الدرس الأول

فضيلة الشيخ أ.د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

9384 18
الدرس الأول

العقيدة الواسطية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم (جادة المتعلم)، في هذه الحلقة نبدأ مُستعينين بالله بشرح متن (العقيدة الواسطية) لمؤلفه/ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
أيها الإخوة والأخوات، اسمحوا لي أن أُرحب باسمي واسمكم بضيفنا فضيلة الشيخ/ سهل بن رفاع العتيبي، أهلاً وسهلاً بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله والإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، نسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لِمَا يحب ربنا ويرضى.
{آمين. نستأذنكم فضية الشيخ في قراءة المتن}.
نعم، توكل على الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين جميعًا.
قال المؤلف -رحمه الله-: (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا‏.‏
وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا‏.‏
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم َتسليمًا مَزِيدًا‏.‏
أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ‏، أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ‏، وَهُوَ: الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانِ بِالْقَدَر ِخِيْرِهِ وَشَرِّهِ‏)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلّي الله وأسلم على المبعوث رحمة العالمين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد، فهذا الكتاب الموسوم بالعقيدة الواسطية، لمؤلفها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، المولود سنة إحدى وستين بعد الستمائة (661) والمتوفى سنة ثمانٍ وعشرين بعد السبعمائة (728) رحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء وأوفاه، وجميع علماء المسلمين.
هذه (العقيدة الوسطية) وقبل الدخول في شرحها والتعليق عليها، لا بد من بيان مُقدمات تتعلق بأهمية هذه العقيدة وميزاتها، وسبب التسمية، وسبب التأليف، وعناية العلماء بها.
أولاً ما يتعلق بالاسم: المصنف -رحمه الله- كما لاحظت في بداية المقدمة قال: (فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ)، وسمّاها: (اعتقاد)، ولهذا في بعض نسخها وفي بعض شروحها يسمون هذا الكتاب باعتقاد الفرقة الناجية المنصورة، بناء على ما ذكره المؤلف في هذه المقدمة.
واشتُهِر اسم هذه العقيدة بالعقيدة الواسطية وإن لم ينص المصنف على ذلك، فيبدو أنَّ هذا من التلاميذ، ومن الشراح، ومن العلماء الذين عُنوا بهذا الكتاب، فاشْتُهِرَ بهذا الاسم (العقيدة الواسطية).
ما السبب في هذه التسمية؟
أشار المصنف -رحمه الله- في سبب التأليف لهذا الكتاب أنَّ أحد قُضاة علماء واسط في العراق، يقال له: "رضي الدين الواسطي" في رحلته للحج أتى إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، وذلك لشهرته في ذلك الزمن، وذكر له انتشار الجهل في تلك البلاد بسبب هيمنة التتار على تلك المناطق، وما فيها من الجهل واندراس الدين والعلم، فطلب من ابن تيمية -رحمة الله عليه- أن يكتب له عقيدة تكون له ولأهل بيته، فاعتذر ابن تيمية في أول الأمر، يقول: "فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد مُتعددة، فَخُذ بعض عقائد أئمة أهل السنة، فألحَّ في السؤال وقال: "ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت"، يقول: "فكتبت هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر".
وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر والعراق وغيرهما، فهذا فيه بيان لسبب التأليف، وفيه إشارة أيضا للاسم، وأنَّه نسبة إلى هذا القاضي الشافعي "رَضي الدين الواسطي"، ولذا قيل: سميت بالواسطية لهذا الذي هو سبب التأليف.
وعند الوقوف على سبب التأليف تجد أنَّ كثيرًا من كتب أهل العلم أُلفت بناءً على طلب، وهذا من باب الدلالة على الخير، فالذي طلب هذا السؤال وسأله هو من باب الدلالة على الخير، وهذا حصل في كثير من كتب ابن تيمية، فلا يؤلف المؤلفات لأجل كثرة المؤلفات، وإنما يؤلف للطلب الذي يصل إليه، مثل: "الفتوى الحموية، والتدمرية، ومثل: العقيدة الواسطية"، ولهذا بارك الله -عز وجل- في هذه المؤلفات هذه القصة التي ذكرها ابن تيمية -رحمه الله-، وقد ذكرها أثناء المناظرة التي أُجريت له حول هذه العقيدة مع بعض فقهاء وعلماء الأشاعرة حول هذه العقيدة، فذكر هذا السبب في تأليف هذه العقيدة.
من أهل العلم من يقول: سميت بالواسطية لأنه ذكر فيها وسطية أهل السنة والجماعة كما سيأتي بيانه بعد حديث الصفات، فربما هي سميت واسطية لـ "رضي الدين الواسطي"، أو لأنها ذكرت وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق.
هذه العقيدة -الواسطية- امتازت بميزات عديدة، منها: أنها شاملة لأهم مسائل العقيدة على طريقة أهل السنة والجماعة، ولهذا ذكر فيها أبواب الصفات، وما يتعلق باليوم الآخر، وما يتعلق بالقدر، وما يتعلق بحقيقة الإيمان، وموضوعات الصحابة، وكرامات الأولياء، ثم الميزات والخصائص العملية والأخلاقية التي تَمَيَّز بها أهل السنة والجماعة على غيرهم.
