{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما عن النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين. حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح كتاب (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، يصطحبنا في شرح هذا الكتاب فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، باسمي واسمكم جميعاً نحيي فضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وطلاب هذه الجمعية، وأسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{نستأذنكم في البدء فضيلة الشيخ}.
نعم، استعن بالله.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَيثُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المنيبين التائبين، ونصلي ونسلم على خير خلق الله نبينا محمد ﷺ، الذي ما ترك خيرا إلا دل أمته عليه، ولا شرًا الا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من صلَّى وسلَّم عليه.
أما بعد، فهذا هو الموضوع السابع في هذه العقيدة الموسومة بالعقيدة الوسطية، وبهذا الموضوع يختم المصنف -رحمه الله- هذا الكتاب المبارك، حيث بدأه بموضوع الصفات وأطال في ذلك، وبيّن مُعتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته، وما تميّزوا به عن فرق الضلال، ثم ذكر مُعتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان باليوم الآخر، ثم مُعتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقدر خيره وشره، ثم مُعتقد أهل السنة والجماعة في حقيقة الإيمان وأهل الإيمان، وتفاضل شُعب الإيمان، وتفاضل أهل الإيمان.
ثم ذكر مُعتقد أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله ﷺ عموما، وفي آل بيته خصوصا، وفي أمهات المؤمنين على وجه الخصوص، ثم ذَكَرَ ما يتعلق بمعتقد أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء.
وهذا هو الموضوع السابع في بيان طريقة أهل السنة والجماعة في الأمور العملية.
ويلاحظ الإخوة الكرام أنَّ الموضوعات السابقة هي موضوعات عِلمية، ما يمكن أن تظهر إلا من خلال التعبير عنها، فأمور العقائد، والإيمان بالأسماء والصفات، وما يتعلق بأمور الآخرة، وما يتعلق بأمور القدر، هي أمور اعتقادية قلبية باطنة.
أما هذا الفصل فهو يتعلق بالأوصاف الظاهرة العملية، التي من خلالها تستطيع أن تميز أهل السنة عن غيرهم، وتستطيع أن تميز هل هذا العالِمُ هو من أهل السنة أم من أهل الأهواء؟!
فأصبح هذا الفصل معيارًا من خلاله يستطيع المسلم وطالب العلم أن يميز أهل السنة عن غيرهم، من خلال هذه المظاهر العملية الظاهرة.
ولهذا تلاحظون أنَّ كتب العقائد تختلف عن كتب التوحيد وكتب الإيمان ونحوها. لماذا؟ لأن كتب العقائد أشمل، فيذكرون فيها ما يُميز أهل السنة والجماعة من الناحية العملية، ولهذا قد يذكرون في كتب العقائد -كما تلاحظون في هذا الكتاب، وفي غيره من كتب العقائد وكتب السنة- يذكرون في هذه الكتب بعض الفروع الفقهية يشيرون إليها إشارة. لماذا؟ لأن هذه الفروع تميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم، كما ينصون على المسح على الخفين، والسمع والطاعة للأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا، والحج والجهاد معهم.
وكما ذكر المصنف -رحمه الله- في هذه العقيدة من الصفات العملية والأخلاقية. لماذا؟ لأن هذه الصفات الظاهرة أصبحت سمات تُميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم، ولاحظوا هذا في آخر (العقيدة الطحاوية)، وفي آخر كتاب (لمعة الاعتقاد) في شرح السنة للمزني الشافعي، أو في شرح السنة لابن زمانين المالكي.
ولاحظوا هذا في مقدمة رسالة أبي زيد القيرواني، ولاحظوا هذا أيضًا في أصول السنة للإمام أحمد، ومثلها هذا الكتاب (العقيد الواسطية) فيذكرون الصفات العملية التي تُميز أهل السنة عن غيرهم.
إذن هذا الفصل يتعلق بطريقتهم العملية، وما يتعلق بالصفات الظاهرة، والصفات التي تميزهم في الظاهر عن غيرهم.
قال المصنف -رحمه الله-: (ثُمَّ) أي: عطف على ما سبق، يعني مع ما ذكره من الأصول السابقة.
(ثم من طريقة) و (مِنْ) كما تقدم تبعيضية، ولهذا هو لا يريد أن يأتي بجميع الصفات العملية التي تميز أهل السنة والجماعة، فهذه الصفات هي الدين بأكمله، وتكتب فيها المجلدات، وإنما هو يشير إلى أمثلة وصفات ظاهرة تميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم.
قال: (ثُمَّ مِن) و (من) تبعيضية، (مِن طريقة أهل السنة والجماعة) يعني: مِن منهجهم، ومِن سبيلهم، من طريقة اهل السنة والجماعة، وكما تقدم أنَّ هذا هو أخُّص وصفٍ يوصفون به، والمصنف -رحمه الله- يُكرر هذا الاسم في اول الكتاب، وفي اثناء الكتاب، وبه يختم الكتاب، فأبرز وصفٍ يُميزهم الانتساب للسنة والجماعة.
