السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله أفضل ما ينبغي أن يُحمد، وصلى الله
وسلم على أفضل المصطفين محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تعبَّد.
إنها ليلةٌ مباركةٌ، أن نلتقي وإياكم أيها المشاهدون والمشاهدات، أيها الحضور في
هذا المجلس المبارك، ونحن في إطلالةٍ وبدايةٍ كريمةٍ، وفي مجلسٍ من المجالس
العظيمة، التي نسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يبارك فيها، وأن يجعل عملنا فيها خالصًا،
وأن يجعلنا موفقين مسددين معانين على الخير والهدى، والبر والتقى، وأن يجنبنا
الشرور والبلاء والردى.
أيها الإخوة الكرام، هذا مجلسٌ من مجالس العلم، ودوحةٌ من دوحة التعليم والفضل
والهدى، نتدارس فيها كتاب الله -جلَّ وعلَا-، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-،
ونطلب الفقه والعلم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الذي في الصحيح،
أنه قال: «من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، فالخيرية إنما هي منوطةٌ بمن جعل
الله -جلَّ وعلَا- له فقهًا وعلمًا وهدىً، كيف والعلم والفقه هو سبب التوفيق، وصلاح
العبادة، وصلاح المعاملة، والنجاة بين يدي الله -جلَّ وعلَا-، كم هم الذين يعملون،
وكم هم الذين يذهبون ويجيئون، لكنهم يتخبطون في الظلمات.
وإنكم لترون أن أناسًا كثيرين، ربما تعاملوا، وربما فعلوا، وربما اجتهدوا، حتى إذا
توالت عليهم دهورٌ كثيرةٌ، رأوا أنهم مخطئون، وتبين لهم أنهم على غير جادة الصواب،
فلحق بهم أنواعٌ من التبعات، ربما كانت تبعاتٍ ماليةً، إذا كان ذلك خطًا في بعض
المعاملات، فدخل إلى أموالهم شيءٌ من الحرام، وربما قدروا على التخلص منها، وربما
لم يقدروا على الخلاص، وكذلك في عبادة الإنسان، وما يكون بينه وبين الله -جلَّ
وعلَا-، ربما يكون الإنسان يعمل أنواعًا من العبادات، ثم يتبين أنها قد فقدت شرطًا
من الشروط، أو ما يتم به صلاحها، ويكمل به العمل، فإذا رأى الإنسان ذلك، احتاج بعد
هذا إذا تعلم أن يستعيد شيئًا كثيرًا، فربما أُمر بقضاء صلاةٍ أو صلاتين أو عشرين
صلاةً، أو سنةً من صلواته التي عملها على غير هدًى، فلأجل ذلك كان هذا التعلم،
وكانت مثل هذه المجالس، وكان هذا الميدان من أعظم الميادين التي ينفق الإنسان فيها
وقته، وينفق فيها جهده، ويتواصى الناس عليها، ولأجل هذا فلتفرحوا بنعمة الله،
ولتفرحوا بهذه المجالس، ولتفرحوا بهذا التوفيق من الله -جلَّ وعلَا- لكم، فإن
أناسًا لربما وفقوا إلى أنواعٍ من الدنيا، أو أنواعٍ من حظوظ الناس وما تلهو به
وتفرح، لكن فاتهم ما يكون به الصلاح، ما تكون به النجاة بين يدي الله -جلَّ وعلَا-،
ما يكون به السلامة من المعاصي والشرور، والسلامة من وساوس الشيطان، لأن الشيطان
أقدر ما يكون على الجاهل، وأصعب ما يكون عليه المتعلم، وطالب العلم، ولذلك تحفظون
في الأثر، أن ألف عابدٍ، أسهل على الشيطان من عالمٍ، كما جاءت بذلك الآثار.
إذا تقرر ذلك، فلنعلم أيضًا أن طلب العلم لمن سلك سبيله، ربما توجَّب عليه، وربما
صار فريضةً لا يجوز له أن يتخلف عن ركب العلم، ولا أن ينكص على عقبيه، وهذا قولٌ
عند فقهاء الشافعية، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وأصل ذلك أن
الله -جلَّ وعلَا- قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:
196] ومن ذلك أَخَذَ أهل العلم أن بعض الأعمال لأهميتها وعظمها من ولج بابها، ودخل
سبيلها، تحتم عليه المضي فيها، وعدم النكوص.
ولما كان العلم من أعظم أبواب الجهاد، والله -سبحانه وتعالى- حرَّم الفرار من ساحة
القتال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ
بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 15، 16] فجعل ذلك وعيدًا للمتخلفين.
