{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات، أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة، نستكمل فيها شرح (العقيدة الواسطية) مع ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د. سهل من رفاع العتيبي، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين، والـبناء الطلاب في هذه الجمعية المباركة، أسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لِمَا يحب ربنا ويرضاه.
{نستأذنك فضيلة الشيخ في البدء بالقراءة}.
نعم، استعن بالله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين، قال المؤلف -رحمه الله-: (قال الله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ [سبأ: 2].
﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين﴾ [الأنعام: 59].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِه﴾ [فصلت: 47]. وَقَوْلُهُ: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]. وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58])}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأُصَلِّ وأُسَلِّمُ عَلى المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فلا يزال المصنف -رحمه الله- يذكر الأدلة التي تدل على القواعد التي ذكرها في مقدمة الكتاب، وأن أهل السنة يصفون الله -عز وجل- بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله ﷺ في سنته الصحيحة، وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه، وما نفاه عنه رسوله ﷺ في سنته، وذكر جملة من الضوابط والقواعد في هذا، وأن الله -عز وجل- قد جمع فيما وصف وسمّى به نفسه بين النفي والإثبات، وهذه الشواهد المتنوعة وما سيأتي هي دليل لهذه القواعد.
ولهذا واجب على كل مسلم يقرأ هذه الآيات ويقرأ القرآن عموماً، أن يتدبر هذه المعاني، وأن يتعبد الله -عز وجل- بما دلت عليه هذه الآيات من إثبات الأسماء لله، وإثبات الصفات لله تبارك وتعالى؛ لأن الله يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف:180]، فيتدبر هذه المعاني، وهذه الأسماء، وهذه الصفات.
والمتأمل في هذه الأدلة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- يجد أن ابن تيمية -رحمه الله- نوَّع في هذه الأدلة، فتلاحظون في هذه الأدلة أنَّ منها أدلة دلَّت على الأسماء، وما تضمنته من الصفات. هذا نوع، فهناك أدلة جاءت في الدلالة على الأسماء الحسنى لله، وكل اسم تضمن صفة.
ونوع ثان: هناك أدلة دلت على الصفات مجردة.
وهناك نوع ثالث، وهو أدلة دلت على الأفعال التي تدل على الصفات، كما في الآيات التي فيها إثبات الفعل لله -تبارك وتعالى- مثل: قَالَ، وَيَقُولَ، وَسَمِعَ، وَيَسْمَعُ، وَكَلَّمَ، وَيُكَلِّم، نَادَى، وَنَاجَى، وعَلِمَ، وَكَتَبَ، ويَكْتُبُ، جَاءَ، يَجِيء، أَتَى، يَأْتِي، أوحَى، وَهَكذا.
فهذه الأفعال تدل على ما تضمنته من الصفات.
أيضا من الأمور التي ينبغي التنبه لها وتدبر هذه الشواهد، يلاحظ في تنوع هذه الأدلة أن المصنف -رحمه الله- ذكر فيما يتعلق بالأسماء، أدلة تدل على الاسم مجردا، مثل: الله، الرحمن، الرحيم.
وذكر أيضا أدلة تدل على ما يسمى بالأسماء المضافة، مثل: أرحم الراحمين، ذي القوة، ذي الجلال والإكرام، شديد المحال، خير الماكرين ونحوها. فهذا نوع، وينبغي أيضا أن يلاحظ هذا في تنوع الأدلة.
أيضا فيما يتعلق بالصفات، يلاحظ أيضا أن المصنف -رحمه الله- نوَّع في الأدلة التي جاءت في الصفات، فهناك أدلة تدل على الصفات الذاتية، وهي التي لا تنفك عن الرب تبارك وتعالى، فهو متصف بها أزلا وأبدا.
والنوع الثاني: ما يُسمّى بالصفات الفعلية، أو الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة التي يفعلها متى شاء، وكيف شاء إذا شاء، فهي فعلية من حيث الآحاد، وإن كانت هي ذاتية من حيث النوع.
إذن الصفات التي دلّت عليها هذه الأدلة تنقسم إلى صفات ذاتية وصفات فعلية اختيارية.
أيضا تلاحظون في هذه الشواهد أن الأدلة جاءت في نوعي الصفات: المثبتة، والصفات المنفية، كما جاء في سورة الإخلاص وفي آية الكرسي، أن الصفات منها ما هو مُثبت، وهذه الصفات كلها كمال، ومنها صفات منفية، صفات التنزيه، وهي تتضمن ضدها من صفات الكمال.
