{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم. حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) ، نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح كتاب (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، يصطحبنا في شرح هذا الكتاب فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، باسمي واسمكم جميعاً نحيي فضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وطلاب الجمعية، ونحن في اللقاء الأخير، وفي الدرس الأخير في شرح هذا الكتاب، في الدرس الثامن عشر، وبه نختم هذا المتن، ونسأل الله -عز وجل- للجميع حسن الختام.
{نستأذنكم في البدء فضيلة الشيخ}.
نعم، استعن بالله.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ
عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ: وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ. وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»، وَقَوْلِهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بُالْحُمَّى وَالسَّهَرِ») }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فقد ختم المصنف -رحمه الله- هذا المتن وهذا الكتاب النفيس بهذه الأصول العملية والأخلاقية التي تميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم، وهذه الأصول -كما يلاحظ الإخوة الكرام- هي تابعة لِمَا ذكرناه في اللقاء السابق، الذي عَنونَ له بقوله: (ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَيثُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ») .
ثم ذكر الأصل الرابع: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ) .
ثم ذكر الأصل الخامس: (وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ) .
ثم السادس: (وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ) ، ثم علل لماذا سموا بأهل الكتاب والسنة؟ ولماذا سموا بالجماعة؟
ثم ذكر الإجماع، وذكر أنَّ أهل السنة والجماعة -وهو أصل سابع- (وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُول ِالثَّلاثَةِ) التي هي: الكتاب، والسنة، والاجماع، (جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ) أي: فيما يتعلق بأبواب العبادات والعقائد والمعاملات. وأمَّا أمور الدنيا فالأصل فيها الحل والإباحة.
ثم أشار إلى ضابطٍ مُهم، وهو أنَّ الإجماع (الَّذِي يَنْضَبِطُ) ويمكن أن يعتمد عليه، ويمكن أن يحفظ (هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ) .
ثم قال هنا في فصل جديد -وهو يستكمل الأصول السابقة أيضًا-: (ثُمَّ) وهي عطف على ما سبق، (ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ) يعني: الأصول السبعة التي ذكرناها، أو يقال: الأصول التي ذكرها فيما سبق في: أبواب الصفات، واليوم الآخر، والقدر، والإيمان، والصحابة، وكرامات الأولياء، والصفات العملية والأخلاقية لأهل السنة والجماعة، (ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ) ، وهذا أصلٌ ثامن، (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) .
ولاحظوا -أيها الإخوة الكرام- أنه أشار إلى هذا الأصل؛ لأنه أيضا من الأصول التي تميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو علامة الإيمان، ودليل الإيمان، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَر وَتُؤْمِنُونَ بِالله﴾، قال أهل العلم: قَدَّم وَصف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وصف الإيمان؛ لأنه علامة الإيمان ودليل الإيمان، وهكذا الآيات في بيان أهمية هذه الشعيرة وارتباطها، بالإيمان، والأحاديث كثيرة جدا لا يتسع المقام هنا لذكر هذه الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية هذه الشعيرة، بل من أهل العلم في كتب العقائد يعدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركناً سادساً لكثرة النصوص التي تبين مكانة هذه الشريعة.
لكن لينتبه الإخوة الكرام أنَّ هذه العبادة كسائر العبادات، لها شروط لا تصح إلا بتوفر شروطها، فالوضوء له شروط، والصلاة لها شروط، لا تقبل الصلاة ولا تصح إلا إذا توفرت الشروط. والحج له شروط، وهكذا يقال في سائر العبادات.
والزكاة لها شروط لا تجب إلا إذا توفرت الشروط، وهكذا هذه الشعيرة لها شروط، ولهذا أهل السنة والجماعة يؤدون هذه الشعيرة كما يؤدون سائر العبادات بشروطها؛ لأنه إذا اختلت الشروط اختلت العبادة.
أرأيتم لو صلى الصلاة بغير طهارة ما تقبل الصلاة في غير وقتها، وهكذا إذا أخلَّ بشروط الصلاة لا تقبل، أخلَّ بشرط الحج ما يُقبل. وهكذا الجهاد له شروط، يقول: أريد الحج ولا يستأذن والديه ما يقبل هذا، وتكون العبادة باطلة؛ لأن الشروط مختلة.
يجاهد بغير إذن ولي الأمر، بغير راية، هذه عبادة باطلة مردودة على صاحبها لاختلال الشروط، وهكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ضوابط وشروط، ومن ضوابطه -ضوابط الإنكار- هذه الشروط تتعلق بالآمر، وتتعلق بالمأمور به.
ومن ذلك مثلا الشروط: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَراً فَلْيُغَيره بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِع فَبِلِسَانِهِ» فلو كان لا يستطيع باليد وأنكر باليد، هل هذا الفعل صحيح؟ نقول: غير صحيح. لو أراد أن يغير المنكر بمنكر، نقول: فعلك هذا ليس من الدين، وليس مشروعًا في الدين، بل إنكارك هو المنكر!
هل يُنْكَرُ عليه؟ نعم. هل يُعاقب؟ نعم. هل يُعزر؟ نعم. لماذا؟ نقول: لأنه غير المنكر بمنكر، ولهذا يقول أهل العلم في هذا الضوابط -ولاحظ عبارة المصنف رحمه الله الدقيقة، لأنها تميز أهل السنة عن غيرهم على ما تجيبه الشريعة- يقولون: يأمر بالمعروف بمعروف، ويُنكَرُ المُنكَر بغير مُنكَر، فلو أمرَ بالمعروف بغير معروف هل يُقبل؟
كحال من جاء وسبَّ الكافر وشتمَه وشتم دينه، وقال له: متى تسلم؟! ما يقبل.