امتازت أيضا بأنَّ المصنف -رحمه الله- قد تَحَرَّى فيها ألفاظ الكتاب والسنة، ولهذا في المناظرة التي أُجريت له أوردوا عليه إرادات، مثل: لماذا لم تذكر التحريف؟ لماذا لم تذكر التأويل؟ لماذا لم تذكر التشبيه؟ فذكر أنه تحرى في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، وأنَّ كل لفظ لم يرد في الكتاب والسنة فإنه لا يريده في هذه العقيدة، بل إنه تحدّى الخصوم أن يأتوا فيها بآية أو حديث يخالف مما ذكره في هذه العقيدة.
فهذه ميزة أخرى في موضوعاتها، وفي سهولة ودقة عباراتها التي اعتمد فيها على أدلة الكتاب والسنة.
امتازت بميزة ثالثة، أنَّ هذه العقيدة جاءت في مقام التحدي للخصوم، ولهذا قال في المناظرة: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، أي أنه أعطاهم مهلة لثلاث سنين حتى يأتوا بما يُخالف ما دَوَّنَه في هذه العقيدة من آية أو حديث.
وقال: "من جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة الفاضلة التي أثنى عليها النبي يخالف ما ذكرته فأنا راجع عن ذلك" ولكنهم لم يأتوا بذلك.
فهذه ميزة أيضاً امتازت به هذه العقيدة، أنها جاءت في مقام التحدي للمخالفين.
امتازت أيضاً بأنه ذكر فيها ما يُميز أهل السنة والجماعة وغيرهم، وهذه ميزة في كتب العقائد المختصرة على طريقة أهل السنة والجماعة، أنهم لا يذكرون في كتب العقائد المختصرة إلا ما يميز أهل السنة والجماعة، وقد أشار إلى هذه الميزة في شرح العقيدة الأصفهانية، وأنَّ المصنفات المختصرة على طريقة أهل السنة والجماعة لا يذكرون فيها إلا ما يُميز أهل السنة والجماعة، في أبواب الصفات، وفي أبواب الإيمان، وفي أبواب الصحابة، وفي أبواب القدر، وهكذا في كل ما يميز أهل السنة والجماعة، بل إنهم في كتب العقائد المختصرة قد يشيرون إلى بعض الفروع الفقهية، مثل: المسح على الخفين، والسمع والطاعة للأمراء، أبراراً كانوا أو فجاراً، أو الحجَّ والجهاد معهم؛ لأن هذه الفروع الفقهية أصبحت ميزات وخصائص تُميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم.
هذه بعض الميزات التي تميزت بها هذه العقيدة الواسطية، ولهذا عُني العلماء بها بعد عصر ابن تيمية، فكثرت عليها الشروح، وكثرت عليها التعليقات، وانتشرت خاصة في بلادنا بحمد الله كثرة الدروس والدورات العلمية في شرح هذه العقيدة المباركة، ولهذا أقول لطلاب العلم: إن هذه العقيدة حرية وجديرة بالحفظ والتأمل والتدبّر والفهم.
وانظروا إلى ثناء تلاميذ ابن تيمية على هذه العقيدة، يقول الإمام الذهبي -وهو من تلاميذ ابن تيمية- بعد المناظرات التي أُجريت لابن تيمية حول هذه العقيدة في ثلاث جلسات، يُبين النتيجة لهذه المناظرات، يقول: وقع الاتفاق على أنَّ هذا معتقدٌ سلفيٌ جيدٌ. حتى المخالف من فقهاء الأشاعرة، ومن بعض القضة الذين خالفوه، وقع الاتفاق على أنه مُعتقد سلفي جيد.
ابن رجب -تلميذ تلميذه- فهو تلميذ ابن القيم يقول: وقع الاتفاق على أنَّ هذه عقيدة سنية سلفية، وهكذا علماء أهل السنة بعد عصر ابن تيمية أثنوا على هذه العقيدة، وعلى ما امتازت به من هذه الميزات.
يلاحظ في هذه العقيدة أنَّ ابن تيمية -رحمه الله- ذكر مسائل العقيدة تأصيلاً، فاختلفت عن بقية المؤلفات التي ألفها ابن تيمية، فابن تيمية -رحمة الله عليه- أغلب مؤلفاته في العقائد فيها المطولات وفيها المختصرات، ومعظم هذه المؤلفات هي إجابة للسائلين، ومعظمها في الرد على المخالفين، فامتازت هذه العقيدة الواسطية بأنها تأصيل لعقيدة أهل السنة والجماعة، ولهذا هي من أنفع ما يُعنى به طالب العلم في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة لما امتازت به من هذه الميزات وهذه الخصائص.
هذا ما يتعلق بمقدمة لا بد منها في التعريف بهذا الكتاب، والتسمية، وسبب التأليف، والميزات، وعن عناية العلماء بهذا الكتاب.
بعد هذا نبدأ بمقدمة المؤلف، فيلاحظ الإخوة أنَّ المصنف -رحمه الله- ابتدأ هذه العقيدة بالبسملة، كعادة أهل العلم يبدأون كتبهم بالبسملة، أولاً: تأسيًا بكتاب الله، فكل سورة في القرآن مبدوءة بالبسملة عدا سورة التوبة، والخلاف بين الصحابة في هل هي سورة مستقلة أو هي أو تكملة لسورة الأنفال، فتركوها بدون بسملة، وإلا فبقية سور القرآن مبدوءة بالبسملة.
وثانياً: تأسياً بالنبي فإنه يبدأ كتبه ورسائله للملوك والأمراء بالبسملة، كرسالته إلى هرقل، وفيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم.