أيضًا يلاحظ في الصفات أن هناك صفات مطلقة، وهناك صفات مقيدة فيما يقابل من يستحقها، كما سيأتي بيانه، فينبغي التنبه في تدبر وتنوع هذه الأدلة فيما دلت عليه.
هنا المصنف -رحمه الله- ذكر الأدلة التي تدل على صفة العلم وإحاطة الله تبارك وتعالى بجميع مخلوقاته.
(يعلم) هذا فعل دلَّ على صفة ماذا؟ دلَّ على صفة العلم، فهذا نوع من أنواع الأدلة، فذكر الفعل الذي يدل على الصفة.
ولاحظ في الدليل السابق (العليم) هذا اسم، ودلَّ على صفة ماذا؟ العلم.
لاحظ الآية التي قبلها في اللقاء السابق، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ هذا دلَّ على صفة العلم، هذا هو التنوع في الأدلة، فإما أن يأتي الدليل ويدل على الصفة، أو يدل على الاسم المتضمن للصفة، أو يدل على الفعل الذي يدل على الصفة، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾، ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾، فدلت هذه الآية على صفة (العلم) من قوله تبارك وتعالى: ﴿يَعْلَمُ﴾.
الآية التي بعدها في قوله: ﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ والمفاتح: جمع مفتح، والمقصد هو: خزائن الغيب، وقيل: طرق الغيب وأسبابه.
﴿لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ دلَّ على صفة ماذا؟ (العلم) من قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾ كل هذه الأفعال تدل على صفة (العلم) لله تبارك وتعالى.
وكما تقدم في علم الله تبارك وتعالى، أن الرب تبارك وتعالى مُتصف بالعلم المطلق، يعلم ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. والإيمان بهذه الصفة على جهة الكمال سيفيد إن شاء الله في موضوع القدر؛ لأنَّ المرتبة الأولى من مراتب القدر: الإيمان بعلم الله المطلق، بما في ذلك الإيمان بعلم الله بأفعال العباد.
في الآية الثالثة، قوله تعالى: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِه﴾ وهذه الآية نصت على صفة (العلم).
والآية التي بعدها، قوله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ الآية تضمنت إثبات صفتين: صفة العلم، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، وهو: العلم المطلق.
وكذلك فيها إثبات صفة القدرة ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهنا إثبات صفة القدرة، والسؤال: هل من أسماء الله القادر؟
أولاً: الفعل والصفة لا يشتق منهما الاسم، فلا بد من دليل يدل على الاسم صراحة؛ لأن الاسماء توقيفيه، لا تشتق لا من الصفات ولا من الأفعال، واسم الله (القدير) دلت عليه أدلة أخرى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
قال: (وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58]) هذه الآية دلت على ماذا؟ على اسمه -عز وجل- (الرزاق)، والرزاق هنا بصيغة التفعيل، بينما الرازق جاء إثباته في السنة في قول ﷺ، فيما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والنسائي بسند صحيح: «إنَّ اللَّهَ هوَ المسعِّرُ، القابِضُ، الباسطُ، الرَّازقُ» فالرازق جاء إثباته في السنة، والرزاق جاء في القرآن.
الرزاق والرازق دلا على أي صفة؟
دلا على صفة الرزق، يقال: الْرِزقْ والرَزْقَ هكذا، وهما: لغتان.
وقوله: ﴿ذُو الْقُوَّةِ﴾ أيضا دل على صفة القوة. هل من أسماء الله القوي؟ نعم دلّ عليه قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [هود:66]، فالقوي دلّت عليه هذه الآية، ودلّ على صفة القوة قوله: ﴿ذُو الْقُوَّةِ﴾ وذو القوة يعتبر من الأسماء الإضافية كما تقدم؛ لأن الأسماء إمَّا أن تكون مفردة، أو تكون إضافية.
قد يقول قائل: في الآية التي قبلها إثبات صفة القدرة، وفي هذه الآية إثبات صفة القوة، هل هما بمعنى واحد؟
الجواب: بينهما فرق، فالقوة تختلف عن القدرة من حيث اللغة، فالقدرة يُقابلها العجز، والقوة يُقابلها الضعف. هذا وجه.
وجه ثان: أنَّ القدرة يُوصَفُ بها ذو الشعور والإحساس فقط، بينما القوة يُوصَفُ بها ذو الشعور والإحساس، ويُوصَفُ بها غيره، ولهذا هل يُقال في الريح: الريح قوية، أو يُقال الريح قادرة؟ يقال: الريح قوية.
إذن تشابه الصفات لا يعني التطابق في المعاني، وهذه قاعدة مهمة، أنها قد تتشابه، ولكنها تختلف في المعاني، فلا تتطابق من كل وجه.
(الْمَتِينُ) معناه: الشديد في قوته، والشديد في عزته، ومعنى المتين أيضا: هو توكيد للقوي، فاسمه (المتين)، والمتانة من الصفات التي دلَّ عليها هذا الاسم.
{قال المؤلف -رحمه الله-: وَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58])}.
هاتان الآيتان دلتا على إثبات صفة السمع، وصفة البصر، وعلى اسمه -عز وجل- السميع، وعلى اسمه البصير.
أمَّا الآية الأولى فقد تقدمت في المقدمة، وهي قاعدة في هذا الباب؛ لأن الله جمع فيها بين النفي والإثبات، والنفي مجمل، والإثبات مفصل، وتقدم النفي على الإثبات كما في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
والسميع دلَّ على صفة السمع، والبصير دلَّ على صفة البصر، والبصيرة والبُصُر.
لاحظ أن -وهذه قاعدة تضاف أيضًا للقواعد السابقة- الاسم قد يتضمن صفة أو أكثر من صفة، مثال: السميع دل على كم صفة؟ على صفة السمع، وصفة السمع لها معنيين:
المعنى الأول: بمعنى المجيب للدعاء، فإذا قال المصلي: سمع الله لمن حمده، كان المقصود: أجابه، ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم:39]، أي: مجيب.
المعنى الثاني: السميع بمعنى هو السامع للأصوات، وهذا عام.
وكذلك البصير، دل على البصيرة، التي هي بمعنى العلم، والبصير أيضًا بمعنى: المبصر لكل شيء، فالاسم قد يتضمن أكثر من صفة، ولهذا تثبت كل هذه الصفات التي دلت عليها الأسماء، كما تقدم معنا في الحكيم، فاسم الله (الحكيم) دل على إثبات صفتين، هما: صفة الحكمة، وصفة الحُكم.
هذه الآية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ كم فيها من الأسماء؟ فيها اسمان. وكم فيها من الصفات؟ ثلاث صفات، صفتان ثبوتيتان، وهما: السمع والبصر، وصفة منفية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
الآية التي بعدها، قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ الفعل (يَعِظُكُم) دلَّ على أي صفة؟ دلَّ على صفة الوعظ اللائق به تبارك وتعالى.
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ هذا نصٌ صريح على إثبات صفة السمع وصفة البصر بمعانيها التي تقدمت.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ [الكهف:39]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة:253]، وَقَوْلُهُ: ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة:1] وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ [الأنعام: 125])}.
هذه الآيات الأربع دلت على إثبات صفتي المشيئة والإرادة للرب تبارك وتعالى، والفرق بينهما أن مشيئة الرب تبارك وتعالى ترادف الإرادة الكونية، فالإرادة تنقسم إلى نوعين:
هناك الإرادة الكونية التي هي بمعنى المشيئة تماما، فما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، كما دلت عليه هذه الآيات.
النوع الثاني: الإرادة الشرعية التي تكون مرادفة للمحبة، وهذه الإرادة الشرعية الدينية تتضمن: المحبة، والرضاة. والفرق بينهما أن الإرادة الكونية لا يلزم منها المحبة والرضاة ويلزم منها الوقوع، وأمَّا الإرادة الشرعية الدينية، فهذه يلزم منها المحبة والرضاة، ولكن لا يلزم منها الوقوع، وهذا التفريق مهم كما سيأتي لنا في موضوع القدر.
المشيئة ترادف الإرادة الكونية، ولهذا فالإرادة تنقسم إلى نوعين، بخلاف المشيئة فإنها الإرادة الكونية.
ننظر في هذه الشواهد، فمثلا قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللهُ﴾ هذه فيها إثبات المشيئة لله تبارك وتعالى، والمقصود هو الإرادة الكونية.
وكذلك في الآية التي بعدها: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ لاحظ: (شاء)، (يفعل ما يريد) في إثبات الصفتين، وكما تقدم أن الصفات المتنوعة لا يعني أنها مترادفة من كل وجه، فقلنا: إن المشيئة تتعلق بالإرادة الكونية، والإرادة تنقسم إلى نوعين، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ لكن الإرادة هنا هي إرادة كونية.
﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ الإرادة هنا من أي الأنواع؟ الإرادة الشرعية الدينية.
أيضا في الآية الرابعة، ﴿فَمَن يُرِدِ﴾ هذا الفعل يُؤخَذ منه إثبات صفة الإرادة، ولكن الإرادة هنا هي الإرادة الكونية، فالتفريق بين نوعي الإرادة مُهم جدا خاصة في باب القدر.
كذلك التفريق بين المشيئة والإرادة وبين المحبة، وسيأتي إن شاء الله في الآيات التي تليها، ولهذا لما ذكر الإرادة والمشيئة جاء بعدها بالمحبة، فإنَّ المحبة تتعلق بالأمور الشرعية، بينما المشيئة تتعلق بالأمور الكونية.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَقَوْلـُـهُ: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]. ﴿وَأَقْسِطُوا إِنّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:9]، ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:7]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة:222]، وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران:31]، وَقَوْلُهُ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة:54]، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف:4]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج:14]، وَقَوْلُهُ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ [الفاتحة:1])}.
لاحظ هنا بعد أن انتهى من الآيات التي دلت على الإرادة بنوعيها، الإرادة الكونية التي هي بمعنى المشيئة، والإرادة الشرعية التي هي مرادفة للمحبة، انتقل للآيات التي تدل على إثبات صفة المحبة والمودة لأوليائه من المؤمنين.
قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ الفعل يحب دلَّ على أي صفة؟ صفة المحبة فنثبتها لله تبارك وتعالى على الوجه الذي يليق به، محبة تليق به.
هل هي التوفيق والتأييد والنصرة والإعانة؟
نقول: هذه ثمراتها، ولهذا تجد أحيانا من أهل العلم من يُفسر صفة المحبة بلوازمها وآثارها، نقول: هذه اللوازم والآثار تختلف عن المحبة، فهي محبة حقيقية تليق بالرب تبارك وتعالى، وهذه من لوازمها: التوفيق والتأييد، والنصرة، والإعانة، والحفظ، وهي كلها ثمرات المحبة، ولهذا جاء في حديث الأولياء، قال الرب تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[1]، كل هذه ثمرات المحبة، وأما المحبة فهي صفة تليق بالرب تبارك وتعالى كسائر صفاته، هل هذه المحبة تتفاضل؟
نعم -كما تقدم- فهو يحب بعض الأفعال أكثر من بعض، وبعض الأزمنة أكثر من بعض، وبعض الأمكنة أكثر من بعض، وبعض الأفعال والهيئات أكثر من بعض، ولهذا لما تقرر التفاضل في المحبة كان الصحابة -رضي الله عنهم- كثيراً ما يسألون النبي ﷺ عن أحب الأعمال إلى الله، وبين لهم ﷺ أحب الكلام إلى الله أربع، «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ»، -صيغة التفضيل- «وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ»، وهكذا تتفاضل المحبة. وكذلك مكة أحب البلاد إلى الله، والمساجد أحب الأماكن إلى الله.
إذن الله -عز وجل- يحب بعض الأزمنة، وبعض الأمكنة، وبعض الأشخاص، وبعض الأفعال أكثر من بعض.
قال في الآية الثانية: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الفعل يحب دلَّ على صفة المحبة، ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ولاحظ كيف أن الله -عز وجل- ذكر من الأشخاص الذين يحبهم، والأفعال التي يحبها، ولهذا فالمسلم وهو يتدبر هذه الآيات وهذه الصفات، يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بكل عمل يحبه، فيحسن في عبادته لله، ويحسن إلى عباد الله؛ لأن الله يحب المحسنين.
وكذلك يعدل في أقواله، وأفعاله، وفي أحكامه؛ لأن الله يحب الْمُقْسِطِينَ، وكذلك يتقي ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.
وهكذا كل عمل يحبه الله فتتقرب إلى الله تبارك وتعال به لكي تنال هذا الفضل العظيم، وهذه المنزلة العظيمة، وهي أن الله يحبك، وإذا أحبك الله وفقك لكل خير.
لاحظوا في الحديث الذي رواه مسلم أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ» وهكذا.
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ فاتباع الرسول ﷺ والتأسي سنته أيضا من الأسباب الجالبة لمحبَّة الله.
﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ محبَّة المؤمنين لربهم من الأعمال القلبية، وهو روح العبادة، ومن ثمراتها: أن الله -عز وجل- يحبهم، فهو يحبهم ويحبونه، وعلى قدر هذه تكون هذه، على قدر محبة المؤمن لربه، تكون محبة الرب لعبده.
وأمَّا الآية الأخيرة وهي قوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ ففيها إثبات اسم الغفور، الذي تضمن صفة المغفرة، وإثبات اسمه الودود، والود من صفات الرب تبارك تعالى، وهو خالص المحبة.
والودود له معنيان: الودود بمعنى أنه واد ومودود، بمعنى أنه يحب عباده المؤمنين، وهم يحبونه؛ لأن الود هو خالص المحبة.
أهل البدع أنكروا هذه الصفات، وأنكروا ما دلت عليه، وكانت الصفة المحبة من الصفات التي أنكرها رأس المعطلة "الجعد بن درهم" وتلميذه "الجهم"، فأنكروا صفة المحبة، وصفة الكلام للرب تبارك وتعالى.
ثم جاء بعدهم المعطلة فأولوا هذه الصفات بأنها إرادة الثواب. نقول: الثواب وإرادة الثواب هي ثمرات المحبة، وأما محبة الرب تبارك وتعالى فهي صفة تليق به تبارك وتعالى.
أنت عندك اختلاف في النسخة؟
الآية: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ ليست موجودة لديك، ولكنها موجودة عندي.
قوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ هذه ستأتي في الآيات في صفة الرضا، ونحن في آيات المحبة والمودة.
قوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ فيها إثبات صفة الرضا للرب تبارك وتعالى، فالفعل (رضي) يدل على صفة الرضا، والرضوان، أو الرضوان، لغتان فيها، وكذلك يقال في هذه الصفة كما يقال في صفة المحبة، فالله -تبارك وتعالى- يرضى عن العمل، وثمة أسباب ينال بها المؤمن رضوان الله تبارك وتعالى، جاء في الحديث: «إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها»[2].
انظر كيف تنال أيها المؤمن رضوان الله بهذا العمل اليسير، أنك تأكل الأكلة فتقول: الحمد لله، وتشرب الشربة فتقول: الحمد لله، والإمام أحمد -رحمه الله- مع كل لقمة يقول معها: الحمد لله، ففهم أن الأكلة هي اللقمة، ولذلك مع كل لقمة يقول: الحمد لله، وكل هذا للحرص على نيل هذه المنزل العظيمة، وهي: رضوان الله تبارك وتعالى.
كذلك أهل البدع أولو هذه الصفة بأن الرضا هو الثواب، فيقولون: رضي الله عنهم يعني: أثابهم، أو يقولون: رضي الله عنهم يعني: أنه تبارك وتعالى يريد أن يثيبهم، وفسروا "أن الله لا يرضى عنه" يعني: أنه لا يثيبه.
نقول: هذه الأمور هي لوازم الرضاة، وأما الرضا فهو صفة حقيقية تليق بالرب تبارك تعالى كصفة المحبة وكسائر الصفات.
{قال المؤلف -رحمه الله-: وَقَوْلُهُ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ [الفاتحة:1]، وقوله: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر:7].
وقوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:43]، وقوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء﴾ [الأعراف:156]، وقوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام:54]، وقوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس:107]، ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف:64])}.
هذه الآيات التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- كلها تدل على إثبات صفة الرحمة للربِّ تبارك وتعالى، وأما ما يتعلق بالبسملة فقد تحدّثنا عن معناها، وما تضمنته من الأسماء، فهي تضمنت ثلاثة أسماء: الله، والرحمن، والرحيم، وتضمنت صفتين هما: الألوهية، وصفة الرحمة، لأن الرحيم دل على صفة الرحمة، والرحمن دل كذلك على صفة الرحمة، وإن كان بينهما فرق في المعنى، ولهذا -كما تقدم- بأن الأسماء وإن تشابهت إلا أنها لا تتطابق من كل وجه، ففيها إثبات صفة الرحمة التي تليق به -عز وجل-، ويقال فيها ما يقال في صفة المحبة، وصفة الرضا.
وهذه المحبة لها لوازم ولها آثار، لا تفسر بلوازمها وآثارها، بل هي صفة تليق بالرب تبارك وتعالى، لها لوازم ولها آثار، ولها ثمرات.
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ فـ ﴿رَبَّنَا﴾ فيها إثبات صفة الربوبية، ومن أسمائه الرب، والرب هكذا بالتعريف جاء في السنة، «السِّواكُ مَطهَرةٌ للفمِ مَرضاةٌ للرَّبِّ»[3].
وصفة الربوية جاءت في القرآن في مواضع كثيرة، ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ إثبات صفة الرحمة، وإثبات صفة العلم.
﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ كذلك إثبات صفة الرحمة.
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء﴾ دلت هذه الآيات على الصفة مباشرة من غير اشتقاق من الاسم، ومن غير اشتقاق من الفعل.
﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ الفعل "كتب" فيه إثبات صفة الكتابة، والكتابة تنقسم كالإرادة، هناك كتابة كونية قدرية، وهناك الكتابة الشرعية، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، وقوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أيضا إثبات هذه الصفة على نفسه ﴿الرَّحْمَةَ﴾، فهو الذي أوجب على نفسه، وليس العباد هم الذين أوجبوا عليه هذه الصفات والأفعال.
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ أيضا إثبات هذين الاسمين: الغفور، والرحيم، وتضمن اسم "الغفور" صفة المغفرة، و "الرحيم" صفة الرحمة، و "الغفور" معناه: كثير المغفرة التي هي الستر والوقاية، والستر والوقاية مأخوذة من الْمِغْفَر، والمغفر يستر ويقي، فمن أسمائه الغفور، ومن أسمائه كذلك: "الغافر"، ومن أسمائه: "الغفار" وبعضها أبلغ من بعض.
إذن عندنا الغفور، والغافر، "غافر الذنب"، والغفار، والغفور أبلغ من الغافر، والغفار كذلك أبلغ من "الغفور".
﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ إثبات صفة الحفظ، ولذلك جاء في الحديث «احفظ الله يحفظك».
﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ كما تقدم هذا من الأسماء الإضافية، وحفظه -عز وجل- نوعان: هناك حفظ عام لجميع مخلوقاته، وهناك حفظ خاص لأوليائه المؤمنين.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وقوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ [النساء:93]، وَقَولُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾ [محمد:28]، وَقَولُهُ: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف:55]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَـكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ [التوبة:46]، وَقَوْلُهُ: ﴿كَبُرَ مقْتًا عندَ اللَّهِ َأن تقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3])}.
هذه الآيات دلت على إثبات صفة الغضب، وصفة الكراهية، والسخط للرب تبارك وتعالى على الوجه الذي يلق به.
في الآية الأولى يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ الفعل "غضب" دل على صفة الغضب لله تبارك وتعالى على الوجه الذي يليق به، وهذه الصفة أيضا كما يقال في الصفات السابقة: تتفاضل، فغضبه على المسلم العاصي ليس كغضبه على الكافر، فالغضب يتفاوض.
الآية التي بعدها: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾ فيها إِثْبَاتُ السخط، يُقَالُ: السُّخْط والسَّخْط لُغَتَانٍ، وهو: شدَّة الغضب، ولهذا لاحظ السُّخْط ليس مُرادفا للغضب من كل وجه، بل بينهما اختلاف في قوة المعنى، فالسُّخْط هو شدَّة الغضب.
الآية الثالثة: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ إثبات صفتين، صفة الأسف، وإثبات صفة الانتقام على الوجه الذي يليق بالرب تبارك وتعالى، وبهذا يُرد على الذين يفسرون الصفات بمعنى آخر، فيقول: الأسف معناه كذا، ونقول: لا، الأسف يختلف عن الانتقام، ولهذا الانتقام هو نتيجة الأسف، ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا﴾ فالأسف هو شدة الغضب، يعني أغضبونا وأسخطونا، فإذن بين الأسف والانتقام مُغايرة؛ لأن الانتقام هو نتيجة الأسف، وهذا فيه رد على المعطلة الذين يفسرون بعض الصفات في البعض، فيقولون: آسفونا يعني: انتقمنا منهم.
نقول: الانتقام هو نتيجة الأسف وليس هو الأسف، فهذا التفسير تفسير باطل، وتحريف للكلم عن مواضعه.
الآية التي بعدها، قال تعالى: ﴿وَلَـكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ الفعل "كره" دلَّ على صفة الكراهية والكره، وهما لغتان، قالوا: الكراهية والكره، كره، فدلّ على هذه الصفة، ﴿وَلَـكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ أيضا إثبات صفة التثبيط، يعني: جعل هممهم قاصرة.
في الآية التي بعدها: ﴿كَبُرَ مقْتًا عندَ اللَّهِ َأن تقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ فيها إثبات صفة المقت، وهل المقت هو مرادف للغضب؟ نقول: لا، المقت هو أشد أنواع الغضب، فهذه الصفات هي متقاربة، ولكن بينها تفاوت من حيث القوة والشدة والخفة، وإن كانت متقاربة، الأسف والانتقام والمقت والغضب، إلا أن بينها تفاوت، فلا يقال: إنها مترادفة من كل وجه؛ لأنها تتفاوت في قوة وشدّة الغضب وشدّة المقت، فتثبت هذه الصفات لله على الوجه الذي يليق به تبارك وتعالى كسائر صفاته.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وقَولُهُ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ [البقرة: 210]، وقَولُهُ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ َربِّكَ﴾ [الأنعام:158]، وقَولُهُ: ﴿كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر:21-22]، وقَولُهُ: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً﴾ [الفرقان:25])}.
هذه الآيات الأربع في إثبات صفة المجيء وصفة الإتيان للرب تبارك وتعالى، والسؤال: هل بين المجيء والإتيان فرق؟
الجواب: نعم، لأن المجيء هو مجرد ورود، وأما الإتيان، فإنه مجيء وإيراد بقوة، فالصفتان غير مترادفتان من كل وجه، وإن كانت متقاربة، وهذا الملحظ ينبغي أن يلاحظ في تنوع الصفات، فلا يقال: إن صفة المجيء مرادفة لصفة الإتيان من كل وجه، بل نقول: بينهما تقارب في المعنى إلا أنهما يختلفان من حيث أن المجيء هو مجرد مجيء، بينما الإتيان هو مجيء بقوة، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ﴾ الفعل "يأتي" دل على صفة الإتيان، وهذا الإتيان يكون يوم القيامة ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾.
الآية التي بعدها: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ لاحظ كيف أنَّ الله -عز وجل- وصف نفسه بصفات وَصَفَ بعض خلقه بنفس الصفات، هل يقال التماثل؟ لا. فالله وصف نفسه بصفات ووصف بعض مخلوقاته بنفس الصفات، ولكن بينهما فرق. فصفات الخالق تليق به، وصفات المخلوق تليق به.
وسمى نفسه بأسماء، وسمى بعض مخلوقاته بنفس الأسماء، ونقول: أسماء المخلوق تليق به، وأسماء الخالق تليق به، ولهذا لاحظوا في هذه الآية: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ﴾ إذن الإتيان هنا يتعلق بمخلوق وهم الملائكة، ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ ففيه إثبات صفة الإتيان.
والآية التي بعدها: ﴿كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ﴾ إِذَنْ إِثْبَاتُ صِفَة المجيء، والمجيء هنا مضاف إلى الرب، يأتي المعطلة ويقولون: الذي جاء ليس هو الرب، ثم يتكلفون في تحريف الآيات من غير دليل، ومن غير قرينة! نقول: الرب تبارك وتعالى أعلم بنفسه، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا، وقد قال في كتابه: ﴿وجاء ربك﴾ فنحن نثبت للرب تبارك وتعالى هذه الصفة على الوجه الذي يليق به تبارك وتعالى.
{قال المؤلف -رحمه الله-: وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:27]، وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص:88])}.
هاتان الآيتان في إثبات صفة الوجه، وصفة الوجه من الصفات الذاتية للرب تبارك وتعالى، بينما الصفات التي قبلها من الصفات الفعلية، فالإتيان والمجيء من الصفات الفعلية، وهكذا ما قبل: الغضب والأسف، كلها صفات فعلية، وأما الوجه فهو من الصفات الذاتية، ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ إذن الآية تدل على إثبات صفة الوجه للرب تبارك وتعالى على الوجه الذي يليق به، فنثبت للرب تبارك وتعالى هذه الصفة، كما جاءت في هذه الآيات، وكما جاء في السنة على الوجه الذي يليق بالرب تبارك وتعالى.
حرف أهل البدع صفة الوجه هنا بالذات أو قالوا بالثواب، ونقول: هذه كلها تأويلات فاسدة خلاف ما دلت عليه النصوص، هذا الوجه موصوف بصفة الجلال وصفة الإكرام، لأنه قال: ﴿ذو﴾ وذو هنا صفة للوجه؛ لأن الوجه هو المرفوع، فتكون هي صفة للوجه بخلاف آخر صورة الرحمن ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ بينما هنا الصفة هي صفة للوجه.
والجلال معناه: العظمة والكبرياء، والإكرام معناه: المُكرِم لعباده المؤمنين، فدلت هذه الآية إذن على إثبات صفة الوجه على الوجه الذي يليق به، لا يماثل صفات المخلوقين.
ودلت أيضا على أن هذا الوجه موصوفٌ بصفة الجلال، وموصوفٌ بصفة الإكرام، ذو الجلال في صفات الرب تبارك وتعالى، عموماً يعني أنه المستحق لأن يُجل، والإكرام يعني المستحق لأن يُكرم، فالإجلال يتضمن التعظيم، والإكرام يتضمن الحمد والمحبة، فهو سبحانه وتعالى يُكرِم ومُكرَم، فهو -عز وجل- مُكرِمٌ لعباده، وكذلك هو مُكرَمٌ يستحق الإجلال والتعظيم سبحانه وتعالى.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص:75]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان ِيُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ [المائدة:64])}.
هاتان الآيتان في إثبات صفة اليدين للرب تبارك وتعالى، وهي أيضا من الصفات الذاتية التي تُثبت للرب تبارك وتعالى على الوجه الذي يليق به، كما دلَّ عليه كتاب الله، ودلَّت عليه سنة النبي ﷺ، قال تعالى في قصة آدم: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، وهذه من خصائص آدم عليه السلام، أن الله -عز وجل- خلقه بيدي، فهو إثبات لصفة الأيدي.
لاحظ (بيدي) جمع في الآية التي بعدها، ﴿وقالت اليهود يَدُ اللَّهِ﴾ هذا مفرد، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ﴾ هذه تثنية، ﴿مَبْسُوطَتَان﴾ الجمع بين الجمع والإفراد والتثنية نقول: الجمع على سبيل التعظيم، والإفراد لا يمنع من الجمع؛ لأن الإفراد اسم جنس، وأقل الجمع اثنان، فدل على أنهما يدان تليقان بالرب تبارك وتعالى، كما جاء في الأحاديث. هذا هو وجه الجمع، فلا إشكال إذاً بين الإفراد والتثنية والجمع، ويجمع بينها بهذه الطريقة، بأن الإفراد لاسم الجنس، والجمع لا ينافي التثنية، فمنهم من يقول: أقل الجمع اثنان، ودلّت الأحاديث على أنهما يدان تليقان بالربّ تبارك وتعالى.
المبتدعة المعطلة كيف فسّروا اليد؟
فسّروها بالنعمة، فنقول: هل الله -عز وجل- خلق آدم بنعمة؟ قالوا: لا. بل هي القوة. نقول: وهل حينئذ لآدم خصوصية؟ فدلّ على أنها يد تليق بالربّ تبارك وتعالى؛ لأن الله أضافها له.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَقَولُهُ: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]، وَقَولُهُ: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر:13-14]، وَقَولُهُ: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39])}.
هذه الآيات الثلاث في إثبات صفة العينين للرب تبارك وتعالى، وقلنا: صفة العينين؛ لأن السنة دلت على أنهما عينان كما جاء في خبر الدجال.
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ هذا فيه إثبات صفة الأعين، ولها لوازم، يعني: بعض المفسرين يقول: بمرأى منا، نقول: هذه لوازم، ولكن الأصل هو إثبات الصفة، ومن لوازمها ما ذكره بعض المفسرين بالحفظ. ونقول هي اللوازم والثمرات.
الآية التي بعدها: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ فيها إثبات صفة الأعين.
الآية الثالثة: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ الفعل "ألقيت" يدل على إثبات صفة الإلقاء.
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ فهذه الأدلة تدل على إثبات صفة الأعين، وقد جاءت في السنة بالتثنية، فتثبت الله تبارك وتعالى هذه الصفات على الوجه الذي يليق به، كما نثبت له صفة اليدين، ونثبت له صفة الوجه، كذلك تُثبت له هذه الصفات الذاتية على الوجه الذي يليق به؛ لأنَّ الله -عز وجل- أعلم بنفسه، وكذا رسوله ﷺ أعلم بربه، وكلام الله وكلام رسوله لا يُقدم عليه كلام هؤلاء المُحرفة المُعطلة.
لعلنا نكتفي بهذا.
{أحسن الله إليك شيخنا، وجزاكم عنا خير الجزاء على ما قدمتم وأفدتم.
وإلى هنا نصل إلى ختام هذه الحلقة. شكر الله لكم حسن استماعكم، ونلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] رواه البخاري (6502).
[2] رواه مسلم (2734).
[3] أخرجه النسائي (5)، وأبو يعلى (4569 )، وابن خزيمة (135 )، وعلقه البخاري في ((باب سواك الرطب واليابس للصائم)).