السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات، وطلاب العلم،
الراغبين فيه، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا وإياكم على البر والهدى، والعلم
والتقى.
الحمد لله حمدًا يليق بجلاله، وأصلي وأسلم على نبيه، وصفيه من خلقه، وآله من بعده
وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
هذا هو المجلس الثاني من هذه المجالس المباركة الطيبة -بإذن الله جلَّ وعلَا-، في
هذا الفصل الدراسي المبارك، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم للعلم
النافع والعمل الصالح.
تعرفون أننا كنا قد استهللنا في المجلس الماضي، أول ما يتعلق بالكلام على كتاب
الوصايا، وذكرنا مشروعية ذلك من الكتاب والسنة والإجماع، وتعريفه في اللغة
والاصطلاح، ودلفنا أيضًا إلى أول المسائل التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد
الإشارة إلى شيءٍ مما يتعلق بفوائد الحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في
استهلالات الباب.
هل أنتم مستحضرون لذلك كله؟ أو نسألكم، لكن لو سألتكم، فإني لا أستطيع أن أسأل
المشاهدين والمشاهدات، أَكِلُكُم -إن شاء الله- إلى حرصكم وجدكم واجتهادكم، ولأننا
لو سألنا، وإن كان السؤال مما تستحث به النفوس، ويعان الإنسان على الطلب، لكن الوقت
قصيرٌ، وربما يمنعنا من الاسترسال وإنهاء ما أردناه وقصدناه في هذه المجالس
المباركة -بإذن الله جلَّ وعلَا.
تتذكرون عند أي شيءٍ قد توقفنا؟ توقفنا عند المسألة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله
تعالى- بقوله: بخمس ماله، وذكرنا بعض ما يتعلق بها، إلا أننا أرجأنا الكلام عليها
تقريرًا إلى أول هذا المجلس -بإذن الله سبحانه وتعالى.
قبل أن أذكر ما يتعلق بهذه المسألة، لعلنا أن نقرأ أول المتن؛ لنكون على وتيرةٍ
واحدةٍ، وعلى سننٍ متفقةٍ، وهي أن نستهل الدرس بقراءة المتن الذي جعله أبو محمد بن
قدامة -رحمه الله تعالى- وهو متنٌ مباركٌ، لعلك يا ميكائيل أن تقرأ -بإذن الله جلَّ
وعلَا.
{بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم
بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم اغفر لشيخنا، ولجميع المشاهدين والمشاهدات،
والمستمعين والمستمعات، ولجميع المسلمين والمسلمات، آمين يا رب.
قال المصنف -رحمه الله: (ويستحب لمن ترك خيرًا الوصية بخمس ماله)}.
ذكرنا حكم الوصية من حيث استحبابها، ومن حيث وجوبها، وذكرنا أيضًا أن تعلق ذلك إنما
هو لمن ترك خيرًا، وتحديد القدر الذي ينتقل به إلى استحباب الوصية، وأن ما دون ذلك
نص أهل العلم على كراهية الوصية له، إذا كان ما خلَّفه وما تركه لا يكفي لأهله،
وكان بعضكم قد سأل، وأنا أحب أن أنبه على أن السائل لا يتأخر في سؤاله، إذا تُركت
الفرصة له، أنا أعرف أنه قبل البداية سألني سمير عن معنى يتكففون، ونحن ذكرناها
عَرضًا، لكن مهما وُجد عندك من الإشكال، فلا يستحي الإنسان أن يسأل، فإنه ليس أحد
منا إلا يفوت عليه شيءٌ من النظر، أو لا يتضح له صورة هذه المسألة، وإذا استحيا
الإنسان فإنه لا يحصِّل العلم، لعل سمير أن يكون قد فتح لنا بابًا، أو فائدةً في
إطلالة هذا الدرس، وهو أن العلم ينبغي أن لا يكون المتعلم فيه مستحيًا، فإن المستحي
لا يكاد يحصِّل العلم، ولا يترقى في منازله.
يتكففون يعني يحتاجون، أو يطلبون، أو يسألون الناس.
قال: لمن ترك خيرًا الوصية بخمس ماله، ننتقل إلى أولى هذه المسائل، وهي: ما الذي
يُستحب أن يوصي به من عنده مالٌ كثيرٌ؟ هل يوصي بالثلث؟ أو يوصي بما هو دون ذلك،
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الثلث، والثلث كثيرٌ».
فقهاء الحنابلة، وجمعٌ من أهل العلم قالوا: إنه يستحب ألا يبلغ الإنسان الثلث،
وإنما يقتصر على الخمس، وأخذوا ذلك من دليلين ظاهرين:
أولهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الثلث، والثلث كثيرٌ» فكأن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أذن له في الثلث، وإن كان الأولى ألا يصل به إلى ذلك.
