{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات أهلا ومرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نستكمل فيها شرح (العقيدة الواسطية)، مع ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د. سهل بن رفاع العتيبي. باسمي واسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق لِمَا يحب ويرضى، والعلم النافع والعمل الصالح.
{نستأذنكم شيخنا في البدء بقراءة المتن}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ بَعْدَ هّذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ، وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ ﷺ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، أمَّا بعد، فلا يزال الحديث موصولاً في الموضوع الثاني في هذا الكتاب، والذي عقد له المؤلف -رحمه الله- فصلاً مُستقلاً فيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، قال في بداية هذا الفصل -كما تقدم في الحلقة السابقة-: (وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ) إذن الإيمان بهذا الركن يتضمن أموراً كثيرة.
والمصنف -رحمه الله- وضع ضابطاً جامعاً نافعاً لتعريف الإيمان باليوم الآخر، فقال: (الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ) إذن الإيمان بهذا الركن الذي كثيرا ما يقترن بالإيمان بالله يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به النبي ﷺ، سواء مما جاء في القرآن، أو جاء في السنة الصحيحة، مما يكون بعد الموت، إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
والناس في إيمانهم بهذا الركن العظيم من أركان الإيمان درجات كبقية أركان الإيمان، فمنهم من يحقق الأصل، ومنهم من يحقق الكمال الواجب، ومنهم من يحقق الكمال المستحب، فأهل الإيمان منهم من معه أصل الإيمان والتوحيد، ومنهم من معه كماله الواجب، ومنهم من معه كماله المستحب، وهكذا هم في هذا الركن.
فتجد من المؤمنين من عنده إيمان مجمل، لقصور في علمه، ولقصور في همته، وقصور في طلبه في العلم، فهو يكتفي بالإيمان المجمل، وهناك من عنده همّة عالية، فيحرص على الإيمان الكامل بالواجبات، وهناك من عنده همّة أعلى فيحرص على الإيمان المفصل، وهو الإيمان المستحب، وكل درجة أهلها درجات.
وهكذا أيضا المفرطون في هذه الأركان، تجد أن المفرطين فيهم إمَّا أهل بدع وأهواء، وعندهم ضلال وانحراف بسبب أصول فاسدة، فردوا كثيرا من أمور الآخرة كإنكار الشفاعة، وإنكار الموازين، وإنكار الحوض ونحو ذلك مما يقع عند أهل الأهواء والضلال، وذلك بسبب انحراف في طرائق الاستدلال، وبسبب عرض نصوص الوحي على عقولهم القاصرة، فيقبلون بعضا ويردون بعضَا، فإذا سألت لماذا قبلت هذا ورددت هذا؟ يرجعك إلى عقله القاصر.
وكذلك صنف آخر وهم أهل العصاة، فهو قد يؤمن إيمانا مجملا، ولكن هذا الإيمان ضعيف، لا يدفع إلى الاستعداد للآخرة، والخوف من عقاب الله، والرغبة في ثواب الله، كما تلاحظ من يؤمن بالصلاة، ويعرف قدر الصلاة، ويعظم شأن الصلاة، ولكنه يقصر، يأتي إليها متأخرا، وينقرها ولا يطمئن فيها، ليس لجهله بمكانة الصلاة، وإنما لضعف إيمانه وضعف همته.
وهكذا يقال في سائر الطعام، فتجد في هذه الأركان الكمل، وتجد فيهم المقتصد، وتجد فيهم الظالم لنفسه.
المصنف -رحمه الله- قال: (وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ) فهو في هذا الكتاب المختصر لا يذكر كل ما يتعلق بأحوال الآخرة، هذا يحتاج إلى مجلدات، وقد أفرد أيضا هذا الركن في مجلدات خاصة، والحديث عنه في القرآن كثير، وكذلك في الأحاديث، وفي تفسير أهل العلم لهذه الآيات التي جاءت في الإيمان باليوم الآخر، وفي شروحات الأحاديث، يكتب في هذا الركن مجلدات.
وفيما يتعلق بهذا المتن، فقد ذكر المصنف -رحمه الله- ثلاث موضوعات:
الموضوع الأول: ما يتعلق بأحوال البرزخ، وهو عالم القبر وما فيه من الفتنة والسؤال والامتحان، التي هي فتنة القبر، السؤال والامتحان والاختبار عن الأصول الثلاثة، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
ثم بعد ذلك إمَّا أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، وإمَّا أن يكون حفرة من حفر النيران، نسأل الله -عز وجل- أن يثبتنا وإخواننا المشاهدين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يُعيذنا من عذاب القبر، ومن فتنة القبر، وأن يجعل قبورنا وقبور أمواتنا روضة من رياض الجنة بمنه وكرمه.
وتحدثنا عما يتعلق بعالم البرزخ والفتنة، وأنَّ العذاب في القبر -أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر- على نوعين: هناك عذاب دائم، وهذا في حق الكفار، كما قال الله -تبارك وتعالى- في آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر:46]، فدلت الآية على أنَّ العذاب مستمر في حق الكفار.
وهناك عذاب له أمد في حق بعض العصاة كما دلَّ عليه قول النبي ﷺ في حديث القبرين، «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» وكلمة يخفف تفيد أن العذاب في القبر قد يزول بسبب أداء الحقوق التي كانت في ذمته، كدين كان في ذمته، فسدد هذا الدين عن حقوق لم يؤدها الميت، فأدّاها ورثته وأبناؤه وأولاده، «دين الله أحق بالقضاء»، فتبرأ ذمته، أو ثواب يهدى للميت فينتفع به، أو استغفار المسلمين للميت، أو دعاؤهم لموتاهم، هذا ينفعه ويصله هذا الثواب.
إذن العذاب في القبر قد يكون له أمد في حق بعض العصاة، فينقطع كما دل عليه الحديث، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله- بعد أن ختم ما يتعلق بأحوال البرزخ: (ثُمَّ بَعْدَ هذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ) يعني: إمَّا أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، وإما أن يكون حفرة من حفر النيران، والميت يعذب في قبره على أي حال كان، سواء دفن، أو أكلته السباع، أو أكلته الحيتان، أو أحرقته النيران؛ لأن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، عالم آخر مستقل في أحكامه لا يقاس بالعقل القاصر على أمور الدنيا لماذا؟ لأنه عالم مختلف ليس عالم تكليف، وعالم يختلف عن عالم الدنيا.
قال بعد ذلك: (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى) يعني: العذاب والنعيم قد يستمران إلى أن تقوم القيامة الكبرى.
لماذا عبر بالقيامة الكبرى؟ وهل هناك قيامة صغرى؟ الجواب: نعم، «مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُه» وقد قلنا في الدرس السابق: إن الإنسان قريب من الآخرة، بل قريب جدا من الآخرة، لا يدري متى ينتقل؟ ربما ينتقل في لحظة، وفجأة يلبس هذا الثوب ويغلق الأزرار ولا يفكها إلا غاسل الموت. ربما يخرج من بيته ويكون هو الخروج النهائي، أو ينام وقد لا يستيقظ، ولذا لابد أن يكون الإنسان على استعداد للموت.
قال: (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى) والمقصود بالقيامة الكبرى، أي: حين يُنفخ في الصور النفخة الثانية؛ لأن إسرافيل وهو الملك المؤكل بالنفخ في الصور على الصحيح ينفخ في الصور نفختين:
نفخة الصعق، وهذه النفخة يموت الأحياء على وجه الأرض، إلا من استثنى الله -تبارك وتعالى-، ثم يمكث أربعين، الله أعلم بهذه الأربعين، ثم ينفخ النفخة الثانية، التي هي نفخة البعث، التي قال فيها: (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى)، ويقصد بذلك النفخ في الصور النفخة الثانية.
