{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) ، نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح كتاب (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ سهل بن رفاع العتيبي، باسمي واسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حيّاكم الله، وحيّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لِما يحب ربنا ويرضى.
{نستأذنكم في البدء فضيلة الشيخ}.
نعم، استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلِّم على المبعُوثِ رحمة للعالمين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من صلى وسلَّم عليه، أما بعد، فهذا هو الدرس الثالث عشر في شرح (العقيدة الوسطية) ونحن أيضا في هذا الدرس ننهي الموضوع الثالث المتعلق بالإيمان بالقدر.
والإيمان بالقدر -أيها الإخوة- من الموضوعات المهمة جداً، وتحقيق الإيمان فيه يُثمر ثمرات عظيمة وجليلة في كمال الإيمان بالله والإيمان بروبيته، وهو علاج وبلسم لكثير من الإشكالات والأمراض التي تمر على الإنسان، ولهذا إذا آمن به المسلم إيماناً حقيقياً فهو كالبلسم والشفاء لكثير من الأمراض التي يُعاني منها الناس في هذا العصر، خاصة ما يتعلق بالمصائب والكوارث والأزمات والأمراض النفسية.
وفَهْمُ هذا الباب أيضًا هو صَمَّام أمان للزلل والخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس اليوم فيما يتعلق بتطوير الذات، والخلل في قضية مفهوم الأسباب، والخلل في قضية الشرور، مما يقع فيه سوء فهم بسبب الفلسفات الموجودة للملاحدة والفلاسفة، وأيضا دخول هذه المفاهيم عبر الديانات المحرفة خاصة الديانات الهندية، والديانات الوثنية وغيرها، فيما يتعلق بمفهوم الخير ومفهوم الشر وقدرات الإنسان.
فلذلك كان الإيمان بالقضاء والقدر -كما جاء في نصوص الوحي- هو البلسم والشفاء لكثير من هذه الأمراض والمفاهيم الخاطئة، قضية الشر والموقف من الأسباب، ويعرف الإنسان قدره، ويعرف عظمة الرب تبارك وتعالى، ويعرف حاجته إلى الله تبارك وتعالى.
وقد ذكر المصنف -رحمه الله- فيما سبق أنَّ أهل السنة والجماعة يُؤمنون بالقدر خيره وشره، وأنَّ الإيمان بالقدر على درجتين، وكل درجة تتضمن شيئين، ذكر الدرجة الأولى المتعلقة بعلم الله المطلق، بما في ذلك علمه بأفعال العباد، والكتابة المطلقة بما في ذلك كتابة أفعال العباد، وهذه هي الدرجة الأولى.
ثم ذكر أنواع التقدير الأربعة، الذي هو: التقدير العام، والتقدير العمري، وذكر المصنف -رحمه الله- هذه النوعين، وأضفنا إلى ذلك التقدير السنوي، والتقدير الحولي، يقول سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- في تعليقه على العقيدة الواسطية إضافة لِمَا ذُكِر، يقول: "أقسام القدر أربعة"، ويقصد بالقدر هنا: أنواع التقدير.
قال: "الأول التقدير العام، وهو تقدير الرب لجميع الأشياء، بمعنى: علمه بها، وكتابته لها، ومشيئته وخلقه لِمَا كان منها". وقال: "يدلُّ على هذا النوع دلائل كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾ ، وقوله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ، وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ ، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ ، وقوله: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والذي يعد أصلا وعمدة في هذا الباب، قال: «إنَّ اللَّهَ قدَّرَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السَّمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ وَكانَ عرشُهُ على الماءِ» "، هذا هو التقدير العام الذي هو في اللوح المحفوظ، الذي هو سر الله في خلقه، لم يطلع عليه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
قال: "القسم الثاني تقدير عمري، وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله، وكتابة شقاوته وسعادته، وقد دلَّ عليه حديث ابن مسعود المخرج في الصحيحين مرفوعا «إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ»، أربعين وأربعين وأربعين يعني: مئة وعشرين يوماً، «ثُمَّ يرسل اللَّهُ مَلَكًا فينفخ فيه الروح، ويُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ» ".
قال: "الثالث التقدير السنوي، وذلك يكون في ليلة القدر، ويدل عليه قول تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ وقوله: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ "، وقيل: يُكتب في هذه الليلة ما يحدث في السنة، من: موتٍ، وعزٍ، وذلٍ، وغير ذلك. ورُوي هذا عن ابن عمر، ومجاهد، وأبي مالك، والضحاك، وغير واحد من السلف.
لاحظ هذه التقديرات بعضها من بعض، لأن التقدير الأول هو الأصل، والتقدير الثاني هو فرع، والتقدير الثاني معلوم لدى الملائكة، أمَّا الأول فهو سر الله في خلقه، فالتقدير الثاني معلوم، وكذلك التقدير الثالث معلوم لدى الملائكة، الذي هو التقدير الحولي السنوي.
قال: "التقدير الرابع، وهذه الإضافة التي نحن أضفناها، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾ ، قال: ولأثرٍ عن ابن عباس: "لِلَّهِ لَوْحٌ مَحْفُوظٌ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، لَهُ دَفَّتَانِ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، وَالدَّفَّتَانِ لَوْحَانِ، اللَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً" هذا أثر عن ابن عباس أخرجه ابن جرير إلى غير ذلك. فهذه أنواع التقدير الأربعة.
