأخ أخاه -نعوذ بالله من الخذلان- وهو عصبته وأقرب الذكور
إليه، فالأخ يرث أليس كذلك؟ نعم، لكن في هذه المسألة نمنعه من الميراث، لماذا؟ لأنه
قاتلٌ، ولئلا يفعل ذلك ضعاف النفوس، فإنهم إذا كان لهم قرابةٌ فيهم غٍنًى وفيهم
ثراءٌ ونحو ذلك، وعلموا أنهم يتأخر إرثهم، فربما تستعجل نفوسهم البغيضة البشعة،
فتقتل مورثها حتى تتحصل على ذلك المال، لعلمه أنهم يسمحون عنه أو لا يقتادونه
ويقتصون منه، فيفعلوا ذلك، فلأجل ذلك جاءت القاعدة الشرعية، "من استعجل شرعًا قبل
أوانه عوقب بحرمانه".
ثم أهل العلم فيما يتعلق بالقتل، لهم فيه تفاصيل، العمد هذا لا إشكال فيه، أما
الخطأ وشبه العمد ونحوه، لهم فيه تفاصيل، نحن لا نريد الدخول فيها، للحاجة للكلام
فيها إلى شيءٍ من الطول، لكن نشير إلى أصل هذه المسألة للعلم بها، رقٌّ وقتلٌ
واختلاف دينٍ.
أيضًا لو كان شخصٌ له قرابةٌ غير مسلمين، فلو مات الإنسان ووالده كافرٌ وأمه
كافرةٌ، فإن الابن هذا الذي مات لا يرثه أبواه الكافران، لماذا؟ لأن الله -جلَّ
وعلَا- يقول: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾
[التوبة: 71] فالولايات منقطعةٌ بين المسلم والكافر، ولذلك أجمع أهل العلم على أنه
إذا كان مختلفي الديانة فلا يرثه بعضهم الآخر، والعكس بالعكس أيضًا، لو كان مثلًا
الأب كافرًا ومات وابنه مسلمٌ، فإنه لا يرث؛ لاختلاف الدين.
هذه إذن موانع الميراث على سبيل الاختصار والإجمال، ولهم تفاصيل في اليهودي هل يرث
النصراني، والنصراني هل يرث اليهودي، واختلاف الملل ونحوها، لكن ليس هذا محلٌ للبحث
ونحن مَبنى أحاديثنا على الاختصار.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، لأني أرى أن الوقت قد أزف، وأخذنا جملةً من المسائل لا بأس
بها، وإن كنا لم ندخل في صلب ما ذكره المؤلف، لكن هذه مقدماتٌ لابد من العلم بها.
أسال الله -جلَّ وعلَا- لي ولكم التوفيق والسداد، والله -تعالى- الموفق، وصلى الله
وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.