ثُمَّ من طريقتهم التي تميزهم عن الفرق المنتسبة للإسلام، التي تميزهم عن غيرهم، التي تميز الفرقة الناجية والطائفة المنصورة كما وصفهم النبي ﷺ.
(ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع) يعني: اتباع سلوك الطريق، والسير على منهاجه، واتباع آثار رسول الله ﷺ، يعني: ما أُثِرَ عن النبي ﷺ من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفات أخلاقية، فيتبعون كل ما أُثِرَ عنه ﷺ، وما هو مأثور عنه ﷺ بحمد الله قد عُني أهل السنة والجماعة بالمأثور عن النبي ﷺ رواية ودراية، رواية من حيث الأسانيد، فميزوا الصحيح من الضعيف من الموضوع، ودراية فيما يتعلق بفقه هذه الأحاديث وأحكام هذه الآثار.
(اتباع آثار) يعني: ما أُثِرَ عن النبي ﷺ، والذي جعلهم يتبعون أي يسلكون طريقة النبي ﷺ، وما أُثر عنه، ويسيرون على ذلك لأدلة:
أولاً: لأنَّ الله -عز وجل- أمر بطاعة الرسول ﷺ وبالتأسي به في آياتٍ كثيرة، كقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُم عَنْهُ فانتهوا﴾، ولهذا الإيمان بالقرآن، وبما جاء فيه، إيمان بالسنة ولابد، لهذا التلازم؛ لأن هذه الآية جاءت في كتاب الله، فمن يزعم أنه يؤمن بالقرآن، نقول له: القرآن يأمرك أن تتبع ما جاء به النبي ﷺ، فإذا تركت ما تتبع به النبي ﷺ فأنت لم تتبع القرآن.
وهذا يُرد به على من يسمون أنفسهم بالقرآنيين، أو يزعمون أنهم يستدلون بالقرآن ولا يستدلون بالسنة. نقول: القرآن يُكذب دعواكم تلك.
ومنها قوله -تبارك وتعالى-: ﴿قُلْ إِنْ كُنتُم تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبِكم الله﴾، وكقوله -تبارك وتعالى-: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
ثم أيضا اتباع الرسول ﷺ هو شرط في صحة الأعمال وقبولها -الإخلاص والمتابعة- فلا يُقبل العمل إلا بهذين الشرطين: الإخلاص لله تبارك وتعالى في هذا العمل، ثم أيضا المتابعة للرسول ﷺ.
إذن اتباع الرسول ﷺ شرط في صحة الأعمال وفي قبولها، وأيضًا هو من لوازم شهادة أن محمدًا رسول الله، وهو كذلك من لوازم الإيمان برسوله ﷺ، وهو من لوازم الإيمان بالله، وهو كذلك من لوازم الايمان بالقرآن الكريم.
إذن من طريقة أهل السنة والجماعة: (اتباع آثار رسول الله ﷺ باطنًا وظاهرًا). ماذا قصد المصنف -رحمه الله- بالباطن والظاهر؟ يحتمل احتمالين:
الاحتمال الأول: أنه قصد بالباطن الأعمال القلبية، أعمال القلوب، مثل: الحب، والخوف، والرجاء، والرغبة، والرهبة، والتوكل، والإنابة، ونحوها من أعمال القلوب التي لا حصر لها، فهذه أمور باطنة، فيتبعون ما جاء عن النبي ﷺ في هذه العبادات القلبية، التي هي أصل الدين وأساس الدين، مثل: الإخلاص، التقوى، التوكل، ونحوها من الأمور الباطنة، يعني: العبادات القلبية.
(وظاهرًا) أي: العبادات الظاهرة المتعلقة باللسان والجوارح، في الصلاة مثلا يقول رسولنا ﷺ: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وفي الحج يقول ﷺ: «خذوا عني مناسككم»، وهكذا في كل شيء.
فهذا هو المقصود بالباطن والظاهر، فالباطن: الأعمال القلبية الباطنة، والظاهر يعني: العبادات الظاهرة المتعلقة باللسان أو بالجوارح ونحوها، المتعلقة بالمعاملات، والأخلاق، والتعاملات مع الناس جميعا بشتى طبقاتهم وأصنافهم.
من أهل العلم من قال: الباطن يعني الأمور التي هي غير ظاهرة للناس، مثل: التي يعملها في بيته، مما رواه أمهات المؤمنين، فيما هو يعمله في شؤونه الخاصة في بيته، مع تعاملاته، مع نسائه، مما جاء في روايات أمهات المؤمنين، فهذه أمور باطنة ما يمكن لأحد يعرفها إلا من كان عن قرب، كخدمة النبي ﷺ، أو ما روته أمهات المؤمنين مما يفعله ﷺ في بيته.
والظاهر مما يفعله أمام الناس، فيكون مشاهدًا، والمعنى يشمل هذا وهذا، فهم يتبعون جميع الآثار الواردة عن النبي ﷺ، سواء كانت أعمالا قلبية، أو أعمالاً ظاهرة، أو مما هو في شؤونه الخاصة، في بيته ومع أهله، ومع المقربين أليه، أو مما هو ظاهر أمام الناس، فإنهم يتبعون آثار النبي ﷺ.