فلما كان العلم من أعظم أبواب الجهاد في سبيل الله -جلَّ وعلَا- لما يتعلق به من
نشر دين الله، وإعلاء كلمته، وإظهار توحيده، ونشر سنته، فالمتخلف عن هذا الميدان،
وقد سلك سبيله، يوشك أن يلحق به هذا العار، وأن يتعلق به هذا الوعيد.
فإذا انضم إلى ذلك، ما آل إليه أمر الناس في هذه الأزمان المتأخرة، من الخلط والغلط
والنقص، والثغرات، بل والبلاء الكبير، الذي حل بالناس، من أجل تفويتهم العلم
بالسنن، واقتفائها، والعلم بسبيلها، مهما وجد عند الناس من علومٍ متفرقةٍ، ومسائل
مختلفةٍ، لكنها لا تُبنى على أصلٍ صحيحٍ، فكان ضررها عند كثيرٍ من الناس أكثر من
خيرها، فلأجل ذلك تحتم عليكم من التدرج في ميدان العلم، وطلب النبوغ فيه، والترقي
في ميدانه، والوصول إلى الغايات الحميدة فيه، ما يتعلق به تصحيح ما عند الناس من
الخطأ، وتكميل ما يكون لديه من النقص، وطلب الهدى للعباد وما تصلح به البلاد.
ولذلك لو قلتُ لكم: إن كثيرًا مما حصل في هذه الأزمة المتأخرة من الغلو، ومن
التكفير، ومن استباحة الدماء، وما تبع ذلك من ويلاتٍ على الإسلام والمسلمين، إنما
أصلها نقص العلم، وسببها أنه تصدى للعلم من ليس أهله، وتكلم في المسائل من لا
يحسنها، فخلطوا على الناس وغيَّروا من طريقهم، وسلكوا سبلًا كثيرًا، كلها منحرفةٌ
ضالةٌ، فأفضى ذلك إلى بلاءٍ كثيرٍ.
إذا عُلم ذلك، ألا يكون لزامًا عليكم، أن تتصدوا لهذا الميدان، وأن تنفضوا عن
أنفسكم الغبار، وأن تجدوا وتجتهدوا، وأن تُروا الله -جلَّ وعلَا- من أنفسكم خيرًا.
إن الحديث للجميع، سواءً لكم أيها الإخوة، أو للإخوة المشاهدين والمشاهدات، أينما
كانت ركابكم، وأينما كانت إقامتكم، وأينما كان مكانكم، إن كنتم في الشرق، أو كنتم
في الغرب، إن كنتم في بلادٍ قريبةٍ، أو كنتم في بلادٍ بعيدةٍ، مادام أن هذا الصوت
يصل إليكم يعينكم على العلم وميدانه، وعلى رايته وتحصيله، وعلى أن تُروا الله -جلَّ
وعلَا- من أنفسكم خيرًا، فإنه لا عذر لكم أمام الله -سبحانه وتعالى-، وإني لأحسب أن
تدريسي لكم أو مجالستي لكم إنما هي مجالسة الأخ مع إخوانه، ومدارسة العلم بين أهله،
وليس شيخًا له طلابٌ؛ لأني أقصر عن هذه المنزلة، لكن في هذه الأكاديمية، وفي هذا
البناء من الأشياخ والفضلاء ما نرجو الله -جلَّ وعلَا- أن يحصل بهم للعبد خيرٌ
كثيرٌ، متى ما تعنى واجتهد، وطلب وترقى في هذا الميدان.
إننا لنقولها كلمةً لتُعلن في الكون، ولتبقى مدى الدهر، أن مثل هذه المجالس، ومثل
هذا الصرح، ومثل هذا البناء، إنما هو بناءٌ ليكون شمسًا ساطعةً، وليكون نجمًا
مشرقًا، وليكون إضاءةً للناس، في زمنٍ عجَّت فيه القنوات بأنواعٍ من اللهو، ومن
الغفلة، ناهيك بما يكون في بعضها، أو في كثيرٍ منها من المعصية والبلاء، ومن الشر
المستطير والبلاء العريض.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن تصدي هذا الصرح لهذا الأمر، لمن أعظم الأعمال، وما يُطلب
به رضا الرحمن، فالله نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجزي القائمين عليه في كل
درجاته، وفي كل أحواله، الواقفين، والقائمين، والمديرين، والعاملين، بجميع ما
اجتمعوا عليه في هذا البناء، أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم، وأن يعلي بذلك درجاتهم،
وأن يعينهم حتى يقيموا لهذا الصرح صروحًا أخرى، وحتى يبنوا معه بناءً عظيمًا، وحتى
تُشرق الشمس بالعلم وأهله، والسنة وسبيلها، واقتفاء الحق وطلب تحصيله، ونبذ الباطل
والبعد عنه، والتحذير من أهل الغلو والبلاء والشر والتكفير والإلحاد والضلال
والطرائق المنحرفة برمتها، وأن يكون -بإذن الله جلَّ وعلَا- منارًا وهاديًا وسبيلًا
موضحًا للجاهلين، والطالبين، والمتعلمين، ومن أراد سلامة دينه، ونجاته بين يدي ربه.