المصنف -رحمه الله- ذكر الدرجة الأولى ثم قال: (وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) الدرجة الثانية مكونة من مرتبتين، الثالثة: المشيئة (مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ) ، لاحظوا أنه جعل المشيئة مرادفة للقدرة؛ لأن المشيئة هي الإرادة الكونية، وسبق لنا في باب الصفات أن قلنا: إنَّ الإرادة تنقسم إلى نوعين -كالقضاء، كالحكم- الإرادة الكونية التي هي بمعنى المشيئة، ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، وهناك الإرادة الشرعية المتعلقة بالمحبة والأوامر والنواهي، وهذه ما يلزم منها الوقوع، وأما الإرادة الكونية التي هي المشيئة يلزم منها الوقوع، ولهذا (مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) ، ولهذا قال: (فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ) .
هل أفعال العباد تدخل في المشيئة؟ الجواب: نعم.
هل أفعال العباد تدخل في قدرة الرب؟ الجواب: نعم، ولينتبه المسلم إلى هذه المراتب؛ لأن إيمانه بها بهذه الطريقة سيسهل عليه فهم موضوع القدر.
ثم زاد هذا المفهوم فقال: (وَهُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) بما في ذلك أفعال العباد، فهي واقعة بمشيئة الله -تبارك وتعالى- فيؤمن بأنه لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بإرادة الله ومشيئته، ومعلوم أنَّ إرادة الله، ومشيئة الله، وحكم الله، كلها مبنية على العدل والرحمة، ما يظلم إذا قال ذرة، فكلها مبنية على العدل والرحمة والحكمة، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، لا يظلُم مثقال ذرة، ولهذا ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ فلا تسأل لماذا فعل كذا؟! لماذا أمر بكذا؟! لماذا نهَى عن كذا؟! لله -عز وجل- الحكمة البالغة.
ولهذا جاء في الأثر: "لا تكونوا كاليهود، يقولون: لماذا أَمَرَ ربُّنا؟! ولكن قولوا: ماذا أمر ربُّنا؟ وهذه قاعد مهمة في رضا المؤمن بقضاء الله وقدره، لا يعترض على أقدار الله، كما أنه لا يعترض على أوامر الله ونواهيه، ولهذا لَمَّا قالت معاذة العدوية -وقد سبق لنا في بيان وسطية أهل السنة والجماعة- لَمَّا قالت معاذة العدوية -أحد التابعيات- لأمنا عائشة -رضي الله عنها-: لماذا تؤمر الحائض بقضاء الصوم، ولا تؤمر بقضاء الصلاة؟! قالت لها: «أحَرُورِيَّةٌ أنْتِ؟»؛ لأن هذا السؤال بهذه الطريقة لا يرد إلا من أصحاب الاعتراف.
«أحَرُورِيَّةٌ أنْتِ؟» قالت لها: إنما أنا سائلة، قالت: «كانَ يُصِيبُنَا ذلكَ، فَنُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّوْمِ، ولَا نُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّلَاةِ» ، انظر للتسليم، وهكذا يُقال في القضاء والقدر، وفي الأخبار، والأوامر والنواهي مبنية على التسليم لحكمة الله، لأن الله -عز وجل- له الحكمة البالغة، له الحكمة في أقداره، وله الحكمة في أوامره، وله الحكمة في نواهيه، ولكن هذه الحكم منها ما يُنصُّ عليها، ومنها ما يجتهد العلماء في استنباطها، ومنها ما يُسميه العلماء بالعلة التعبديّة، بمعنى أن العقول لا تدرك الحكمة منها، ولكن ثمّة حكمة، وهذا أيضا جانب مهم في إيمانه بالقضاء والقدر، ورضاه بقضاء الله وقدره، تسليمه لقدر الله.
ولهذا انظر حال المؤمنين إذا أصيبوا بمصيبة كيف يتقبلون، ما يعترضون، ما يحدثون أقوالا محرمة، ولا أفعالا محرمة، لا يلطم الخدود، ولا يشق الجيوب، ولا يدعو بالويل والثبور، وإنما ماذا يقول؟ يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل، وهذا من ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر، كيف يتلقى المصائب!
فأهل الإيمان بالقضاء والقدر يتلقّون هذه المصائب بمثل هذا اليقين، الذي هو على قلوبهم أبرد من الماء البارد العذب الزلال، فالرب -تبارك وتعالى- له الحكمة البالغة في كل شيء.
قال: (وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ) فإذا كان هو المدبر لحركات هذا الكون، فمن الذي يخرج أفعال العباد عن قدرة الرب -تبارك وتعالى- يقسمون المشيئة الحاصلة في الكون بأنه شيء في علم الله ومشيئته، شيء يخرج عن علمها ومشيئته، نقول: ما الذي يجعلك تخرج ذلك عن علم الله ومشيئته؟ فإذا كان هو -عز وجل- يعلم كل شيء فما الذي يخرج أفعال العباد؟! إذا كان الله -عز وجل- يشاء كل شيء، ما الذي يخرج أفعال العباد عن هذه المشيئة؟!
قال: (وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ) سواء حركة الأفلاك، أو حركات أفعال العباد من طاعات ومعاص، كلها واقعة بمشيئة الله، هو الخالق -عز وجل- لكل شيء.
قال: (لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ) ، وفي بعض النسخ: (لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إلا مَا يُرِيدُ) والمعنى متقارب.
والإرادة هنا ما المقصود بها؟ (لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ) نحن قَسَّمنا الإرادة إلى نوعين كما سبق:
إرادة كونية يلزم منها الوقوع، وإرادة شرعية لا يلزم منها الوقوع، ما الذي يلزم منها الوقوع؟!