وأيضًا لِما جاء من آثار وأحاديث يشهد بعضها لبعض في البركة في البدء بـ "بسم الله"، فاسم الله مبارك فما ذكر على شيء إلا تبارك، ولهذا أهل العلم يبدأون به لهذه الأسباب، وأيضا لما فيه من الاستعانة، ولما فيه من التبرك بالبدء بـ "بسم الله".
الباء في "بسم الله" حرف جر، جيء به للتبرك والاستعانة، والاسم مشتق إمَّا من السمو، وهو العلو والرفعة، أو من السمة وهي العلامة، ومتعلق الجار والمجرور محذوف يُقدر بحسب الحال، ويقدر متأخرا لكي يفيد الحصر، ويُقدر فعلا لكي يفيد الاستمرار، فيكون التقدير هنا مثلا: بسم الله أبدأ، بسم الله أكتب، بسم الله أقرأ، وإذا كان الإنسان يَشرب فيقول: بسم الله أشرب، وإذا كان يأكل يقول: بسم الله أكل، وإذا كان يركب وهكذا، فَيُقَدر فِعلا مُتأخرًا بحسب الحال.
(الله) عَلَمٌ على الذات الإلهية، مشتقٌ من الألوهية، التي هي بمعنى العبادة، أَلِهَ، يُؤله، أُلوهة وأُلُوهية، التي هي العبادة.
و (الرحمن الرحيم) اسمان من أسماء الله الحسنى، يدلان على صفة الرحمة، والفرق بينهما أنَّ (الرحمن) ذو الرحمة الواسعة، و (الرحيم) ذو الرحمة الواصلة، فيكون (الرحمن) اسمٌ لازم، و (الرحيم) اسمٌ متعدّ، هذا هو الصحيح في الفرق بينهما.
وقيل: (الرحمن) رحمة واسعة شاملة لجميع المخلوقات، و (الرحيم) رحمة خاصة بالمؤمنين، ولكن الفرق الأول هو الأقرب من حيث المعنى، ورجحه ابن القيم -رحمه الله- عندما شهر إلى الخلاف في الفرق بين (الرحمن والرحيم).
هنا مسألة وهي مُفيدة في هذا الباب -في أبواب الصفات- قد يقول قائل: (الرحمن الرحيم) في إعراب البسملة صفة، والصفة تتبع الموصوف، فكيف يقال: هما اسمان، وفي الإعراب صفات؟
الجواب: أسماء الله أعلام وأوصاف، هذه قاعدة مهمة يتنبه لها الأبناء الطلاب، أسماء الله أعلام وأوصاف، فإن دلت على الذات فهي أعلام، وإن دلت على المعاني فهي صفات، ولهذا يقال فيها: هي متباينة ومترادفة في نفس الوقت، متباينة من حيث المعاني التي دلت عليها، ومترادفة لأنها تدل على ذات واحدة، فلا إشكال حينئذ أن نقول: (الرحمن، والرحيم) صفات، ونقول في نفس الوقت: هما اسمان من أسماء الله الحسنى، فهذه من القواعد المهمة التي نستفيد منها في التفريق بين الاسم والصفة.
من عادة أهل العلم أنهم في المصنفات يجمعون بين البسملة والحمدلة كما صنع المصنف هنا، فالرسائل يُكتفى فيها بالبدء بالبسملة، كما في رسائل النبي للملوك والأمراء ولهذا بعض أهل العلم يُجري كتبه مجرى الرسائل، كما صنع البخاري في الصحيح، اكتفى بالبسملة، وكما صنع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد حيث اكتف بالبسملة، فأجروا هذه الكتب مجرى الرسائل، وإلا ففي الغالب على مصنفات أهل العلم أنهم يجمعون بين البسملة والحمدلة.
والخطب يبدأ فيها بالحمدلة، إذن الرسائل تُبدأ بالبسملة، والخطب تبدأ بالحمدلة، والكتب يجمع فيها بين البسملة والحمدلة.
ولهم في المقدمة طريقتان: طريقة البدء بخطبة الحاجة المشهورة التي رواها ابن مسعود وغيره من الصحابة، وهي: إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، إلى آخره، وبعضهم يبدأ بخطبة الحاجة المشهورة، وبعضهم يبدأ بما يسمى براعة الاستهلال، كما صنع المصنف هنا، وهو أنه يُضمن المقدمة ما يدل على المقصود، وهذا ما يُسميه أهل العلم ببراعة الاستهلال، وهو الغالب في مقدمات أهل العلم في كتبهم، أنهم يبدأون بما يسمى براعة الاستهلال.
يلاحظ في هذه المقدمة أنها اجتملت على خمسة أشياء، يتنبه الأبناء لها:
الأول: البسملة.
ثانياً: الحمدلة.
ثالثاً: الشهادة لله بالوحدانية.
رابعاً: الشهادة لمحمد بالعبودية والرسالة.
خامساً: الصلاة والسلام على النبي .
ولاحظ أنَّ المؤلف ابتدأ الرسالة واختتمها بالصلاة على النبي لتكون كالطابع والخاتم، فابتدأها بالصلاة على النبي ، وختمها بالصلاة على النبي .
إذن هذه خمسة أمور، وهي من مناهج التأليف عند أهل العلم، والغالب في مصنفاتهم أنهم يذكرون هذه الأشياء الخمسة، وهي من محاسن التأليف، ومن آداب التأليف.
قال: (الحمد لله‏) الله -تبارك وتعالى- يُحمد على كماله الذاتي، ويحمد على كمال إنعامه، وإذا كرّر المحامد فهو ثناء، فيحمد على كماله الذاتي، أي: كمال صفاته، ويحمد كذلك على كمال إنعامه، ويشكر على كمال الإنعام، ولهذا أهل العلم يقولون من هذا الوجه: الحمد أعم والشكر أخص؛ لأنَّ الحمد على شيئين كمال ذاته وكمال إنعامه، ويشكر على كمال إنعامه.
ومن جهة الأعضاء فأعضاء الشكر: القلب، واللسان، والجوارح، اعتراف بالقلب، وثناء باللسان، وعمل بالجوارح، والحمد يكون بالقلب واللسان، فحينئذ يكون الشكر أعم من جهة الأعضاء، ولهذا أهل العلم يقولون في الفرق بين الحمد والشكر: بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه، وقد أشار إلى الفرق بينهما ابن كثير في تفسيره لصورة الفاتحة، فليرجع إليه في التفريق بين الحمد والشكر. فإذا كرّر الحمد فهو ثناء، وعليه فإن الحمد يختلف عن المدح؛ لأن الإنسان قد يمدح من يحب ومن لا يحب، ولهذا يُحمد الله تبارك وتعالى على كماله الذاتي وعلى كمال إنعامه.
قال: (الحمد لله الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا‏) المصنف -رحمه الله- أخذ هذه الجملة من قول الله تبارك وتعالى في سورة الفتح، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح:28]، جاء في سورة التوبة وفي سورة الصف قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف:9]، فاقتبس هذا اللفظ، أو هذه العبارة، أو هذا المعنى من هذه الآية.
(الحمد لله الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى) وهو العلم النافع.
(وَدِينِ الْحَقِّ‏) وهو العمل الصالح. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا).
قال: (وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا‏) إذا قال المسلم: (أَشْهَد) فيكون المعنى: أُقِرُ بقلبي ناطقاً بلساني، وهكذا إذا قال المؤذن: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله) فالمعنى الذي تستشعره أنك تعني بالشهادة: الإقرار بالقلب، والتعبير عن هذا الإقرار باللسان، هذا هو معنى أشهد، أُقِرُّ بقلبي مُعترفاً بلساني أنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، ولهذا أكد المعاني بعد ذلك.
(لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ) هذا يفيد إفراد الله بالعبادة، (لَا شَريكَ لَه) أي: لا شريك له في روبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته.
ثم أكد ذلك بقوله: (إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا) وهذا يشمل جميع أنواع التوحيد.
ثم قال: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) لاحظ أنه قرن بين العبودية والرسالة لكي يرد على طوائف الغلو والجفاء، فهو عبدٌ لا يُعبَد، ورسول لا يُكذَّب، ولهذا وصفه الله بالعبودية في أعلى مقامات التشريف، في الاسراء، وفي التنزيل، وفي غيرها، فهو عبدٌ لا يُعبَد، وهذا ردٌ على الغلاة، ورسولُ لا يُكذَّب وهذا ردٌ على الجفاة، فيجمع له بين العبودية والرسالة.
(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم َتسليمًا مَزِيدًا) فالنبي يُجمع له بين الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56]، وأمَّا من عداه من الرسل والملائكة فيقال: عليه السلام، والأصحاب يترضى عليهم، ومن بعد الصحابة يترحم عليه، هذا هو الغالب في طرائق أهل السنة والجماعة في الصلاة والسلام على النبي وعلى غيره من الأنبياء والملائكة، وفي الترضي عن الصحابة، وفي الترحم على غيرهم.
قال: (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ) الآل يحتمل معنيين، إمَّا أنه قصد بـ "الآل" آل البيت، ويدخل في ذلك زوجات النبي ، وسيفرد لهذه المسألة فصلاً مُستقلاً، فيكون عطف الصحابة عليهم من باب عطف العام على الخاص؛ لأنَّ آل البيت يدخلون في الصحابة، فيكون عطف الصحابة عليهم من باب عطف العام على الخاص، أو أراد بالآل الأتباع، فيدخل في ذلك أتباع النبي إلى أن تقوم الساعة، فيكون عطف الصحابة عليهم من باب عطف الخاص على العام.
ثم أكد ذلك بقوله: (وَسَلَّم َتسليمًا مَزِيدًا) النسخة التي قرأتها، وربما هي عُرضت ليس فيها أمَّا بعد، وربما في بعض النسخ موجود عبارة "أمَّا بعد"، وهي المناسبة في التصانيف كما هي طرائق أهل العلم.
وعبارة (أَمَّا بَعْدُ) يُؤت بها في الكتب وهو الغالب، وربما هو الأقرب كما هي عادة ابن تيمية في كثير من كتبه، فربما النسخة التي بين أيديكم وتُعرض عليهم، ربما فيها سقط؛ لأنَّ الغالب من مُؤلفاته في كثير من كتبه أنه يستخدم مثل هذه الأسلوب (أَمَّا بَعْدُ).
وكلمة (أَمَّا بَعْدُ) يأتي بها أهل العلم للانتقال من أسلوب إلى أسلوب، كما يفعل الخطباء في خطب الجمع والأعياد، وكما يفعل أهل العلم في كتب المصنفات، فيأتون بكلمة (أَمَّا بَعْدُ) للانتقال من أسلوب إلى أسلوب، ومعناها: مهما يكن من شيء بعد، والجملة بعدها تأتي مُقترنة بالفاء.