فإن قال قائلٌ: لعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما قال ذلك إرضاءً له؛ لأنه كان
أراد أن يتصدق بثلثي ماله.
نقول: هذا معنى صحيحٌ، وقد فهمه بعض أهل العلم، ولذلك قالوا: إنه يوصي بالثلث،
ويمكن أن يقال: إنَّ الله تصدق عليكم بثلث أموالكم، أيضًا يسند هذا.
لكن لما كان عملُ كثيرٍ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء على وجه
الخصوص، كأبي بكر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، وعلي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-،
وجاء نحو من ذلك عن ابن عباس، أنهم اختاروا الانتقال، أو النقص عن الثلث، فإن هذا
يدل على أن المصير إلى الخمُس أولى.
ولذلك جاء عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- وعن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه: رضيتُ
بما رضيه الله -جلَّ وعلَا- لنفسه، إشارةً إلى قول الله جلَّ وعلَا: ﴿وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: 41]، فيقولون:
الخمس مناسبٌ، وجاءت به النصوص، واختصه الله -جلَّ وعلَا- في سهم الغنائم له، فكان
ذلك مما يدل على أنه هو الأولى؛ فأخذ من هذا الصحابة إلى أنَّ الوصية تكون بالخمس
أولى.
ولذلك جاء عن العلاء بن زياد، أن ولده سأله عن أعدل الوصية، فقال: إنَّ أهل العلم
تتابعوا على الخُمس فيها.
لماذا انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- من الثلث الذي جاء به الحديث إلى الخمس، لما
ذكرناه من هاتين العلتين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الثلث، والثلث
كثيرٌ»، ولما جاء عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
إذن نقول: المُستحب أن يوصي الإنسان بخمس ماله، اقتداءً بأصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، واستنباطًا مِن سَهم الله -جلَّ وعلَا- في قسمة الغنائم، في آية سورة
الأنفال.
فإن زاد إلى الربع، فلا بأس من ذلك وهو حسنٌ؛ لأنه جاء عن ابن عباس: لو أن أنقص من
الثلث إلى الربع، وإن أوصى بالثلث، فذلك أيضًا صحيحٌ، لأن هذا الذي جرى من سعد بن
أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، وهذا يخضع بحسب ما عند الإنسان من المآل،
وربما كان إذا أوصى بالثلث، فإنه لا يغيِّر على الورثة لكثرة ما ترك، ولعظم ما
خلَّف، فيكون ذلك مناسبًا، لكن من جهة العموم، فإن الانتقال إلى الخمس أحرى وأولى.
هذا إذن مما يتعلق بهذه المسألة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى-.
وقبل أن ننتقل إلى المسألة الثانية، لعل ثمَّ مسائل مهمةٌ في الوصية يحسن التنبيه
عليها، وهي كيف تكتب الوصية؟
يذكر أهل العلم أنه يُستحب للموصي إذا أراد أن يوصي أن يكتب ذلك ويُشهد عليه، منعًا
للخلاف، وطردًا للنزاع، ليكون ذلك أرجى للعمل بموجبها، ولئلا يُشكَّك فيها، فإنه لو
لم يُشهد عليها، فربما أتى بعض الورثة، وكان قليل الخوف من الله -جلَّ وعلَا-، أو
كثير الحرص على الدنيا، أن يقول: ليست هذه وصيةً لمورثنا، ولا نعترف بها، وهذا يحصل
كثيرًا، خاصةً مع شح النفوس وحرصها على الدنيا، وعدم استحضار ما عند الله -جلَّ
وعلَا- من الأجر والثواب.
وفي بعض الأحوال قد يكون الإنسان أيضًا فعلًا أن عنده شكًّا في أنه قد كتبه، وأنها
قد كُتبت، فإذا وجدت الشهادة كان ذلك أتم وأسلم من النزاع.
لكن هل تكون الشهادة لازمةً؟ أو شرطًا في صحة الوصية؟
لا، بل لو وجدت الوصية بدون شهادةٍ، لكان العمل بها صحيحًا، لأن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: «ووصيته مكتوبةٌ عنده»، ولم يذكر أكثر من ذلك، ولم يقل: مكتوبةٌ
عنده، وقد أشهد عليها، فدل على أن الكتابة كافيةٌ في العمل بموجبها، إذا عُلم،
واحتفتْ القرائن أن ذلك خطُّ وكتابُ المورِّث، فإنه يُعمل بها، وهذا هو الذي استقر
عليه قول أهل العلم، أو جماهير أهل العلم.