الكونية، إذن لَمَّا يقول: (لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ) يقصد أي الإرادة؟! يقصد الكونية، لكن هل يقع في ملكه ما لا يريده شرعاً؟ نقول: نعم، وهذه الإشكالية التي يقع فيها الجبرية والقدرية، ويقع فيها من يخلط في مسألة القدر، أي: عدم التفريق بين الإرادتين الكونية والشرعية، فالإرادة الشرعية تتعلق بالأوامر والنواهي، ولهذا مثلا أراد الإيمان من أبي طالب، لكن هل وقعت هذه الإرادة؟ ما وقعت. هذه إرادة شرعية لم تقع، نعم هي محبوبة لله، فإيمانه محبوب ولكنه لم يقع.
أمَّا الإرادة الكونية فهي وقعت، كيف تعرف أنها إرادة الكونية؟ تعرفها بالوقوع، وأما الإرادة الشرعية فتعرفها من خلال الأوامر والنواهي، وهذا هو التفريق -وهذا من أهل العلم في الحقيقة قسمة عقلية، ولكنها من باب تحريك الذهن- يقسمون الإرادة من حيث الوقوع وعدمه، يقولون: هناك "إرادة كونية شرعية، إرادة كونية لا شرعية، إرادة شرعية لا كونية، والرابعة وهي فرضية، إرادة لا كونية ولا شرعية"، يعني: هذا من باب تحريك الذهن، وأيضا تفكيك الإشكال الذي يقع.
الإرادة الكونية نعرفها بالوقوع، وتكون شرعية بأنها مطلوبة مثل: إيمان أبي بكر، إيمان أبي بكر مراد شرعاً أو لا؟ مراد محبوب؛ لأن هذا يتعلق بالإيمان، والنبي ﷺ جاء بدعوة الناس إلى الإيمان، فهي مرادة شرعا، ومرادة كونا لأنها وقعت، فإيمان أبي بكر إرادة كونية شرعية.
إرادة كونية ولكنها غير شرعية، مثل: كفر أبي طالب، فهي مرادة كونا بدليل الوقوع، ولكنها غير مرادة شرعا.
المراد شرعا أنه يؤمن، ولهذا الرسول ﷺ دعاه، «يا عم قل: "لا إله إلا الله" كلمة أحاجّ لك بها عند الله» ولكن ما وقع ذلك، فهذه إرادة كونية لا شرعية.
"إرادة شرعية لا كونية" عكس الثانية، إيمان أبي طالب أو لا، فهي إرادة مطلوبة شرعًا ولكنها ما وقعت كونًا.
الرابعة: "إرادة لا كونية ولا شرعية" عكس الأولى، عدم إيمان أبي بكر، فهي غير مرادة شرعا أنه يكفر، ولم تقع كونا، فهذه على كل حال من باب تحريك الذهن، وكيف أنه ممكن أن نقسم الإرادة.
إذن قول المصنف: (لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ) يقصد الإرادة الكونية، ما يمكن أن يحصل في الكون ما لا يريده الرب؛ لأنه -عز وجل- على كل شيء قدير، وهذه إشكالية القدرية لَمَّا زعموا أن العبد يفعل استقلالا، ترتب عليه أنه يقع في مُلكه -سبحانه- ما لا يريد، وهذه من الأشياء التي زلَّ فيه القدرية، وزلت فيها المعتزلة، وأهل السنة يؤمنون بأنه لا يكون شيء في ملك الله -تبارك وتعالى- إلا بإرادته، ولهذا ما يتعلق بالطاعات، وما يتعلق بالشرور، وما يتعلق بالمعاصي، هي وقعت بإرادته الكونية.
قد يقال: هو لا يحبها ولا يرضاها، نقول: نعم، هو لا يحبها ولا يرضاها كونًا، ولكن لحكمة، فوقوعها لحكم يتميز المؤمن من الكافر، يَبتلي العباد، إلى غير ذلك من الحكمة التي لا تحيط بها عقول العباد.
قال: (وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ) هذه القدرة، هذه المشيئة النافذة، أو الإرادة، فهو (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) سواء من الأشياء التي وجدت، أو الأشياء التي لم توجد أصلاً، ولهذا هو على كل شيء حتى المستحيل الذي لم يقع لو وقع يعلمه، وهو على كل شيء قدير لكمال علمه -تبارك وتعالى.
إذن هو إيمان مُطلق بقدرة الرب، إيمان مطلق بعلم الرب، إيمان مطلق بمشيئة الرب -تبارك وتعالى- فيؤمنون بأنه -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير.
أيهما أصح؟ هل يقال: (إن الله على كل شيء قدير) أو يقال: (إن الله على ما يشاء قدير) ؟
الأولى أصح؛ لأن الثانية قد تحتمل أن الأشياء التي لا يشاؤها ليس قديرًا عليها، وهذا غير صحيح، لأن الله -عز وجل- على كل شيء قدير، سواء شاءه أو لا، ولهذا قال المؤلف هنا: (وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ) فهو على كل شيء قدير.
لاحظ تحقيق الإيمان بهذه الصفات، هو تحقيق للإيمان بالقدر، وهذا هو التلازم والترابط، وهذا هو الذي يزيل الإشكالات التي ترد في هذا الباب.
واعلم أن موضوع القدر من الموضوعات الدقيقة في مسائل العقيدة، كل علم من العلوم تجد فيه مسائل تشتبه على بعض الناس، مسائل فيها عمق، وهذا في كل العلوم، حتى في العلوم الدنيوية، تجد في العلوم الدنيوية ثمّة علوم يحار فيها أهل الاختصاص، علوم الطب مثلاً، تجد الأطباء وإن كانوا بلغوا ما بلغوا، تعترض عليهم مثلاً بعض الأمور التي يحارون فيها، ألا ترى الآن في بعض الأمراض الطب لا يجد لها علاجا، ومع ذلك الأطباء يمكن في المستقبل أن يكتشف لها العلاج.