والذين يشتغلون في دعوة غير المسلمين ومكاتب الدعوة، لو جاء معهم هذا بأخلاقه قالوا: أنت لا تصلح في الدعوة؛ لأنك تفسد.
وهكذا لو أنكر المنكر بمنكر لا يُقبل، بل ينكر عليه؛ لأن المنكر تغير بمنكر، ولهذا تميز أهل السنة والجماعة عن أهل الأهواء بهذه الضوابط وهذه الشروط، والوسطية التي تميزوا بها، كما في أبواب الصفات، وأبواب القدر، وأبواب الإيمان، وأبواب الصحابة، وأبواب كرامة الأولياء، وهكذا في هذا في هذا الأصل، في أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، على ما تُوجِبه الشريعة، سواء كان فيما يتعلق بشروط الآمر، أو ما يتعلق بالشروط المتعلقة بالمأمور به وطريقة الإنكار.
خالف في هذا الخوارج والمعتزلة الوعيدية، ولذا تجدون من أصول المعتزلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن ليس على طريقة الكتاب والسنة، ولا طريقة أهل السنة، فترتب عليه لَمَّا حكم على الخوارج على العاصي بالكفر، وحكم المعتزلة بخروجه من الإيمان، خرجوا على المسلمين بالسيف، والقتل والتكفير، والتفجير! هل هذا إنكار؟ هل قتل المسلمين وتفجير النفس في المساجد مع قتل أقاربه؟ هل هذا إنكار؟
نقول: لا، بل هذا مُنكَر أشدُّ من المنكر الذي يريد إنكاره، والسبب الذي جعله يفعل هذا هو الخلل في مفهوم الإيمان، فلمَّا اختل مفهوم الإيمان عنده، اختلت هذه العبادات، ولهذا خالف في هذا الأصل الخوارج، فخرجوا على الصحابة، وخرجوا على الأئمة بالسيف، بزعمهم أنهم يريدون إنكار المنكرات. نقول: أنكرتم المنكرات بمنكر أعظم!
وخالف فيه كذلك الصوفية، فلما اختلَّ مفهوم القدر عند الصوفية، والصوفية جبرية، قالوا: من ينكر المنكر فإنه يعترض على قدر الله، فأخذوا يبررون للمنكرات، وإنكار المنكرات بزعمهم أنَّ من اعترض عليها فقد اعترض على قدر الله.
وأما أهل السنة والجماعة فوسط بين الغلاة والجفاة، حسنة بين سيئتين، كما أنهم وسط في جميع أبواب الدين، كما تقدم في أبواب الصفات، وهكذا في أبواب الإيمان، وكذلك هم في هذا الباب وسط بين الغالي والجافي، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجب الشريعة.
ولهذا يراعون في الإنكار المصالح والمفاسد فقه المآلات والموازنات، يراعون بأن تدرأ المفسدة العظمى ولو بارتكاب المفسدة الأقل، ودرء المفاسد مُقدمٌ على جلب المصالح.
ولاحظ أنَّ مثل هذا يحتاج إلى فقه، ويحتاج إلى علماء كبار، وليس مجرد غيرة وحماس غير منضبط، فيفسد أكثر مما يصلح، ويسيء للدين ويسيء للمسلمين بأفعاله الشنيعة، بزعمه أنه يريد إنكار المنكرات.
نقول: هذه هي الدعوة التي دعاها الخوارج، فقتلوا عثمان، وقتلوا عليا -رضي الله عنهما-وهما خيار الخلق، بزعمهم الغيرة على الدين.
وهكذا يقال في كل من يسيء للدين، بزعمه أنه يريد إنكار المنكرات، نقول: إنكار المنكرات -بارك الله فيك- عبادة، والعبادات تحتاج إلى شروط، حتى تقبل، وإذا اختلت الشروط ما تقبل.
والجهاد عبادة إذا اختلت الشروط ما تقبل؛ لأن هذا من الإحداث في الدين، كما لو صلى الظهر في غير وقتها، أو حج في غير موسم الحج، هل يقبل منه؟ ما يقبل، لماذا؟ لاختلال الشروط، وهكذا يقال في سائر العبادات.
ثم قال في الأصل التاسع من الأصول التي تميز بها أهل السنة والجماعة عن الغلاة والجفاة: (وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا) لاحظ القيد والوسطية، (يرون) يعني: يعتقدون ويمتثلون، (يرون) أي: الاعتقاد بصحة الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا) يعني: على أي حال كانوا، (أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا) . هل هذا ينطبق على ما عند الخوارج؟ ما ينطبق؛ لأنهم يرون أنَّ الفجار عندهم كفار، فلا يرون السمع، ويشذون على الجماعة، ويخرجون على المسلم بسبب العقيدة الفاسدة، ولا يقال: إن الخوارج كانوا في زمن الصحابة، بل في زمننا أكثر وأشد.
لا يقال: إن الخوارج هم فقط من خرجوا على عثمان وعلى عليٍّ، بل في هذه العصور هم أشد، بل تجد أن الخوارج الأوائل في زمن الصحابة كما روى ابن عبد العباس، فقال: رأيتُ قومًا أهل عبادة"، وأمَّا خوارج العصر فهؤلاء لا عبادة، ولا دين، وخروج على جماعة المسلمين وإمام المسلمين بدعوى يدعونها، أنهم يرون المنكرات!