أيضًا مما يتعلق بذلك، وهي من المسائل المهمة: أن لأهل العلم نسقٌ في كتابة
الوصايا، فيحسن بمن أراد الوصية أن يأخذ بما جاء عن السلف فيها، فكان كما جاء عن
أنس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- عند الدارمي وغيره، أنه يقول: هذا ما أوصى به
فلانٌ بن فلانٍ، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، أو عبده
ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته، ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وأن الجنة حقٌّ،
والنار حقٌّ، وأوصى أهله ومن خلفه، أن يتقوى الله -جلَّ وعلَا-، ويصلحوا ذات بينهم،
ثم يذكر الآية: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾
[البقرة: 132]، ثم يذكر ما وصى به.
وبعضهم يزيد: هذا ما أوصى به فلانٌ بن فلانٍ، إن حدث به حادث الموت، فنحو هذه
العبارات يكون مناسبًا، وعليه جرى سنن السلف، وطريقة أهل العلم، وروي عن صحابة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم.
وإذا أشكل على الإنسان كيفية كتابة الوصية، فيحسن به أن يستأنس برأي أهل العلم
والفضل، وأن يرجع إليهم في ذلك، فإنه يكون -بإذن الله جلَّ وعلَا- أدعى لكمال
وصيته، ولحسن ما يكتب، سواءً كان ذلك في ما احتوت عليه من الأحكام وموافقة مسائل
الشرع، أو في ما خرجت به أيضًا من الوصية للورثة، ولحسن الاستهلال، الذي هو فيه
مدعاةٌ إلى العمل بها، والقيام بحقها، وأيضًا فيه إشارةٌ إلى ما مات عليه ذلك
المورِّث من الإيمان بالله، وتوحيد الله، وما يُقبل عليه من رحمة الله -جلَّ
وعلَا-، وطلب رضوانه وجنته، لا حرم الله -سبحانه وتعالى- الموصين وأهل الإسلام ما
يرجونه من الله من دخول جنته، والنجاة من ناره.
هذا ما يتعلق بكتابة الوصية، والإشهاد عليها، وأيضًا الصيغ التي جاءت فيها، وهنا
لما ذكرنا أنه يوصي بالخمس، فإن أوصى بالربع فلا بأس، وإن أوصى بالثلث فلا بأس، فإن
زاد عن الثلث، يعني كأن يوصي بنصف ماله، فما الحكم في ذلك؟ أو أوصى بثلثي ماله، أو
أوصى بجميع ماله.
فنقول: إنَّ المستقر عند أهل العلم الذي جاءت به دلالة النصوص، أن ذلك ليس بجائزٍ،
وأنه مُحرَّمٌ، أصل ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما استأذنه سعد، وماله
كثيرٌ، قال: أفأتصدق بثلثي مالي، قال: «ل»، قال: فالشطر، يعني النصف، قال: «ل»،
قال: الثلث، قال: «الثلث، والثلث كثيرٌ»، فدل على أن ما زاد عن الثلث فهو مُحرَّمٌ،
ولا يجوز.
ويمكن أيضًا أن يُعلم أن الزيادة على ذلك ممنوعةٌ من جهة ما جاء في الحديث الذي
رواه مسلمٌ في صحيحه، في الرجل الذي كان له ستة أعبدٍ، فأوصى بعتقهم جميعًا، لما
كان ذلك بعد موته، جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضهم ليسأله، فمنع تلك
الوصية، وجزَّأهم ثلاثة أجزاءٍ، ثم أقرع بينهم، فعتق منهم اثنيْن، وبقي أربعةٌ،
وليس له مالٌ سواهم، لأنه أوصى بجميع المال، فلم يُنفِّذْ النبي -صلى الله عليه
وسلم- من وصيته إلا ثلثها، فدل ذلك على أن ما زاد عن الثلث، فإنه لا يجوز.
{إذا لم يكن له ورثةٌ؟}.
إذا لم يكن له ورثةٌ، هذا سؤالٌ جيدٌ، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«إنك إن تذر ورثتك أغنياء، فخيرٌ لك من أن تذرهم..»، إذا لم يكن له ورثةٌ، بعض أهل
العلم أجرى الحكم على ما هو عليه، من أنه لا يجوز الوصية بأكثر من الثلث، ومن أهل
العلم كما هو مشهور في المذهب عند الحنابلة، وقولٌ عند جمع من أهل التحقيق، أنه إذا
أوصى من لا وارث له بجميع ماله جاز ذلك، وأصل هذا ما جاء عن ابن مسعود -رضي الله
تعالى عنه وأرضاه- أنه أجاز الوصية بجميع المال لمن لا وارث له، ولأنه من جهة
المعنى قالوا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء»،
فالعلة من عدم الوصية بأكثر من الثلث هو الإحسان إلى الورثة، ومنع حاجتهم، فإذا لم
يوجد الورثة لا يكون في ذلك منعٌ، ويكون جائزًا، ولأن الأصل أن يحسن الإنسان إلى
نفسه، بالتبرع بماله، والقيام بالصدقة به، فيكون ذلك صحيحًا، لمن لا وارث له. إذن
هذا سؤالٌ جيدٌ.