ثمّة مسألة مهمة تتعلّق باتباع آثار رسول ﷺ، فأهل العلم -رحمة الله عليهم جميعًا- يُفصلون في هذه الآثار، فيقولون: هذه الآثار المروية عن النبي ﷺ أنواع:
النوع الأول: ما فعله ﷺ على سبيل التعبّد، فهذا يُشرع اتباعه فيه، بل يجب أحياناً إذا كان على سبيل الوجوب، أو يستحب إذا كان على سبيل الاستحباب، كما هو معروف في قواعد الاستدلال عند الأصوليين.
فما فعله على سبيل التعبد، فإنه يشرع اتباعه ﷺ، بل يجبه إذا كان واجباً، ويستحب إذا كان مستحبًا. وكيف تعرف أنَّ هذا الفعل عبادة؟ نقول: تعرف أنه عبادة إذا جاء الأمر به، إما على جهة الوجوب أو الاستحباب، أو جاء الثناء على من فعله في القرآن أو في السنة، أو جاء بيان فضله.
بهذه الضوابط الثلاثة تعرف أن هذا العمل عبادة، إذا أمر الله به في كتابه، أو أمر به النبي ﷺ، أو بين فضله، كما بيّن ﷺ فضل صيام عشوراء، وفضل صيام عرفة، فهذا يدلّ على أن هذا العمل مشروع وعبادة. أو أن النبي ﷺ أو ما جاء في القرآن، أثنى على من فعل هذا العمل، فحينئذ يكون هذا العمل عبادة.
فإذن ما فعله على سبيل التعبّد، فإنه يُشرع لنا أن نتبع الرسول ﷺ فيه إمَّا على سبيل الوجوب أو الاستحباب، حسب قواعد الاستدلال؛ لقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوِل الله أُسْوَةٌ حَسَنَة﴾.
النوع الثاني: أن يكون هذا الفعل فَعَلَه الرسول ﷺ اتفاقا من غير قصد، كما في الحج حيث إنه قدم إلى مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة، فهل يأتي شخص ويقول: يستحب للحاج أن يدخل مكة في اليوم الرابع من ذلك الحجة؟ أو أن يدخل مكة من طريق كذا وكذا؟
نقول: هذا إنما فعله النبي ﷺ اتفاقا من غير قصد، فحينئذ لا يشرع التأسي بالنبي ﷺ فيه؛ لأنه لم يفعل ذلك على سبيل التعبد.
فنقول حينئذ في هذا الفعل الذي فعله النبي ﷺ اتفاقا من غير قصد: لا يشرع التأسي فيه بالنبي ﷺ؛ لأنه لم يفعله على سبيل التعبد.
النوع الثالث: ما فَعَله النبي ﷺ على مُقتضى العادة، أي مما هو أمر مُعتاد، مثل: ما اعتاد الناس عليه من ركوب الخيل، وركوب الجمال، وركوب الحمير. فهل نقول: يستحب للإنسان إذا حجَّ أن يكون على ناقة؟ نقول: إنَّ النبي ﷺ ما فعل ذلك على مُقتضى التعبد، وإنما فعله على مُقتضى العادة، ومثل ذلك ما يتعلق باللباس ونوعه، فكونه ﷺ يلبس الرداء والإزار، هذا اللباس هو المعروف، أو يلبس العمامة، فهذا هو اللباس المعروف في زمنه وفي عرف الناس، فحينئذ نقول هنا: هذا النوع من اللباس ما فعله النبي ﷺ على سبيل التعبد، وإنما فعله بمقتضى العادة، فحينئذ لا يقال: يشرع لك أن تتأسى بالنبي ﷺ في مثل هذه الآثار الذي فعلها بمقتضى العادة.
لكن يُشرع التأسي بذلك من حيث الجنس، كما لو سأل سائل وقال: أيهما أفضل للإنسان، أن يحج راكباً أو ماشياً؟ نقول: النبي ﷺ حج راكباً، فإذا جاء وقال: يستحب الحج ماشياً. نقول: هذا خلاف فِعل النبي ﷺ.
وأمَّا وسيلة الركوب فهي تختلف باختلاف الناس، فكانوا في السابق يستخدمون الدواب، مثل: الإبل، والخيل، والحمير، في وسائل النقل، ثم أصبحوا يستخدمون السيارات، ثم أصبحوا يستخدمون الطائرات، ثم القطارات، وربما يأتي زمن يستخدمون وسائل أخرى، وتصبح هذه الوسائل وسائل قديمة، فالأمر بيد الله تبارك وتعالى.
فإذن الركوب من حيث هو، هذا فِعله ﷺ، واللباس من حيث هو فِعله ﷺ، وأما من حيث النوع، فهذا يختلف بمقتضى العادات.
ولهذا يقال لطلاب العلم: عليكم باللباس المعتاد في بلدانكم مما يلبسه الناس، ولا تخالفون الناس في نوع اللباس، فلا تأتون بما هو مخالف لعرف الناس، عليكم بما هو معروف في اللباس كما لبس النبي ﷺ مما كان معروفًا، إلا ما دعت إليه الضوابط الشرعية في صفة اللباس وفي بعض المحظورات.
النوع الرابع: ما فعله ﷺ بمقتضى الجبلة، بمعنى أنه ليس من العبادات، وإنما فعله بمقتضى الجبلة والطبع، كالنوم، كالأكل والشرب، فحينئذ نقول: هذا الفعل الذي فعله النبي ﷺ بمقتضى الجبلة، لا يشرع التأسي به على جهة التعبد، إلا من جهة الصفات، مثل: صفة النوم، وكذلك طريقة الأكل.
وأما أن نقول مثلا: يستحب أن تأكل الأكل الفلانية! نقول: هذا ليس بمقصود، ولهذا فالنبي ﷺ لَمَّا قَدَّمَ له خالد بن الوليد الضب ما أكله، وقال: «عافته نفسي»؛ لأنه لم يكن معروفاً في بلده.
إذن هو كان يأكل مما هو معروف، فالأكل والنوم فعله ﷺ على سبيل الطبع والجبلة الإنسانية، فهو إنسان بشر يعتريه ما يعتري البشر من خصائص البشرية، فمثل هذه الخصائص فعلها ﷺ بمقتضى الطبع والجبلة، وإنما يشرع التأسي به في الصفات مثل: طريقة النوم، أو النوم على وضوء، النوم على شقه الأيمن، ذكر الله عند النوم ونحو ذلك، وهكذا فيما يتعلق بآداب الأكل. فيشرع التأسي به من هذا الوجه.
أيضا الإنسان ينوي بالمباحات وجه الله فيثاب عليها، وإلا الأصل فيها أنها مباحة، يسأل عنها كثير من الشباب يعني يقول: هل من المستحب مثلا أن أطيل الشعر؛ لأن النبي ﷺ ثبت عنه أن أطال شعره؟ نقول: هذا ليس بمشروع ولا بمستحب، وإنما فعله ذلك بمقتضى العرف والعادة المعروفة، ولهذا قال ﷺ للشاب الذي حلق بعض شعره وتركه بعضه -القزع-، قال: «احلقه كله أو اتركه كله»، فقوله: «احلقه كله أو اتركه كله» يدل على أن تطويل الشعر ليس من السنة، ولا يفعل ذلك وهو يقول: أنا أريد أن أطبق السنة فيطيل شعره، بل ربما يكون في زمن فيه إطالة الشعر من الصفات المذمومة، ولذا نقول: ما فعله ﷺ لم يفعله تشريعا، وإنما مما هو معروف في ذلك الزمن.
ومثله أيضا: يسأل بعض الشباب حول لبس الخاتم، نقول: النبي ﷺ ما لبس الخاتم على سبيل التعبد، وإنما لبس الخاتم للحاجة؛ لأنه كان يحتاجه في التوثيق لَمَّا قيل له: إن الملوك لا يقبلون الرسائل إلا بالختم، فاتخذه للحاجة، وأهل العلم لهم كلام في مثل هذه الأمور.
الشاهد من هذا: أنَّ المقصود باتباع آثار النبي ﷺ هو ما فعله على سبيل التعبد بالضوابط التي ذكرناها، وأمَّا ما فعله اتفاقا، أو ما فعله بمقتضى العادة، أو ما فعله على مقتضى الجبلة، فإنه لا يشرع التأسي بذلك، ولا اتباع آثار النبي ﷺ في ذلك، ولهذا أنكر الصحابة على بعض من كانوا يجتهدون في تتبع آثار النبي ﷺ، أنكروا ذلك لأنه ليس بمشروع.
قال: (واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار) أيضا هذا أصل ثان، وهو فرع عن الأصل الأول، أي: أنهم يتبعون (سبيل) أي: طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، يعني: يسلكون طريقتهم، ويسيرون على منهاجهم. لماذا أهل السنة والجماعة يتبعون سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ممن ذكرنا فضلهم في أبواب الصحابة؟
أولاً: لِمَا خَصَّهم الله -عز وجل- من العلم، والفضل، والثناء والترضي عليهم، وأيضا لِمَا خصهم به النبي ﷺ من الفضل والثناء عليهم، وأنهم خير القرون، فيتبعون آثارهم وما ثبت عنهم لهذا السبب.
وثانيًا: لأنهم شاهدوا التنزيل، وهم حملة الدين، وهم رواته، ومن روى أعلموا بما رواه، فلقربهم من النبي ﷺ، ولتلقيهم عنه بلا واسطة، ففهمهم للقرآن وللسنة وتطبيقاتهم هي أقرب للصواب من غيرهم، ولهذا تجد أنَّ أهل العلم يُعنون بالآثار الواردة عن الصحابة في تفسير الآيات، وفي شروحات الأحاديث، وفي كتب العقائد لهذا السبب، فهم أقرب إلى الصواب، وهو أهل اللغة، وشهدوا التنزيل، وهم حملة الدين، وهم رواته، ففهمهم وتطبيقهم بلا شك أقرب إلى الصواب ممن جاء بعدهم.
يقول ابن مسعود -رضي الله عنه- وهو يصف حال الصحابة: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَانُوا أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَبَرَّهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرَفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَدِينِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ"
إذن أهل السنة والجماعة يتبعون آثار وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لهذه الأسباب، يقول الإمام أحمد -إمام أهل السنة-: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ"، ولهذا -كما تقدم- كان من أخصِّ صفات الفرقة الناجية هم من كان على مثل ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، هذا الميزان الذي به تُميز أهل السنة عن غيرهم من أهل الأهواء والافتراق والابتداع.
هل هم ممن كان على ما كان عليه النبي ﷺ، وكان عليه الصحابة؟ ومن خيار الصحابة المهاجرين والأنصار أم لا؟ ولهذا أهل العلم يجعلون قول الصحابي حُجة يجب اتباعه، ومما لا يقال بالرأي من أقوال الصحابة: يجعلون له حكم المرفوع؛ لأن الصحابي لا يمكن أن يقول هذا من قِبَلِ نفسه.
ثم أيضا هذا الاتباع هو ثمرة محبتهم لصحابة رسول الله ﷺ، مع كونهم أقرب إلى الصواب، وهذا المنهج الذي عليها أهل السنة والجماعة خالف فيه أهل الأهواء والابتداع في القديم والحديث، الذين زعموا أن طريقة المتأخرين أعلم وأحكم، وقالوا: إن طريقة السابقين الأولين أسلم في الصفات وفي غيرها، وجعلوا طريقة المتأخرين في القرن الثالث كأبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي، ومن جاء بعدهم كالرازي، والغزالي، جعل هؤلاء المخذولين طريقة المتأخرين هي الأعلم والأحكم، وهذا والله من الخذلان أن جعلوا طريقة الحيارى والتائهين، بل بعضهم قد تاب، كأبي الحسن الأشعري -رحمة الله عليه-، والجويني، والرازي، والغزالي، فجاء هؤلاء يتمسكون بأقوال أصحابها قد تابوا وتبرأوا منها، فتمسكوا بأقوال هؤلاء الحيارى التائهين.
ثم هذا الزعم بأن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، هذا يكذبه الواقع، بل إذا كان الطريقة السلف أسلم، فهي بلا شك الأعلم والأحكم.
ثم هؤلاء المتأخرون من أتباع الطرق وأتباع المذاهب وأتباع الآراء التي تركها أصحابها، لَمَّا وقعوا في الحيرة والاضطراب، أخذوا يضربون النصوص بعضها ببعض، في أبواب الصفات، وفي أبواب الإيمان، وفي كثيرٍ من المسائل، بل لَمَّا وقعوا في هذا التناقض لجأوا إلى كتب المناطقة والفلاسفة والمتكلمين لكي يجدوا المخرج في الجمع بين هذه النصوص التي أساءوا فهمها، فخالفوا طريقة أهل السنة والجماعة، التي هي اتباع آثار النبي ﷺ، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ولهذا لا تكاد تجد كتابًا من كتب أئمة السنة سواء في التفسير أو في الحديث أو في العقائد المطولة والمختصرة إلا ويذكرون أقوال الصحابة والتابعين.
وتأملوا هذا، هل تجدون هذا في كتب أهل الأهواء؟! لا وجود، بل تجدون القواعد المنطقية والفلسفية، والمنامات، والعقول والقياسات الفاسدة، وتلاحظون هذا في كتبهم أو في منطقهم لما يريدون التنظير لبعض القضايا.
قال أيضا في الأصل الثالث من الأصول التي تميز بها أهل السنة والجماعة: (واتباع وصية رسول الله ﷺ، حيث قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ») هذا الحديث -كما هو مشهور- حديث العرباض بن سارية، الذي فيه وصية النبي ﷺ بأصحابه حتى قالوا: وعَظَنَا رسولُ اللهِ ﷺ مَوْعِظَةً وجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ، فقلْنَا: يا رسولَ اللهِ، كأَنَّ هذه مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فماذا تَعْهَدُ إلينا؟
فانظروا هذه الوصية، قال: («عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي») كما تقدم، وهذا يشمل العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، («وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي») وهؤلاء الخلفاء الأربعة، الذين هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسماهم راشدين ومهديين، («تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»)، والنواجذ هي أقصى الأسنان، وخصها لقوة التمسك بسنة الخلفاء الراشدين.
ثم قال: («وَإِيَّاكُمْ») وهذا تحذير، («وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ») يعني: الأمور المحدثة -البدع- سواء كانت في العقائد كتعطيل الصفات، كما يزعم أهل التعطيل بأن الصفات لا تليق بالرب، أو جاء مخذول آخر فقال: لا. نثبت بعض الصفات، نثبت سبع صفات أو ثمانية وننفي الباقي، هذا إحداث في الدين، هذا ليس سبيل الرسول ﷺ، ولا سبيل السابقين الأولين، ولا سبيل الصحابة.
ومن يقول: اثبت سبع صفات مع نفي البقية، فهذه طريقة أهل التيه والضلال والانحراف، وهي من المحدثات في الدين.
قَالَ: («وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ») وَلاحظَ هذا يشمل العقائد أو العبادات أو المعاملات التي على جهة التعبُد.
(«فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»)، وهذه قاعدة واضحة، ما في بدع حسنة، إلا ما جاء من جهة التسمية في اللغة، ولكن في العبادة فكل بدعةٍ ضلالة، والبدع أنوع كما تقدم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ، وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ)}.
بعد أن ذكر اتباع النبي ﷺ، واتباع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية النبي ﷺ، قال في الأصل الرابع: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ)، وهذه جاءت في خطبه ﷺ، في خطبة الحاجة المشهورة المعروفة، التي يقولها الخطباء في الأعياد وفي الجمع وغيرها، وهي مشهورة عن النبي ﷺ من عدد من الصحابة.
(يعلمون) أي: أنهم يعتقدون ويمتثلون ذلك.
(أن أصدق الكلام كلام الله)؛ لقوله -تبارك وتعالى-: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾، ولقوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ فلا أصدق من الله قولا ولا خبرًا، فكل ما أخبر الله -عز وجل- به في كتابه، وما أخبر به رسول الله ﷺ في سنته، فهو حق وصدق، أدركت العقول ذلك أم لم تدركه؟!
والعقول قاصرة لا تدرك كل شيء، هل عقول الأطفال الصغار تدرك كل شيء؟ لا تدرك. ثم يبدأ العقل ينمو حتى يصل إلى درجة القوة والكمال، ثم يبدأ في درجة الانحدار، فتجد الشيخ الكبير قد ندم وصار ينسى، وأصبح العقل أيضا لا يدرك، فأي عقل تجعله هو الميزان؟! يقال هذا لمن يدعون أن العقل هو الذي يعلم الغيب، ويتحكم في الغيب! نقول: أي عقل؟! هل عقولكم لَمَّا كنتم أطفالاً؟ أو عقولكم عندما تكونون شيوخًا تنسون كثيرا مما كتبتموه؟
إذن العقل قاصر لا يدرك كل شيء، خاصة ما يتعلق بعالم الغيب، وأمور الآخرة، وعالم الملائكة، وعالم الجن، وأحوال الآخرة، وعالم البرزخ، وأما كلام الله -تبارك وتعالى- فهو حق وصدق، فكل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به رسول الله ﷺ فهو حق وصدق، أدركت العقول ذلك أم لم تدركه.
وكل ما أمر الله به في كتابه، أو أمر به رسوله ﷺ فهو مصلحة، إمَّا مصلحة محضة أو مصلحة راجحة، وكل ما نهى الله عنه في كتابه، أو نهى عنه رسوله ﷺ فهو مفسدة، إمَّا مفسدة محضة أو راجحة، والعقول قد تدرك ذلك وقد لا تدركه، قد لا تدركه لقصور العلم، وقد لا تدركه للهوى والعِناد.
فأحيانًا من يكابر ويرد النصوص، إمَّا لضعف في علمه، أو سقم في فهمه، أو مكابرة فقط لا غير.
خالف في هذا أهل الأهواء والبدع، الذين زعموا بأن نصوص الكتاب والسنة لا تُفيد اليقين، وزعموا أن القواطع العقلية بزعمهم هي التي تفيد اليقين، ولهذا ردوا الأحاديث، وردوا دلالات الآيات، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وحرفوا النصوص بزعمهم أنها لا تفيد اليقين.
فهذا مما يُميز أهل الأهواء، أنهم يردون النصوص، ولهذا تجدهم إذا استدلوا بالنصوص يستدلّون بها بالتبع، بينما أهل السنة والجماعة يجعلون النصوص هي الإمام، وبعد ذلك يأتي استنباط الأحكام، وهذا هو الفرق المنهجي بين أهل السنة وأهل الأهواء، أن أهل السنة يجعلون أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، ثم بعد ذلك يأتي فهم الصحابة، ثم بعد ذلك يأتي استنباط الأحكام.
وأمَّا أهل الأهواء فقد عكسوا القضية، قرروا الأحكام قبل، ثم أخذوا يبحثون عن النصوص التي تؤيد ذلك، ويلوون أعناق النصوص، أو يعتمدون على المنامات والكشوفات.
طبعا قوله: فيما سبق (وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ) هديه في أي شيء؟
هديه في كل شيء، في العقائد، في إثبات الصفات. نقول لمعطلة الصفات: هل النبي ﷺ نفى صفة اليدين؟ هل النبي نفى الرؤية؟ أبداً، بل الكتاب والسنة أثبتا ذلك، فهذا هو خير الهدي، وإنما نفى ذلك أهل الأهواء والانحراف في العصور المتأخرة.
وخير الهدي سواء في العقائد أو في العبادات أو في المعاملات.
قال في الأصل الخامس: (وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ) يؤثرون يعني: يقدمون، أي يقدمون كلام الله في أي شيء، في الأخبار، أو في الأحكام، فيؤثرون يعني: يقدمون كلام الله فيما أخبر الله به، سواء فيما أخبر الله به عن الأمم السابقة، فيما يتعلق بتاريخ الأمم ونشأة البشرية وأحوال الأمم، فيقدمون كلام الله على ما هو موجود في كتب التاريخ، أو ما هو موجود في كتب أهل الكتاب من الإسرائيليات مما دخله التحريف، فـ (يُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ)، أيًا كان مما يتداوله الناس من أساطير، وكتب تاريخ، وحكايات، وحفريات كما يزعمون، وآثار، كلها مبنية على ظنون، فتجد بعض الناس أحيانا يبني علومه على الظنون فتراه يقول: أثبتت الحفريات، وأثبت العالم الغربي الفلاني، وكلها أوهام وتخرصات.
وأما هل السنة والجماعة فيؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، يعني: أنهم يقدمون ذلك سواء كان في الأخبار أو كان في الأحكام، ومثل ذلك فيما يتعلق بالأمور المستقبلة.
قال في الأصل السادس: (وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ) يعني: دينه وشرعه، سواء في الجانب الاعتقادي أو الأخلاقي أو في أبواب العبادات أو المعاملات.
(عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ) كائنًا من كان، وهذا خلاف لِمَا عليه أهل الأهواء من اعتمادهم على المكاشفات والمنامات، أو ادعاء العصمة في بعض الأشخاص والشيوخ والأئمة وغيرهم، فهذا خلاف هدي النبي ﷺ، وما كان عليه الصحابة وأئمة الدين.
ثم ذكر السبب الذي لأجله سُموا بأهل الكتاب فقال: (وَلِهَذَا) أي لأنهم يعلمون ويؤثرون ويقدمون كلام الله وكلام رسوله ﷺ، (وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) لِمَا تقدم، لاتباعهم للكتاب، ولاتباعهم السنة في جميع الأحوال، سواء في الأخبار، أو في العقائد، أو في المعاملات، أو في العبادات.
(وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ) لماذا؟ قال: (لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ)، إلا أن المقصود هنا الجماعة التي جاءت في النصوص، وهم من كانوا على مثل ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الدين، وهذا من أبرز صفاتهم.
لاحظ الاحتراز هنا بمعنى يقول: أنا لا أعني الجماعة القوم المجتمعين، وإنما أعني الاجتماع الذي ضده الافتراق.
قال: (وَالإِجِمَاعُ) لاحظ هنا أنه يشير إلى ضابط الإجماع لماذا؟ لأنه أشار إلى هذه الأصول الثلاثة التي بها تميزون.
قال: (وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ) يعني: أنه المصدر الثالث من مصادر تلقي العقيدة والشريعة، فالمصدر الأول: الكتاب، والمصدر الثاني: ما صح من السنة، والمصدر الثالث: الإجماع، وهذا مشترك سواء كان في الأحكام أو كان في العقائد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ. وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُول ِالثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ. وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ)}.
قال: الإجماع الذي هو المصدر الثالث من مصادر تلقي العقيدة، وهو كذلك المصدر الثالث من مصادر تلقي الشريعة، فالمصدر الأول: كتاب الله، والمصدر الثاني: ما صحَّ من سنة النبي ﷺ، والمصدر الثالث: هو الإجماع، والإجماع يكون مبنيًا على دليل، على إجماع، على فهم الدليل، هو إجماع معتمد على الأصول الشرعية، لا إجماع إلا بدليل.
قال: (هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ) والدليل قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾.
ثم ذكر المصنف -رحمه الله- أنَّ أهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول التي ذكرها -الكتاب والسنة والإجماع-، قال في القاعدة السابعة: (وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُول ِالثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ) ويزنون يعني: يعرضون جميع أقوال الناس، وأفعال الناس، ومعاملات الناس، وأخبار الناس، وقصص الناس، وأحوال الناس، يزنونها بهذا الميزان، ميزان عدل، وميزان وحي.
ويزنون يعني: أنهم يعرضون ويحكمون على جميع هذه الأمور بهذه الأصول.
(جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ) من ماذا؟ (مِنْ أَقْوَالٍ) هل هي موافقة؟ هل هي صحيحة ومقبولة أو غير مقبولة؟
وكذلك (وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ) يعني: بالأعمال الباطنة: القلبية، والأعمال الظاهرة التي هي: أفعال الجوارح.
(مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ) انظروا القيد هنا، لماذا قال: (مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ) وأخرج أمر الدنيا؟
لأنَّ الأصل في العبادات التوقيف، فهو يقصد هنا ما جاء سبيل التعبّد والتقرب لله، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يُحدث الإنسان عبادة إلا بدليل، ولهذا إذا قال: إن هذا العمل مشروع، أو هذا العمل مستحب، فإنه يطالب بالدليل! فيقال له: ما الدليل على أن هذا العمل مستحب ومشروع. إذا لم يكن ثم دليل فيكون بدعة.
وأما أمور الدنيا فالأصل فيها الحل الإباحة، فلا يحرم الإنسان نوعا من اللباس، ولا يحرم نوعا من الأكل، ولا مركوبا من المركوبات، ولا معاملة من المعاملات إلا بدليل، فلاحظوا الاحتراز. قال: (مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ) أي: فيما يتعلق بأمور التعبد، وأما أمور الدنيا فالأصل فيها الحل والإباحة.
فعلى ذلك لا عبر بالإجماع فيها؛ لأنها لا تحتاج إلى دليل، ولا تحتاج إلى إجماع.
لاحظ المصنف -رحمه الله- قال: (وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُول ِالثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ) يعني: الكتاب والسنة والإجماع. ولعل الإخوة الكرام يراجعون معنا الدروس السابق، كم مرة المصنف -رحمه الله- ذكر هذه الأصول؟ نترك هذا ليكون واجبًا أم نجيب عليه؟
نجيب عليه من باب التذكير، وأنتم راجعوا معنا في المتن في الدروس السابقة، تجدون أنه أشار إلى هذه الأصول الثلاثة التي هي مصادر تلقي العقيدة الأساسية، أشار لها في آخر أبواب الصفات، وأشار لها في مسائل اليوم الآخر، وأشار لها في موضوع الصحابة، وأشار لها في هذا الموضوع الرابع، المصادر الأصلية لتلقي العقيدة الأساسية: الكتاب والسنة والإجماع، تأتي المصادر الفرعية الأخرى، التي هي الفطرة السليمة السوية، والعقل السليم، لا تستقل وإنما تأتي لتؤيد الأدلة الشرعية، والمصادر الأصلية.
ثم ذكر ضابط الإجماع المقبول، فقال: (وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ) أي: الإجماع الذي يمكن ضبطه، ويمكن حفظه، ويمكن نقله، (هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ)، ولاحظ أنه أشار إلى عبارة السلف الصالح، ويقصد بالسلف الصالح: الصحابة والتابعين وأئمة الدين.
إذاً لاحظوا كيف استخدم المصنف -رحمه الله- هذه المصطلحات، مصطلحات أهل السنة والجماعة، أهل الجماعة، أهل الكتاب والسنة، الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، ويمكن للإخوة عند مراجعة الكتاب استخراج هذه المسميات والمصطلحات في هذا المتن المختصر.
وهنا أيضا جاء مصطلح السلف الصالح، لماذا الإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح؟ يعلل ذلك بقوله: (إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ).
هل يفهم من هذا أنَّ المصنف -رحمه الله- يقول: إنَّ الإجماع بعد السلف الصالح فد انتهى؟ ولا إجماع لا يفهم، وإنما المصنف -رحمه الله- يقصد بأن الإجماع الذي يمكن ضبطه وحفظه هو ما كان عليه السلف الصالح، لاجتماع العلماء، ولهذا يمكن أن يُضبط، وأما ما بعده فهو لا ينفي الإجماع، وإنما يقول: إن ضبط الإجماع فيه صعوبة، ولهذا قال بعبارة دقيقة: لا يقول ابنتيميا يلغي الإجماع بعد العصور الفاضلة أبدا، وإنما هو يقول: إنَّ ضبط الإجماع بعد السلف الصالح فيه صعوبة. لماذا؟ قال: (إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ).
قد يقول قائل: إجماع هيئات العلماء -كبار العلماء-، المجامع الفقهية، قرارات المجامع هل تعد إجماعا؟ يقال: انَّ هذه الهيئات وهذه المجامع هي لا تجمع كل فقهاء الأمة، وكل علماء الأمة، لانتشارهم في الأرض، وإنما هي تمثل رأي أغلبية فيستأنس بمثل هذه القرارات في الترجيع، وخاصة في القضايا الكبرى، والقضايا المصيرية، ولكنها لا تعد إجماعا؛ لأن مثل هذه المجامع والهيئات تعبر عن رأي لبعض العلماء، وليس كل علماء الأمة وفقهاء الأمة في كل أقطاب الأرض.
إذن المصنف -رحمة الله- يقصد بأن الإجماع الذي يمكن أن يحفظ ويضبط بدون نقص ولا قصور هو ما كان عليه السلف الصالح لهذه الأسباب، وأما ما بعده فممكن أن يتصور الإجماع، ولكن كيف تضبط هذا الإجماع؟!
ولهذا تلاحظ العصور المتأخرة لَمَّا يحكي عالم من علماء الأندلس مثلا الإجماع، هو فقط يحكي إجماع أهل الأندلس فقط! أو عالم في المشرق يحكي إجماعا. لماذا؟ لأن العلماء قد تفرقوا في البلدان، ولهذا ما يحكيه عالم في الأندلس إنما يحكي عن علماء الأندلس فقط.
وبهذا يكون المصنف -رحمه الله- قد انتهى من هذا الفصل، ولعلنا نكتفي بهذا القدر، ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الأخيرة، في اللقاء القادم.
أسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والتوفيق لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا وإياكم الفقه في دينه، إنه جواد كريم، وصلِّي اللهم وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم أيها المشاهدون الكرام، ونراكم -بإذن الله- في الحلقة القادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.