مهما كانت هذه المقدمة، ومهما اجتمع فيها من الكلام، فإنها لا تعدو أن تكون إشارةً
يسيرةً لما ينبغي من الإشادة، لما ينبغي أيضًا من التحفيز لنا جميعًا، على أن نعلم
حَقَّ العِلم وأهله، وحق من تصدَّى له، في أن يُحفظ له قدره، وأن يُنشر خيره، وأن
يُذكره ويُثنى عليه بفعله، حتى يكون ذلك إعانةً لكل من أراد هذا الحق، ولمن أعانه
الله -جلَّ وعلَا- ليظهر في هذا الأمر، وليكثر هذا الميدان، لتتنوع أيضًا مجالسه،
ومدارسته، ويظهر -بإذن الله جلَّ وعلَا- في العباد أثره، ويُنزع فتيل الشر والفتنة
والغلو والجهل والضلالات برمتها، فلا حرم الله الجميع الأجر والثواب، وجعلنا وإياكم
من عباده المخلصين.
تعلمون -أيها الإخوة كما قلت لكم- إنها مقدمةٌ عابرةٌ، وإلا والله ما في النفس من
أشياءٍ كثيرةٍ، يستحقها هذا الصرح، وهذا المقام، وهذا الميدان من أن نثني وأن نلهج
وأن نظهر وأن نثني عليه ثناءً كثيرًا، لكن لعل في الإشارة ما يغني عن كثيرٍ من
العبارة، ولعل ما يبقى لهم عند الله -جلَّ وعلَا- من عظيم الأجور والثواب والدرجة
وعالي المنزلة ما يغني عن الإشادة والمديح والثناء وذكر الفضائل لهم.
ننتقل إلى ما نحن بصدده في هذه المجالس المباركة -بإذن الله جلَّ وعلَا-، وهي
مدارسةٌ ومجالسةٌ في كتابٍ عظيمٍ، من كتب العلم، وهو عمدة الفقه، وقد تنقَّل فيه
الإخوة في هذا البناء المبارك، وفي هذا الصرح المشيد، والمدرسة المتينة -بإذن الله
سبحانه وتعالى- في أبوابٍ كثيرةٍ، حتى وصلوا إلى ما يقارب من ثلثه الأخير، إن لم
يكن أقل من ذلك، وهو كتاب عمدة الفقه، لأبي محمد الموفق عبد الله بن أحمد بن قدامة
المقدسي، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، ورحم الله أئمة الإسلام، وعلماء المسلمين،
على مر العصور والدهور، وعلى اختلاف مذاهبهم من الحنفية والمالكية والشافعية
والحنابلة، الذين ما فتئوا يجتهدون ويطلبون الحق، ويتراجعون فيه، طلبًا للسنة،
وتمحيصًا للعلم، وإظهارًا للفضيلة، وتحريًّا للحق والهدى والصواب.
وهذا الكتاب لا يخفى على شريف علم الإخوة المشاهدين وعليكم، أنه كتابٌ مختصرٌ،
واختص من بين سائر المتون لأنه اشتمل على أنه يُذكر فيه بعض الأحاديث على خلاف
المتون، التي جُرِّدت من الأدلة، وجُعلت عناوين للمسائل، وذكر لبعض تفاصيلها، أو
قيودها، أو شروطها، وعلى أن يكون المعوَّل في ذكر الاستدلالات ونحوها للشارح ذلك،
أو في مواطنها من الشروح ونحوها، لكن لعل هذا من خصائص هذا الكتاب، وفي ذلك إشارةٌ
إلى أن أهل العلم مهما جرَّدوا المتون، فإن أصلها هو كتاب الله -جلَّ وعلَا- وسنة
رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يأتي آتٍ ويقول: هذه المتون، سواءً قلنا مثلًا
أقرب المسالك، أو مختصر خليل عند المالكية، أو على سبيل المثال المنهاج عند
الشافعية، أو زاد المستقنع عند الحنابلة، أو مثل كنز الدقائق، أو بداية المبتدئ أنه
لا أدلة فيها، فهم غير طالبين للأدلة، لا، هم لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا أن يجعلوا
هذه المتون محفوظةً لدى الطلاب، لتكون أصولًا تستقر في أذهانهم للمسائل، ويُعوَّل
على أن ما يكون من الأدلة والتفصيلات والأقيسة والتعليلات في الشرح وفي مجالس
العلم، وعند من يتصدى لشرح تلك المتون، فهي إذن منزلةٌ أولى، وخطوةٌ أوليةٌ، ليتدرج
فيها الطالب وليتعلى في هذا البناء -بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومع ذلك فإن ذكر هذه الأدلة في مثل هذا الكتاب، له فائدةٌ لطيفةٌ، من حيث الإشارة
إلى أيضًا ما عند الأئمة مما ذكرناه، وأيضًا فيه أن ذكر أحاديث النبي -صلى الله
عليه وسلم- والأدلة فيها من البركة ما لا يوجد في سواها، فيُرجى أن كون في ذلك
بركةٌ في هذا الكتاب، وفي دراسته، وفي شرحه، وفي الوقوف على مسائله.