نقول: وهل هذه المنكرات تبرر الشذوذ؟ تبرر الخروج على المسلمين؟ فلا يقال: إن الخوارج كانوا في زمن علي ولا وجود لهم اليوم، بل هم في العصور المتأخرة أكثر، ولهذا كثرة الأحاديث في أوصافهم.
ومن أميز صفاتهم: «سفهاء أحلام، حدثاء أسنان»، وهذا ما حدث في الواقع، فهم أطفال يتكلمون في قضايا الأمة المصيرية، وهذا من السفه، وبعضهم دخيل على الشريعة، تجده أصلا ليس من علماء الشريعة، وليس من فقهاء الأمة، هو دخيل، فقد تجده طبيبًا أو مهندسًا فيزيائيًا، أو محاسبًا وضع نفسه فقيهًا يتحدث في أصول الدين، وهذه مصائب الأمة اليوم، لَمَّا يتصدر سفهاء الأحلام، حدثاء الأسنان للحديث في قضايا الأمة المصيرية، خاصة مسائل الجهاد، ومسائل السلم، ومسائل الحكم، فتحصل المصائب، وهذه من أكثر المصائب التي وقعت في الأمة اليوم.
ولهذا تميز أهل السنة والجماعة بهذه الأصول.
(يرون) أي: يعتقدون (إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا) ولهذا فقضية الحج مثلا والوقوف بعرفة المرجع فيها إلى ولي الأمر. ولا يمكن أن يأتي من يخالف ويقول: أنا لا أسمع ولا أطيع ولي الأمر، وعرفة ليس اليوم بل هو غدًا! هل يقبل منه؟ ما يقبل. بل تجد المسلمين في جميع أقطاع الأرض الذين يأتون للبيت الحرام هم مع راية الحج، وما يعلنه ولي الأمر فيما يتعلق بدخول الشهر وتحديد يوم عرفة، وهكذا يقال في الصيام، وهكذا يقال في تحديد العيد، لا يمكن أن يخالف، وهكذا يقال: في سائر الأمور الأخرى، فيما يتعلق بالجهاد، وإعلان الجهاد، وأحكام الجهاد، فالجهاد يحتاج إلى راية.
وقد خالف في هذا الخوارج، ومثلهم المعتزلة، الذين يرون الخروج على الحكام إذا ظلموا وجاروا، وقد خالفوا في هذا أهل السنة والجماعة، وما كان عليه السلف الصالح، وقبل هذا خالفوا أدلة الكتاب والسنة التي تأمر بالسمع والطاعة لولي الأمر.
ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، والأحاديث في هذا كثيرة، منها: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبي ﷺ قال: «مَن أَطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ الأَميرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى الأَمِيرَ فَقَدَ عَصَانِي» .
وأيضا في صحيح مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «مَنْ خلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّه يَوْم القيامَةِ ولا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ ماتَ وَلَيْسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتةً جَاهِليَّةً» . انظر هذا الوعيد الشديد، ومن يقع فيه في هذا الزمان ممن يشذ ويهرب من جماعة المسلمين، ويخلع البيعة، بل إنه يرمي بنفسه في أحضان الكافرين، نعوذ بالله.
انظر إلى الخذلان، لا علم، لا دين، يخلع البيعة ويشذ، ثم يرمي نفسه في أحضان الكافرين، بل إنه ربما يبث من تحت الكنائس والبارات والمراقص ليسب الإسلام والمسلمين، وشعائر الدين، فأي خذلان بعد، ويزعم الغيرة على الدين، ويطعن في الدين وهو بين ظهراني المشركين، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأل الله -عز وجل- أن يهدي ضال المسلمين، وأن يحفظ شبابنا وشباب المسلمين من الفتن، ومن آراء أهل الفتن، وهذه والله فتنة، وهذه فتنة كما حصلت في العصور الأولى، أيضا تحصل في هذا الزمن أكثر.
وفي الصحيحين عن أن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، لاحظوا هذه الأحاديث رواها خيار الصحابة، يقول ابن عباس -رضي الله عنه-: إن النبي ﷺ قال: «مَن رَأَى من أمِيرِهِ شيئًا يَكْرَهُهُ فلْيَصْبِرْ عليه، فإِنَّهُ ليس أحدٌ يُفارِقُ الجَماعةَ شِبْرًا فيَموتُ، إِلَّا ماتَ مِيتةً جَاهِلِيَّةً» ، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدل على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور.
هذا المعتقد أيضا، كما أنه مبني على هذه الأدلة من الكتاب والسنة، وهي كثيرة أيضا، مبني أيضا على المصلحة والحكمة لِمَا في طاعة ولاة الأمور من المصالح والمنافع التي لا تحصى، من انتظام حياة الناس، ومصالح الناس، ومعاش الناس، ومن إظهار الدين، وهذا أمر يشاهده الناس ويلاحظونه في المجتمعات الإسلامية، حتى ولو كان هناك جور إلا أنك تجد أن أمور الناس منتظمة، فالأمن موجود، والناس يذهبون ويأتون في البلدان التي كان فيها حكام وكان فيها ظلم، فتجد حياة الناس مستقيمة.
ولَمَّا خرجوا على أولئك الحكام، انظروا إلى الفوضى، وفقدان الأمن، وتسلط الأعداء، بل أصبحت المجتمعات يقتل بعضها بعضا، وهذا يشهد به الواقع.
يقول علي -رضي الله عنه-: "إن الناس لا يصلحهم إلا إمام برٌ أو فاجر"، وهذا واقع.