إذن مع تطور الطب يقفون في مسائل ويقولون: أمّا هذه فتقف حدود علمنا فيها إلى كذا، وهذه ما نعرفها. فهم يعترفون، فكان بالعقل البشري القاصر خاصة عند عقول الذين يقحمون في الغيب، وفي الملائكة، ويتكئ على أريكته، ويخرج في الفضائيات وهو أصلا لا يعرف علوم الشريعة لا من قريب ولا من بعيد، وتراه يخوض في هذه المسائل الكبيرة، وهذا والله من الضلال المبين، فنقول: أنت في علومك الدنيوية تعترف أن البشر لا يدركون أشياء، ويقفون عندها، والعقلاء الذين يحترمون مهنته لا يخوض في غيرها، ويعرف حده في مثل هذه الأشياء، وهذا في علم بشري، فكيف بعلوم الوحي؟ خاصة إذا خاض فيها من ليس أهلا لها، وصدَّر نفسه، وربما يُصدَّر أحياناً فيخوض في هذه العلوم، علوم الوحي -نعم العقل يدركها بالجملة، ولكنها مبنية على الوحي، مبنية على الإيمان بالرسل، على الإيمان بالغيب.
ولهذا قال: (وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، ومَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ) وهذا هو موضوع النزاع، فموضوع النزاع فيما يتعلق بأفعال العباد، (ومَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ) بما فيها أفعال العباد، ولهذا كتب أهل المؤلفات التي تتعلق بخلق أفعال العباد كما صنع الإمام البخاري، لماذا؟ لأن القدرية -المعتزلة يا للأسف يسمون أنفسهم بالتيار العقلي، وانظر إلى سقامة العقل وضعفه، إلى اليوم يسمونهم بالتيار العقلي، لَمَّا تنظر تجد أن العقل يمين وهم يسار، سقامة العقل، فزعموا أنه هذه غير معقولة، ولذا أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله.
ولهذا قال المصنف -رحمه الله-: (مَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ) سواء ذوات المخلوقات أو الصفات أو الحركات، فكلها مخلوقة لله -تبارك وتعالى-، فالله -عز وجل- قد خلق كل شيء وقدره تقديرًا، ولهذا قال -تبارك وتعالى- فيما يتعلق بأفعال العباد: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ ، فأفعال العباد مخلوقة من جهتين:
أولا: من جهة أنها تدخل في عموم الخلق.
وثانيا: النصوص التي جاءت في أعمال العباد بخصوصها فهي مخلوقة لله -تبارك وتعالى- وتقع مشيئته فيتدخل في العموم، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ هل هذا العموم تدخل فيه أفعال العباد؟ نقول: نعم.
وأيضا دلَّ عليها الدليل الخاص، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ ولهذا نسبة أفعال العباد إليهم نسبة مباشرة، ونسبتها للرب نسبة غير مباشرة، من الذي أوجد هذا العبد من العدم؟ الله.
من الذي منحه الإرادة القلبية التي بها يفكر؟ الله.
من الذي منحه القدرة البدنية التي بها يعمل؟ الله.
من الذي أمد في أجله حتى فعل الفعل؟ الله.
فالله -عز وجل- خلق العبد، وخلق الصفات، وهيأ فيها الأسباب، فنسبة أفعال العباد إليهم نسبة مباشرة، ونسبتها إلى الرب نسبة غير مباشرة، نسبة النتائج إلى مسببها -سبحانه وتعالى-.
ثم بعد أن قرر بأن كل شيء بمشيئة الله وخلقه بما فيها أفعال العباد، عاد مرة أخرى ليزيل الإشكال الذي قد يُورده القدرية، وهو ما يتعلق بأفعال العباد، خاصة ما يتعلق بالمعاصي، هل هي بقدر الله؟ وكيف تنسب إلى الله -تبارك وتعالى؟!
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهُ الْكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ) }.
قال: (وَمَعَ ذَلِكَ) أي أنَّ أهل السنة والجماعة ع إيمانهم بأن الله -عز وجل- له المشيئة النافذة، والقدرة الشاملة، وأنه الخالق لكل شي بما في ذلك أفعال العباد، هم مع ذلك يؤمنون بالشرع، يعني: لا يوجد تعارض بين القدر وبين الشرع، لا يوجد تعارض بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، لا يوجد تعارض بين الأمر الشرعي والأمر الكوني، ومن توهم التعارض فهو بسبب قصور في الفهم عنده.
ولهذا عالج المصنف -رحمه الله- هذه الإشكالية في آخر الرسالة التدمرية، الجمع بين الشرع والقدر، لهذا لاحظ إنما ضل من ضل في هذا الباب، بسبب بأنه ما عرف الحل لهذه المعادلة، ما عرف الجمع بينها، فجاءت الجبرية وغلت في مراتب القدر وألغت الشرع تماما، ثم جاءت القدرية -النفاة- فعكسوا القضية، فغلوا في الشرع ونفوا القدر، وأهل السنة والجماعة وسط، قالوا: لا تعارض بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، لا تعارض بين مشيئة الله ومشيئة العباد، فمشيئة العباد تحت مشيئة الله، هل العبد له مشيئة؟
نقول: نعم، وقد دلَّ على مشيئة العبد الشرع والعقل، أما أدلة الشرع فهي كثيرة، ومنها قوله -تبارك وتعالى-: ﴿لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ ، ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ ، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ، بل الأوامر والنواهي دليل على أنَّ له مشيئة، فإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع، كله يدل على أنّ للإنسان مشيئة، ولهذا إذا ما استطاع أن يفعلها، يرتفع عنه التكليف، ولا يُكلَّف إلا إذا كان يستطيع، فإذا فقد العقل زال التكليف، وهذا يدل على أن له مشيئة، وأنَّ له إرادة، و ليس كما يزعم الجبرية.