إذا قلنا: إن الوصية بأكثر من الثلث ليست بجائزةٍ من جهة الأصل إلا في ما عدا
المسألة التي ذكرناها، وسأل عنها زميلكم.
شرطٌ آخر في نفاذ الوصايا، وهو أيضًا مما دلت عليه النصوص، وهو ألا تكون الوصية
لوارثٍ، فلو أنَّ شخصًا أوصى لأحد أبنائه بسيارة مثلًا، أو بمنزلٍ، أو بأي شيءٍ
قليلًا كان أو كثيرًا، فنقول: مادام أن هذا الابن وارثٌ، فإن الوصية ليست بصحيحةٍ،
حتى ولو كانت بأقل من الثلث، فيكون ذلك أيضًا شرطًا ثانيًا لصحة الوصية.
الشرط الأول: ألا تكون بأكثر من الثلث.
والشرط الثاني: ألا تكون لوارثٍ، لماذا؟ قالوا: لما جاء في الحديث، فإن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال: «إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقه، فلا وصية لوارثٍ»، فقالوا
من أن الورثة قد حكم الله -جلَّ وعلَا- لهم بحقوقهم، وجعل لكل واحدٍ نصيبًا بحسب
قربه وبعده، وأحقيته من الميت، في كتاب الله -جلَّ وعلَا- في آية المواريث،
وسيأتينا تفاصيل الكلام على ذلك، وبيان المسائل المتعلقة به بعد هذا الكتاب -بإذن
الله جلَّ وعلَا- الذي هو كتاب الوصايا.
فبناءً عليه نقول: إذن لا وصية لوارثٍ.
ربما تترتب على ذلك مسألةٌ، ونحن قد أطلنا في مقدمة هذا الباب، لكن هذه مسائل
مهمةٌ، فحسن أن نذكر ما يتعلق بها، ثم بعد ذلك يمكن أن نذكر المسائل على شيءٍ من
الاختصار والإجمال، لكن لما كانت هذه أصول مسائل هذا الباب، والحاجة داعيةٌ إليها،
لكثرة ما يحصل، أو وقائع الناس فيها، فيمكن أن نفصِّل في ذلك.
لو أن الميت أوصى لواحدٍ من الورثة، أو أوصى بأكثر من الثلث، فما الحكم في هذه
المسألة؟
نقول: من جهة الحكم أن ذلك ليس بصحيحٍ، لكن لو أن الورثة أجازوا ذلك وأنفذوه لكان
صحيحًا، يعني من حيث الأصل نقول: لا، لكن لو قال الورثة مادام أن مورِّثنا قد أراد
ذلك، فإنا موافقون، فيقولون من أنه يصح والحال هذه، لماذا؟ يقول أهل العلم: لأن
الحق الذي لأجله مُنع من الزيادة على الثلث لأجل الورثة، فإذا أجازوه جاز، وإذا
أنفذوه نفذ.
ومثل ذلك لو أنه أوصى لأحد الورثة، وهذا فيه بعض الأحوال يحصل من بعض الناس مثلًا،
يقول: هذه البنت مثلًا مطلقةٌ، ولها أولادٌ كثيرون، فربما كانت أحوج من إخوانها،
فأوصى لها، فمع قولنا من أن ذلك ليس بصحيحٍ، لكن لو حصل هذا، فأجازه الورثة جاز،
لأن الحق لهم.
وهنا يقول أهل العلم، وهي مسألةٌ لطيفةٌ، وإن كان فيها صعوبةٌ: هل ما يجيزه الورثة
من ما زاد على الثلث أو لوارثٍ، هل هي هبةٌ منهم؟ أو إجازةٌ لما أوصى به المورِّث؟
يقولون: هي إجازةٌ على الأصح، يعني أن العقد من المورِّث، والإجازة منهم، فتنفذ
بمجرد موافقتهم، ما الذي يترتب على ذلك؟ إذا قلنا من أنها كذلك، لو قلنا إنها هبةٌ،
يعني جديدةٌ منهم، لاعتبر فيها شروط الهبة، فلو رجعوا قبل القبض لصح لهم ذلك، لكن
إذا قلنا من أنها إجازةٌ لما أوصى به المورِّث، فمعنى ذلك أنه لا يجوز لهم الرجوع.
فلذلك الأصح عند أهل العلم أنها إنفاذٌ لما أوصى به الموصى والمورِّث، فبناءً على
ذلك بمجرد موافقتهم وإجازتهم، لا يحق لهم الرجوع فيها لو رجعوا، ويترتب على ذلك بعض
المسائل، لكن ليس هذا محل الإفاضة فيها وذكر كل ما يتعلق بها، لكنها إشارةٌ سريعةٌ
إلى هذا.