وقال الحسن -رحمه الله-: "الأمراء يلون منا أمورا خمسة: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود". يقول: "والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لَما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون"، ننظر النظر للمصالح والمفاسد، وهذا يقوله من؟ أئمة السنة، فهذا علي، وهذا الحسن البصري.
بل قيل: "ستون سنةٍ مع إمامٍ جائرٍ خيرٌ من ليلةٍ بلا إمام".
وتخيل في الواقع، ولاحظ حتى في الدول التي فيها جور وفيها ظلم، تسافر إليها وأنت مطمئن لوجود أمن، ووجود نظام. ولكن سافر إلى بلدان ليس فيها إمام، فتجد أنَّ الأمن مفقود، والوضع لا تأمن فيه على نفسك، ولا على مالك، ولا على عرضك، فأهل السنة والجماعة لَمَّا أصلوا هذه الأصول نظروا إلى الأصول الشرعية، وكذلك المصالح، ودين الإسلام كما تقدم، والأدلة الشرعية هي أدلة عقلية، تراعي المصالح وتراعي المفاسد.
قال في الأصل العاشر: (وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ) يعني: جماعات المسلمين، أو العبادات التي فيها الجماعة، كصلاة الجماعة، والجمع، ونحو ذلك. لماذا؟ لأنها من آكد العبادات، وأجلِّ الطاعات، ومن أعظم شعائر الدين الظاهرة، والمحافظة على الجماعات أيضًا يميز أهل السنة عن أهل الأهواء، ومن ذلك الصوفية، حيث يرون أنَّ الصلوات في خلواتهم أفضل، وكذلك أهل الأهواء الذين لا يصلون في مساجد المسلمين، بل يشذون ونحو ذلك.
ولهذا تلاحظ من سمات علماء أئمة السنة في بلدان وأحيائهم أنهم أحرص الناس على صلاة الجماعة، إذا رأيت هذا العالم والمفكر والمثقف لا يصلي صلاة الجماعة، فإن وصفه قد نقص، وهذه سمات وخصائص تميز بها علماء السنة عن غيرهم.
هل هم ممن يحافظون على الجمع والجماعات مع المسلمين في مساجدهم؟ هذه من سيمات وعلامات أئمة السنة، وأمَّا إذا كان لا يحافظ على ذلك، فاعرف أنهم من أهل الأهواء، أو ضعفاء الإيمان.
قال في الأصل الحادي عشر: (وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ) يدينون يعني: أنهم يتعبدون ويعتقدون النصيحة للأمة، أي لعموم المسلمين وخاصتهم، كما جاء في الحديث: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامته».
(يدينون) أي: يعتقدون ذلك، وفي الصحيحين من حديث جرير، قال: «بايعتُ رسولَ اللهِ ﷺ على إقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والنصحِ لكلِّ مسلمٍ» .
لكن أيضا يراعي الإخوة الكرام أنَّ النصح مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يراعى فيه الضوابط، ولهذا ثمّة فرق بين النصح وبين التعيير والتشهير؛ لأنَّ بعض الناس أحياناً يتشفّى من غيره، يصفي في الحسابات بزعمه أنه ينصح وهو يشهر بعيوب الناس. هل هذه نصيحة؟ نقول: هذا ليس من النصيحة، النصيحة لها ضوابطها، وأما ما تفعله وتمارسه هو التعيير والتشفي والتشهير بالمسلمين، ولهذا ألَّف ابن رجب -رحمه الله- رسالة جميلة سماها: "الفرق بين النصيحة والتعيير"؛ لأنه أحياناً قد يلبس على الناس التشهير والتعيير وتصفية الحسابات بزعمه أنه ينصح. نقول: هذه ليست نصيحة، لأن النصيحة عبادة لها ضوابط، ولها شروط، وتكون في السر، وتكون بينك وبين المنصوح له، وأما ما تمارسه فهذه ليست نصيحة، وإنما هو التعيير بالمسلمين.
قال في الضابط الثاني عشر: (وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ») يعني: أن من صفات أهل السنة والجماعة التي تميزوا بها أنهم يتعاونون فيما بينهم على البر والتقوى، يعتقدون ذلك ويتعبدون بمقتضى قول النبي ﷺ: («الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ») ، فيتعاونون وينصحون، ويتألمون بآلام المسلمين، وينصرونهم بما يستطيعون، ويتعاونون فيما بينهم على الخير والبر والتقوى.
وكذلك (قَوْلِهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بُالْحُمَّى وَالسَّهَرِ») المعنى أيضًا أنَّ أهل السنة والجماعة من أوصافهم التي تميزهم، أنهم يعتقدون معنى هذا الحديث، ويمتثلونه فيما بينهم قدر ما يستطيعون.
والعبادات -يا إخوة يا كرام- الإنسان يأتي بها بما استطاع، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فاتقوا الله ما استطعتم، فلا يأتي شخص ويحمل الناس ما لا يحتملون، ويكلف الناس بعبادات لا يستطيعونها، كمن يأتي ويلزم المسلمين مثلا بعبادات ليست واجبة عليهم، هل ممكن أن توجب الجهاد مثلا على شابٍ لم تتوفر فيه الشروط؟ لا يمكن. هل يمكن أن توجب الزكاة على الفقراء؟ لا يمكن. هل يمكن أن توجب الحج على غير المستطيع؟ لا يمكن. من أوجب ذلك على غير المستطيع فقد تَقَوَّلَ على الله، وعلى دين الله.
{أحسن الله إليكم. قال -رحمه الله تعالى-: (وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ. وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا». وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِهَا. وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) }.