فالشرع والعقل يدلان على أن هذا الإنسان له مشيئة، وله قدرة، وله إرادة، ولهذا أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وجاءت الشرائع بذلك.
ولهذا قال: (ومع ذلك) يعني: مع إيمانهم بما سبق، فقد أمر الله العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته.
إذن هذه الأوامر وهذه النواهي لا تتعارض مع القدر، وهو سبحانه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، وتقدم إثبات صفة المحبة، فدل على أن المحسن والمتقي والمقصد يحبه الله.
كذلك يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وفي المقابل لا يحب الكافرين، لا يحب الظالمين، لا يحب العاصين، لا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، يعني هذا يتعلق بأي الإرادة؟ يتعلق بالإرادة الشرعية، لا يأمر بها شرعًا وإن كانت هي واقعة كوناً.
انتبه لهذه المعادلة، لأنه إذا ما فهم حل المعادلة، اعتبرها معادلة لا حل لها، مثل الذين لا يفهمون المعادلات الرياضية والفيزيائية والكيميائية يقول: صعبة، ولكن عند أهل الاختصاص يكون لها حل.
ولهذا قال: (وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) يعني: هنا ما يتعلق بالشرع، (ولا يرضى لعباده الكفر) هنا ما يتعلق بالشرع، (ولا يحب الفساد) لاحظ هذه كلها تتعلق بالأمور الشرعية.
قد يقول قائل: إذا كيف الجمع بين إرادة العبد وإرادة الرب؟ كيف نجمع بين مشيئة الرب ومشيئة العبد؟
نقول: مشيئة العبد التي نصت عليه هذه الأدلة، والعقل يدل عليها، هي تحت مشيئة الله، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ فنقول: أنت أيها العبد ما شئت إلا لَمَّا شاء الله، ولهذا إذا فعلت الفعل فاحمد الله -عز وجل- أن الله وفقك وهداك، وما وقع هذا الفعل منك إلا بمشيئة الله، وإن كان طاعة فهو فضل الله ورحمته.
قد يقول قائل: كيف أوفق بين المشيئتين؟ نقول: أولاً من الذي أوجدك من العدم؟ هو الله، لو أنَّ الله -عز وجل- ما أوجد هذا العبد هل فعل شيئا؟ لا. الله -عز وجل- أنعم عليك فأوجدك من العدم، ولو لم يوجدك ما فعلت شيئاً.
ثانياً: من الذي أمد في عمره حتى أدرك زمن الفعل؟ هو الله، لو أنَّ الله -عز وجل- أخذ بنفسه بالأمس، هل يستطيع أن يفعل اليوم شيئاً؟ بالطبع لا. ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾ ، ولهذا تجد أهل الإيمان يعلقون أفعالهم المستقبلية بالمشيئة، يقول: سآتيك غداً -إن شاء الله-.
لماذا قال: إن شاء الله؟ لأنه ما يدري هل سيبقى لغد أو لا، ولهذا هو يعلق أفعاله بمشيئة الله؛ لأنَّ الأمر بيد الله، يقول: إن شاء الله سآتيك، وإذا ما شاء الله لن أتيك. إذن هو يعرف أنه إنما فعل ذلك بمشيئة الله، حيث أبقاه إلى هذا الزمن ففعل، فأنت -أيها العبد- ما فعلت إلا لَمَّا شاء الله أن تبقى إلى هذا الفعل.
ثالثًا: من الذي منحه وأنعم عليه بالإرادة القلبية التي بها يفكر؟ هو الله، ولو سلبه الله هذه الإرادة فإنه لا يفعل شيئًا، فأنعم عليه بهذه الإرادة، بهذا العقل الذي يغفل عنه الإنسان، فنقول: من الذي وهبك هذا العقل؟! من الذي وهبك هذه الإرادة؟! هو الله -عز وجل-، فهي نعمة من الله -تبارك وتعالى-، ولو سلبها ما فعلت شيئًا، فأنعم عليه بالإرادة القلبية.
رابعاً: من الذي منحه القدرة البدنية؟ هو الله، لو سلبه هذه القدرة لأصبح مشلولا طريح الفراش ما يستطيع، أنت لو بجوارك من به شلل وقلت له: ما رأيك أن نذهب الآن لزيارة فلان، هو ما عنده قدرة، فمن الذي أنعم عليه بهذه القدرة؟ هو الله.
الخامس: وهذا قد لا يخطر على بال كثير من الناس، ما تحقق فعلك إلا لَمَّا تحقق، يعني قلنا: إنه أوجده من عدم، وأبقاه على قيد الحياة، ومنحه الإرادة القلبية، ومنحه القدرة البدنية.
ما الأمر الخامس الذي يغفل عنه كثير من الناس، وربما لا يخطر لهم على بال؟
أن الله -عز وجل- حماه من العوائق التي تُعيق عن الفعل، وهي كثيرة مثل: حوادث، مصائب، إلى غير ذلك، فأنت ما أتيت لهذا الاستديو إلا لَمَّا أنعم الله عليك بهذه النعم، وحماك من الحوادث، ولو اعترضك حادث في الطريق، وقد لا تكون أنت لك سبب، فهل سيعيقك عن الحضور أو لا؟ حتى هذا الطالب الذي ذهب للاختبار، فإن الله حماه من العوائق والعقبات، قد يمرض مرضًا يعيقه، قد يصاب بحادث يعيقه، وأحياناً قد تكون مصائب كما حصل في زمن كورونا خارجة عن إرادة البشر، وشلت حركات الطيران، وشلت التعليم.