هذه إطلالةٌ أيضًا على الكلام على هذا المختصر، ونسمع قراءةً من أحدكم، فمن يتصدى
لذلك، ثم نعود بشيءٍ من التوضيح والشرح لبعض المسائل التي توجد في هذا المتن -بإذن
الله جلَّ وعلَا.
{بسم الله الرحمن الرحيم، اللَّهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، ومن تبعهم
بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم اغفر لشيخنا، ولجميع المستمعين والمستمعات،
والمشاهدين والمشاهدات.
قال المصنف -رحمه الله: كتاب الوصايا، روي عن سعد قال: قلتُ يا رسول الله، قد بلغ
بي الجهد ما تره، وأنا ذو مالٍ ولا يرثني إلا ابنةٌ، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:
«ل»، قلت: فالشطر، قال: «ل»، قلت: فالثلث، قال: «الثلث، والثلث كثيرٌ، إنك إن تدع
ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس»}.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، سمعتم قراءة أخيكم جزاه الله جلَّ وعلَا خير الجزاء، وهو
دعا للشارح ودعا للمشاهدين والمشاهدات والمستمعين والمستمعات، ولو أنه أتمها
بالمسلمين والمسلمات عامةً، لكان ذلك أتم وأنسب، ويُذكر في هذا أن ابن مالك في
ألفيته في النحو، لما قال في الدعاء لابن معطي الذي سبقه في التأليف في هذه
المنظومة، قال:
والله يقضي بهباتٍ وافرة
لي وله في درجات الآخرة
يقولون: إن ابنته استدركته عليه، قالت: لقد حجَّر أبي واسعًا، لولا قال:
والله يقضي بهباتٍ جمَّة
لي وله ولسائر الأمة
لكان أتم.
على كل حالٍ، هذا يأتي عليَّ، ويأتي عليك، ويأتي على الجميع، لكن لاشك أن استحضار
الدعاء لعموم المسلمين خاصةً في مثل هذه المجالس المباركة، التي يؤمِّن عليها
الكثير، يُرجى تحصيل خيرها، فجزاك الله عنَّا خيرًا، وجزى الله المسلمين والمسلمات
أعظم الجزاء وأجزله.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: كتاب الوصايا، تعرفون طريقة الفقهاء -رحمهم الله
تعالى- أحيانًا يجعلونه كتابًا، أو بابًا، أو فصلًا، والعادة في ذلك أن الكتاب هو
أوسع من الباب ومن الفصل.
وسمي الكتاب كتابًا؛ لأنه إما تجتمع فيه المسائل الكثيرة، وأصله من الاجتماع، ولأجل
ذلك سمي الكتاب كتابًا لأنه تجتمع فيه الحروف والكلمات والجمل والعبارات، وأيضًا
سميت الكتيبة كتيبةً لأنه يجتمع فيها الفرسان والجنود والمقاتلة.
إذن هذا أصلٌ لما قال: "كتاب الوصايا"، والوصايا جمع وصيةٍ، وصَّى توصيةً، وأوصى
إيصاءً، والوصية اسم مصدر.
ما الفرق بين المصدر واسم المصدر؟ هذا يعرفه أهل اللغة، وأصله يقولون: إن اسم
المصدر هو ما اشتمل على معنى المصدر دون حروفه، يعني الحروف التي في الفعل، إذا
وُجدت في المصدر فهذا يعتبر مصدرًا، أوصى إيصاءً، كل الحروف التي فعل موجودةٌ في
المصدر، أما إذا وُجد المعنى دون الحروف، فهذا يسمى اسم مصدر؛ لأنه اشتمل على معناه
دون تصاريفه، وأصل كلمته.
وأما الوصايا في الاصطلاح، أو في الشرع: هو الأمر بالتَّصرُّف بعد الموت.