قال في الثالث عشر، وهو يبين قواعد وأصول عملية وظاهرة تميز أهل السنة عن غيرهم من أهل الأهواء والضلال والافتراق، الذين هم بين طرفي نقيض غلاة وجفاة، وأهل الحق وسط في جميع أبواب الدين -كما تقدم- في أبواب الصفات، في أبواب الإيمان، في أبواب القدر، في باب الصحابة، وكذلك في الصفات والأخلاق العملية.
قال: (ويأمرون بالصبر عند البلاء) وهذا للأدلة الكثيرة التي تبين فضيلة الصبر، بل الجزاء على الصبر بغير حساب، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10]، والصبر يكون على طاعة الله، ويكون عن معصية الله، ويكون على أقدار الله المؤلمة، ولهذا قال: (ويأمرون بالصبر عند البلاء) وهذا له ارتباط بموضوع القدر.
والإنسان مع المصائب له أحوال أربعة: إمَّا التسخط، وهذا محرم، يتسخط أو يُحدث قولاً محرماً أو فعلاً محرماً، يلطم الخدود أو يشق الجيوب، أو يدعو بالويل والثبور. نقول: هذا الفعل محرم.
وإمَّا أن يصبر على البلاء والمصائب، وهذا واجب، وقد دل على وجوبه الأدلة الكثيرة، والآيات في الصبر كما ذكر الإمام أحمد -رحمه الله- أكثر من تسعين آية في القرآن، والأحاديث كثيرة، والمجال هنا لا يتسع لذكر أنواع الصبر وأقسام الصبر، والأشياء التي تعين على الصبر.
إنما أهل السنة والجماعة يتميزون بأنهم يأمرون، والذي جعلهم يأمرون لِمَا جاء من أدلة الكتاب والسنة في الأمر بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمرِّ القضاء.
قلنا: الإنسان إمَّا أن يتسخط وهذا حرام، أو يصبر، أو يشكر والشكر واجب، أو يرضى والرضا على البلاء مختلف فيه، هل هو واجب أو مستحب؟ الأقرب أنه مُستحب، الرضا بقدر الله واجب، وأمَّا الرضا بالمقدور فإنه مُستحب.
وهذه الأمور الثلاثة كما ذكر ابن القيم هي عنوان سعادة العبد، أنه يصبر عند البلاء، ويشكر عند الرخاء، ويرضى بمر القضاء. كما جاء في الحديث، «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له» ، فأمره كله خير، فهذه الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد: الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء.
ثم قال في الأصل الرابع عشر: (ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال) يدعون يعني: يُرغبون في ذلك ويمتثلونه، و (مكارم الأخلاق) جمع مكرمة، والمقصود أطيب الأخلاق؛ لأن الأخلاق التي هي صفات الإنسان الباطنة، فيها ما هو حسن محمود، وفيها ما هو قبيح مذموم كالظاهر، والصفات المحمودة التي هي مكارم الأخلاق كالصدق في الحديث، الأمانة، الكرم، الشجاعة ونحو ذلك، مثل: الحلم، والصبر، والرحمة، وتحمل الأذى، وقضاء حوائج الناس، والسبب الذي جعلهم يدعون إلى مكارم الأخلاق الأدلة الكثيرة، بل إن النبي ﷺ كما ثبت عنه أنه قال: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخْلاقِ» ، فلهذا هم يدعون إلى مكارم الأخلاق التي أحسن الأخلاق وأطيب الأخلاق، التي جاء الحث عليها في نصوص الكتاب والسنة.
قال: (ومحاسن الأعمال) قد يقول قائل: ما الفرق بين مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال؟
الفرق بينهما أنَّ المكارم هي صورة الأعمال الباطنة، كالسجية، والطبع الحسن، كما قال النبي ﷺ: «إن فيك خَصلتينِ يُحِبُّهما الله: الحِلمُ، والأناة» .
ومحاسن الأعمال هي الظاهرة، المتعلقة بأعمال الجوارح، سواء كان ذلك في العبادات، الذي هو الإحسان في العبادة، يؤدي العبادة على أكمل وجه، يؤدي الحج على أكمل وجه، يؤدي الصيام على أكمل وجه، فهم يحثون على أحسن الأعمال، أفضل ما تكون الصلاة، أفضل ما يكون الصيام، أفضل ما يكون الحج، أفضل ما يكون في جميع العبادات، في صلة الرحم، في حسن الجوار، وهكذا في البيع، الصدق في البيع والشراء والإجارة، ومن ذلك أيضا: الصدق في التعامل مع الناس، تبيين العيوب التي تكون في السلع، فلا يخدع الناس بل يتعامل معهم بالصدق والأمانة، والذي جعل أهل السنة والجماعة يدعون إلى ذلك النصوص الكثيرة التي ترغب في مكالم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
قال في الأصل الخامس عشر: معنى قوله ﷺ: «أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا» كما رواه إمام أحمد وأبو داود والترمذي. لاحظ: أكمل المؤمنين يدل على تفاوت الإيمان، وتفاضل أهل الإيمان، فجعل أحسن الناس خلقا هو أكملهم إيمانا، وهذا أيضا فيه إشارة إلى أن الدين لا ينحصر في العبادات الخاصة، في الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج فقط، بل التعاملات من الدين، والأخلاق من الدين، وحسن الجوار من الدين، وإكرام الضيف من الدين، وإماطة الأذى عن الطريق من الدين.