هذه إذن بعض المسائل المتعلقة بأول ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في استحباب
الوصية والشروط المتعلقة بذلك، فلعلك أن تقرأ.
{وتصح الوصية والتدبير من كل من تصح هبته}.
إذن، وتصح الوصية والتدبير من كل من تصح هبته، كأن سائلًا سأل من الذي تصح وصيته؟
فالجواب في ذلك: كل من تصح هبته، وهذا عند أهل العلم علمٌ يُعرف بالكليات، حتى
تتصورها كالضابط الذي يستقر عندك، كل من تصح هبته تصح وصيته، فبناءً على ذلك، الرجل
تصح هبته فتصح وصيته، المرأة تصح هبتها، فتصح وصيتها، المسلم تصح هبته، فتصح وصيته،
الكافر تصح هبته، فتصح وصيته، لقائلٍ أن يقول: ما علاقة الكافر بنا؟ نقول: نعم له
علاقةٌ، لو أن مُعَاهَدًا أو ذِمِّيًا أو مُسْتَأمَنًا أوصى بوصيةٍ، ومات في بلاد
المسلمين، فجاء ورثته إلى قاضٍ من قضاة المسلمين، للزم أن يحكم، ويحكم بما جاء في
كتاب الله -جلَّ وعلَا-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
فنقول: إن هبته في الحياة صحيحةٌ، فكذلك وصيته، فكل من صحت هبته، صحت وصيته.
من الذي لا تصح هبته؟
مثل الولي على أموال اليتامى، لو وهب من أموال اليتامى لا تصح هبته، فبناءً على
ذلك، لو أوصى من أموال اليتامى بوصيةٍ، نقول: لا تصح.
مثل من أيضًا: من لا يصح هبته، المجنون، المجنون لو وهب شيئًا لا تصح هبته، فلا تصح
وصيته، ومثل ذلك السكران ونحوهم، وربما نزيد فيها بعد جملةٍ في الكلام على ذلك.
فإذن تصح الوصية من حيث هي إحسانٌ، وهي برٌّ، فمن صحت هبته، صحت وصيته.
قال: وتصح الوصية والتدبير، التدبير ما هو؟ ما معنى التدبير؟
التدبير هو نوعٌ من أنوع الوصية، لكن جرت عادة الفقهاء إلى التنصيص عليه لأهميته،
وهو في بابٍ من الأبواب، وهو باب العتق، وهو أن يعلِّق عتق العبد بالموت، لماذا سمي
تدبيرًا؟ لأنه يقول: دُبر حياتي، أنت حرٌّ دبر حياتي، يعني إذا أدبرت حياتي، إذا
متُّ فأنتَ لوجه الله -جلَّ وعلَا-، حرٌّ فسمي ذلك تدبيرًا.
هنا إذن التدبير هو نوعٌ من أنواع الوصية، لكن احتاج إلى التنصيص عليه، لأهميته، أو
لقولٍ مخالفٍ من الفقهاء -رحمه الله تعالى- في ذلك، فأراد أن يبين أن مساقه وحكمه
حكم الوصية.
فإذن تصح الوصية والتدبير من كل من تصح هبته، هذه مسألةٌ مهمةٌ، وهي أيضًا من
الضوابط العامة في ما يتعلق بالوصية.
من الذي تصح أيضًا هبته؟
يقولون: البالغ، الرشيد، فالبالغ يُخرج الصغير، هل هو على الإطلاق أو لا؟ الأصل أن
الصغير يخرج منها، إلا ما سيأتي من المسألة التي سيذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى-
بعد ذلك.
والرشيد يُخرج غير الرشيد، مثل من ذكرنا: "المجنون و السكران و نحوه".
المحجور عليه لسفهٍ يخرج من الرشد، لكن مع ذلك استثناه أهل العلم، وسنذكر ما يتعلق
بذلك في الجملة التي ذكرها المؤلف.
إذن البالغ الرشيد، هذا هو الأصل، وإن كان فيها بعد المستثنيات التي سيأتي ذكرها،
لكن من حيث الأصل، فكل بالغٍ رشيدٍ سواءً كان مسلمًا، أو غير مسلمٍ، فاسقًا، أو غير
فاسقٍ، رجلًا أو امرأةً، فإن وصيته صحيحةٌ.
لو كان عبدًا مملوكًا، هل تصح وصيته؟
{لا تصح}.
بإجماعكم. أما أنا فأخالفكم.