فكل ما يكون من الأمر بالتصرف بعد الموت فهو وصيةٌ، سواء كان ذلك مما يتعلق بالمال
أو سواه، إذن هو لا يختص بالمال، كما سيأتي -بإذن الله جلَّ وعلَا- في تفاصيل ذلك،
فربما كانت وصيةً الإنسان في تغسيله، وربما كانت وصية الإنسان في من يلي تزويج
بناته، وربما كانت وصية الإنسان في بعض الأمور العامة في الإصلاح والاجتماع
والائتلاف، وربما كانت الوصية في المال وأيضًا في الولاية.
بناءً على ذلك إذن هي تتعلق بالتصرفات جميعها، وربما قال بعضهم زاد، يعني والتصرف
في المال، وهذا خاصٌّ، أو هو نوعٌ من الوصية.
طبعًا الوصايا والوصية مما جاءت دلالات الكتاب والسنة والإجماع بمشروعيتها، فأما
دلالة الكتاب، فقول الله -جلَّ وعلَا: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: 11] أو ﴿يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء:
12] في الآية الأخرى، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180]،
ففيه آياتٌ كثيرةٌ دالت على مشروعية الوصية واعتبارها، وهذا أصلٌ في كتاب الله
-جلَّ وعلَا- لا يُختلف فيه.
ودلالات السنة أيضًا كثيرةٌ في الدلالة على الوصية، منها حديث سعد هذا الذي معنا،
هو سعد بن أبي وقاص، ومنها أيضًا حديث ابن عمر الذي في الصحيحين أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: «ما من مسلمٍ له شيءٌ يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ
عنده»، والأحاديث في ذلك كثيرةٌ، ولذلك كان الإجماع منعقدًا عند أهل العلم في
الجملة على مشروعيتها.
وإذا قيل في الجملة، فأذكر أننا ذكرنا ذلك قديمًا، لكن لعلنا أن نعيدها، لماذا يقول
الفقهاء في الإجماع أو في نقل الإجماع في الجملة؟
{الإجماع في الجملة هو ما اتفق عليه أهل الفن في هذا الشيء، ووضعوا له مصطلحًا}.
إذا عبَّر أهل العلم في الجملة، فيقصدون أن الإجماع منعقدٌ على أصل هذه المسألة،
وهي الوصية، فربما اختلفوا في بعض المسائل أو التفريعات أو ما يتعلق في ما يُذكر في
هذا الباب من مسائل، لكن أصل هذا الباب متفقون عليه، محل إجماعٍ واتفاقٍ، فهذا معنى
التعبير الذي يوجد كثيرًا في كلام أهل العلم، إذا قالوا: والإجماع في الجملة منعقدٌ
على ذلك.
عبارةٌ متنوعةٌ، لكنها واضحةٌ، إذا قيل في الجملة، فتعرف أن المقصود في أصل هذا،
مثلًا تحريم الربا، إجماع عند أهل العلم، لكن نقول في الجملة لماذا؟ لأن بعض
المسائل بعض أهل العلم يُدخلها في الربا، وبعضهم يجعلها ليست بداخلةٍ فيه، فوجود
بعض الاختلاف في مسائل معينةٍ لا يعني ذلك أنه يعكِّر هذا الإجماع وصحته، لا،
الإجماع في الجملة على مشروعيته أو على أصل هذا الباب، هذا لا إشكال فيه، فربما
وجدت مسائل مختلفٌ فيها في تفاصيل ذلك الباب، أو في بعض فروعه، لكن لا أثر لها في
أصل هذا الباب.
فإذن هذه دلالات الكتاب والسنة والإجماع، على مشروعية الوصية.
وذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- حديث سعد بن أبي وقاص، وهو من الأحاديث العظيمة، لما
قال: قلت يا رسول الله، بلغ بي الجهد، قد أدركته علةٌ وسقمٌ ومرضٌ، فما ترى؟
وفي هذا إشارةٌ إلى أنه ينبغي للإنسان أن يستشير في كل ما يلحق به من حالٍ، إذا
تعنَّى في أمر، إذا نزل به شدَّةٌ سواءً كان ذلك مثلًا ديونًا لحقته، فإن استشارته
سبيلٌ لخلاصه، وربما يلحق الإنسان شيءٌ من الضعف لا يُحسن التصور خاصةً وقد لابسه
ما يشغل باله ويعكِّر صفو نظره، حتى ولو كان من أعقل الرجال، إذا أراد الإنسان أن
يقبل على أمرٍ في نكاحٍ، أو في تجارةٍ، أو في وظيفةٍ، أو في دراسةٍ، أو في انتقالٍ
من بلدٍ، كذلك أيضًا ما يكون من الأمور التي تتعلق بالإنسان في دينه، فإن ذلك أخص
في طلب المشورة فيها، والإسراع إليها، ولئن تنادى الناس على أمور الدنيا، وما يتعلق
بفوائدها، ومنافعها، ولا يتقاصرون عن ذلك، لا في النصيحة، ولا في الإفادة، ولا في
الإسراع إلى شيءٍ من هذا، لكنهم ربما لا يكون حالهم من الحرص والاهتمام في ما يتعلق
بأمر الآخرة.