إذن سواء في العموم أو في الخصوص، من الذي أنعم عليك في أن حماك من العوائق التي تعيقك عن أداء العمل؟ الله تبارك وتعالى.
ولهذا إذا حصلت لك النعم ما تنسبها إلي ذكائك وشطارتك، وتقول: أنا عبارة عن عشرة رجال في رجل واحد، كما تلاحظون أحيانا من بعض المغرورين، يصل به الغرور أن يقول كما قال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ نعم تجدون هذا من أهل الغرور والغطرسة، النعم التي أنعم الله بها عليه تجده ينسبها إلى ذكائه وفطنته، مع أنه هناك أناس أذكى منه في التعليم، وربما هم الأوائل عليه، ولكن ما حصل لهم مثل ما حصل له، فهو نسي فضل الله -تبارك وتعالى- ونسي توفيق الله، ونسي أن الله -عز وجل- حماه من العوائق التي تعيقه أثناء أداء العمل.
إذن متى شاء العبد؟! لَمَّا شاء الله تبارك وتعالى، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ ، بهذه الأمور الخمسة يزول الإشكال الذي قد يرد على بعض الناس.
كذلك أيضا فيما يتعلق بتطوير الذات، وأنك تستطيع... نعم نقول: إنك تستطيع لكنك ما تستطيع إلا بتوفيق الله.
إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى ... فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ
ولهذا أوجه كلمة للإخوة الذين يعنون بما يسمى: تطوير الذات وغيرها، انتبه ثم انتبه ولا تغرون بعض الشباب في أنه يستطيع، وينسى فضل الله وقدرة الله، وتعلق الله، فيعلقون أحيانا بأشياء موهومة، أنك تستطيع، وأنك تفعل وتفعل، نقول: لا، هو محتاج إلى توفيق الله، محتاج إلى حفظ الله، ولهذا نقول للشاب: احفظ الله يحفظك، عليك بأسباب التوفيق والهداية، واللجوء إلى الله، ثم إذا وصلت إلى ما وصلت إليه، لا تغتر، فقد يكون ذلك استدراج، فلا تغتر بذكائك وفطنتك وقدراتك، بل قل: هذا توفيق الله، ولذلك يعجبك أحيانا بعض النابغين والأذكياء لَمَّا يصل إلى مرتبة من النعم، تجده يشكر الذين دعموه، يشكر الأب، ويشكر الأم، ويشكر الوالدين، وقبل هذا يشكر الله -عز وجل- على توفيقه، فهو يعرف أنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بأسباب، وتوفيق من الله تبارك وتعالى.
لذلك المصنف -رحمه الله- أكد على هذه القضية المهمة التي يلمح فيها للرد على الجبرية؛ لأن الذين ضلُّوا في هذا الباب هم الجبرية والقدرية، فالجبرية آمنوا بهذه المراتب، ولكن غلوا فيها ونسوا الشرع، وأهملوا الشرع، وأهملوا مشيئة العبد، فوقعوا في هذا الانحراف والضلال، في غلوهم في هذه المراتب، ونسيان ما يتعلق بالأوامر والنواهي، ولهذا يترتب على قول الجبرية أن ما ثمة فوائد من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
وأيضاً مذهب الجبرية كما أنه باطل شرعاً، يُبطل الشرع ذلك، كذلك هو باطل عقلاً، فالناس يدركون أن الإنسان يفعل أشياء بإرادته ومشيئته، فكيف تقول أيها الجبري: إن الإنسان مجبر لا إرادة له ولا اختيار، والعقل يُكذب ذلك، والشرع يكذب ذلك.
جاءت القدرية وأرادت الفرار مما وقعت فيه الجبرية، فوقعت فيما هو أسوأ، فزعمت القدرية أن الإنسان يفعل الأشياء استقلالاً، أي: لا أثر لمشيئة الله في أفعال العباد، بل جعلوا أن العبد يخلق أفعاله، ولهذا يسمى القدرية وهم المعتزلة الذين نفوا المشيئة والقلق يفعل العباد، وغلوا في إثبات مشيئة العبد، وجعلوا العبد يشاء استقلالاً، ويسمون بمجوس هذه الأمة، كما سيذكر ذلك المصنف -رحمة الله- في الرد عليهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللهُ خَلَقَ أفْعَالَهُم. وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ) }.
لاحظ قوله: (وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً) من الذي صلى؟! العبد. ومن الذي صام؟! العبد. ومن الذي بَرَّ؟! العبد، ومن العاصي؟! العبد.
قد يقول قائل: الرب هو الخالق، وخلق الذوات وخلق الصفات، والعبد إنما فعل ذلك بمشيئة الله، وكتابته، وقدرته، وعلمه، ولهذا قال: (وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً) .
لينظر الإخوة في الشطر الأول، (وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً) هذا رد على من؟ على الجبرية؛ لأن الجبرية عندهم الفعل للرب، والعبد لا مشيئة له، يجعلون العبد مجبرا مسيرا، كالريشة في مهب الريح، فهو أراد الرد عليهم بأن الفاعل حقيقة هو العبد.
الشطر الثاني: (وَاللهُ خَلَقَ أفْعَالَهُم) لاحظ كيف جمع بين الإرادتين، وهذا هو الذي تميز به أهل السنة والجماعة، الجمع بين الإرادة الكونية والشرعية، الجمع بين مشيئة الله ومشيئة العباد، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ .
والفرق التي ضلت نظرت إلى النصوص بعين عوراء، مثل: باب الصفات، فمنهم من نظر إلى نصوص التنزيه فقط، ومنهم من نظر إلى نصوص الإثبات فقط، فوقع هؤلاء في التعطيل، ووقع أولئك في التشبيه والتمثيل، بينما أهل الحق قالوا: نثبت إثباتًا من غير تمثيل، وننزه تنزيهًا من غير تعطيل، وهكذا في المشيئة.