العبد إن كانت وصيته بالمال فلا تصح؛ لأنه لا مال له، والعبد وما مَلك مِلك لسيده،
لكن ليس الوصية مختصة بالمال كما ذكرنا، فربما يكون وصيته في القيام على ولده،
وربما تكون الوصية في تغسيله، أو تكفينه، أو نحو ذلك من المسائل، فإذا كانت في غير
المال، فإن وصيته صحيحة، لكن الوصية بالمال لا تصح من جهة أنه لا تصح هبته، فلا تصح
وصيته.
السكران لا تصح هبته؛ لأنه غير عاقل، فهو مثل: المجنون، فلما كانت تصرفاته ليست
بصحيحة، فإن هبته ليست بصحيحة، فكذلك وصيته، فلو كتب في حال سكره، أو تكلم بذلك
كلامًا، فنقول: إن هذا لا يُعمل به، مادام أن البيِّنة قد ثبتت بالبيِّنة أنه كان
حين قال ذلك أو كتبه وهو سكرانٌ، أما دعوى أنه سكرانٌ فلا تُقبل، لأن الأصل أنه
كتبها وهو في حال عقله، لكن متى ما ثبت أنه سكرانٌ، وأنه قال ذلك في حال سكره، فلا
يكون ذلك مقبولًا، ولا يُعمل بتلك الوصية، ولا اعتبار لها، كما أنه لو وهب ماله، أو
سيارته، أو بيته، وهو في حال سكره، لم تكن تلك هبةٌ صحيحةٌ، فكذلك في حال سكره.
{قال المصنف -رحمه الله: ومن الصبي العاقل، والمحجور عليه لسفهٍ}.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- في قوله: ومن الصبي العاقل، والمحجور عليه لسفهٍ،
تنصيصٌ على خصوص هذه المسألة، لكونها ليست في الأصل أنها ليست بداخلةٍ في من تصح
هبته، لكن لما كان هؤلاء وإن لم تصح هبتهم، يصح منهم الوصية، نبَّه عليهم المؤلف
-رحمه الله تعالى.
فإن قال قائلٌ: لِم لا تصح هبتهم؟ لم تصح هبتهم لكونه ليس بالغًا، والبالغ ليس
برشيدٍ، وقد مُنع من التَّصرف في أمواله، لقول الله -جلَّ وعلَا: ﴿فَإِنْ آنَسْتُم
مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6] أليس كذلك؟
قالوا، فهذا في حال الحياة ليُحفظ ماله، فربما تصرَّف فيه، فيفوِّت حقه وما يحتاج
إليه من تزويجٍ، أو سُكنى أو نحو ذلك، فلم يكن ذلك صحيحًا، لكن لما كان هذا بعد
الموت، الوصية هي إنما بعد الموت، فتكون صحيحةً، لماذا؟ لأنه إنه عاش فالمال ماله،
والوصية لا حكم لها، وإن مات فليس شيءٌ أنفع له من أن يتصدق بماله، لكونه أرفع له
عند ربه، وأعلى لدرجته.
قال أهل العلم: ولأن الصبي العاقل قد صحت منه الصلاة، وصح منه الإسلام، أليس عليٌّ
-رضي الله تعالى عنه وأرضاه- أسلم صغيرًا، فكان ذلك صحيحًا، فكذلك لما صح منه
الإسلام والصلاة، فإن الصدقة منه صحيحةٌ، في الوصية، وإنما مُنعت في حال الحياة،
لأنه ربما كان ذلك تفويتًا لمصلحةٍ أعظم وهو بقاء المال في ما يحتاج إليه من تزويجٍ
وغيره.
ولذلك جاء عن الصحابة أثران عن عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فإن صبيًا من
غسَّان يعني قبيلة غسان، أوصى، فعُرض ذلك على عمر، فأجاز وصيته، وهذا أيضًا بمحضر
الصحابة، فيكون قول صحابيٍّ، وأحد الخلفاء، ومما اشتهر، فيكون متأكدًا.
وأيضًا جاء ذلك عن عمر، أنه استشير في صبيٍّ له ابنة عمٍّ، وله مالٌ كثيرٌ، وورثته
في الشام، يعني بعيدون عنه، فهل يوصي لها؟ فأذن بالوصية لها، فدل ذلك على أن وصية
الصبي، وإن لم يبلغ صحيحةٌ، فكان العمل على ذلك، وهذا هو قول الحنابلة، وجماهير أهل
العلم.