لذلك ينبغي لطالب العلم، وينبغي لمن تصدى لطلب هداية الناس ووعظهم، من الأئمة
والخطباء وطلبة العلم، أن يحثوهم على ذلك.
وأيضًا إذا جيء إلى المريض، أو من لحقت به علةٌ، فلعل الإنسان أن يُذكِّره بشيءٍ من
ذلك، وإن كان هذا أيضًا بعبارةٍ مناسبةٍ للحال، ليس بما يدل على أنه قد انتهى أمله
في الحياة، وربما يكون ذلك سببًا لتخويفه وترويعه، لكن إذا كانت بعبارةٍ لطيفةٍ،
كأن يُقال: إن ما ينويه الإنسان من الأعمال الطيبة سببٌ لحصول بركةٍ في عمره،
وسلامةٍ في جسده، وتمامٍ لماله، وإن مثل هذه العوارض تُذكِّر الإنسان بما يقرِّبه
إلى ربه، فلو أنك استحضرت وصيةً، أو ما تريد أن تذكره لمن بعدك، أو لمن تخلِّفه
وراءك، سواءً كان ذلك في رعاية أمرٍ، أو في ولايةٍ، أو في مالٍ، أو نحو ذلك.
قال: وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنةٌ لي، أيضًا ذكر بعض الخصائص التي تتعلق
بالإنسان، أدعى لحصول المقصود، وتمام المشورة فيه، فهنا شرح من أمره ما يكون مكملًا
للأليق به، والأتم في حاله، فذكر.
وهنا أيضًا إشارةٌ مهمةٌ لما قال: أفأتصدق بثلثي مالي، لقائل أن يقول: الصدقة هل
يُحتاج فيها إلى المشورة وهي عمل خيرٍ وبرٍّ وقربةٍ إلى الله -جلَّ وعلَا؟
نقول: لما كان الأمر خيرًا من أصله، فربما كان فيه تجاوزٌ من حيث ما احتف به، لما
تعلق به أنه ربما فوَّت على الورثة، أو فوَّت على من هو أولى ما يحصل به للإنسان
خيرًا، فإنه يشاور فيه، فإذن مهما كان من أعمال الخير في أصله صحيحٌ، لكن ربما
يشاور الإنسان في بعض ما احتف به، أو في ما يكون الأليق بحاله، والأتم في فعله.
فلأجل ذلك قال: أفاتصدق بثلثي مالي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهاه، لا عن
الصدقة من حيث أنها مشروعةٌ، لكن من حيث أن الزيادة عن الثلث ليس بمأذونٍ فيه،
ولذلك قال: «ل»، قلت: فالشطر، قال: «ل»، قلت: فالثلث، قال: «الثلث، والثلث
كثيرٌ».
ثم بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- العلة في ذلك، ولهذا ينبغي أيضًا لطالب العلم
أن يذكر ما يكون سببًا لأُنس السائل، وطمأنينة قلبه، لما كان قد يظن الظان أن ذلك
إعراضٌ عن الأمر بالصدقة، والحث على الخير، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنك إن
تذر ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس».
فما يكون من ترك مالٍ لورثتك هو خيرٌ تُثاب عليه، مادمتَ أنك تنوي به هذه النية،
وتستحضر هذا الأمر، وأن تمنعهم من أن يتكففون، يعني يطلبون، ويتعرضون، ويسألون، وفي
ذلك من المذلة ما فيه، وفيه من إشغالهم وتعنيهم في هذه الدنيا، ولا شك أن المسألة
من أعظم ما يعرض للإنسان، فيفسد عليه أنس حياته، وطمأنينة قلبه، ويعكِّر عليه صفو
أيامه، ويُلحقه المذلة والمهانة بعد العزة والخير.
هذا وقوفٌ على بعض ما اشتمل عليه هذا الحديث، مادام أن المؤلف -رحمه الله تعالى- قد
ذكره في إطلالة هذا الكتاب، ودراسة مسائل الوصايا.
{قال المصنف -رحمه الله: (ويستحب لمن ترك خيرًا الوصية بخمس ماله، وتصح الوصية
والتدبير من كل من تصح هبته)}.
قال: ويستحب لمن ترك خيرًا الوصية بخمس ماله، ما يتعلق بالوصية هنا، كأن المؤلف
-رحمه الله تعالى- انتقل إلى وجهٍ من أوجهها، أو بابٍ من أبوابها، وهي الوصية
المستحبة، التي هي إحسانٌ وبرٌّ على ما جاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن
الله تصدَّق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم»، فتكلم عليها المؤلف -رحمه الله تعالى-
هنا، وذلك أيضًا لأن الحديث مساقه مساق الوصية المستحبة.
لقائلٍ أن يقول هنا: ما حكم الوصية بالمال؟
نقول: إنها مستحبةٌ بقيودها، على ما سيأتي بيانه، وذلك لما جاء في الحديث أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- أذن لسعد في الوصية، وأجابه إليها، ولما جاء أيضًا في قول
النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن الله تصدَّق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم».
فإن قال قائلٌ: فماذا عن قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ [البقرة: 180]، والمكتوب في
كتاب الله -جلَّ وعلَا- مفروضٌ وواجبٌ، أليس كذلك؟ الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183]، فالمكتوب مفروضٌ، فبم تجيبون عن هذه
الآية؟
فنقول: إن هذه الآية عند عامة أهل العلم على أن الحكم فيها منسوخٌ، يعني أن الوجوب
في ذلك منسوخٌ، كما جاء ذلك عند أبي داود، من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنه
وأرضاه- أن الآية منسوخةٌ، وذلك أن هذه الآية كانت قبل آية المواريث، فكان على
الإنسان أن يوصي لأقاربه، ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180].
ولذلك جاء في الحديث عند أهل السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله
أعطى كل ذي حقٍّ حقه، فلا وصية لوارثٍ»، ولأجل ذلك كان قول عامة أهل العلم على أن
الوصية مستحبةٌ وليست بواجبةٍ، وهذا -كما قلت لكم- إنما مساقه في التبرع بالمال.
وأما ما يتعلق بالحقوق التي تلزم الإنسان، فإنها قد يكون فيها وجوبٌ، كأن يكون على
الإنسان ديْنٌ، أو تكون عنده وديعةٌ، أو أن يكون عنده مثلًا بعض الموليات من
البنات، فيخشى إن لم يوص أن يضِعن، وألا يقام بحقهن في ولاية النكاح، أو في القيام
ببعض أمورهن، أو الأيتام، لو كان مسئولًا عنهم، أو وليًّا عنهم أو نحو ذلك، فعلى كل
حالٍ، الأيتام مسألةٌ تحتاج إلى شيءٍ من الوعي، ليس في كل الأحوال، فنتركها.
إذن مثل هذه الأمور تكون الوصية واجبةً، من أين يؤخذ الوجوب في مثل هذه المسائل؟
يؤخذ الوجوب من القاعدة المتقررة: أن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجبٌ، فلما كان
أداء الحقوق، ورد الديون، وإيصال الوديعة إلى أهلها، وردها إلى صاحبها، والقيام على
الموليات أمرًا واجبًا، فإن كل ما يترتب عليه فهو واجبٌ، ولأجل ذلك جاء عن الصحابة
أنهم أوصوا، وذكروا ذلك في ما جاء عنهم، وذُكر في الآثار، سواءً كان ذلك في ما
يتعلق في الأمر الخاص، أو كان ذلك في الأمر العام، كما كان من وصية أبي بكر -رضي
الله تعالى عنه وأرضاه- لعمر بالخلافة، ووصية عمر للستة نفر بأيضًا النظر في أيهم
أولى وأحق بها، يعني خلافة المسلمين، فكل ذلك دالٌّ على أن ما يتعلق به أمرٌ واجبٌ،
فإن الوصية فيه تكون واجبةً.
وهنا لما قال: لمن ترك خيرًا، فهذا قيدٌ في الاستحباب، فإذا لم يكن للإنسان مالٌ،
أو كان عنده مالٌ قليلٌ، فإن الوصية في مثل ذلك الحال ليست بمستحبةٍ. لماذا؟ أصل
هذا ما جاء في الحديث: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تدعهم عالةً يتكففون
الناس»، فإذا لم يوجد عند الإنسان إلا ما يكفي ذريته، أو ورثته، ثم نقل هذا الذي
يكفيهم إلى غيرهم، حتى جعلهم في حاجةٍ وفاقةٍ، فإن ذلك لا يكون مناسبًا، استنادًا
إلى ما جاء في حديث سعد -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، وإلى جهة ما جاء في المعنى،
من الأدلة، فإن الشرع جاء ب«وابدأ بمن تعول».
ولأجل ذلك -وهذه مسألةٌ ستأتيها- أن الوصية لغير الورثة عند عامة أهل العلم تكون
للأقارب، غير الورثة، وستأتي الإشارة إلى ذلك.
فإذن: متعلق الحكم أنه لمن ترك خيرًا. هل فيه حدٌّ يُحد يمكن أن يُقال: هذا ترك
خيرًا فيستحب له الوصية، يعني رقمٌ محددٌ أو لا؟
نُقل عن بعض الصحابة، وعن الإمام أحمد، وعن بعض السلف، وعن بعض الفقهاء، أنهم
ذكروا، بعضهم يقول أربعمائة درهمًا، وسبعمائة، أو نحو ذلك، وكل هذا ليس إرادةً
للتخصيص، أو التحديد بذلك الرقم، وإنما النظر إلى ما يليق بهم في واقعهم، فكان
المعنى كما يقوله بعض المحققين من أهل العلم: إن العبرة بما يحصل به ذلك المعنى،
الذي جاء في الحديث، أنك متى ما كان الإنسان يترك خيرًا، يستغنون به عن الناس، ولا
يتكففون، فإذا كان على هذا النحو، أو ذلك القدر، فإن الوصية مستحبةٌ في حقه، وأما
إذا كان دون ذلك، فإن الأحق الأحسن في حقه، أن لا يوصي، ولذلك ذكر بعض أهل العلم
كراهية الوصية في مثل تلك الحال، كما لو كان قد ترك بيتًا فقط، فإذا أوصى بثلثه،
فالورثة مضطرون إلى بيعه، وإذا باعوه أين يسكنون؟ فربما عرَّضهم إلى أنواعٍ من
الجهد والكَبد والتعب والمشقة، إذن فيه إشارةٌ إلى ما ذكرنا، وهو أن الخير الذي جاء
مطلقًا في كلام الفقهاء، مخصوصٌ بما دلَّ عليه الحديث في التعليل والتفسير، أنه ما
يحصل به غُنيةٌ الورثة، وعدم حاجتهم إلى الناس، فيكون الاستحباب في ذلك حاصلًا.
نأتي بعد هذا إلى ما يتعلق بالكلام على (لم قال المؤلف بخُمس ماله؟) مع أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال: «الثلث، والثلث كثيرٌ»، ثم ذكر الحديث. ما يكون الجواب؟
أظن أن الجواب لا يمكننا الآن؛ لأن الوقت قد أزف، والدقائق قد تسارعت إلى نهاية هذه
الحلقة، فنجعلها -بإذن الله جلَّ وعلَا- أن تكون في إطلالة المجلس القادم، لكن إن
احتجنا أو يمكن أن نسألكم عن هذا؛ لنحرِّك أذهانكم إلى هذه المسألة: لِم قال المؤلف
-رحمه الله- بخُمس ماله، مع أن الحديث قال: «الثلث، والثلث كثيرٌ»؟
{أنا في رأيي ذُكر الخُمس لأنه يؤخذ قليلًا من ما الورثة، الأخذ لا يكون كثيرًا،
بينما الثلث يقطع كثيرًا}.
يعني قريبًا من هذا.
لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «الثلث، والثلث كثيرٌ»، الثلث كأنه غير مأذونٍ
فيه، لكنه غير مرغوبٍ فيه، وهذا ما فهمه جماعةٌ من أهل العلم، وهو الذي جرى عليه
جملة الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم-، ولأجل ذلك سنجعل -بإذن الله سبحانه
وتعالى- مبدأ الحديث في المجلس القادم عن إيضاح هذه المسألة، وأن يكون هو بداية
انطلاقتنا فيها.
لم يبق من الوقت متسعٌ، إلا أن نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل التوفيق حليفنا،
والهداية ساكنةً في قلوبنا، وملازمةً لنا في جميع أحوالنا، نسأل الله -سبحانه
وتعالى- أن لا يخذلنا، وقد هدانا للعلم، ودلنا على طريقه، وأعاننا على سبيله، ونسأل
الله -سبحانه وتعالى- أن لا يفتتنا فيه، وأن لا يفتتنا به، وأن لا يفتن بنا أحدًا
من خلقه، فإن العلم هدايةٌ وبصيرةٌ ونورٌ للعبد، يُهدى به للحق، ويُدَلُّ به على
الصواب، والموفَّق من وفَّقه الله -سبحانه وتعالى.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يزيدنا وإياكم، وأن يفتح فهومنا، وأن يزيد علمنا، وأن
يجعله حجةً لنا، لا حجةً علينا، وأن يعقبنا بالعلم العمل، وبالعمل هداية الناس
والتعليم، وأن يجعل ذلك دأبنا في كل أحوالنا وأيامنا، وأن يجعل العلم هو سلوةً
حياتنا، عليه نحيا، وعليه نموت، وبه نلقى الله -جلَّ وعلَا-، وأن يُظهر بنا العلم،
وأن يوفِّقنا لذلك، إن ربنا جوادٌ كريمٌ، وبالإجابة جديرٌ، وصلى الله وسلم وبارك
على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.