فجاءت الجبرية فغلت في مشيئة الرب، وألغت مشيئة العبد، وجاءت القدرية فغلت في مشيئة العبد، وألغت مشيئة الرب، وأهل الحق جمعوا بينهما كما جمع الله بينهما في آية واحدة، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ ، فالآية فيها إثبات المشيئتين، ولا تعارض بينهما كما تقدم، فالعبد له مشيئة، والرب له مشيئة، ومشيئة العبد تحت مشيئة الله.
إذن هذه هي المعادلة التي ضلت فيها الجبرية وضلت فيها القدرية.
لاحظ أن القدرية أصابوا في أشياء، وأخطأوا في أشياء، والقدرية أصابوا في أشياء وأخطأوا في أشياء، ولهذا يُرَدُّ بأدلة الجبرية على القدرية، ويُرَدُّ بأدلة القدرية على الجبرية، فيبقى الحق وسطًا، يعني: تُؤخذ أدلة هؤلاء فيردّ بها على هؤلاء، وتُؤخذ أدلة هؤلاء فيردّ بها على هؤلاء، وهذا في كل باب من أبواب الدين تجد الوسط وطرفي النقيض، فيردّ بهؤلاء على هؤلاء.
ولهذا قال: (والعباد فاعلون حقيقة) نعم ودل عليه العقل البشري، (والله خالق أفعالهم) كما تقدم في إثبات مراتب القدر.
قَالَ: (وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ) نعم هو المباشر، قد يقول قَائل: كيف تكون أفعال العباد مخلوقة لله وهي كسبهم؟ نقول: الله خلق العباد، وخلق صفات العباد، وهي تنسب إليهم مباشرة، وتنسب إلى الرب نسبة غير مباشرة، ثم أيضا أراد أن يرد على الجبرية فقال:
{قال -رحمه الله-: (وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 28]. ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]) }.
قال: (وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ) هذا رد على من؟ رد على الجبرية، وهذه القدرة دلَّ عليها الشرع والعقل.
ولهم إرادة كما قال تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ ، ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ ، والإرادة هذه هي مناط التكليف، فإذا زالت فالعقل لا يُكلَّف، فكونه توجه له الأوامر وهو مريد دلَّ على أنه له مشيئة.
(والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم) الشطر الثاني يرد على من؟ يرد على القدرية، لاحظوا كيف أنه يرد على الطائفتين في آنٍ واحد، فالعباد لهم قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة رد على الجبرية.
(والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم) رد على القدرية، والجمع هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو الذي ضلت فيه الفرق، كما قال تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ لاحظ جمع الله بين المشيئتين بآية واحدة، هل بينهما تعارض؟ لا. فمن توهم التعارض نقول له: المشكلة في فهمك، المشكلة في عقلك، إذا جاء من يُشوش أو أنه يقول: كيف؟ نقول: المشكلة في فهمك، ومثلك كمثل من لا يفهم المعادلات الرياضية أو الفيزيائية أو الكيميائية، فيقول: هذه المواد صعبة! نقول: صعبة عندك، بل تذهب للفيزيائيين فيقولون لك: هذه معادلات وإن كانت قد ملأت الصبورة إلا أن لها حلا، وحلها بسيط جداً، وكونك ما تفهمها فهذا مشكلتك.
وإذا جاء شخص وقال: ما فهمتها نقول: المشكلة ليست في النصوص، بل المشكلة في عقلك، وإلا فهي عند العقلاء لا تعارض بين كلام الله، فيحتاج منك أن تقرأ القرآن، وأن تقرأ التفسير، وتحاول أن تطور من قدراتك العقلية وتفهمها، وإذا ما فهمتها فلأنك تقرأ كتب الفلسفة، وكتب الديانات البوذية، فسببت لك هذه المشكلة وضعف الفهم.
ولو قرأت الوحي المنزل وتفسير العلماء عرفت استطعت أن تفهم نصوص الوحي.
إذن هي القاعدة الواضحة تبين مذهب أهل السنة والجماعة.
﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ رد على الجبرية، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ردٌّ على القدرية، فهنا جمع الله بين المشيئتين في نفس الآية.
{قَالَ -رحمه الله-: (وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ، الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النبي ﷺ مَجُوسِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا) }.
قال: (وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ) يعني: الثانية، فالدرجة الأولى التي تتعلق بالعلم والكتابة، بما في ذلك أفعال العباد، هذه أنكرها القدرية الأوائل، أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وهذه انتهت، وجاءت القدرية الثانية -المعتزلة- فأثبتوا العلم، وأثبتوا الكتابة، وهذا تناقض عندهم، لأنك إذا أثبت العلم وأثبت الكتابة إذن انتهى الموضوع.
قالوا: أمَّا أن الرب -تبارك وتعالى- يشاء أفعال العباد أو يخلقها فلا، فهم نفوا ذلك، ولهذا قال: (وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ) يعني: المتأخرين؛ لأن الأوائل انتهوا وانقرضوا.
(الْقَدَرِيَّةِ) سموا بذلك لأنهم نفات القدر، طبعًا أهل العلم يسمون الجميع: "قدرية"، ولكن عند التخصيص يسمون الغلاة (جبرية) يزعمون أن العبد مجبرٌ، ويسمون النفاة (قدرية) والنفاة على مرتبتين: القدرية الأوائل، والقدرية الثانية.
قال: (وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ، الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النبي ﷺ مَجُوسِ هَذِهِ الأُمَّةِ) كما جاء في بعض الأحاديث. لماذا هم مجوس؟ لأن المجوس يزعمون أن للكون خالقين، -المجوس الثانوية يزعمون كذباً وبهتاناً أن للكون خالقين- النور خالق الخير، والظلمة خالق الشر، وقد شابههم القدرية، كيف ذلك؟
جعلوا في الكون ما هو من خلق الله، وما هو من خلق أفعال العباد، فهم شابهوهم، بل أسوأ من المجوس؛ لأن المجوس عندهم خالقين، بينما القدرية عندهم أنَّ كل عبدٍ يخلق أفعاله، ولهذا رَدَّ عليهم السلف في الكتب التي سموها بخلق أفعال العباد، كما أَلَّفَ البخاري.
قال: (وَيَغْلُو فِيهَا) يعني: هذه المرتبة، هو ذكر هؤلاء الجفاة، (وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ) كيف سماهم أهل الإثبات؟ يعني: أنهم يثبتون المراتب، ولكن غلوا في إثباتها حتى نفوا الشريعة، وألغوا الشريعة، وألغوا الأوامر والنواهي، وألغوا مشيئة العباد، والنصوص الشرعية جاءت بإثباتها، فالنصوص الشرعية جاءت بالأوامر والنواهي وإثبات مشيئة العباد، فهم غلوا في مراتب القدر، وألغوا الشق الثاني، فَآمَنُوا بِشَطْرِ الآية الثاني وألغوا الأول، والقدرية آمنوا بالأول وألغوا الثاني، وأهل الحق كما جمعوا بين الإثبات والتنزيه، والوعد والوعيد.
قال: (وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ) يقصد بذلك (الجبرية) ؛ لأنهم أثبتوا هذه المراتب.
(حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا) ، والجبرية هم نفات الحِكَم والعِلل، فهم ينفون العلل والحكم، ولهذا فعندهم أنَّ ما ثمة فائدة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب والشرائع؛ لأن العبد مجبر، ولهذا غلوا في المراتب، وسلبوا العبد قدرته ومشيئته.
وترتب على ذلك إلغاء الحكمة من إرسال الرسل! إلغاء الحكمة من إنزال الكتب! إلغاء الحكمة من الأوامر والنواهي! فهذه آثار ومفاسد مذهب الجبرية.
طبعاً قد يقول قائل: هل مذهب الجبرية موجود؟ نقول: نعم موجود عند بعض العصاة، عندما يأتي عاصٍ ويحتج على فعل المعصية بالقدر، فإنه يُجاب عليه بما يُجاب به على الجبرية، فهذا العاصي الذي يحتج على فعل المعصية في القدر، نقول:
أولاً: احتجاجك بشيء لا تعلمه.
ثانياً: أنت في أمور الدنيا ما تحتج بالقدر، وكما أنك تؤمن بأن الأرزاق مُقدرة والآجال مقدرة، كذلك الأعمال مُقدرة، فلماذا في أمور الدنيا لا تحتج بالقدر؟! لماذا لا تنم في بيتك ودع السماء تمطر عليك ذهباً وفضة؟ هل تراه يفعل ذلك؟ لا، لا يفعل، بل يكدح ويكدّح من الصباح إلى المساء، فنقول: سبحان الله! أنت تؤمن بأن الأرزاق مُقدّرة والآجال مُقدّرة وتكدّح، لماذا لا يكون في عباداتك كذلك؟ تؤمن بالقدر، وتفعل الطاعات، وتجتنب النواهي!
هذا مما يُرد به على (الجبرية) طبعا قد يقول قائل: إنه قد لا يوجد هؤلاء، ونقول: لا بل قد توجد مثل هذه الشبه، خاصة فيما يتعلق بمذهب الجبرية.
أيهما أقبح؟! نقول: كلاهما قبيح.
أيهما أقبح، مذهب الجبرية أو مذهب القدرية؟ مذهب الجبرية. لماذا؟ لأنهم عطلوا الشريعة تماماً، صحيح أنَّ القدرية قد وقعوا في شرك الربوبية، ولكن عندهم تعظيم للشرع، وأمَّا الجبريّة فأثبتوا المراتب ولكنهم عطلوا الشرع، ولهذا يقول أهل العلم: مذهب الجبريّة أقبح وكلاهما قبيح، ولكن مذهب الجبرية أقبح من مذهب القدرية.
أمَّا أهل الإيمان فهم من أسعد الناس بتحقيق هذا الركن والإيمان به.
تبقى مسائل أخرى مثل: هل العبد مسير أو مخير؟ الجواب: بناء على ما تقدم التفصيل، فهو مخير فيما هو تحت إرادته، في الأوامر والنواهي، ومسير فيما هو خارج عن إرادته، في المصائب، ولهذا يُحتج بالقدر على المصائب، ولا يحتج بالقدر على المعايب التي هي المعاصي.
موضوع الرضا بالقضاء والقدر سيأتي في آخر الفصل، ولكن عموما من حيث فعل الرب يجب الرضا به، كما يجب الإيمان بقضائه وقدره، يجب الرضا بفعل الرب تبارك وتعالى، ولا يعترض الإنسان على قدر الله.
أمَّا من حيث المقدور ففيه تفصيل، إن كان طاعات فيجب الرضا بها، وإن كانت معاصي فلا يرضى بها، وإن كانت أقدارًا ومصائب فيستحب الرضا بها، ولا يجب على الصحيح من أقوال أهل العلم، وسيأتي له تفصيل إن شاء الله في آخر الكتاب.
أسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا وإخواننا المشاهدين ممن حققوا الإيمان بهذا الركن العظيم، الذي هو الإيمان بقضاء الله -تبارك وتعالى- على ما أرد الله في كتابه، وفي سنة رسوله ﷺ.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خيرا على ما قدمتم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حُسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.