ولهذا قال: «أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا»، يقول ابن تيمية معلقا على هذا الحديث: فجعل ﷺ كمال الإيمان في كمال حسن الخلق. إذن حسن الخلق من الأعمال الصالحة التي يزيد بها الإيمان. يقول ابن القيم -رحمه الله-: الدين كل خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين"، ولهذا دلت الأدلة الكثيرة على صلة الأخلاق بالدين والإيمان، فمن كمل خلقه دلَّ على كمال إيمانه، ومن ضعف خلقه دلَّ على ضعف إيمانه، فإذا رأيته يكذب ويحقد ويحسد ويبغض، دل على ماذا؟ على النقص في ديانته وإيمانه.
وإذا رأيته يضع الأذى في الطريق، دل على ضعف الإيمان ونقص الديانة. فإن قال قائل: ما علاقة الأذى بالإيمان؟ نقول: لأن النبي ﷺ جعل من شعب الإيمان: إماطة الأذى عن الطريق، وهذا يشمل الأذى الحسي والمعنوي، فإذا كان الإنسان يميط الأذى عن الطريق؛ دل على كمال إيمانه، وبالعكس إذا كان يضع الأذى في طريق المسلمين ويؤذي المسلمين في متنزهاتهم وفي طرقهم وفي ظلهم وفي أماكنهم العامة؛ دل ذلك على خلل في مفهوم الدين، وعلى ضعف إيمانه.
فالأخلاق إذن مرتبطة، ولهذا جاءت الأدلة الكثيرة في ارتباط الأخلاق بالإيمان، ففي صحيح البخاري يقول ﷺ: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُم أَحَاسِنُكُم أَخْلاقًا» ، ولهذا نقول: أيها الشاب إذا أردت أن تكون من أكمل المؤمنين إيمانًا، ومن أحسنهم ديانة، فعليك بحسن الخلق.
وحسن الخلق يكون مع الخالق ويكون مع الخلق، فأولا وقبل كل شيء: حَسِّنْ أخلاقك مع الله، وحُسن الخلق مع الخالق يكون في ثلاثة أشياء: في تلقي أخباره بالتصديق، وفي تلقي أوامره بالتنفيذ، وفي تلقي أقداره بالصبر والرضا.
مثال: ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، وما أخبر به رسوله ﷺ، فمن حسن الخلق أن تصدق ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، وما أخبر به النبي ﷺ عن ربه -تبارك وتعالى- في سنته.
فإذا قال قائل مثلا: إن الرحمن لا يستوي على العرش، هل هذا حسن الخلق مع الله؟ أبداً هذا سيء الخلق، وكمن قال: إن الله لا يجيء، وإن الله ليس له صفات، وإن الله لا يُرى! هذا من أسوأ الناس خلقاً، وليس سيء الخلق مع الناس، بل هذا سيء الخلق مع الخالق، سيء الخلق مع كتاب الله، سيئ الخلق مع رسول الله، سيئ الخلق مع صحابة رسول الله!
الرسول ﷺ يثبت لربه الصفات ويأتي هذا المخذول بزعمه أنه أفقه بكتاب الله من رسول الله ﷺ، هذا من أسوء الناس أخلاقًا، فمن يعطل الصفات هو سيئ الخلق مع الخالق، وكذلك من لا يمتثل الأمر، أو يرتكب النهي، كذلك يدل على سوء الخلق مع الله. وكذلك من يعترض على أقدار الله.
إذن حسن الخلق مع الخالق في تلقي أخباره بالتصديق، سواء ما يتعلق بالصفات أو أشراط الساعة، أو أحوال البرزخ، أو أحوال الآخرة، وتلقي أوامره بالتنفيذ، ويتبعها اجتناب النواهي، وتلقي أقداره بالصبر والرضا.
وحسن الخلق مع الخالق، كما قال الحسن البصري: بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذى، وبشاشة الوجه"، بدل الندى معروف، سواء كان حسيا أو معنويا، وكف الأذى حسيًا أو معنويا، واحتمال الأذى وبشاشة الوجه.
من حَسُنَ خُلُقه مع الخالق، وحَسُنَ خُلُقه مع الخلق فهذا أكمل المؤمنين إيمانًا، وهذا هو الدين والإيمان، ولهذا قال: (وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا». وَيَنْدُبُونَ) يعني: أنهم يرغبون للنصوص (إلى أن تصل من قطعك) ممن له صلة عليك؛ لأن الصلة ليست مكافأة، «ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها» ، فليست الصلة مكافأة. أن تصل من قطعك من أقاربك.
(وتعطي من حرمك) يعني: من منعك حقه، لا تقابله بالمثل، بل مقام الاحسان يندب إلى أنك تحسن إلى من أساء إليك، (وأن تعفو عمن ظلمك) والنصوص كثيرة في فضل العفو وكظم الغيظ، والعفو بضوابطه يكون عند المقدرة ويتحقق المصلحة.
ثم قال: (ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، وابن السبيل، والرفق بالمملوك) لماذا يأمرون؟ للنصوص التي جاءت، وأعظم حق بعد حق الله هو حق الوالدين، لا أحد يأتي ويحاول أن يُقلل من شأن الوالدين، أي إنسان يأتيك ويقلل من قيمة والديك، اعرف أنه عدو لله وعدو لدين الله، من يأمرك بأن تكذب على والديك، اقطع الصلة به، فهذا عدو لدين الله. لماذا؟ لأن الله يأمر ببر للوالدين والإحسان للوالدين، يأتي أهل الأهواء والضلال لاختطاف هذا الشاب، فأول ما يبدأون بقطع صلته بوالديه، فاعرف من يأمرك بعقوق الوالدين أنه عدو لدين الله، وهكذا في صلة الأرحام، وحسن الجوار، إلى غيره ذلك مما دلت عليه النصوص.
قال في الثامن عشر: (وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق) الفخر هو التعالي والمباهاة بذكر المناقب، سواء فيما يتعلق بنفسه، أو بآبائه وأجداده على سبيل التكبر والتعاظم على الناس. هذا هو الفخر.
والخيلاء هو الكبر والإعجاب واحتقار الناس، فالمختال متكبر، وأهل السنة ينهون عن هذه الصفات الذميمة. وأما البغي فهو العدوان والظلم.
قال: (وينهون عن الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق) ، وهذه العبارة قد تشكل على بعض القراء، كيف يقول الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق؟ هل هناك استطالة بحق؟
قال الشراح: الاستطالة بحق هي الفخر والتعالي على الناس والتكبر، وبغير حق هي: البغي. وقيلك الاستطالة بحق أن يكون له حق على المعتدى عليه، ولكنه يأخذ حقه وزيادة، فيعتدي عليه، فيأخذ حق وزيادة، كما هي العادة الجاهلية، يقولون: أرد لهم الصاع صاعين، هذا ظلم، فهو استطال على من بغى عليه، ولكنه بغى عليه بأكثر. يعني مثلا: هو سبه وشتمه، فاستطال عليه فقتله. هل هذا بغي أوليس ببغي؟ هذا بغي، وأهل السنة والجماعة يأمرون بالتواضع ويأمرون بالعدل.
قَالَ: (وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفَاسِفِها) يأمرون أيضا كما تقدم، وهي قريبة من مكارم الأخلاق؛ لأن هذه الأخلاق وهذه السمات هي من أخص صفات أهل الإيمان، كالصدق والأمانة ونحوها.
(وينهون عن سفاسفها) أي: عن حقيرها، وهي جمع سفساف، الذي هو الأمر الحقير والرديء، فهم ينهون للنصوص التي تنهى عن ذلك.
ثم قال: (وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ) يعني: سبيلهم ومذهبهم هو دين الإسلام، ولهذا لم يغيروا ولم يبدلوا، بل التزموا بما جاءت به النصوص بالضوابط والشروط التي جاءت في النصوص الشرعية، لا إفراط ولا تفريط، كما وقع من أهل الزيغ والضلال.
{قال -رحمه الله-: (لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أُمَّتُهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي»، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ، وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ، وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ ﷺ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَّنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَلَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) }.
المصنف -رحمه الله- ختم هذه الرسالة بهذه الخاتمة الجميلة.
فبعد أن ذكر واحدًا وعشرين أصلا من الأصول العملية، والصفات العملية التي تميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم- قال بعد ذلك: (لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أُمَّتُهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) وكما تقدم الحديث في أول الكتاب، والمقصود بالأمة هنا هي أمة الإجابة، وفي حديث عنه أنه قال ﷺ: («هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي») ، إذًا هذا هو المعيار الذي به تميز أهل السنة عن أهل الضلال والأهواء والافتراق بأصنافهم. هل هم على مثل ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه في الصفات، والإيمان، والعبادات، والمعاملات أم لا؟
هذا هو المقياس والمعيار الذي أشار إليه فيما سبق.
قال: (صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) لاحظوا دقة العبارة (الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ) معنى هذا أنه هناك من ينتسب هذه الفرق اللي تنتسب نعم، هي في دائرة الإسلام ولكن لا تمثل الإسلام الخالص المحض.
ولهذا قوله ﷺ: «في النار» من باب الوعيد، ولكن هذه الفرق لديها انحرافات، حتى ولو انتسبت للسنة، أو انتسبت للجماعة، أو انتسبت انتسابا قد تخدع به من تخدع، لا يمثلون الإسلام المحض الخالص، بل الذين يمثلون الإسلام المحض الخالص، هم من كان على مثل ما كان عليه النبي ﷺ والصحابة.
ولاحظوا أيها الإخوة الكرام مثالا حسيًا، فالذي يشرب من منبع النهر، أول ما ينبع يكون الماء صافيا أو لا؟ النهر أول ما ينبع من الجبال، ثم ينزل ثم يمر بالمدن ويمر بالقرى، أين الصفاء؟ يكون في الأول صافيًا خالصًا من الشوائب. لماذا؟ لأن النهر إذا نزل ومر بالمدن تلقى فيه النفايات وتلقى فيه المخلفات، ثم تجده في آخر ما يكون النهر هذا صالحًا للشرب أو لا؟ يكون ملوثا. من الذي لوثه؟ الشوائب والذوائب.
وهكذا فمن يريد أن يأخذ أقوال المتأخرين في القرن الثالث، والقرن الرابع، يقول: والعقيدة هي ما كان عليه أبو الحسن الأشعري، أو هي ما كان عليها أبو منصور الماتريدي، أو غيرهم.
نقول: هذه الأقوال ملوثة، تلوثت بعلم الكلام، تلوثت بالمنطق، تلوثت بأقوال الصوفية، بل من لوثها تبرأ، فأبو الحسن الأشعري تبرأ، والرازي تبرأ، وكذلك الغزالي تبرأ، ولهذا نقول لمن ينتسب لمثل هذه الطوائف وهذه الفرق: إذا أردت أن تأخذ الإسلام النقي الصافي، فعليك بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، هذا هو الإسلام النقي الصافي.
وأما إذا أردت أن تأخذ من أقوال المتأخرين، فإن هذه الأقوال دخلها شوائب، ولهذا قال: (صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) . لماذا؟ لأنهم يأخذون من المنبع الصافي، من الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة.
ثم ذكر أن أهل السنة فيهم (الصديقون) ، ومرتبة الصديقية كما تقدم في أول الكتاب تأتي بعد مرتبة النبوة، وفيهم (الشهداء) ، سواء الذين قتلوا في سبيل الله أو هم شهداء الله في أرضه، شهداء على الناس، وفيهم (الصالحون) الذين هم دون مرتبة الصديقية، ودون مرتبة الشهادة، ولكنهم من أهل الخير والصلاح.
قال: (وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ) وإذا تشبيه لعلماء أئمة السنة بالجبال الشاهقات التي الناس ستدلون بها في الطرق، (وبالمصابيح التي تضيء للناس) ، فشبه علماء أهل السنة بهذا التشبيه البليغ. لماذا؟ لأنهم نقلوا الدين ونقلوا السنة ونقلوا أقوال الصحابة، وميزوا بين ما هو صحيح وما هو دون ذلك، فميزهم بهذا.
ومن أولئك قال: (وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ) والأبدال هم قوم صالحون تميزوا عن غيرهم بالعبادة والعلم والدين، يدخل في ذلك العلماء المجددون، كالإمام أحمد، وابن تيمية، وابن القيم، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، كل إمام جدد للأمة دينها وأعادها إلى ما كانت عليه في زمن الصحابة والتابعين.
وسموا بالأبدال لأنه كلما مات مجدد بعث الله مكانه مجددا آخر يعيد الأمة إلى دينها، وإلى النبع الصافي، أو أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم بالحسنات؛ لأنهم هم القدوة للناس.
وقد جاء لفظ الأبدال في حديث، ولكن متكلم فيه، ولكنه جاء عن علي وعن غيره لفظ الأبدال بهذا المعنى، وليس بالمعنى الذي يريده الصوفية.
قال: (وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ) ، كالفقهاء الأربعة، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي والإمام أحمد، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأئمة الحديث كالبخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، وابن ماجه، والنسائي، ونحوهم من أئمة الدين.
ثم قال: (وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ ﷺ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَّنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ») وهي منصورة من الله، منصورة من الملائكة، منصورة من المؤمنين، وهذا تقدم في أول الكتاب كما جاء في الصحيحين من حديث معاور إذ الله عنه.
ثم ختم الكتاب بهذا الدعاء، دعاء الراسخين في العلم، ختم هذه الرسالة المباركة بدعاء الراسخين في العلم، الذين قال الله عنهم: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:7] ﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة﴾، ولهذا أدعو الإخوة الكرام إلى الإكثار من هذا الدعاء، من دعاء الراسخين في العلم.
وختم المصنف -رحمه الله- رسالته بدعاء الراسخين في العلم: (نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ) ، ولاحظ فيه عدم التزكية للنفس، بل إنه وهو إمام دعا الله -عز وجل- أن يجعله، لم يقل: ونحن منهم أو لا وهنام ماذا قال؟
(نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ) ، يعني: فيه الاحتراز من تزكية النفس، (وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَلَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ) .
(وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) ثم ختم كتابه بالصلاة عن النبي ﷺ، لتكون كالخاتم، وأهل العلم يبدأون الكتب بالصلاة عن النبي ﷺ، ويختمونها بالصلاة على النبي ﷺ، ونحن كذلك نسأل الله -عز وجل- أي: يجعلنا وإخواننا المستمعين، وأبناءنا الطلاب في هذه الجمعية، أن يجعلنا من هذه الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، وأن يثبتنا على دينه، وأن يرزقنا الاستقامة على الحق، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
نسأله -عز وجل- أن يعصمنا وإخواننا المسلمين وأبنائنا وشبابنا وشباب المسلمين من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ونسأله -عز وجل- أي يجعلكم مباركين أينما كنتم، وأن ينفع بكم وبما تعلمتم، وأن يجعلنا وإياكم من ورثة جنة النعيم.
إذا نحن كذلك ندعو بهذا الدعاء، ونحرص على هذا الدعاء دائما، وعلى هذه الدعاوات الجامعة؛ لأن القلوب تتقلب وخاصة بهذا الزمن الذي كثرت فيه الأهواء والفتن، فنسأل الله -عز وجل- أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ثم أخيرًا أحض الإخوة المستمعين والمشاهدين والأبناء في الجمعية من طلاب وطالبات أن يعنوا بدراسة العقيدة، وأن يتوسعوا في ذلك؛ لأن الناس في هذا الزمن بحاجة ماسة إلى توضيح مسائل الاعتقاد، ومسائل التوحيد، ومنهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع هذه المسائل، خاصة في كثير من أقطار المسلمين، لغربة الدين في كثير من أقطار المسلمين.
والتوحيد -أيها الأخوة- هو أصل الأصول، فإذا استقام التوحيد واستقامت العقيدة استقام ما بعده، أسأل الله -عز وجل- أن يجعلكم مباركين، وأن ينفعنا جميعا بما نقول ونسمع، ثم الشكر لك وللإخوة المصورين والمخرجين والقائمين على هذه البرامج بالتنظيم والتنسيق، وللمشرفين على هذه الجمعية. نفع الله بالجهود، وبارك الله في الجهود، وأسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
{جزاكم الله خيرًا شيخنا، وكتب الله أجركم على ما قدمتم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن متابعتكم، وإلى هنا تنتهي سلسلة شرح العقيدة الواسطية، ونراكم -بإذن الله- على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.