قال: (أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا) هذا اسم الإشارة إلى أي شيء؟ يحتمل معنيين:
إمَّا أنه قصد ما هو حاضر في ذهنه مما سيذكره، وهذا هو الأقرب، وإمَّا أن يُقال: إنَّ مُقدمات الكتب تكتب متأخرة، ولكن هذا على طريقة المتأخرين، فطريقة المتأخرين والباحثين أنه يكتب المقدمة بعدما ينتهي من بحثه وكتابه، فيكتب المقدمة، ولهذا هو يشير إلى ما هو مكتوب، وأمَّا في طُرق المتقدمين فهذا غير وارد، لماذا؟ لأنه ألَّفها في جلسة واحدة بعد صلاة العصر، ولهذا فالأقرب أنه يشير في هذا لِمَا هو حاضر في ذهنه مما يريد أن يُدونه.
(أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ‏، أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) اعتقاد اسم لهذا العِلم، وهذا العلم يُسمى بالعقيدة، ويُسمى بالسنة، ويسمى بالإيمان، ويسمى بالتوحيد، ويسمى بأصول الدين، ونحوه من المسميات، إلَّا أنَّ اسم الاعتقاد أو العقيدة أشمل، ولذا تلاحظون في كتب العقائد فيها شمولية لجميع مسائل العقيدة التي تُميز أهل السنة والجماعة، بل حتى الصفات العملية، بل حتى الفروع الفقهية التي تميزهم عن غيرهم، فَكُتب العقائد أشمل.
وأمَّا كتب التوحيد فهي تختص بموضوع التوحيد فقط، تختص ببابه، وأمَّا كتب الإيمان فتختص بموضوع الإيمان فقط، وأما كتب العقائد وكتب السنة فيها الشمول، ولهذا لاحظوا أن البخاري في صحيحه ألَّف كتاب الإيمان في أول الصحيح، وكتاب التوحيد في آخر الصحيح، هذا في باب الإيمان، وذاك في باب التوحيد، وأمَّا كتب العقائد فتمتاز بالشمول كما في هذه العقيدة، وفي غيرها من كتب العقائد، وكما في كتب السنة، وهو المصطلح السائد في القرون الفاضلة.
(فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ) لاحظ أنه وصفهم بثلاث صفات، وهي:
الفرقة الناجية، المنصورة، أهل السنة والجماعة، فهذه ثلاث صفات لفرقة واحدة لا يُقال إنها لفرق متعددة كما ادَّعى بعض المتأخرين بأنَّ الفرقة الناجية تختلف عن الطائفة المنصورة، وهذا ليس بصحيح، بل كلها أوصاف لفرقة واحدة، توصف بأنها: ناجية، وأنها منصورة، ويوصفون بأهل السنة والجماعة.
(الْفِرْقَةِ) كلمة فرقة أخذًا من حديث الافتراق، تفترق هذه الأمة[1]، فهي طائفة، وهي فرقة من ثلاث وسبعين فرقة.
(النَّاجِيَةِ) ناجية من ماذا؟ ناجية في الدنيا من البدع والانحراف؛ لأن النبي وصفها بقوله: «مَن كان على مِثلِ ما أنا عليه وأصحابِي» فنجوا من البدع، والتغيير، والتبديل، والتحريف في الدين، وكذلك هي ناجية في الآخرة من النار؛ لأنَّ النبي قال في الفرق: «كلُّها في النارِ إلا واحدةً»، فهي إذًا ناجية لهذه السببين.
(الْمَنْصُورَةِ) أي: منصورة من الله، ومنصورة من الملائكة، ومنصورة من المؤمنين.
(أَهْلِ السُّنَّةِ) لعنايتهم بالسنة، فيعنون بسنة النبي رواية ودراية.
(وَالْجَمَاعَةِ) لِمَا جاء من وصفهم بالجماعة ولاجتماعهم على الكتاب والسنة، وما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الدين.
فهذه أوصافهم، وسيعيد هذه الأوصاف في آخر العقيدة ليؤكد على المميزات والخصائص التي تميز أهل السنة والجماعة.
وأعظم وصف يُميزهم عن فرق الضلالة هو الانتساب، لاحظوا أن فرق الضلال إمَّا أن تنتسب للبدعة، أو لمؤسس البدعة، مثل: الجهمية، المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، الكلابية، وهكذا تجد أن الفرق إما أن تنتسب للبدعة التي ابتدعوها أو لمؤسس البدعة، بينما أهل السنة والجماعة امتازوا بأنهم ينتسبون إلى سنة النبي ، وهم مجتمعون على ما كان عليه صحابته وأئمة الدين.
قد يقول قائل: المصنف يقول: (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) ومعلوم أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، فكيف يقول إلى قيام الساعة؟
الجواب: هذا يحتمل احتمالين، إمَّا أنه قصد إلى قُرب قيام الساعة، أو قصد إلى الساعة التي هي الريح التي تأخذ نفس كل مؤمن، وحينئذ يستقيم الكلام، وتستقيم العبارة من المؤلف -رحمه الله-.
قال: (أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ‏، أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ‏)، وكلمة (أهل) يجوز أن تقول (أهلِ) ويجوز أن تقول: (أهلُ) أي على أنها صفة لهم وعلى أنها استئناف.
ما عقيدة أهل السنة والجماعة؟
{(الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ‏)}.
جاء في بعض النسخ (وَهُوَ)
أي جاء (أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ‏:‏ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ‏:‏ وَهُوَ الإِيمانُ) بحيث تكون العبارة متسقة.
قوله: (وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ‏) بدأ بذكر مُعتقد أهل السنة والجماعة إجمالاً، وهذا الإجمال الذي يجب على كل أحد.
والإيمان مجمل ومفصل، فذكر الإيمان مجملاً، الذي يجب على كل مسلم وعلى كل مؤمن، وهذا الإيمان المجمل هو الذي دل عليه حديث جبريل، عندما سأل النبي عن الإيمان، قال: «أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ»[2].
يلاحظ أن المصنف -رحمه الله- عبّر عن اليوم الآخر بقوله: (وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ) فلماذا عبّر بهذا التعبير ولم يُعبّر باليوم الآخر؟
الجواب أنَّ هذه العقيدة لا يَذكر فيها إلا ما يميز أهل السنة والجماعة، والإيمان باليوم الآخر يُوجد من يُقِر به على جهة الإجمال، إلا أنه قد يُوجد من يُنكِر بعض مسائل اليوم الآخر، كما حصل من بعض الفلاسفة المنتسبين للإسلام من إنكارهم لبعث الأجساد، فكأنه يشير هنا إلى المخالفين في هذا الركن.
ومعلوم أنَّ الإيمان بالبعث من المسائل التي أنكرها أهل الجاهلية، ولهذا كان النبي يقرأ في الجمع والأعياد سورة "قاف"؛ لأنها تقرر البعث، وفيها ردٌ على منكري البعث، فهذا هو السبب الذي جعله يقول: (وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ) فيوجد من يُقر باليوم الآخر جملة، ولكن ينكر البعث.
وقيل: إنه عَبَّرَ بالبعث بعد الموت؛ لأنَّ البعث هو أول مشاهد اليوم الآخر، يعني: أول مشاهد اليوم الآخر هو البعث، فينتقل الناس بعد ذلك إلى الدار الآخرة، ولهذا عَبَّرَ عن اليوم الآخر بقوله: (وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ) لهذين السببين والله تعلم.
هذه الأركان سيأتي التفصيل لبعضها، الإيمان باليوم الآخر سيفرده في فصل، والإيمان بالقدر سيفرده في فصل، وسنتحدث فيه هل في قدر الله شر؛ لأنَّ المصنف قال: (بالقدر خيره وشره).
وسيأتي التفصيل فيه في فصل مستقل ما يتعلق بالرسل والكتب والملائكة وربما أشار إليه إشارات؛ لأن الخلاف فيه ليس ظاهرًا وبارزًا بين الفرق.
أمَّا الإيمان باليوم الآخر فإنه تحدث عن الإيمان بالأسماء والصفات فقط. إذن هو ذكر هنا معتقد أهل السنة والجماعة على سبيل الإجمال.
{قال: (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ‏:‏ الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ‏.‏
بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏﴾‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏)
}.
قال: (وَمِنَ) مِنْ هُنا يُسميها للعلم تبعيضيه، (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ) لماذا عبر المصنف بهذا؟ لأنَّ الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسول هو جزء من الإيمان بالله، فمعلوم أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
·      الإيمان بوجوده.
·      الإيمان بربوبيته.
·      الإيمان بألوهيته.
·      الإيمان بأسمائه وصفاته
ولهذا قال: (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ)؛ لأنه جزء مما يتضمنه الإيمان بالله.
لماذا تحدث عن الإيمان بالأسماء والصفات، ولم يتحدث عن الإيمان بوجوده، ولم يتحدث عن الإيمان بالربوبية، ولم يتحدث عن الإيمان بالألوهية؟
السبب: لأنَّ النزاع في عصره كان في باب الأسماء والصفات، وهؤلاء العلماء يتوسعون ويفصلون فيما يحتاجه الناس في زمنهم، ولهذا تلاحظون في العقيدة الواسطية أطال في موضوع الصفات، حتى كادا أن يشمل ثلث الكتاب أو أكثر من ثلث الكتاب، لماذا؟
لكثرة النزاع والخلاف في هذا الباب.
بينما تجد مثلاً مؤلفات شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب أغلبها في توحيد العبادة؛ لكثرة النزاع والخلاف في هذا الباب، وهؤلاء العلماء -كما تقدم- لا يؤلفون لأجل المؤلفات وكثرة المؤلفات، وإنما لحاجة الناس للعلم، ولهذا اكتفى في موضوع الإيمان بالله فقط بما يتعلق بالإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله في سنته.
لاحظ أنه أشار إلى مصادر تلقي العقيدة، والعقيدة مصادرها توقيفية، تعتمد على الكتاب والسنة، يعني: الوحي، وبعد ذلك تأتي المصادر الأخرى التي هي مصادر مُساندة لا تستقل. العقل السليم، والفطرة السليمة، ما يتعلق بالإجماع هو إجماع في فهم الدليل، فهو أشار هنا إلى مصادر تلقي العقيدة وهما: الكتاب والسنة.
قال: (الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ ) هنا سؤال قد يرد إلى الأبناء، فالمصنف نصَّ على الصفات ولم يذكر الأسماء، ما السبب؟ لماذا قال: (الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ )، أي: لماذا ذكر الصفات ولم يذكر الأسماء؟
الجواب: يحتمل احتمالين:
الاحتمال الأول: أنه اكتفى بالصفات لأنه ما من اسم إلا ويتضمن صفة، فحينئذ تكون الأسماء داخله في الصفات، ولهذا أهل العلم يقولون -وهذه قاعدة أخرى تضاف للقواعد السابقة- يقولون: "باب الصفات أوسع من باب الأسماء"؛ لأنَّ الأسماء توقيفية ومصدرها النص، أي: تُؤخذ من النص، وأما الصفات فتُشتق من الأسماء، وتُشتق من الأفعال، أو يُنص على الصفة، فباب الصفات أوسع في مصادره من باب الأسماء، ولهذا ما من اسم إلا ويتضمن صفة، فإذا نَصَّ على الصفات، فإنَّ الأسماء تدخل ضمنًا. هذا سبب.
السبب الثاني: أنَّ الخلاف في الصفات أقوى من الخلاف في الأسماء، فالخلاف في الأسماء ضعيف، فقط الذين أنكروا الأسماء هم الجهمية الأوائل، وأما المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، وبقية الفرق المعطلة، فإنهم يُقرون بالأسماء، ولكنهم يقولون: الأسماء جامدة لا يشتق منها صفات. بينما الخلاف في الصفات أقوى، فالجهمية الأوائل أنكروا الصفات، والمُعتزلة أنكروا الصفات، ثم جاءت المُعطلة تعطيلاً جزئياً وهم: الكُلَّابية، والأشاعرة والماتريدية، فنفوا أغلب الصفات، وأثبتوا بعض الصفات على اختلاف بينهم.
إذاً الخلاف في الصفات أقوى من الخلاف في الأسماء فذكره هنا.
ثم ذكر ضوابط لهذه القاعدة، والقاعدة ينبغي التنبه لها، وهذه القاعدة هي: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله في سنته، ولهذا في الشواهد ذكر الأدلة على الصفات من كتاب الله، ثم الأدلة عليها من سنة النبي ، فهو يشير إلى مصادر تلقي العقيدة -الكتاب والسنة- الصحيحان.
ثم ذكر ضوابط لهذه القاعدة، ذكر ضابطين، أو أصلين، فقال:
(مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ‏) وهذه الاحترازات التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- تميز سبيل أهل السنة عن المعطلة، إمَّا تعطيلاً كلياً أو تعطيلاً جزئياً، فهذه الاحترازات التي ذكرها (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ‏) تميز أهل السنة عن غيرهم من المعطلة تعطيلاً كلياً أو جزئياً.
لاحظ دقة العبارات، قال: (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ‏) الأشاعرة أوردوا عليه إيراداً فقالوا في المناظرة: لماذا قلت: من غير تحريف ولم تقل: من غير تأويل؟ قالوا: أين نفي التأويل؟ لماذا قلت: من غير تحريف، ولم تقل: من غير تأويل؟
فأجابهم بأن التحريف هو الذي ذمَّه الله في كتابه، بخلاف التأويل الذي له معان صحيحة وله معانٍ باطلة، وهو لا يُعبر إلا بما عَبَّرَ به الكتاب.
قالوا له: لماذا قلت: من غير تمثيل ولم تقل من غير تشبيه؟
قال: لأنَّ التمثيل هو الذي نفاه الله في كتابه، فقال: ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏﴾‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏] بخلاف التشبيه فإنه مصطلح حادث. ثم ذكر أيضا أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وشبه مشترك، ولهذا هو عبر بما جاء في القرآن، وهذا من مميزات هذه العقيدة، والإيرادات التي أُوردت عليها.
لاحظ أنَّ هذه القاعدة مبنية على أصول، الأصل الأول: النفي. والأصل الثاني: الإثبات.
والنفي دلَّ عليه قول الله تعالى: ﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ والإثبات دلَّ عليه قول الله -تبارك وتعالى-: ‏﴿‏وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏﴾، ولهذا تعتبر هذه الآية قاعدة لأهل السنة والجماعة في إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، فتعتبر هذه الآية هي الأصل، والقاعدة في هذا الباب، وفيها ردٌّ أيضًا على المعطلة وعلى الممثلة.
والنَّفي قُدّم على الإثبات مِثْلُ كلمة التوحيد، فكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" فيها النفي ثم الإثبات، يقولون: لأنَّ التخلية قبل التحلية، فالنفي مجمل والإثبات مفصل، وهذا هو الأصل. أي أنَّ الأصل في الإثبات: التفصيل، والأصل في النفي هو: الإجمال.
وثمة قواعد ممكن أن تستنبط من هذه الآية، وهي كثيرة في هذا الباب.
لماذا الجمع بين النفي والإثبات؟
لأنَّ النفي وحده ليس بتوحيد، بل هو جحود، والإثبات بدون نفي لا ينفي الشريك، ولهذا لا يكون التوحيد إلا بركنين اثنين، نفي وإثبات، فلو قال: "لا إله" هل هذا التوحيد؟
نقول: لا، هذا ليس بتوحيد.
لو قال: "الله معبود موجود" نقول: هذا لا ينفي الشريك، ولذا لا يكون توحيدا إلا بالنفي والإثبات، ولهذا جمع هنا بينهما، أي: بين النفي والإثبات.
لاحظ من ضوابط النفي السلامة من التحريف، والسلامة كذلك من التعطيل، والتحريف وهو تغيير، والتغيير إما أن يكون للفظ، أو أن يكون التغيير للمعنى.
التغيير للفظ قليل، أنه يأتي ويغير مبنى الكلمة، هذا قليل، والغالب هو التحريف في المعاني، أي: يحرف ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ فيجعل المجيء لملك، و «يَنْزِلُ رَبُّنا» فيجعل النزول للرحمة أو للملك، ومثله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5] فيجعل الاستواء بمعنى الاستيلاء، فيحرّف المعاني، وهذا هو الغالب، هم يسمونه تأويل، وواقعه هو تحريف، فهذا هو التحريف.
التعطيل هو: الإنكار، هو أن ينكر الأدلة، وهذا قليل، أو ينكر هذه المعاني، فهذان الشرطان هما ضوابط النفي.
ضوابط الإثبات أشار إليها بقوله: (وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ‏)، والتكيف هو بيان الكيفية، أو بيان الكنه، وأهل السنة والجماعة إذا قالوا: (وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ) فهم لا ينفون الكيفيات، بل ينفون العلم بالكيفية.
ولهذا قال الإمام مالك في الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فهم إذًا قالوا: من غير تكييف، لا ينفون الكيفيات، بل لها كيفية تليق بالرب تبارك وتعالى، ولكن نحن لا نعلم هذه الكيفية، فالتكيف هو أن يبين كيفية الصفات، أو كنه الصفات.
والتمثيل: هو أن يمثل صفات الله تبارك وتعالى بصفات خلقه.
إذًا ضوابط النفي: السلامة من التحريف، والسلامة من التعطيل.
وضوابط الإثبات: السلامة من التكيف، والسلامة من التمثيل.
لاحظ أن المؤلف -رحمه الله- كيف قابل بين التحريف والتعطيل، وقابل بين التكييف والتمثيل للمناسبة بينهما، فالتحريف سيفضي للتعطيل، ولهذا يقال: كل محرف معطل ولابد، لأنه إذا حرفها فهو عطل الصفة الأساسية، وهكذا التكييف سيفضي به إلى التمثيل، فأشار إلى هذه الضوابط لهذه القاعدة.
قال: (بَلْ يُؤْمِنُونَ) أي: أنهم يعتقدون هذا المعتقد، بأن الله ﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏﴾‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏] كما دلت عليه هذه الآية.
الإمام أحمد -رحمه الله- يقول في بيان معتقد أهل السنة والجماعة: لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله ، لا يُتجاوز القرآن والحديث.
لاحظ مثل هذه الضوابط، وهي في الحقيقة لفتة تربوية، وبها نختم هذا المجلس العلمي: فالمصنف -رحمه الله- لَمَّا ذكر هذه الضوابط، (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ) احتاج إلى ذلك لأجل الرد على المخالفين، فاحتاج إلى هذه الاحترازات، وذكر هذه الضوابط لأجل الرد على الذين عطلوا الأسماء والصفات من المتكلمين وأرباب الفرق، وإلا في أبواب التربية والتعليم عموم الناس لا يحتاجون إلى مثل هذه الضوابط، فعموم الناس وعامة الناس يحتاجون إلى ماذا؟ إلى أن يُعلَّموا تسبيح الرب تبارك وتعالى، وتنزيهه، وتقديسه، وتحميده، فهم يحتاجون إلى هذا، فهم يحتاجون إلى التسبيح، والتسبيح فيه تنزيه، والتقديس، هذا الذي يحتاجه عموم الناس.
ولكن في أبواب الرد فيحتاج إلى مثل هذه الضوابط، وإلا عامة الناس لا يفهمون مثل هذه الأشياء، وليسوا بحاجة إليها، وإنما يحتاجون إلى ما دلت عليه النصوص من تسبيح الرب تبارك وتعالى، وتقديسه، وتنزيهه، فإنهم يفهمون هذه المعاني التي فيها تنزيه للرب تبارك وتعالى، وتقديس له، وتعظيم له، هذا الذي يحتاجه عموم الناس.
ولكن المصنف -رحمه الله- احتاج إلى هذه الضوابط لأجل الرد على المخالفين في هذا الباب، وهم كثير من أرباب الفرق: الجهمية، ثم وريثهم الثاني: المعتزلة، ثم وريثهم الثالث: الأشاعرة والماتريدية، ومن تأثر بهم، فاحتاج إلى مثل هذه الضوابط.
باق معنا أقل من دقيقة، ولذا نكتفي بهذا، ونكمل في اللقاء القادم إن شاء الله.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأفدتم، وجزاكم عنا خير الجزاء}.
وأنتم كذلك على تقديمكم، والإخوة كذلك المصورين والمنسقين، أسأل الله -عز وجل- أن يكتب أجرهم.
وفقط أشير فيما بقي من دقائق، إلى أنَّ علم الأسماء والصفات هو من أجل العلوم، بل هو أجل العلوم الشرعية، كما ذكر ذلك ابن تيمية في الفتوى الحموية، وذكره ابن القيم أيضا، بأن هذا العلم هو أشرف العلوم، لا نقول: "مِنْ" التبعيضية، بل هو أشرفها. لماذا هو أشرف العلوم الشريعة؟
لأن شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم في هذا العلم يتعلق بالخالق سبحانه وتعالى وتعظيمه وتنزيه، ولهذا نقول: العناية بالأسماء والصفات وفقه الأسماء والصفات هو أعظم العلوم وأجل العلوم لتعلقه بأعظم معلوم وهو الخالق عز وجل.
نسأل الله -عز وجل- أن يُفقهنا في الدين، وأن يجعل وسيلتنا إليه التوحيد والإخلاص، إنه جواد كريم، وصلِّ اللهم وسلم على تبينا محمدٍ .
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول إليكم أيضًا أيها الإخوة والأخوات، نلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------
[1] يقصد حديث «افترقتِ اليهودُ على إحدَى وسبعينَ فرقةً، وافترقتِ النصارَى على اثنتَينِ وسبعينَ فرقةً، وستفترقُ هذه الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كلُّها في النارِ إلا واحدةً»، قيل: من هي يا رسولَ اللهِ؟ فقال : «مَن كان على مِثلِ ما أنا عليه وأصحابِي».
[2] رواه مسلم (8).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك