الدرس السادس

فضيلة الشيخ أ.د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

9384 18
الدرس السادس

العقيدة الواسطية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا عن النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح كتاب (العقيدة الواسطية) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ سهل بن رفاع العتيبي -حفظه الله- حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات، والأبناء الطلاب والطالبات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع، والعمل الصالح، والتوفيق لِمَا يحب ربنا ويرضى.
{آمين، نستأذنكم فضيلة الشيخ في قراءة المتن}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ -عز وجل- مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك‏)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين، وأصلي وأسَلِّمُ على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ، وعلى كلِّ من صلَّى وسلَّمَ عليه، أمَّا بعد، فهذا هو المجلس العلمي السادس في شرح هذا الكتاب (العقيدة الواسطية).
لَمَّا انتهى المؤلف -رحمه الله- من ذكر مُعتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأنهم يؤمنون بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله في سنته، وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه، وما نفاه عنه رسول في سنته، وذَكَرَ ضوابط لهذا الإثبات وهذا النفي، وأنهم يؤمنون بذلك من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيل، وأن الله قد جمع فيما وصفه وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، وذكر الشواهد من القرآن الكريم، وكما تقدم في ذكر الشواهد أنَّ المؤلف -رحمه الله- لا يقصد من ذلك الحصر، بل القرآن كله يدل على هذا الأصل العظيم، ولهذا لَمَّا ذكر الأدلة قال في آخر الفصل السابق: (وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ)، ولهذا كل من قرأ القرآن وهو يريد الهدى سيتبين له طريق الحق في هذا الباب العظيم.
والقرآن هو النور، وهو الروح، وهو الشفاء من كل داء، وهو الفرقان الذي يبين لقارئه الفرق بين الحق والباطل.
ثم انتقل بعد ذلك إلى السُّنَّة، والسنة هي المصدر الثاني من مصادر تلقي العقيدة، والمصدر الثاني من مصادر التشريع، ولَمَّا يقول أهل العلم: المصدر الثاني، لا يقصدون المصدر الثاني رتبة، وإنما يقصدون المصدر الثاني عَدداً. لماذا؟
لأنَّ السنة في الاستدلال كالقرآن تماماً؛ لأنها وحي كما قال الله تعالى عن نبيه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، ولهذا قال: (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ).
ثم بيَّن المُصنِّف -رحمه الله- منزلة السنة من القرآن، فذكر أربعة أمور:
 الأول: أنها تفسِّر القرآن.
 الثاني: أنها تُبيِّنه.
 الثالث: أنها تدل عليه.
 الرابع: أنها تعبّر عنه.
فهذه أربعة أحوال لمنزلة السنة مع القرآن، ولعلكم تلحظون أن المنزلتين الأولى والثانية متقاربتان في المعنى، فالأولى: تفسّر، والثانية: تبين، بينهما تقارب في المعنى.
وتلحظون أيضًا أن المنزلتين الثالثة والرابعة -تدلّ عليه، وتعبّر عنه- أيضا متقاربتان في المعنى.
(تفسر القرآن) يعني: تفسر المجمل منه، تفسر المجمل من الأمر، والمجمل من الخبر وتوضحه.
مثال ذلك: في باب الأسماء والصفات فسر النبي الزيادة في قول الله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ﴾ فسرها كما جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب : برؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- في جنات النعيم، وهو أعظم نعيم يتنعم به أهل الجنة، نسأل الله الكريم من فضله.
إذًا السنة تفسر القرآن، ولهذا أهل العلم يجعلون من أنواع التفسير: التفسير النبوي للقرآن، فهناك تفسير القرآن بالقرآن، والتفسير النبوي للقرآن، بمعنى: أن رسول الله بَيَّنَ المعاني، وتفسير القرآن بالحديث النبوي، ثم يأتي بعد ذلك تفسيره باللغة وبأقوال أهل العلم.
إذن السنة (تُفَسِّرُ الْقُرآنَ)، يعني: توضح القرآن على جهة التفصيل.
قال: (وتُبَيِّنُهُ) يعني: تبيين مجمله، التبيين الكلي للقرآن، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ والذكر هنا المقصود به: القرآن، والتبيين يكون بالسنة.
وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء:113] والحكمة هي السنة.
إذن السنة تبين ألفاظه وتبين معانيه، وتبين ما أُجْمِلَ منه، مثال ذلك: الله -تبارك وتعالى- يقول في كتابه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ كيف يصلي المسلم؟
السنة بيّنت كيفية إقامة الصلاة، وهكذا يقال في الأمور التفصيلية التي جاءت السنة لتبين مجمل القرآن.
قال: (وتَدُلُّ عَلَيْهِ) يعني: أنها تأتي مؤكدة لِمَا جاء في القرآن، وهذا كثير في باب الصفات، مثل: إثبات صفة اليد، فجاءت في القرآن، وجاءت في السنة، وهكذا في كثير من الصفات، فجاءت السنة لتدل وتؤكد على ما جاء في القرآن من أحكام.
مثال ذلك: السنة جاءت بإثبات صفة النزول، وصفة النزول قريبة من صفة الإتيان، ومن صفة المجيء التي جاءت في القرآن.
قال في النوع الرابع: (وتُعَبِّرُ عَنْهُ) أي أنها تعبِّر عن مُجمله، وتأتي بأحكام لم ترد في القرآن، وهذا أمثلته كثيرة، مثل: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وفي في أبواب الصفات مثل: صفة النزول، حيث جاءت في السنة ولم تأت في القرآن، ومثل: صفة القدم، جاءت في السنة ولم تأت في القرآن.
قد يسأل سائل ويقول: هذه الصفات التي جاءت في السنة ولم تأت في القرآن، هل الإيمان بها واجب؟
نقول: نعم، الإيمان بها هو إيمان بالقرآن، لماذا؟ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ فكل ما جاء في السنة مما صح فيجب الإيمان به، كما يجب الإيمان بالقرآن.
ثم قال بعد ذلك: (وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ) ربما تكون في النسخة التي بين أيديكم، وهي معروضة، أن النساخ أحياناً قد يهملون الصلاة عن النبي كتابة، ولكن القارئ يُصلي على النبي ، فمن أدب القراءة أنك تصلي على النبي حتى ولو لم تجد ذلك في النسخة، فالنساخ أحياناً قد يختصرون ذلك، ولكن القارئ يُصلي على النبي ولو لم تكن الصلاة موجودة في النسخة، وهكذا يقال في الترضي عن الصحابة، وفي الترحم على من بعدهم من المسلمين، فإنه يُصلى على النبي ، ويترضى عن الصحابة، ويترحم على العلماء، وإن لم يكن ذلك موجود في النسخ التي بين يدي، فإن النساخ أحيانا يختصرون، ولهذا تجد الصلاة على النبي موجودة في بعض النسخ، وغير موجودة في نسخ أخرى، وهذا نتيجة تصرف النساخ.
قال: (وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ) لاحظ هنا اشترط الصحة في الاستدلال بالحديث، والاستدلال بالحديث النبوي يشترط له شرطان:
الشرط الأول: الصحة.
والشرط الثاني: دلالة الحديث على الحكم بخلاف القرآن، فإنه لا يشترط فيه الصحة لأنه متواتر، وإنما يشترط فيه دلالة النص، ودلالة الآية على الحكم، يعني: تكون الدلالة واضحة في الحكم.
وأمَّا السنة فيشترط في الاستدلال بها هذان الشرطان، ولهذا قال: (مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ) هذا هو الشرط الأول.
والصحاح مقصود المؤلف -رحمه الله- على مصطلح المتقدمين، فالصحاح عند المتقدمين يعني: المقبول عندهم؛ لأن المتقدمين يقسمون الأحاديث إلى صحيحة وضعيفة، والصحيحة يعنون لها: المقبولة، فيدخل فيها مصطلح المتأخرين الذين يقسمون الأحاديث إلى صحيحة، وحسنة، وضعيفة، فالصحاح على مصطلح المتقدمين يدخل فيه الصحيح والحسن، بمعنى: المقبول، ولهذا قال: (مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ) فيقصد بذلك الأحاديث المقبولة، سواء كانت صحيحة أو كانت حسنة.
قَالَ: (الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ) لماذا؟ هل هناك أحاديث لم يتلقاها أهل المعرفة بالقبول؟ هو من باب التأكيد، وأيضا أن لا يكون هناك شذوذ في ألفاظ الحديث مثلاً، أو يكون منسوخا مثلاً، وإن كان النسخ لا يَرد في الأخبار، وإنما النسخ يأتي في الأحكام، فهذا مقصده من قوله: (الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ).
أو يكون مراد المؤلف -رحمه الله- الأحاديث الصحاح من حيث الجملة، فهي صحيحة من حيث الجملة، وتلقاها أهل المعرفة بالقبول، أي: أنهم استدلوا بها وأوردوها في كتب العقائد، وأحياناً قد يوجد في كتب العقائد المسندة ما سنده ضعيف، ولكن من حيث المتن هو صحيح، فيشهد لمتنه مثلاً أحاديث أُخر، فهذا مقصده من قوله: (الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ) فيكون المقصود أنها صحيحة في مجملها، أو يكون أنه وهذا الحديث وإن كان في إسناده ضعيف، إلا أنه من حيث المتن مقبول لوجود شواهد وطرق أخرى، وهذا موجود في كثير من كتب العقائد المسندة، ككتاب الشريعة للآجري، وكتاب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، قد توجد أحاديث سندها ضعيف، ولكن من حيث المتن فهي مقبولة، لماذا؟
لوجود شواهد أخرى، وإنما أوردها المؤلف من جهة اتصال الإسناد لديه، لأنه اشترط أنه لا يرى في كتب العقائد المسندة إلا ما اتصل سنده، فقد يكون الإسناد هنا ضعيفًا ولكن من حيث المتن فهو مقبول لوجود الشواهد التي تشهد لصحة المتن، فهذا هو مقصده من قوله: (الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ).
قال: (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) لماذا الوجوب؟ لماذا يجب الإيمان بالسنة؟
لأن السنة في الاستدلال كالقرآن، وأيضا لوجود الآيات التي تدل على وجوب طاعة الرسول ، كقوله -تبارك وتعالى-: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، وكقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ إلى غير ذلك من الأدلة.
وهذا فيه رد لمن ينكرون الاستدلال بالسنة، فيوجد من الطوائف من ينكر الاستدلال بالسنة عموما، ومنهم من ينكر الاستدلال بها في العقائد، يقبلها في الأحكام التشريعية ولكن لا يقبلها في العقائد، ومنهم من يُفرق بين المتواتر وبين الأحاد، بينما أهل السنة والجماعة لا يفرقون بين متواتر وآحاد، ولا يفرقون بين الأحكام الشرعية العملية ولا بين العقائد، فيقبلون السنة، لماذا؟
لعموم الأدلّة التي جاءت في القرآن في طاعة الرسول ، وقد قال : «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاع اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ» ، وبهذا يُرد على الذين يزعمون أنهم لا يأخذون إلا بالقرآن، ممن يسمون بالقرآنيين، ومن قلدهم من بعض أتباع الفرق، من التهوين من الاستدلال بالسنة، وعدم الأخذ بالسنة.
نقول لهؤلاء: القرآن يرد على دعواتكم تلك، ما الدليل؟
قال الله تعالى في القرآن: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ فنقول: إذا كنت تدعي أنك تستدل بالقرآن، فإن القرآن يوجب عليك أن تستدل بالسنة كذلك، هذا من باب الإلزام لكل من يقولك أنا أستدل بالقرآن ولا أستدل بالسنة، نقول: هذه دعوة باطلة وكاذبة، لماذا؟ إذا كنت فعلاً تؤمن بالقرآن، وتستدل بالقرآن، فيجب عليك أن تؤمن بالسنة إذا ثبتت صحتها؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ فإذا لم يُؤمن بالسنة جزمًا فهو لا يؤمن بالقرآن، ولذلك قال: (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك)، والإيمان هو التصديق، والاعتقاد، وعدم الرد، وعدم الاعتراض على كلام الله، أو كلام رسوله .
فقوله: (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا) يعني: إيمانا لا تحريف ولا تبديل ولا شك فيه، إيمان لا ريبة فيه، بل هو إيمان صادق، واعتقاد صادق، فـ (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك).
قوله: (كذلك) اسم الإشارة يشير إلى الضوابط والاحترازات التي ذكرها سابقًا في أول الكتاب، وهي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بما جاء في الكتاب، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وأيضًا لاحظ أشار في أول الكتاب -لعل الأخوة يرجعون معنا إلى أول الكتاب لما ذكر الضوابط هذه- من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، أشار أيضا إلى وجوب اتباع الرسول، فقال بعد أن ذكر أدلة القرآن: (ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون على الله ما لا يعلمون) فهو يشير إلى أهل الانحراف، الذين يردون السنة ويؤولونها، ويزعم هذا المحرف أنه أعلم بالله من نفسه، وأعلم برسل الله من ربهم -تبارك وتعالى- وهذا يلزم كل معطل للصفات، وكل مدع أن السنة لا تدل على ذلك، وليس هناك أحد يقول: أنت أعلم بالله من نفسه، وهل أنت أعلم بالله من رسل الله؟
ولذا قال في أول الكتاب: (ثم رسله) وهو هنا يشير إلى حديث «صادقون مصدقون» بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، والذين يقولون عليه ما لا يعلمون هم أهل التحريف، وأهل التعطيل، وأهل التكييف، وأهل التمثيل على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
{قال المؤلف: (فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ)، ويقصد بهذه وهؤلاء المعطلة المحرفة، الذين ينكرون العلو، وينكرون النزول، وينكرون الصفات، ثم يأتون ويلوون أعناق النصوص ويحرفونها، فهؤلاء مخالفون للرسل، مخالفون للكتاب، يقولون على الله ما لا يعلمون، وهؤلاء هم أجهل الناس، وإن تَزَيَّ بالعلم، والدواء العلم إلا أنهم جهال، والعوام أفقه منهم، كيف؟
العوام البسطاء على فترة تسأل أين الله؟ يرفع يديه في السماء أو لا؟ وهذا الذي يزعم العلم تسأله أين الله؟ فتراه لا يحسن الجواب، فأيهم في ظنك أعلم؟
هذا لأنه على الفطرة، وأما ذاك فأغوته شياطين الإنس، وشياطين الجن، حتى المسلمات الفطرية لا يعرف كيف يجيب عليها، ولهذا قال: (بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ‏).
‏ثم ذكر الآية، ثم قال: (فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ) فهذا تأكيد لماذا ذكروا هنا في بيان الاستدلال بالسنة؟ وأن أهل السنة والجماعة يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله .
هنا قد يقال كما قيل في أول الكتاب، لماذا المصنف -رحمه الله- قال: (وما وصف الرسول به ربه -عز وجل-) لماذا ذكر الصفات ولم يذكر الأسماء؟
تقدم هذا والإخوة يذكرون هذا في أول الحلقات، لماذا ذكر في أول الكتاب الصفات ولم يذكر الأسماء؟ وأجبنا عن ذلك بجوابين، لما قال في أول الكتاب: (الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه) ولم يذكر الأسماء، أجبنا ولعل الإخوة إذا يذكرون بجوابين:
الجواب الأول: أن الخلاف في الصفات أوسع وأقوى من الخلاف في الأسماء، فالخلاف في الأسماء ضعيف، فلا يوجد من ينكر الأسماء إلا الجهمية الأوائل، وأما من جاء بعدهم ممن ورث التعطيل كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، فإنهم لا ينكرون الأسماء ولكنهم يقولون: هي أسماء جامدة لا يشتق منها، فالخلاف في الصفات أوسع من الخلاف في الأسماء، فالخلاف في الأسماء ضعيف.
السبب الثاني: أنه إذا ذكر الصفات فإن هذا يتضمن الأسماء، لماذا؟ لأنه ما من اسم إلا ويتضمن صفة، فإذا ذكر الصفات فإنه يدخل في ذلك بالتبع الأسماء، فالمصنف -رحمه الله- اختصر ذلك واكتفى بالصفات؛ لأنَّه ما من اسم إلا ويتضمن صفة لله -تبارك وتعالى- أو أكثر من صفة، وهذا من ضوابط الاستدلال بالسنة، وبيان منزلة السنة من القرآن.
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلى ذكر الشواهد، والشواهد التي ذكر هنا ستة عشر حديثاً، غالبها في الصحيحين، أو في أحدهما فقط، وأربعة أحاديث في غير الصحيحين، وهذه الأحاديث هي: الحديث الرابع، والثامن، والعاشر، والثاني عشر.
وأما الأحاديث الأخرى فهي في الصحيحين، بمعنى أنه قال عبارة: (متفق عليه)، وهذا يعني أن هذه الأحاديث في أعلى دراجات الصحة، لأن أهل العلم يقسمون درجات الصحيح إلى:
المتفق عليه وهذا في أعلى درجات الصحة، ثم يليه ما رواه البخاري لقوة شرطه، ثم يليه ما رواه مسلم، ثم ما كان على شرطيهما، أي: ما كان على شرط الصحيحين ولكن لم يخرجاه؛ لأنهما لم يلتزما بإخراج جميع الأحاديث التي على شرطيهما، فقد تكون هناك أحاديث صحيحة على شرط البخاري وشرط مسلم، ولكنهما لم يخرجوها، وهذا يدخل فيه المستدركات، فهذا في المرتبة الرابعة.
والمرتبة الخامسة: ما كان صحيحًا على شرط البخاري ولم يخرجه.
المرتبة السادسة: ما صح على شرط مسلم ولكنه لم يخرجه.
المرتبة السابع: ما صح من الأحاديث ولم يكن على شرطيهما.
إذن هذه هي مراتب الحديث الصحيح، وهي سبع مراتب، أعلاها ما كان في الصحيحين، وهذه الأحاديث التي بين أيدينا غالبها في الصحيحين، ولذا فهي في أعلى درجات الصحيح.
{قال -رحمه الله-: (مِثْلُ قوْلِهِ :‏ ‏«‏يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فيقُولُ‏:‏ مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ‏»‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ‏)}.
هذا هو الحديث الأول، وهو حديث النزول، وهو من الأحاديث المتواترة، ولهذا أفرده بعض أهل العلم بمؤلفات خاصة، فابن تيمية -رحمه الله- صاحب هذا المتن أفرده في مؤلف خاص، سماه: "شرح حديث النزول"، وهو كتاب مطبوع، ومحقق في رسالة علمية.
وقبله أيضا الإمام الدار قطني أفرد له أيضًا مصنفًا خاصًا، وهو كذلك كتاب النزول للإمام الدار قطني، وهو مطبوع ومحقق، والدار قطني أيضا له كتاب آخر في صفة الرؤية، أيضا مطبوع ومحقق، فحديث النزول من الأحاديث المتواترة، وفيه إثبات صفة النزول.
«ينزل» الفعل ينزل يؤخذ منه إثبات صفة النزول للرب -تبارك وتعالى-، فأهل السنة يؤمنون بهذا، كما يؤمنون بالقرآن من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيقولون: نؤمن بما وصف به النبي ربه في قوله: «ينزل»، فنثبت أن الله -عز وجل- ينزل نزولا يليق بجلاله إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، ويقال في النزول كما قال الإمام مالك في الاستواء، الإمام مالك ماذا قال في الاستواء؟
قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، يعني: السؤال عن الكيفية؛ لأن العقول لا تحيط بكل شيء، فلا تحيط بكيفية الصفات، لماذا؟ لأن العقول قاصرة. انظر كيف يتدرج العقل من عقل الطفل الصغير، فيبدأ يتدرج ولا يستوعب كل شيء، حتى الذي بلغ مبلغا من العلم تجد أن ما يجهله من العلوم أكثر مما يعرفه، وحتى لو بلغ ما بلغ، حتى ولو كان عبقرياً ونال الجوائز العالمية، ستجد من العلوم الأخرى التي يجهلها أكثر بكثير مما يعرف.
إذن هل العقل يحيط بكل شيء؟
لا يحيط بكل شيء، لأنه قاصر، فكيف يُقْحَم العقل في عالم الغيب، وما يتعلق بالرب تبارك وتعالى؟
فمهما بلغ العقل ما بلغ فهو قاصر، بل إن هذا العقل إذا بلغ سنًا متقدمة وأصيب بمرض الزهايمر، ما الذي يصير لهذا العقل؟ يفقد كل شيء. انظر قد بدأ ضعيفًا وأنت ضعيف، ولهذا الذي يُرجعك إلى عقول البشر، تقول له: أي عقل ترجعني إليه؟ هل ترجعني إلى عقول الأطفال الصغار؟ أو إلى عقول الكبار الذين أصيبوا بالزهايمر ونسوا أسماءهم وأسماء أبنائهم؟
إذن العقول قاصرة، ولهذا لا تُدرك هذه الأمور الكبيرة المتعلقة بالوحي وعالم الغيب، ولهذا ضل من ضل من الفلاسفة لَمَّا أقحموا العقول في عالم الغيب الذي لا تحيط به العقول، بل هؤلاء الذين يزعمون العقل، وأن العقل يدرك كل شيء، هم أنفسهم يدركون وفي تخصصاتهم العلمية -في تخصصات الطب والهندسة- أن العقول ما تدرك كل شيء.
هل المهندس العبقري يدرك مهنة الطب؟ وإذا مرض أين يذهب؟
يذهب للطبيب؛ لأنه لا يعلم، نعم هو عبقري، ولو تعطلت سيارته ما يعرف كيف يصلحها! لو تعطل هاتفه المحمول، أين ذهب عقله؟ إذن العقل محدود أو لا؟
هو يزعم أنه يعرف كل شيء، ومع ذلك فجهازه البسيط إذا تعطل ربنا يصلحه له إنسان ليس غير متعلم وغير حائز على شهادات مثله.
إذن هذا العقل محدود، فالذين يقحمون عقولهم في الوحي وعالم الغيب، يقحمون عقولهم في ما لا تدركه؛ لأن العقول محدودة، ولهذا انظروا إلى العلماء كيف يقولون بهذه الصفات.
الاستواء معلوم باللغة، ولكن الكيف مجهول؛ لأن العقول لا تحيط بهذه الأمور لضعفها، والإيمان به واجب، والسؤال يعني عن الكيفية بدعة؛ لأنها تقحم العقل في أشياء يدرك العقلاء أنها خارج قدرات العقل.
كذلك يقال في النزول نفس القاعدة، ماذا يقال في النزول؟ طبق القاعدة على النزول كيف؟ النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا نقول للأبناء هذه القاعدة التي قالها الإمام مالك في الاستواء، طبقها في جميع الصفات.
فإذا سألكم سائل، كيف ينزل؟ تجيبه بقاعدة الإمام مالك، ولو وردت شبهة أو إشكال أو وردك سؤال عن شخص يقول: كيف ينزل؟
قل له: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولهذا فأهل السنة والجماعة يؤمنون بصفة النزول، كما قال الصادق المصدوق : «ينزل ربنا» فيه صفة النزول، «ربنا» فيها إثبات صفة الربوبيّة، ومن أسمائه الرب، «إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ فيقول» الفعل «يقول» يؤخذ منه صفة القول، فلاحظ كم صفة؟
«فيقُولُ‏:‏ مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ» صفة ماذا؟ صفة الاستجابة، فهو يستجيب للداعين.
«مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ‏» صفة ماذا؟ صفة الإعطاء.
«مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ‏» صفة ماذا؟ صفة المغفرة.
فليتأمل الإخوة الكرام هذا الحديث، كم من الصفات التي اشتمل عليها الحديث، "ينزل ربنا، فيقول، فيستجيب، فأعطيه، فأغفر له" اشتمل على ست صفات، وكذلك "ينزل" كما فيه إثبات صفة النزول، وفيه إثبات صفة أخرى باللازم، وهي صفة النزول، أين يكون؟ من أعلى إلى أسفل، ففيها إثبات صفة العلو للرب -تبارك وتعالى-، ولهذا تجد المؤمنين بهذه الصفة من خواص خلق الله -تبارك وتعالى- يقومون في هذا الوقت الفاضل في الثلث الأخير من الليل، فيسألون الله -عز وجل- من فضله؛ لأن الله يقول: «مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ‏»‏، فتجد الموفقين من عباد الله، ومن خواص خلق الله، يقومون في هذا الوقت الفاضل، فيصلون ويدعون ويسألون ربهم ويستغفرونه، لماذا؟ لأنهم يؤمنون بربهم تبارك وتعالى، وهذه العقيدة من الفطرة عند عوام المسلمين، ولذا لَمَّا يقرأ عوام المسلمين هذا الحديث يؤمنون به، ولهذا يسألون الله من فضله، فيحرص الواحد منهم خاصة أصحاب الحاجات إلى القيام في هذا الوقت الفاضل في الثلث الأخير من الليل، يرفع يديه إلى السماء، لاحظ كيف يؤمنون بالعلو، ويؤمن بأن الله -عز وجل- يستجيب الدعاء، ويعطي السائل، ويغفر لمن استغفره، فهذه من آثار الإيمان بهذه الصفات، وآثار الإيمان بهذه الأحاديث، وكذلك آثار الإيمان بالرسول لماذا؟
لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله تصديقه فيما أخبر، فإذا جاء معطل وأنكر على حديث، فنقول: أنت لم تؤمن بالنبي حقيقة الإيمان. لماذا؟ نقول: لأن حقيقة الإيمان بالرسول أن تصدقه فيما أخبر، وقد أخبر وهو الصادق المصدوق عن ربه -تبارك وتعالى- أنه ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، ولهذا تجد أثر هذا الإيمان لدى المؤمنين الصادقين عندما يقومون في هذا الوقت، فيتعرضون إلى رحمة الله -تبارك وتعالى- خاضعين، مُوقنين، مُستغفرين، تائبين، داعين ربهم -تبارك وتعالى- وهو سبحانه وتعالى لا يخيب من دعاه، ولا يخيب من رجع.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ :‏ ‏«‏لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهُ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ»‏)‏‏}.‏
«لَلَّهُ» فيه إثبات اسم الله تعالى، ويتضمن إثبات صفة الألوهية.
«أشد فرحًا» فيه إثبات صفة الفرح، ويقال فيها كما يقال في سائر الصفات، فرح حقيقي يليق بالرب -تبارك وتعالى-، لا يماثل فرح المخلوقين كسائر الصفات.
«‏لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهُ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ»‏ الحديث جاء في سياقه قصة الرجل الذي فقد راحلته وهو في فلاة، فظن أنه قد هلك، لأن عليها طعامه وشرابه، ثم استيقظ وإذا هي عنده، فقال من شدة الفرح: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»، فالله -تبارك وتعالى- أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته، وهذا من باب التقريب لفهم المعنى، وإلا فشأن الرب أعظم، ولكن لله المثل الأعلى لرحمته -تبارك وتعالى- ولجوده، ولإحسانه، فهو -عز وجل- يفرح بتوبة عبده أشد من أحدكم إذا فقد راحلته ثم وجدها.
ونوع هذا الفرح هو فرح وجود، وفرح إحسان، وفرح كرم، وفرح رحمة من الرب تبارك وتعالى بعبده، فالشاهد: إثبات صفة الفرح لله -تبارك وتعالى- على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى، كما يقال في سائر صفاته.
أيضا تجد المؤمنين الصادقين يتوبون إلى ربهم -تبارك وتعالى- لماذا؟ لأنهم يعرفون أن الله يحب التوابين، وأن الله -تبارك وتعالى- يفرح بتوبة عبده، فنقول لكل تائب: أبشر بفضل الله، فالله -عز وجل- يفرح بتوبتك، وهذا يدعوه إلى التوبة، والتوبة مُطالب بها كل مؤمن، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، فالله يفرح بتوبة عبده، وهو كذلك ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ وهي صفات تليق بالرب -تبارك وتعالى- على الوجه الذي يليق به.
من آثارها أن المسلم يتوب إلى الله -تبارك وتعالى-؛ لأن الله يفرح بتوبة عبده، ويحب -سبحانه وتعالى- التوابين.
{قَالَ -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ‏ :‏ «‏يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ‏»‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}‏.
هذا الحديث يدل عَلى فضل الرب -تبارك وتعالى-، وعلى جوده وكرمه وإحسانه، وهذا أثر من آثار الإيمان بالأسماء والصفات، فالله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ وهذا يشمل: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، ومن دعاة العبادة أنك تسأل الله، وأن تدعوه وتستغفره، وأن تتوب إليه سبحانه، كل ذلك أثر من آثار الإيمان بهذه الأسماء والصفات، التي تدل على كرمه وجوده ورحمته، فتبارك سبحانه وتعالى الجواد الكريم، الذي لا يحصي العباد ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه العباد سبحان ربنا وتبارك اسمه.
قال: «يضحك» الفعل هذا فيه إثبات صفة الضحك، وهو ضحك حقيقي يليق به تبارك وتعالى، لا يماثل ضحك المخلوقين، بل إنه ضحك حقيقي يليق به، كفرحه سبحانه وتعالى، وكسائر صفاته. ما وجه هذا الضحك؟
وجه هذا الضحك «‏يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ‏» جاء في سبب الحديث أنه يُقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب القاتل فيسلم ثم يستشهد في سبيل الله ويقتل، فالله -تبارك وتعالى- يضحك من حال هذا.
دليل الضحك هو دليل على كرمه وجوده وسعة رحمته، فكلاهما يُقتل، ومع ذلك كلاهما يدخل الجنة؛ لأن الأول قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ثم منّ الله -تبارك وتعالى- على القاتل بالتوبة، وبعد توبته قاتل في سبيل الله، ثم قُتل شهيداً كذلك، فكلاهما يدخلان الجنة.
هذه الأحاديث كلها كما تقدم تدلّ على سعة رحمة الله، والمبتدعة منهم من ردَّ الأحاديث بزعم أنها أحاديث أحاد لا يحتج بها، وكأنه يستدرك على الله وعلى رسول ، ويستدرك على الصحابة الكرام، وهذا نوع من أنواع الضلال والانحراف من أهل البدع في القديم والحديث.
ونوع آخر خشي من رد السنة، ومن ردود أهل السنة عليه، فتحاشى ذلك فقال: إنَّ هذه الأحاديث لها معنى ما فهمه الصحابة! سبحان الله! ما المعنى عندك؟ قال: الذي ينزل ليس هو الرب، بل الذي ينزل ملك، فقيل له، وهل الملك يقول: من يدعوني فأستجيب له؟
فتراه يقول: الرحمة هي التي تنزل! نقول: وهل الرحمة تقول: من يدعوني فأستجيب له؟
قال: لا، إذاً هذه الأحاديث غير مفهومة المعنى، نقول: وهل نحن نخاطب بلغة لا نفهمها؟ فكل ما يقوله المعطلة من تحريف -طبعاً يسمونه تأويلا وهو تحريف، وكله باطل- والحديث يدل على بطلانه، وهكذا يفسرون الفرح والضحك بأنه الثواب، أو إرادة الثواب.
نقول: الثواب وإرادة الثواب هي ثمرات الفرح، وثمرات الضحك، وأما الضحك فهو الضحك الذي يليق بالرب، على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏«عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزَلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ‏»‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ)}.
هذا الحديث طبعا اختلف عن الأحاديث الثلاثة الأولى، فالأحاديث الثلاثة السابقة كلها متفق عليها، وأما هذا الحديث فهو حديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه، من حديث أبي رزين العقيلي، وحكم عليه المصنف بأنه حديث حسن من حيث المتن، فإن متنه قد دلت عليه شواهد أخرى، فالصفات التي جاءت في المتن تدل عليها أدلة أخرى، وإن كان الإسناد فيه ضعف، إلا أنه من حيث المتن، فإن المتن قد دل على الصفات التي فيه أدلة أخرى.
«عجب» فيه إثبات صفة العجب، والعجب هو استغراب الشيء، وله سبب من حيث الأصل، فالسبب الأول: أن يكون السبب فيه خروج لهذا الشيء عن نظائره، وهذا ثابت في حق الرب -تبارك وتعالى-. طبعا يكون خروج الشيء عن نظائره من غير قصور في علم المتعجب، وهذا الذي يثبت في حق الرب -تبارك وتعالى.
النوع الثاني: أن يكون السبب هو خروج الشيء عن نظائره، لخفاء السبب على المتعجب، وهذا ليس في حق الرب -تبارك وتعالى-.
إذن الذي يُثبت للرب "عجب" يليق به، يدل على كماله، ولكنه يعجب من خروجه هذا الشي عن نظائره مع علمه سبحانه وتعالى بالسبب.
«عجب ربنا» أيضًا فيه إثبات صفة الربوبية، من قنوط عباده، وقرب غيره، بمعنى: قرب تغييره، وعلى هذا يكون المعنى الذي جاء في الأدلة الأخرى يعني: قرب غيره، الذي هو قرب تغييره، وزوال الشدة.
«ينظر» إثبات صفة النظر. «يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزَلينَ قَنِطِينَ» وجاءت بالتشديد وجاءت بالتخفيف، و «أَزَلينَ» يعني: واقعين في الشدة، و «قَنِطِينَ» القنوط هو اليأس من الفرج، ومن زوال الشدة.
«يضحك» فيها إثبات صفة الضحك، وقد جاء في الحديث المتفق عليه.
«يَعْلَمُ» إثبات صفة العلم، وهي من الأدلة التي جاءت في القرآن بكثرة.
«يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ» إذن فيه إثبات صفة العجب، وهي من صفات الربوبية، النظر، الضحك، العلم، القرب.
أما صفة العجب فقد جاءت في أحاديث في البخاري، فقد جاء في البخاري أنَّ النبي قال: «لقد عجب الله» أو «ضحك الله من فلان وفلان» فإذن هذه الصفة جاءت في الصحيح، وجاءت أيضا في القرآن الكريم في قراءة ابن مسعود {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر، فهي إذن جاءت في القرآن، وجاءت في السنة كذلك.
وأيضا في أحاديث أخر: «إنَّ اللهَ لَيَعجَبُ مِنَ الشابِّ ليست له صَبْوةٌ» ، فهذا الحديث وإن كان حسنًا، إلا أنه من حيث المتن فما جاء فيه من صفات فقد دلت عليها الأدلة من القرآن والسنة.
وأهل السنة يؤمنون أيضا بما جاء فيه من الصفات، وهذا كما ذكرنا في أول هذا الفصل (تلقاها أهل المعرفة بالقبول) وهي الصحيحة من حيث الجملة، ومن حيث المتن، وتلقى أيضا أهل العلم هذه الأحاديث بالقبول، وينطبق على القاعدة التي ذكرها في أول الفصل.
طبعا فيه من الفوائد دليل على رحمة الله -عز وجل- بعباده، وعلى لطفه -تبارك وتعالى-، وفيه أيضا إرشاد إلى اللجوء إلى الله وعدم القنوط وعدم اليأس؛ لأن الله -عز وجل- قريبٌ من عباده، يغفر الذنوب، ويزيل الكروب، ويستجيب الدعاء، والمشهور قرب غيره أي: تغييره للشدة بالرخاء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ :‏ ‏«‏لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ‏:‏ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ ‏[‏وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ عَلَيْهَا قَدَمَهُ‏]‏ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ‏:‏ قَط قَط‏».‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}‏.‏
هذا هو الحديث الخامس، وهو من الأحاديث المتفق عليها، وفيه إثبات صفة القدم للرب -تبارك وتعالى-، وفي بعض الروايات كما جاء "رجله" ففيه إثبات صفة القدم أو يعبر عنها بالرجل، فنثبتها لله -تبارك وتعالى- على الوجه الذي يليق به، كما نثبت صفة اليدين، وصفة العينين، وكذلك نثبت صفة القدم، هل هي قدم واحدة أو قدمان؟ الذي جاء في الصحيحين قدمه أو رجله، ولكن جاء في أثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في وصف الكرسي، قال: "هو موضع قدمي الرب"، فأهل السنة والجماعة يثبتون القدمين لله؛ لأن هذا الأثر عن ابن عباس لا يقال بالرأي، فله حكم الرفع.
قال وهو الصادق المصدوق «لا تزالُ جهنَّمُ يُلْقَى فيها» أي: يوم القيامة، وهي تقول -طبعا هذه من الأمور التي يؤمن بها أهل السنة والجماعة- كيف جهنم تقول ذلك؟
الله -عز وجل- يجعل الأشياء غير المحسوسة تتكلم، ولذلك يؤمن أهل السنة والجماعة أن الحجر يسبح لله -تبارك وتعالى-، وهكذا في أمور الآخرة، فهذه النار تقول: الله -عز وجل- على كل شيء قدير، تقول: «هل من مزيد؟ حتى يضع»، وهذا فيه إثبات صفة الوضع.
رب العزة أيضا من الأسماء الإضافية فيها رجله، إثبات صفة الرجل، وفي رواية: «عليها قدمه، فإذا انزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط» يعني: حسبي حسبي، وهذا أيضا من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن النار إذا بقي فيها متسع بعد أن يدخل أهل النار النار يبقى فيها متسع، فإن الله لا يُنشئ لها خلقاً لكمال عدله، وإنما يضع قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: «قط قط»؛ لأن النار تقول كما ذكرت: «هل من مزيد؟ فيضع الرب قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض».
وأمَّا الجنة فإذا بقي فيها فضل بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة، فإن الله من كرمه وجوده وإحسانه ينشئ لها خلقها، وهذا من فضل ربي -تبارك وتعالى-.
وفي هذا إثبات صفة القدم، وأيضا بقية الصفات.
لعلنا نكتفي بهذا، ونسأل الله -عز وجل- العلم النافع والعمل الصالح، وأن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
{شكراً لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك