{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا عن النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم)، نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح كتاب (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ سهل بن رفاع العتيبي، باسمي واسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حيّاكم الله، وحيّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لِما يحب ربنا ويرضى.
{نستأذنكم في البدء فضيلة الشيخ}.
نعم، استعن بالله.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
وَطَاعَةَ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلّي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلى كل من صلَّى وسلَّم عليه، أما بعد، فهذا هو الموضوع الخامس في (العقيدة الواسطية)، حيث سبق موضوع الأسماء والصفات، وأطال المصنف في هذا الموضوع، ثم موضوع الإيمان باليوم الآخر، ثم موضوع القدر، ثم موضوع الإيمان، وهذا هو الموضوع الخامس من الموضوعات الرئيسة في هذا الكتاب، وهو من الموضوعات المهمة، التي تُميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل الأهواء، خاصة من: الخوارج، والنواصب والروافض، الذين يسبون الصحابة -رضوان الله تعالى- على صحابة رسول الله ﷺ أجمعين.
ولهذا لا تكاد تجد مصنفًا من المصنفات الحديثية إلا ويفرد مؤلفه كتابًا يتعلق بفضائل الصحابة ومناقبهم، بل يُفرد أهل العلم مصنفات خاصة كما صنع الإمام أحمد -رحمه الله- فألف مؤلفاً خاصاً في فضائل الصحابة، وهكذا أهل العلم أفردوا هذا الباب المهم من أبواب الاعتقاد في مصنفات خاصة، أو في كتب خاصة، أو في أبواب خاصة.
والسبب الذي حملهم على ذلك الأدلة الكثيرة التي جاءت في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، في بيان مناقب الصحابة وفضائلهم -رضوان الله تعالى عليهم-.
ولهذا قال الإمام الطحاوي في كتابه (العقيدة الطحاوية) مُبينًا عقيدة أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله ﷺ، قال: (ونحب أصحاب رسول الله ﷺ، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، وحبهم دين وإيمان وإحسان)، حبهم أي: الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، (وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان)، والذي حملهم على ذلك -كما تقدم- الأدلة المتواترة والمستفيدة في بيان حب الصحابة.
بل إنَّ حب الصحابة هو من حب رسول الله ﷺ، وحب الرسول ﷺ هو من حب الله، فثمة تلازم بين محبة الله ومحبة رسوله ﷺ ومحبة الصحابة، ولهذا لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق، وإذا كان هذا في الأنصار فكذلك في المهاجرين، وهكذا في عموم الصحابة، فحبهم دين؛ لأنه من لوازم محبة الله -تبارك وتعالى-، ومن محبة الله أن تحب مَن يُحب، ومَا يُحب من الأشخاص والأزمنة والأمكنة.
والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- قد أحبهم النبي ﷺ، وقد نهى عن سبهم، ونهى عن لعنهم، ولهذا يقول أهل العلم -رحمهم الله-: سبُّ الصحابة والطعن فيهم عموما هو طعن في الله، وطعن في دين الله، وطعن في كتاب الله، وطعن في رسول الله ﷺ، وطعن في ذوات الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-.
طعن في الله لماذا؟ لأن الله -عز وجل- قد رضي عنهم في كتابه، وقد أثنى عليهم في كتابه في مواضع عديدة، بيّن الله -عز وجل- أنه قد رضي عنهم، فلذلك من سبّهم، وسبَّ أمهات المؤمنين، وسبَّ عموم الصحابة، فإنه قد طعن في ثناء الله تعالى عليهم.
وهو طعن كذلك في كتاب الله، فإن هذا الثناء جاء في كتاب الله، وهم حملة الكتاب وهم رواته، ولهذا كان الطعن فيهم طعنٌ في الكتاب، وطعنٌ في الدين.
من الذي حمل الدين للأمة؟ من الذي رواه؟ الصحابة -رضي الله تعالى عليهم-، فمن طعن فيهم فقد طعن في دين الله.
انظر على سبيل المثال إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقد روت أكثر من أربعة آلاف حديث، فمن طعن في عائشة -رضي الله عنها- فقد طعن في أكثر من أربعة آلاف حديث.
أبو هريرة -رضي الله عنه- راوية الأمة، وحافظ الأمة، قد روى أكثر من خمسة آلاف حديث، فمن طعن في أبي هريرة فقد طعن في خمسة آلاف حديث، فالطعن فيهم طعن في دين الله؛ لأنهم هم حملة الدين وهم رواته.
وكذلك هو طعن في رسول الله ﷺ؛ لأنهم صحابته، وقد أحبهم ورضي عنهم، وقد نهى عن سبهم، فمن سبَّهم فقد طعن في رسول الله ﷺ، وهو كذلك طعنٌ في ذوات الصحابة؛ لأنه طعن في خيار المؤمنين.
وإذا كان المسلم منهي عن سب المؤمن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ هذا في عموم المؤمنين، فكيف بخيار وسادات المؤمنين؟ بل كيف بسادات الخلق بعد الأنبياء؟!
إذن لهم من المكانة والمنزلة ما لهم، مما دل عليه الكتاب والسنة، ولهذا ميَّزَ أهل السنة والجماعة هذا الأصل بمؤلفات وكتب خاصة، وذكروه في كتب العقائد المطولة، وفي كتب العقائد المختصرة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية هنا في (العقيدة الواسطية) التي تميز أهل السنة والجماعة وغيرهم ذكر هذا الأصل، فقال: (وَمِنْ أُصُولِ)، وقد تقدم أن (مِن) تبعيضية، يعني: من الأصول التي تميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل الأهواء والابتداع والافتراق.
(وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) وكما تقدم هذا هو أخص وصف يميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم وصفهم بالسُّنة؛ لأنهم يلتزمون السنة، ويُعنون بها رواية ودراية، وهم أهل الاجتماع، لم يتفرقوا ولم يخالفوا ما كان عليه الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- وما كان عليه التابعون، وما كان عليه أئمة الدين، وأئمة الفقه، وأئمة الحديث، فَهُم أهل جماعة، بخلاف من جاء بعدهم، فانه قد خالف جماعة المسلمين.
(وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ)، وهذا هو النص الموجود في النسخة التي معي، وأنت قرأت في النسخة التي معك فقلت: (لأصحاب محمد ﷺ)، والصحيح: (لأصحاب رسول ﷺ)، لأنه كلما لُقِّبَ الرسول ﷺ بوصف الرسالة والنبوة، فانه أبلغ في الثناء، وهكذا في المقطع الذي بعده، (وطاعة لرسول الله ﷺ)، والرسول ﷺ، إذا ذكر فإنه يُذكر بما وصفه الله به من الرسالة والنبوة؛ تعظيما له ﷺ.
قال: (سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ) لاحظوا -أيها الإخوة الكرام- أنه نصَّ على سلامة القلوب وسلامة الألسنة، ولكن السؤال: سلامة القلوب من ماذا؟ وسلامة الألسن من ماذا؟
سلامة القلوب من البغض للصحابة، ومن الحقد، ومن الكراهية، ومن الشحناء، فقلوبهم سليمة، وهذا هو الأصل في قلب المؤمن لإخوانه المؤمنين، فكيف بخيار المؤمنين؟! والنبي ﷺ يقول كما جاء في الصحيحين: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، وفي صحيح مسلم: «لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا» ، هذا في عموم المؤمنين. وفي صحيح مسلم يقول ﷺ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ»، فإذا كان هذا في عموم المؤمنين وفي حقوق المؤمنين عمومًا، فكيف بخيارهم؟!
فأهل السنة والجماعة قد سلمت قلوبهم من الحقد والبغضاء والشحناء والكراهة لأصحاب رسول الله ﷺ.
قال: (وَأَلْسِنَتِهِمْ) أيضا سلمت الألسن من السب، والشتم، والطعن في صحابة رسول الله ﷺ.
طيب إذا سلمت القلوب من هذه الآفات، وسلمت الألسنة من هذه الآفات، فهي مليئة بماذا؟ فهي مليئة بالحب والتقدير والإجلال لصحابة رسول الله ﷺ.
وكذلك إذا سلمت الألسنة من آفات السب واللعن والشتم، فهي مليئة بالترضي والترحم ونشر الفضائل ونشر المناقب، ولهذا يستطيع الانسان أن يميز بين العالم من أهل السنة ومن أهل الأهواء، فإذا كان هو يترضى عن الصحابة، ويترحم عليهم، وينشر فضائلهم، فهذا دليل على أنه من أهل السنة.
وأمَّا إذا كان يسب الصحابة ويطعن فيهم، يطعن في أمهات المؤمنين، يطعن في خيار المؤمنين، فهذا دليل على أنه من أهل النفاق والأهواء والافتراق.
قال: (سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ) وبينا أنها سليمة من هذه الآفات، (وَأَلْسِنَتِهِمْ) أنها أيضا سليمة من هذه الآفات والمفهوم المخالف أنها مليئة بالحب والتقدير والثناء، ونشر المناقب والفضائل لصحابة رسول الله ﷺ.
لماذا أهل السنة والجماعة سلمت قلوبهم وسلمت ألسنتهم من هذه الآفات، وهي مليئة بالحب والتقدير والثناء؟! قال: (كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلهِ تَعَالَى) يعني: هذا وصف لأهل السنة، يعني: أن هذا المعتقد عندهم مبني على أدلة من الكتاب والسنة، فالضمير في (كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ) يعود على أهل السنة والجماعة، كيف وصفهم الله في هذه الآية من سورة الحشر؟ وجه للاستدلال أن الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة لَمَّا أثنى على المهاجرين، وقدم المهاجرين لأنهم أفضل، ثم أثنى بعد ذلك على الأنصار، ثم قال في الآية التي بعدها: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ يعني: من التابعين، ولننظر هذه الأوصاف تنطبق على من؟
لَمَّا أثنى الله على المهاجرين، ثم أثنى على الأنصار فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ يعني: جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار، وهم: التابعون ومن بعدهم.
قال: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ فوصف الله -تبارك وتعالى- الذين جاءوا من بعدهم بهذه الصفات الأربع، وليتأمل الإخوة الكرام في تدبُّر هذه الآية.
الوصف الأول: أنه قال في وصفهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا﴾ فاعترفوا بالإخوة، فهذا الوصف هل ينطبق على الخوارج؟ لا ينطبق. هل ينطبق على الروافض والسبئية والنواصب؟ لا ينطبق؛ لأنهم لا يعترفون بإخوتهم لعموم الصحابة أو لبعض الصحابة. بينما ينطبق على من؟ على أهل السنة.
إذن هذا الثناء في كتاب الله، ثناء على أهل السنة والجماعة، وينطبق هذا على التابعين ومن بعدهم.
ثم جاء في الوصف الثاني أنهم سألوا الله -تبارك وتعالى- المغفرة لهم، بمعنى أنهم يستغفرون لصحابة النبي ﷺ عموما، وهذا الوصف لا ينطبق إلا على أهل السنة.
ثم الوصف الثالث: أنهم اعترفوا بالسبق، ﴿الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾.
والوصف الرابع: سألوا الله تعالى أن لا يجعل في قلوبهم غلا للذين آمنوا، والسياق هنا في الثناء على المهاجرين ثم الأنصار، ثم الذين جاءوا من بعدهم بإحسان ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، وكما تقدم هذا في آيات الصفات، التوسل بأسماء الله وصفاته، هذا هو التوسل المشروع، يقولون: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهذا هو سلامة القلوب ﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، وهذا من التوسل بأسماء الله وصفاته.
إذن الآية فيها دليل على وجوب محبة الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- عموما، وعلى وجوب موالاتهم والاستغفار لهم. لِمَا لهم من الفضل، ولِمَا لهم من المواقف المشهودة في نصرة الدين، ونصرة الرسول ﷺ، وهم حملة الدين وهم رواته.
إذن هذا هو الدليل الأول لهذا المعتقد لأهل السنة والجماعة، في سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ﷺ. هذا هو الدليل الأول من كتاب الله.
ذكر دليلاً واحدًا، ثم ذكر دليلا من السنة، وهذا هو الدليل الثاني لهذا المعتقد، أيضا أنهم اتصفوا بهذه الصفات، طاعة لرسول الله ﷺ، وهذه هي النسخة الصحيحة.
قال: (وطاعة لرسول الله ﷺ) في قوله ﷺ في الحديث المتفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، قال: («لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ»)، وقوله: «لاَ تَسُبُّوا» نهي، والنهي يفيد التحريم، ولهذا نقول: إنَّ سب الصحابة محرم فكيف بلعنهم؟ لعنهم أشد تحريما.
إذن الحديث صريح في النهي عن سب الصحابة، والأصل في النهي التحريم، وهذا يشمل جميع صور السب، سواء كان بالتصريح أو بالتلميح، وسواء كان لعموم الصحابة أو لأعيان الصحابة، ويدخل في هذا كل الصحابة عموما، بما في ذلك أمهات المؤمنين، بما في ذلك الخلفاء الأربعة، بما في ذلك جميع طبقات الصحابة عموما، وإن كان الحديث ورد في قضية خاصة، إلا أن أهل العلم يقولون: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وإن جاء هو في قضية في خلاف كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- إلا أنّ العبرة -كما هو معلوم- في قواعد التفسير وقواعد الاستدلال: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
وقوله: («لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي») هذا يشمل عموم الصحابة، ومن ثم استدلَّ أهل العلم بهذا الحديث على تفضيل كل واحد من الصحابة على من بعده، ثمة إجماع على تفضيل عموم الصحابة على من بعدهم، فطبقة الصحابة أفضل ممن بعدهم بالإجماع، ولكن هل يفضل كل واحد من الصحابة يفضل عن كل من جاء بعدهم.
نقول: هذا الحديث دليل على من فضل أحد الصحابة على من بعدهم، وفيه إشارة أيضا إلى أن مناط التفضيل بما في القلوب لا بكثرة الأعمال الظاهرة، ففضل الأعمال وثوابها ليس بكثرتها، وإنما بما وقر في القلوب من حقائق الإيمان، من الصدق والإخلاص، وما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب، ووجه ذلك أن النبي ﷺ قال: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا»، والإخوة الكرام يعرفون جبل أحد الموجود في المدينة، انظروا كم طوله وكم عرض من الكيلومترات؟
لو أنفق مثل هذا الجبل ذهبًا ما بلغ المد، وهذا هو المد -ملء كفي الرجل- أي: ربع الصاع، بل ولا نصف المد. فقارنوا بين من ينفق مثل جبل أحد ذهبًا، وبين من ينفق نصف المد، ما يبلغ ذلك.
فهذا دليل على أن ثواب الأعمال ليس بكثرتها الظاهرة، بحيث أنه ما يأتي شخص ويعمل مقارنة مثلاً بين إمام من أئمة الحديث، أو إمام من أئمة الفقه وصحابي لم يرو إلا حديثاً واحداً، نقول: هذا الصحابي أفضل، فلا عبرة بكثرة الأعمال، وإنما العبرة بما وقر في القلوب من حقائق الإيمان من الصدق والإخلاص، وهذا لا يعلمه إلا الله.
ودليل ذلك هذا الحديث؛ «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ»، ولهذا "رُبَّ درهم سبق مئة ألف درهم"، وليُعنى المسلم بالصدق والإخلاص في العبادات أكثر من عنايته بكثرتها، كما جاء في هذا الحديث.
إذن هذا هو دليل أهل السنة والجماعة من الكتاب، ودليلهم من السنة على هذا المعتقد في صحابة رسول الله ﷺ، والأدلة في هذا كثيرة جدا من الكتاب ومن السنة في بيان مناقب وفضائل الصحابة، إلا أن هذا المتن المختصر، ولهذا المصنف -رحمه الله- أشار إلى تمييز أهل السنة والجماعة، ثم ذكر دليلاً من الكتاب، ثم دليلاً من السنة، وهذه هي مصادر الاعتقاد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ.
وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ -وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ- وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ. وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ. وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ -وَكَانُوا ثَلاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَر-: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُم. فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ ماِئَة)}.
المصنف -رحمه الله- بعد أنَّ بين معتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة عموماً، وذكر الدليل من الكتاب والسنة؛ انتقل إلى مسألة أخرى، وهي: هل الصحابة مراتب في الفضل أم لا؟ بينا حقوق الصحابة على الأمة، وهي: المحبة، والتقدير، والترحم، والترضي، والاستغفار، وذكرنا دليل هذا المعتقد، وهنا انتقل إلى مسألة أخرى، وهي: هل الصحابة مراتب في الفضل؟
الجواب: نعم، ولهذا عُني أهل السنة بطبقات الصحابة، وفضائل الصحابة، ومناقب الصحابة، فهم مراتب في الفضل.
قال: (وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ) عندك "أو"، والصواب بدون "أو"، وإنما هذه مصادر العقيدة التي كررها المصنّف في الكتاب في مواضع عديدة، ربما هذا هو الموضوع الرابع الذي يكرّر فيه مصادر العقيدة -الكتاب والسنة والإجماع- إجماع من؟ إجماع الصحابة وليس من جاء بعدهم من أهل الأهواء والافتراق، فهذه الفضائل وهذه المراتب وهذه المناقب جاءت بالإجماع، (وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ).
إذن هذا التفضيل بين الصحابة دل عليه الكتاب، وكذلك دلت السنة والإجماع.
(مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ) إمَّا على جهة العموم في طبقاتهم، مثل: تفضيل المهاجرين، ثم الأنصار، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم الذين أسلموا وهاجروا قبل الفتح، ثم من أسلم بعد الفتح -بعد صلح الحديبية- وهكذا في طبقاتهم.
وكل هذه الفضائل وهذه المناقب وهذه المراتب، جاءت في الكتاب والسنة والإجماع، على سبيل المثال: لم يذكر الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار إلا وقَدَّمَ المهاجرين على الأنصار، وتأملوا ذلك في الآيات التي جاءت في الترضي في سورة التوبة، وفي سورة الحشر، وفي مواضع عديدة ما يذكر الله تعالى المهاجرين والأنصار إلا ويقدم المهاجرين على الأنصار.
ولذا بعد هذا التقعيد ذكر الأمثلة على هذه المراتب وهذه الطبقات، وقد أوصلهم ابن سعد في الطبقات إلى ثنتي عشرة طبقة.
قال: (وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ -وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ- وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ) ودليل هذا التفضيل ما جاء في سورة الحديد في قوله -تبارك وتعالى-: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾، فهم يفضلون الذين أسلموا وهاجروا وأنفقوا قبل الفتح، وسمى الله -تبارك وتعالى- صلح الحديبية فتحًا؛ لأنه كان بداية الفتح لمكة.
وبعض أهل العلم يقول: المقصود بالفتح هنا هو فتح مكة، ثمة قولان هنا لأهل التفسير، والمصنف -رحمه الله- مال إلى أنَّ المقصود بالفتح هنا هو صلح الحديبية، فهم يفضلون من أنفق من قبل الفتح كما جاء في الآية، وهذا التفضيل دليله قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ إذا لا يستوون بل هم مراتب، وأهل السنة والجماعة بنوا هذا التفضيل على ما جاء في الكتاب؟
قال: (وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ) طيب ما دليل هذا التفضيل؟ ما دليل تفضيل المهاجرين على الأنصار؟ أن الله -تبارك وتعالى- ما ذكر المهاجرين والأنصار في كتابه إلا وقدم المهاجرين، ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبدا، فهذا أيضا دليلهم على تفضيل المهاجرين على الأنصار. هذا من جهة الدليل.
ومن جهة التعليل: أنَّ المهاجرين جمعوا بين الإيمان والهجرة والنصرة، بينما الأنصار جمعوا بين الإيمان والنصرة، فزاد المهاجرون على الأنصار، هذا من جهة التعليل.
ومن جهة الدليل: أن الله -تبارك وتعالى- ما ذكر في كتابه المهاجرين والأنصار إلا وقدم المهاجرين على الأنصار، وإذا دليل التفضيل.
قال: (وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ -وَكَانُوا ثَلاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَر-: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ») كما جاء في الصحيحين، (وَيُؤْمِنُونَ) يعني: يعتقدون اعتقادا جازما، وهذا الاعتقاد مبني على الدليل.
إذن هذا الاعتقاد في تفضيل أهل بدر على من بعدهم، قول النبي ﷺ في قصة حاطب: («وما يُدْرِيكَ؟ لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»).
قال أهل العلم في قوله: («فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ») إما أنهم لا يمكن أن يرتدوا أبدا، وهذا بحمد الله واقع، أو لو قدر أنه وقع أحدهم في ذنب، فإنه يوفق للتوبة.
هذا معنى قوله: («فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»)، إما أنهم قد حفظهم الله فلن يرتدُّوا عن دينهم أبداً، وهذا بحمد الله واقع، أو لو قُدِّرَ أنَّ أحدهم وقع في ذنب فإنه يُوفَّق للتوبة؛ لأن الله -عز وجل- قال: («اعْمَلُوا مَا شِئْتُم. فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»)، وهذا جاء في القصة المشهورة، في قصة حاطب -رضي الله عنه- وفي ثناء النبي ﷺ بأنه ممن شهد بدرًا.
ولهذا أهل العلم في كتب الصحابة وكتب المناقب يثنون على الصحابي بأنه ممن شهد بدرا، فيقولون: "ممن شهد بدرا" إشارة إلى الفضل، إلى أنهم من البدريين، إشارة إلى فضلهم.
إذن أيضا لاحظ من حيث الطبقات، طبقة الذين أسلموا وهاجروا قبل الفتح، طبقة المهاجرين، طبقة البدريين، هذه الطبقات والمراتب وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، والمقصود بالشجرة: الشجرة التي تم تحتها بيعة الرضوان، ودليل ذلك من القرآن ومن السنة، فمن القرآن قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾، فالترضي جاء في القرآن، والوعد بأنهم لا يدخلون النار جاء في السنة، في قول النبي ﷺ: «لا يَدْخُلُ النارَ أحدٌ ممَن بايعَ تحتَ الشجرةِ». فأهل بيعة الرضوان جاء الترضي عنهم في القرآن، وجاء الوعد بأنهم لا يدخلون النار في حديث النبي ﷺ.
كم كان عددهم؟ لاحظ أنَّ المصنف -رحمه الله- يبين عدد كل طبقة، فبيّن عدد طبقة البدريين، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وبيّن طبقة الذين بايعوا تحت الشجرة فقال: (وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ ماِئَة) هؤلاء قد رضي الله عنهم في كتابه، وقد وعد النبي ﷺ بأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما جاء في صحيح مسلم.
وممن بايع أيضًا النبي ﷺ، أخذ البيعة نيابة عن عثمان؛ لأنَّ البيعة كانت بسبب الإشاعة بمقتل عثمان، ولذا فمن طعنوا في عثمان قالوا: إنه لم يبايع، والنبي ﷺ وضع يده الأخرى وقال: هذه عن عثمان.
إذًا هذا دليلٌ على أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- مراتب وطبقات، والمصنف -رحمه الله- أشار هنا إلى أمثله وإلا فهم من حي الأعيان ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة، وهذا من حيث الأعيان، ولكنهم ذكر هنا المراتب من حيث الطبقات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَالْعَشَرَةِ، وَكثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِّنَ الصَّحَابَةِ)}.
قال: (وَيَشْهَدُونَ) الشهادة هنا، هل هي شهادة وصف أو شهادة عين؟ معلوم أن الشهادة في الجنة إما شهادة وصف، وشهادة الوصف لكل مؤمن صادق، فإنه بوعد الله الصادق يدخل الجنة، فالشهادة بالوصف من حيث الأوصاف، وهذه للعموم.
المقصود هنا بالشهادة هو شهادة الأعيان، وشهادة الأعيان لا تكون إلا بدليل، والشهادة لشخص بعينه لا تكون إلا بدليل، ولذا قال: (وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ) أي شهادة عين شهادة، وعكسها الوصف بالكفر، فهناك وصف عام، وهناك وصف للعين، ووصف العين أخطر؛ لأنه يحتاج إلى تنزيل، وتوفر الشروط، وانتفاء الموانع، فهو من أخطر ما يكون، وأمَّا الوصف العام فهذا جاء في النصوص.
وهكذا عكسه، أي: الشهادة بالجنة، الشهادة بالجنة شهادة وصف وهذا أمره سهل، فنحن نؤمن بأن كل مؤمن صادق في إيمانه فإنه يدخل الجنة، من حيث الوصف، وأما من حيث الأعيان فإنك تحتاج إلى دليل في الشخص بعينه بأنه من أهل الجنة، ولهذا قال: (وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ) والمقصود هنا: شهادة العين لمن شَهِدَ له الرسول ﷺ.
إذن نحن لا نشهد الشخص بعينه، إلا لمن شهد النبي ﷺ له بالجنة.
وممن شهد لهم بالجنة كثير، مثلا: شهد للعشرة بالجنة، وسموا بالعشرة لأنهم جاءوا في حديث واحد، ومنهم: الخلفاء الأربعة، وأشار لهم لشهرة الحديث الذي جاء في وصفهم.
ومن ذلك أيضا: شهادته لبلال بأنه في الجنة، شهادته لخديجة، شهادته لعائشة، ومن ذلك أيضا: شهادته لثابت بن قيس بن شماس.
قال: (وَغَيْرِهِم مِّنَ الصَّحَابَةِ) فمن شهد له النبي ﷺ في الجنة نشهد له مثل: عكاشة بن محصن شهد له النبي ﷺ بأنه ممن يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، فكل صحابي شهد له النبي ﷺ في الجنة بعينه، فنشهد له بالجنة.
إذن هذا أصل من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، أن من ثبت في السنة النبوية أن النبي ﷺ شهد له بالجنة فنشهد له بالجنة، وقد شهد لعائشة، فمن طعن في عائشة -رضي الله عنها- فقد طعن في شهادة النبي ﷺ لها بالجنة، وهكذا يقال في شهادته ﷺ لبقية الصحابة.
هذا إذًا أصل من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهـَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ. وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ.
وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانُ فِي الْبَيْعَةِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ -رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا- بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا.
ولَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ -مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ)}.
هذا الأصل ذكره المصنف -رحمه الله- وأكد عليه؛ لأنه مَيَّزَ أهل السنة عن غيرهم، ومعلوم في كتب العقائد المختصرة أنهم يذكرون ما يميز أهل السنة عن غيرهم، فذكر هذه المسألة الاعتقادية التي هي من مسائل الصحابة لأنه ميزت أهل السنة عن غيرهم، وهي قضية الخلافة ومراتب الخلفاء الأربعة في الفضل.
قال: (ويقرون) يعني: يعتقدون ويؤمنون، ويُقررون ذلك في كتبهم (بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَغَيْرِهِ)، خلافا لمن خالف في ذلك من الروافض الذين يُفضلون عليًا على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخلافًا كذلك للخوارج الذين كفروا عليًا، وكفروا عثمان، وقتلوا الصحابيين الجليلين.
فأهل السنة والجماعة (يُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتِرُ)، ولاحظ هنا أنه يشير إلى الدليل على هذا التفضيل، وأنَّ هذا المعتقد مبنيٌ على دليل متواتر، وهذا التواتر أيضا هو منقول عن علي نفسه، ولهذا لماذا أشار إلى النقل عن علي؟! لأنه هو موضع النزاع بين أهل السنة وبين مخالفيهم من أهل الأهواء، من الروافض، والخوارج، والنواصب.
قال: (وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ) إذن هذا نقل متواترٌ عن علي -رضي الله عنه-، وطبعا لَقَّبَهُ بما هو معروف عند أهل السنة والجماعة: أمير المؤمنين.
(وَغَيْرِهِ) أي: وعن غيره من الصحابة، (مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهـَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ) وهذه الأثار -كما يقول ابن تيمية- في منهاج السنة: «وقد رُوي عن علي من نحو من ثمانين وجهها أنه قال وهو على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر» .
إذًا الآثار متواترة عن علي وعن غيره في أنَّ أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ، كما دلت عليه الآثار، بل جاء في البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: «كُنَّا في زَمَنِ النبيِّ ﷺ لا نَعْدِلُ بأَبِي بَكْرٍ أحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمانَ» .
إذن الآثار تواترت، وكذلك الإجماع أيضا -إجماع الصحابة- ولهذا من طعن في خلافة هؤلاء فقط طعن في إجماع الصحابة، كما قال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: "رأيت المهاجرين والأنصار وأمهات المؤمنين لا يعدلون بعثمان"، ولهذا من طعن فيهم فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وأمهات المؤمنين، كما قال الإمام الدار قطني.
الدليل الآخر قال: (وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانُ فِي الْبَيْعَةِ) كما في القصة المشهورة؛ لأن عمر -رضي الله عنه- جعل الخلافة فيمن بقي من العشرة المبشرين بالجنة، ولم يبق منهم في ذاك الوقت إلا ستة، يكون الخليفة في أحد هؤلاء، وهذه تسمى ولاية العهد، يعني أن يكون الخليفة أحد هؤلاء فقط، فعمر -رضي الله عنه- تولى الخلافة بولاية العهد من أبي بكر، والخليفة بعد عمر أيضًا كان بولاية العهد في أحد هؤلاء الستة.
وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، كما هو مشهور في الأحاديث الكثيرة.
ثم أشار إذا أن ثمة خلاف كان في أول الأمر من جهة الفضل فقط، أيهما أفضل عثمان أم علي؟
فبعض السنة يفضل عليًّا خاصة من جهة النسب؛ لأنه من آل البيت، وبعضهم يفضل عثمان لِمَا جاء في الأحاديث الكثيرة في تفضيل عثمان، ولكن هذا الخلاف في الفضل فقط كان في أول أمر، ثم زاد بالمفاضلة.
يقول:(مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ) يشير إلى أنه ثم خلاف كان في أول الأمر (كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ) يعني من جهة المفاضلة بينهما فقط لا من جهة الخلافة، (بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟) فهو يشير إلى ثمة خلاف، (فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ وَسَكَتُوا) يعني قالوا: أفضل هذه الأمة بعد النبي هو: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وسكتوا. هذا قول، (أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ) وهذا هو المشهور الذي استقر عليه معتقد أهل السنة والجماعة.
(وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا) أي: على عثمان، هذا هو القول الثالث، (وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا)، فأصبحت الأقوال أربعة.
يقول المصنف -رحمه الله-: هذا الخلاف الذي كان في المفاضلة بين علي وعثمان زال، ولكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي.
ولهذا قال ابن كثير: "من قدم علي على عثمان فقد أزرى"، نقله عن غير واحد من السلف، قال: "من قدم علي على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار.
قال ابن كثير معقبًا على هذا: "وهذا الكلام حق وصدق وصحيح ومليح" يعني: يشير إلى كأن ثمة خلاف في المفاضلة فقط لا في الخلافة، ولكن استقر أمر أهل السنة والجماعة على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
ثم أشار إلى أن قضية المفاضلة أمرها يسير، يعني من المسائل التي قد يقع بها خلاف، ولا يضلل المخالف بها.
قال: (وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ -مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ)، يعني: يشير إلى ثمة الخلافة.
(لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ)، أن يطعن في خلافة هؤلاء هذه التي يضلل فيها لاحظوا قضية مفاضلة تفضيل أبي بكر ليس موضوع خلاف تفضيل عمر ليس موضوع خلاف، وإنما الخلاف في الفضل وهي مسألة المفاضلة فقط، إنما التي يضلل فيها هي الطعن في خلافة هؤلاء. ولهذا قال: (لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ) لماذا قال: (وذلك) يعلِّل لماذا مسألة المفاضلة من المسائل التي لا يُضلَّل فيها، إنما التي يُضلَّل فيها الطعن في خلافة هؤلاء قال: (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ) أي: أهل السنة والجماعة (يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَبُو بَكْرٍ، ثم عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ).
قال: (وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ)، أما خلافة أبي بكر فهي ظاهرة لسبقه ولفضله ولتقديم النبي ﷺ له، ومن ثَمَّ قدمه الصحابة، فهموا من تقديم النبي ﷺ أنَّ فيها إشارة إلى الوصية له بالخلافة، ولهذا قدموه بالإجماع.
وخلافة عمر لوصية أبي بكر وعهد أبي بكر إليه، وهذا ما يسمى في الخلافة الإسلامية بولاية العهد، ولم يطعن أحد في ذلك في قضية "ولاية العهد".
وعثمان أيضا لوصية عمر -رضي الله عنه- في أن تكون الخلافة فيما بقي من العشرة، ثم اتفق رأي المهاجرين والأنصار على تقديم عثمان.
وعلي -رضي الله عنه- كان تقديمه ببيعة أهل الحل والعقد والشورى له.
قال: (وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ)، وهذه العبارة قال الإمام أحمد -رحمه الله- ولهذا استخدمها ابن تيمية -رحمه الله-.
قال الإمام أحمد: "من لم يُرَبِّع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله"، واستخدم هذه العبارة لأن مثل هذا بليد، فمن فضل علياً على عثمان فهو أبلد من الحمار لماذا؟ لأنه ثمة إجماع، ثمة نصوص، ثمة آثار كثيرة، وقد خلفها ولا يخالفها إلا أهل الأهواء والضلال والابتداع.
وبهذا يكون المصنف بحمد لله قد انتهى من بيان هذا الأصل المتعلق بهذه المسألة، وهي قضية ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء، فهو أضل من حمار أهله.
ثم سينتقل المصنف بعد ذلك إلى موضوع آخر يتعلق بآل البيت وأمهات المؤمنين، ولعلنا نكتفي بهذا القدر.
{أحسن الله إليكم، شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حُسن متابعتكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.