والمحجور عليه لسفهٍ، في بعض النُّسخ: والمحجوز، لكن هي العبارة التي اصطلح عليها
عند أهل العلم: المحجور عليه، ولذلك تقدَّم بكم باب الحجر.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: أيضًا المحجور عليه لسفهٍ، المحجور عليه إما أن يكون
لسفهٍ، وإما أن يكون لفلسٍ، يعني ليس عنده مالٌ، وعليه ديونٌ للغرماء، فهذا قسمٌ،
وهذا قسمٌ، فالمحجور عليه لفلسٍ تصح وصيته، لماذا؟ لأن الوصية إنما تنفَّذ أصلًا
بعد قضاء الديون، فإذا بقي له من المال بقيةٌ، صحت الوصية، فيكون ذلك جائزًا، لكن
المحجور عليه لسفهٍ، الذي لا يُحسن التصرف في الأموال، ربما يبعثرها، وربما يبذلها
في غير ما ينبغي أن تُبذل فيه، فإنه يُحجر عليه، ولذلك الآية قال الله -جلَّ وعلَا-
فيها: ﴿فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدً﴾ [النساء: 6]، فقيَّد ذلك بحصول الرشد في
المال، يعني في تصريف الأموال، وبذلها، والقيام عليها، فمن لم يكن كذلك، لم يكن منه
رشدٌ، فهو سفيهٌ، وإذا كان سفيهًا، فهو محجورٌ عليه.
هذا المحجور عليه بالنسبة للهبة لا تصح منه، ولا شك، أما الوصية، فقال أهل العلم من
أنها صحيحةٌ، لماذا؟ لأن الوصية إنما هي بعد وفاته، أليس كذلك؟ والمحجور عليه
لسفهٍ، إنما هو حُجر عليه لمصلحة نفسه؛ لئلا يبعثر ماله في غير سبيلٍ صحيحةٍ، ولئلا
يفوِّت ما قد يحتاج إليه هو في حاجته الملحة، من نفقةٍ، أو مطعمٍ، أو مأكلٍ، أو
مشربٍ وسكنى، أو إعفاف نفسه، فبناءً على ذلك، إذا كان هذا بعد الممات، فإنه ليس
شيءٌ أنفع له من أن يكون في الوصية، في الإحسان إلى نفسه؛ لأنه أحوج إلى ما يكون أن
تكون أجرًا وثوابًا، ولذلك قال أهل العلم: فإنه وإن لم تصح منه الهبة من حال
الحياة، لمحذورٌ، فإن هذا المحذور غير واردٍ في حال الممات، فيكون ذلك عفيفًا، ولأن
هذا أعظمٌ لأجره، وأفضل له عند ربه، فيكون ذلك صحيحًا.
{قال المصنف -رحمه الله: ولكل من تصح الهبة له، وللحمل إذا عُلم أنه كان موجودًا
حين الوصية له، وتصلح بكل ما فيه نفعٌ مباحٌ، ككلب الصيد والغنم}.
إذن هذا في بيان من محل الوصية، من تصح له الوصية.
من تصح له الوصية؟
لو جاء مثلًا وقال: أنا سأوصي، لمن توصي؟ قال: مثلًا أوصي لجاري، وجاره فاسقٌ، أو
قال هذا سأوصي إلى صديقي في العمل، قلنا: من صديقه في العمل، فإذا هو ليس بمسلمٍ،
كافرٌ، فمثل هذا هل يكون صحيحًا أو لا؟ فيقول المؤلف -رحمه الله: من تصح له الهبة،
تصح له الوصية.
فإذن الكافر تصح الهبة له؟ لو وهب الإنسان كافرًا هبةً، أعطاه طعامًا، أعطاه
شرابًا، أعطاه شرابًا، قلَّت هذه الهبة أو كثرت، يصح أو لا يصح؟
{يصح}.
يصح، أليس كذلك؟
{بلى}.
والله -جلَّ وعلَا- يقول: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾
[الممتحنة: 8]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن وأمر بالإحسان إليهم.
ويدل لذلك أيضًا، ما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «في كل كبدٍ
رَطبةٍ أجرٌ»، ما المقصود ب«كبدٍ رَطبةٍ»؟ يعني حيةٌ، فيه حياةٌ، ففيه أجرٌ وثوابٌ
من الله -سبحانه وتعالى-، فهذا وإن كان كافرًا، تجوز الوصية له، ومثل ذلك لو كان
فاسقًا، أو كان مجنونًا، أو كان مريضًا، أو كان صغيرًا، أو كبيرًا، حتى ولو كان
عبدًا، فالهبة تصح له، فتصح له الوصية.
ومما يدل لذلك، أنه جاء في الأثر، أن صفية -رضي الله عنها وأرضاها- أوصت لأخٍ لها
يهوديٌّ، فدل ذلك على أن الوصية تصح لكل هؤلاء، فيجوز أن يوصي لهم.
هذا أيها الإخوة من جهة مسألة، وهي من حيث الأصل، من تصح لهم الوصية، لكن لو سأل
سائلٌ، من الأولى بالوصية؟ فنقول: الأولى بالوصية الأقارب، وهذا قول أكثر أهل
العلم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «صدقتك على قريبك صدقةٌ وصلةٌ»، أليس
كذلك؟ وهذا في حال الحياة، وحال الممات لا تختلف عن حال الحياة، فيكون الإحسان إلى
الأقارب من أولى ما تُبذل فيه الوصايا، كما أنه من أولى ما تُبذل فيه الصدقات، فلما
كان فيها أجران، كما نصَّ على ذلك الحديث الذي في الصحيح، فإن الوصية إليهم أولى،
وهذا قول أكثر أهل العلم، أو جماهير أهل العلم، ويغفل عن هذا كثيرٌ من الناس، فربما
أوصى للفقراء، وربما أوصى لإفطار صائمٍ، وربما أوصى لبعض الأعمال والبر والقربات،
وفيها خيرٌ كثيرٌ، لكن تخصيص الأقارب بالوصية، أو جعل سهمًا لهم، ليس بالقليل، هذا
من أحسن، ومن أعظم ما ينبغي أن تُبذل فيه الوصية.
نقول إذن: إن الوصية للأقارب أتم وأكمل، وأولى وأفضل، وإذا جئنا أيضًا إلى أبواب
البر التي ينبغي الوصية فيها، أنه كلما كان ذلك الباب أعظم، فإن الوصية فيه أتم،
فمثلًا أبواب العلم، إما على طلبة العلم، أو على كتب العلم، أو على مجالس العلم، أو
نحوها، فإن هذا من أعظم ما تُحفظ به الشريعة، وتُصان به الملة، ويُمنع من حصول
الشر، وكثرة الجهل والبغي والظلم والعدوان، فيكون الوصية فيها أولى.
مثل ذلك أيضًا: إذا كان في بابٍ من الأبواب حاجةٌ للمسلمين مُلحَّةٌ، فإن الوصية
فيها تكون أتم، -مثلًا- الأيتام، أو الأرامل، أو كان ذلك على –مثلًا- المرابطين في
الحدود، والجنود، ونحوهم، فلهم من الخصيصة والمال ما يكون أتم، فينبغي أن يلحظ ذلك
كل من أراد الوصية، إذا كانت الوصية في الماء، فإنها أتم من غيرها، والوصية أيضًا
في ما يعظم بقاؤه، كالأوقاف، والمساجد، ونحوها، أيضًا كذلك لها خصيصةٌ، إذا أراد
الإنسان الوصية، فإنه ينظر في أتم ما يكون الوصية فيه، لكن لا يمنع ذلك أن الإنسان
له أن يوصي في ما دونها، وقد يكون للإنسان خصيصةٌ كما جاء عن صفية، هذا أخوها،
فأوصت له، فكان ذلك صحيحًا، فقد ينظر الإنسان في بعض الأمور ببعض عينٍ أخرى، وقد
يكون المفضول فاضلًا، أو المرجوح مُرجَّحًا لسبب من الأسباب التي تفضله، وقد يرى
الإنسان في خاصة نفسه أنه يميل إلى ذلك، فلا يُمنع، مادام ذلك خيرًا، ومادام أن
يكون ذلك التصرف داخلًا في الصحة والقبول، كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى.
قال: وللحمل إذا عُلم أنه كان موجودًا، إذا أوصى الإنسان لحملٍ، فقال: ما حملت به
فلانةٌ كأن تكون بنت أخته، أو جارته، أو غير ذلك، فيقولون من أنه تصح الوصية إليه،
فإذا مات وولد الحمل، فإنه يأخذ ما أوصي له به، واستقرت حياته؛ لأن هذا شرطٌ في
استحقاقه.
لماذا تصح الوصية للحمل؟
قالوا: أليس الحمل إذا كان حملًا، ومات مورِّثه فإنه يرث؟ فإذا صحَّ إرثه، وهو أخص،
فمن باب أولى تصح الوصية له، فالوصية بابها أعم، فبناءً على ذلك ذهب أهل العلم إلى
صحتها.
قد يُفهم من هذا أنه لو كان معدومًا فإنها لا تصح الوصية في مثل تلك الحال، هذه
مسألةٌ تحتاج إلى شيءٍ من التوضيح، وهو مفهوم كلام المؤلف، لكن لعلنا أن نرجئها
-بإذن الله جلَّ وعلَا- في إطلالة المجلس القادم؛ لأن الوقت لم يبق فيه متسعٌ،
فنسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يوفقنا وإياكم للهدى والصواب، والخير والرشاد، وأن
يجزيكم خيرًا، والإخوة المشاهدين والمشاهدات، ومن قام على هذا الصرح الموفَّق
والمسدد، نسأل الله ألا يضيع أجر المحسنين في إحسانهم، وألا يضيع أجرهم، وأن يزيدهم
جهدًا وتوفيقًا وعملًا رشيدًا، وخيرًا كثيرًا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا
محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.