ومسألة البعث من المسائل التي أنكرها المشركون، ولهذا جاء تقرير هذه المسألة في القرآن كثيرا، ولهذا ذكرنا في أول العقيدة أن المصنف -رحمه الله- نص في أول العقيدة على مسألة البعث، قال: (أما بعد، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية الطائفة المنصورة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره)، ونصَّ على البعث؛ لأنه في زمن الرسول ﷺ وجد من يُنكر البعث، وهكذا في زمننا من الملاحدة، ومن بعض مدعي الإسلام من ينكر البعث، وبعضهم ينكر بعث الأجساد لا بعث الأرواح، وكذلك يوجد أيضا في الملاحدة والزنادقة في هذا العصر من يُنكر البعث.
والمتأمل في القرآن الكريم يجد الأدلة في إثبات البعث متنوعة، بل إن أدلة القرآن التي جاءت في إثبات البعث في القرآن الكريم أدلة عقلية، كيف أدلة عقلية؟
خاطب الله تبارك وتعالى العقلاء فيها، فذكر من أدلة البعث الأدلة الحسية، التي هي أدلة مشاهدة كإحياء الله تعالى للموتى كما جاء في سورة البقرة في قصة القتيل، الذي قتل رجلاً فأمرهم الله بذبح البقرة، وكذلك في قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكذلك آية عيسى عليه السلام، يحيي الموتى، وكذلك في قصة إبراهيم لَمَّا قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة:260]. هذه أمثلة حسية، وكذلك قصة أصحاب الكهف ونحوها.
ومن الأدلة الحسية التي جاءت في القرآن: إنبات النبات، حيث ورد في القرآن كثيرًا، الأرض يشاهدها الإنسان تكون مصابة بقحط سنوات جرداء ليس فيها أي نبات، فيُنزل الله المطر فتنبت من كل زوج بهيج، كذلك يحيي الله الموتى.
وهذا الدليل كما يلاحظ الإخوة، عند التأمل وتدبر القرآن، نجده قد ورد في القرآن كثيرًا، في سورة الحج، في سورة قاف، التي تقرأ في كل جمعة وفي الأعياد، كان النبي ﷺ يقرأها لما فيها من أدلة إثبات البعث والنفخ في الصور، والبعث كذلك يكون في يوم جمعة، وكذلك في سورة السجدة، وفي سورة الإنسان، ويستحب أن تقرأ في فجر الجمعة لِمَا فيها من التذكير بالبعث، وهكذا في سورة الواقعة، وفي سور كثيرة، يجد الدليل العقلي في سورة الحج، في الاستدلال بالمبدأ على المعاد.
وفي آخر سورة يس أدلة عقلية، في قصة الرجل الذي جاء للنبي ﷺ بعظم رميم ففته أمام النبي ﷺ ثم قال: يا محمد هل يحيي هذا ربك بعد أن كان رميما؟ فأنزل الله قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ سبحان الله! انظر أحياناً هؤلاء الضعفاء يخاصمون رب العالمين، يجادلون الوحي، وقد ونسي هذا المسكين كيف بدأ؟ ونسي هذا المسكين كيف ينتهي؟ هو يأتي يفتل عضلاته، ويحكم عقله في نصوص الوحي، وقد نسي!
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾ انظروا هذا التوبيخ، وهو توجيه للإنسان الذي كرَّمه الله، والإنسان الذي يعقل، أنك لا تتجاوز حدودك، انظر ماذا كنت ولا تتكبر، وخاصة أسوء ما يكون إذا كان هذا التكبر على رب العالمين، ويتكبر على كلام الله، فضلا عن أن يتكبر على عباد الله.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ﴾ من ماذا؟ ﴿مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ من يخاصم؟ رب العالمين، يجادل في الآيات وفي الأحاديث، ويعترض على رب العالمين، ونسي هذا المسكين ماذا كان؟!
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ هذه شبهة الملاحدة في كل زمان ومكان حتى في هذا العصر، ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ انظروا إلى الأدلة العقلية، ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس:77-83].
تأملوا هذه الأدلة في آخر سورة يس تجدونها أدلة عقلية، وهكذا أدلة الشرع أدلة عقلية، يُخاطِب الله بها العقلاء، وأقول العقلاء، ويعقلها العقلَاء، وأما من لا يعقل فإنهم يعترفون على أنفسهم يوم القيامة، ماذا يقولون؟
يقولون: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ هذه الأدلة في آخر سورة يس، الاستدلال بالمبدأ على المعاد، فمن ينكر البعث نقول: الذي خلقك من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، فكسا العظام لحمًا، ثم أنشأك من ضعف، ثم قوة، ثم ضعف، قادر على أن يعيدك، بل أيهما أهون خلقه من تراب أو من نطفة أم إعادته؟! الإعادة أهون بالطبع.
ثم أيضا الاستدلال بخلق الأكبر على خلق الأصغر، الذي خلق السماوات والأرض، فضلا عن الكرسي، فضلا عن العرش، هذه المخلوقات، ولهذا علماء الفلك يقيسون المسافة بين المجرات بالسنة الضوئية، يعني ليس بالكيلومتر، بل يقولون: بالسنة الضوئية، يعني بسرعة الضوء، ولهذا يقولون: مليار مليار المسافات، أنت في عالم عظيم، وخالق العظيم عظيم، ولهذا كان الإنسان ضعيفًا.
انظر المسافة بين المجرات وتأمل وتدبر في عظمة مخلوقات الله، فالذي خلق الأكبر قادر على أن يعيد خلق هذا الإنسان الضعيف الذي كان من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظام، ثم ضعف، ثم قوة، ثم ضعف.
ثم الاستدلال بالنبات، وهو مثال حسي أمام الإنسان، ثم استدلال بالقدرة الإلهية ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس:82]، فأمره بعد الكاف والنون.
على كل حال أدلة البعث كثيرة، ولهذا قال: (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ) والمصنف هنا يشير إلى أنَّ البعث يكون للأرواح والأجساد خلافاً للفلاسفة المنتسبين للإسلام، الذين يزعمون أن البعث إنما هو للأروح دون الأجساد، يوجد في الفلاسفة ربما يعظمه البعض، وهم وصلوا إلى درجة الإلحاد والزندقة.
وإذا سألت هؤلاء لماذا تنكرون بعث الأجساد؟ قالوا: لأنها غير معقولة!
نقول: هي غير معقولة في عقولكم القاصرة، ولكن عند العقلاء معقولة.
ولهذا قال: (فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ) دلَّ على أن البعث يكون للأرواح والأجساد.
(فَتُعَادُ) ماذا يفهم من كلمة (فتعاد)؟ هل البعث تجديد للخلق أم هو إعادة؟ هو إعادة كما قال الله -تبارك وتعالى- في آخر سورة الأنبياء: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء:104]، ولهذا يُبعث الإنسان على ما مات عليه، نسأل الله حسن الختام.
ولهذا لاحظ أن المُحرم يُبعث يوم القيامة مُلبيًا كما قال النبي ﷺ في الذي وقصته راحلته وهو واقف بعرفة: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»[1]، فيبعث على ما كان عليه.
الشهيد الذي قُتل في سبيل الله يبعث ودمه يثعب، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وهكذا الإنسان الذي يكون على الهدي والسمت النبوي يبعث كذلك، ومن كان على خلاف ذلك يلقى الله على الصورة التي مات عليها.
آكل الربا كيف يبعث؟ ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ لماذا؟ ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ هذه هي الأهواء، وهذه هي القياسات الفاسدة عند سقماء العقول، يعترضون على الشرع، ولهذا انظر كيف وبخهم؟ وكيف يقومون يوم القيامة؟ يقومون كالمجانين.
والآية فيها دليل على تلبس الجني بالإنسي أيضًا خلافاً لمن يُنكِر بزعمه أنه غير معقول! نقول: هل المرجع لعقلك أو المرجع للوحي؟! لو رجع الناس لعقلك لضللت نفسك وأضللت الناس، لأنك كنت ضعيفًا وستنتهي ضعيفًا.
﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، فآكل الربا والعياذ بالله يقوم كالمجنون، فيتساءل الناس من هؤلاء؟ فيقال: هم أكلة الربا.
ومن شرب الخمر ومات من غير توبة، فإنه يبعث والخمر في بطنه والعياذ بالله، إذا احتسى أم الخبائث خاصةً -نسأل الله السلامة- إذا هلك بسبب تعاطيها، فإنه يبعث على ما كان عليه.
وهكذا من قتل نفسه، فإنه يُعذب بما قتل به نفسه يوم القيامة، خاصةً مثل هؤلاء المعتوهين المخذولين، يلبس الأحزمة الناسفة ثم يفجر نفسه، أعوذ بالله، أسوء ما يكون إذا فجر نفسه بهذه الأحزمة الناسفة في بيوت الله، وبين يدي المصلين، كيف يلقى الله؟! نعوذ بالله من الخذلان، يضع حزامًا ناسفًا ثم يدخل مسجد فيفجر نفسه بين المصللين وأمام المصحف، نعوذ بالله من الخذلان، نعوذ بالله من الهوى!
انظر الهوى كيف يؤدي بأصحابه إلى هذه الخاتمة السيئة، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، فالهوى والضلال خطير، أخطر من الشبهات ومن المعاصي؛ لأنه يؤدي بصاحبه إلى هذه النهاية المأسوية، فيلقى الله -عز وجل- على هذه الحال.
فالشاهد من هذا أن الإنسان يبعث على ما كان عليه، نسأل الله حسن الخاتمة، ولهذا السلف كان يخافون من سوء الخاتمة، ويحرصون على حسن الختام، نسأل الله -عز وجل- أن يحسن خاتمتنا، وخاتمة إخواننا المشاهدين والمسلمين، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يتوفنا على الإسلام والسنة.
قال: (وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ) هنا يشير إلى مصادر تلقي العقيدة، وأيضا يشير إلى أدلة البعث، وأن أدلة البعث في الكتاب والسنة والإجماع، هذه هي الأدلة الأصلية، وبقية الأدلة هي التي يسميها أهل العلم: المصادر الثانوية، أو المصادر الفرعية التي لا تتعارض أصلا مع أدلة الوحي، الأدلة العقلية التي ذكرنا جزءا منها، بل إن أدلة الشرع هي أدلة عقلية، ولاحظوا هذه المصادر كرّرها للمرة الثانية في مسائل الصفات ذكر هذه المصادر، وذكرها هنا، وسيذكرها أيضا في آخر الكتاب، وهي مصادر تلقي العقيدة.
والعقيدة لا تُؤخذ من أهواء وأراء الناس، العقيدة وحي، وإيمان بالغيب، ولهذا قال: (وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ) السنة وحي، (وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ) هذه مصادر العقيدة؛ لأن العقيدة غيب ووحي.
لاحظ المصنف -رحمه الله- انتهى من هذا الموضوع الثاني وهو ما يتعلق بالقيامة وذكر أدلة البعث.
ثم انتقل بعد ذلك الى الموضوع الثالث، وهو ما يتعلق بأحوال الناس في المحشر، والمحشر فيه أمور كثيرة، فيه ما يتعلق بالحشر، وما يتعلق بالوزن، وما يتعلق بالحساب، وما يتعلق بالحوض وأحوال الناس في المحشر، وما فيه من النعيم، وما فيه من العذاب، وما يتعلق بالشفاعات، وما يتعلق بتجلي الرب -تبارك وتعالى-، إلى غير ذلك من الأمور التي هي من أحوال الناس في المحشر، ووقوف الناس في المحشر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ، وتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد، ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون:102-103])}.
بعد البعث (يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، وذكر صفة الحشر (حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً) وجاء في الحديث: «بُهمًا». أمَّا حُفاة يعني: غير منتعلِين، وعُراة غير مُستترين، حتى قالت عائشة: يا رسول الله الرِّجالُ والنِّساءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ؟ فقالَ: «الأمْرُ أشَدُّ مِن أنْ يُهِمَّهُمْ ذاكِ»، ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج:2]، يعني: سبحان الله يبعثون كما ولدتهم أمهاتهم، والأمر عظيم أشد من أن ينظر أحدهم إلى الآخر.
إذن يبعثون حفاة عراة، ولكن يستترون بعد ذلك، وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام.
(غُرْلاً) يعني: غير مختنين، (بهما) أي ليس معهم شيء، ليس معك يوم القيامة إلا عملك الصالح، وأمور الدنيا كلها انتهت، وظائفها ومراتبها وعقاراتها وأموالها ومزارعها، كلها انتهت، وما بقي معك إلا العمل الصالح، ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ولهذا وصف حال الناس في المحشر، (حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا) في أرضٍ جرداء بيضاء، ليس فيها معلمٌ لأحد، من بأولها يرى من بآخرها، هذه صفة أرض المحشر.
الخلائق منذ خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بل حتى البهائم تحشر، ثم يُقتص لبعضها من بعض، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. وهي بهائم، ما يضيع الظلم، فكيف بين المكلفين؟ كيف بين الناس؟ ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
وذكر حال الناس في المحشر ومن أحوال المحشر قال: (وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ) أي: تَقْرُبْ، حتى قيل للرَّاوي -لَمَّا قال تَدْنُوا مِنْهُمْ قَدْرَ مِيلٍ- قيل للرَّاوي: أميل المسافة أم ميل المكحلة؟ قال: لا أدري! وانظر كيف يعظم الصحابة الوحي ويعظمون السنة، وَلَا يُقْحِمُونَ عَقُولَهُمْ أو يَعتَرِضُونَ.
وأمور الآخرة مَا تُقَاسَ عَلَى أمور الدنيا، فلا يأتي معترض ويقول: كيف؟ ويعمل قياسات على أمور الدنيا!
نقول: أحوال الآخرة ما تقاس على أحوال الدنيا، فأنت تتكلم عن عالم آخر.
قال: (وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ) أي تقرب منهم الشمس، (وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقِ) بحسب حاله كما جاء في الأحاديث الطوال، فمنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقوتيه، ومنهم من يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إلجاما.
ومنهم من هم في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، كحال السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم.
ومنهم من هم على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّو.
إذن الناس في المحشر على أحوال ثلاثة:
منهم: من يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم.
ومنهم: من يدعو بالويل والثبور، ويلجمهم العرق، وهؤلاء هم الكفار والعصاة، وهكذا أيضا ما جاء في بعض أحوال العصاة:
منهم: من يحشر على أمثال الذر، هؤلاء الذين يتكبرون على الناس.
ومنهم: من تنصب له الراية، وهؤلاء أصحاب الغدر.
ومنهم: من لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قال الصحابة: مَنْ هُم يَا رَسول الله؟ خَابُوا وَخَسِرُوا. قال: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»[2]. وهكذا يختلف الناس في المحشر.
منهم: من يعذّب في المحشر إذا كان قد منع الزكاة، «ما مِن صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْها حَقَّها، إلَّا إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ صُفِّحَتْ له صَفائِحُ مِن نارٍ، فَأُحْمِيَ عليها في نارِ جَهَنَّمَ، فيُكْوَى بها جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظَهْرُهُ، كُلَّما بَرَدَتْ أُعِيدَتْ له، في يَومٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حتَّى يُقْضَى بيْنَ العِبادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ»[3]، أي: ثم يرى مصيره بعد ذلك، إما إلى الجنة وإما إلى النار، هذا في حق المتساهل في أداء الزكاة فيعذب، وقد يكفي العذاب ثم يدخل الجنة من أول وهلة، وقد يحتاج إلى مزيد من التطهير والعذاب في النار، نسأل الله السلامة.
إذن الناس في المحشر يختلفون، والمحشر فيه نعيم وفيه عذاب، والقبر فيه نعيم وفيه عذاب، ولهذا ذكر حال الناس في المحشر على هذه الحال، ولَمَّا ذكر (وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ) وبين أن ذلك بحسب أعمالهم، وإلا ثمّة أُناس يُظلهم الله في ظِلّه يوم لا ظِلّ إلا ظِلّه، منهم أُناس على منابر من نور، ومن الناس من يكون هذا اليوم الطويل عندهم كساعة من نهار؛ لأنهم في نعيم، خاصة ممن رضي الله عنهم فأرضاهم.
وكل هذه المسائل المختصرة جاءت في الأحاديث الطوال، في حديث أبي هريرة، في حديث أبي سعيد الخدري، ومن أراد تفاصيل ذلك فسيجده في الأحاديث الطوال التي جاءت في وصف أحوال الآخرة.
قال: (وتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد) الموازين جمع ميزان، وهو ميزان حقيقي تُوزن به أعمال العباد، ميزان حقيقي حسي، وليس كما يقول المعتزلة: هو ميزان معنوي، بزعمهم أن الأعمال أمور معنوية، فكيف تُوزن؟ نقول: الله -عز وجل- يجعل الأمور المعنوية بقدرته أمورًا حسية، فهو ميزان حقيقي، ميزان حسي، له كفتان كما جاء في حديث البطاقة.
هل هو ميزان واحد أو موازين؟
المصنف يقول: (وتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد) من تأمل في الآيات يجد أن الآيات جاءت بصيغة الجمع، كما في الآية التي ذكرها المؤلف: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وكما في سورة القارعة، فجاءت الموازين في القرآن على صيغة الجمع، ولهذا قال بعض أهل العلم: هي موازين.
ومنهم من قال: بل هو ميزان واحد، كما جاء في حديث البطاقة، وكما جاء في الأحاديث: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَان»[4] والعلم عند الله، ولكن الأقرب أنه ميزان.
من قال: إنه ميزان، قالوا جمعه جاء في القرآن بالنظر إلى الموزون، أي: تعدد الموزونات.
ومن قالوا: إنها موازين، قالوا: إفرادها في السنة جاء على صيغة اسم الجنس، ولهذا تجد من أهل العلم من توقف، ومنهم من تردد، ومنهم من رجح، بل هو ميزان واحد.
لا يقال كيف توزن جميع الأعمال، لأننا نقول: (الكيف مجهول) لأن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا.
ما الذي يوزن في هذا الميزان؟
المصنف قال: (فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد) وقد جاء بأن العامل نفسه يوزن، كما في قصة ابن مسعود لَمَّا ضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد»[5].
وأن الصحائف توزن، كما جاء في حديث البطاقة، فتوضع البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فتطيش.
وجاء بأن العمل يوزن، كما جاء في كلمة التوحيد، والعلم عند الله.
من أهل العلم من يقول: الجميع يُوزن، ولهذا يقول سماحة شيخنا ابن باز -رحمه الله-: الجمع بين النصوص الواردة في وزن الأعمال والعاملين والصحائف، أنه لا منافاة بينها، فالجميع يُوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه، لا بذات العامل، ولا بالصحيفة.
بمعنى: أن الصحائف توزن، وثقلها أو خفها بحسب العمل، هذا هو الجمع بين الأدلة التي جاءت في وزن الأعمال، أو وزن الصحائف، أو وزن العامل نفسه.
ما أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة؟
تقوى الله وحسن الخلق، وكذلك كلمة التوحيد، كما جاء في حديث البطاقة، وكما جاء في الحديث: «ما مِن شيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقلُ من حُسنِ الخلقِ»[6]، ولهذا يحرص المسلم على الأعمال التي بها يثقل ميزانه يوم القيامة.
ما أحوال الناس في الوزن؟ طبعا الوزن يكون للمؤمنين؛ لأن عندهم أعمال صالحة وأعمال دون ذلك، وأما الكفار فليس عندهم أصلا أعمال صالحة حتى توزن، فالوزن يكون لأهل الإيمان.
وأحوال الناس في الوزن: منهم من ترجح كفة الحسنات، ومنهم من ترجح كفة السيئات، ومنهم من تتساوى.
من رجحت كفة حسناته ﴿فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ كما ذكر الله في سورة القارعة، ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾، والآخر، ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ فهذا ينظر في رجحان السيئات، إن كان شركا أصغر، فمن أهل العلم من يقول: لا يعذب عليه، وما كان دون الشرك الأصغر فإنه تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه ودخل الجنة من أول وهلة، وإن شاء دخل النار حتى يطهر من هذه الذنوب.
إذا تساوت الحسنات والسيئات فهؤلاء هم أهل الأعراف، وكما ذكر الله شأنهم في سورة الأعراف، أنهم يدخلون الجنة بفضل الله ورحمته، لا يظلم مثقال ذرة.
إذاً هو ذكر أحوال الناس في المحشر، وذكر دنو الشمس، وذكر الموازين.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:13-14])}.
قال: (وتنشر الدواوين) المقصود بالدواوين: صحائف الأعمال التي كتبتها الملائكة الموكلة ببني آدم، وسميت بالدواوين؛ لأنَّ عمل الإنسان يدون، يكتب فيه جميع الأعمال، الأعمال الصالحة والأعمال الطالحة، فتكتب الملائكة كل شيء، ولهذا يتعجب الكفار من كتابة الملائكة كما ذكر الله في سورة الكهف، ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ ولا عجب أن الملائكة الذين أعطاهم الله هذه القدرة لا يسأمون ولا يتعبون ولا يأكلون ولا يشربون ولا يفترون، يقيدون كل شيء.
لاحظ في عالم البشر اليوم هل يستطيعون رصد صورتك وصوتك على مدى سنوات؟ بالكاميرات أو ما يستطيعون؟
نعم يستطيعون، فالآن الكاميرات في البيت ترصد كل شيء، إذن هم رصدوا ذلك مع اعتراف البشر بضعفهم وقصورهم، إلا أنهم استطاعوا ذلك.
وفي عالم الرياضة أو السباق إذا أنكرت تعاد الكاميرات من كل جهة. نقول: هذه قدرة البشر، فما ظنك بقدرة الملائكة الذين يقدرون حتى على الهم، الهم الذي لا يستطيع البشر أن يطلعوا عليه، تطلع الملائكة عليه.
ولهذا كانت التقنيات الموجودة تدل دلالة عقلية على أمور الآخرة، وعلى قدرة الملائكة، ولهذا هذه الدواوين التي ذكر الله -عز وجل- في كتابه من وظيفة الملائكة، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾.
قال: (وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ) التي دونت على الإنسان.
ثم بيّن أحوال الناس في أخذهم لهذه الكتب، فقال: (فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، كما ذكر الله في سورة الحاقة، وفي سورة الانشقاق.
قال: (وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ) هل هما حالتان أم حالة واحدة؟
حالة واحدة، إذن كيف الجمع؟
قال أهل العلم: الجمع بينهما، أنه يأخذ كتابه بشماله وتلوى من وراء ظهره، فهما يعني صورتان لحالة واحدة، (فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ)؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ يعني: عمله، ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ هذه هي الصحائف. ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ وهذا من تمام العدل، وإظهار حكمة الرب -تبارك وتعالى- أن الإنسان كما هو في قضية الموازين وقضية الحساب، الله يعلم كل شيء، ولكن هذا من باب إعذار العباد، وإقامة الحجة على العباد.
إذن هذا ما يتعلق بنشر الدواوين، وكيفية أخذ الإنسان لديوانه، وهذا الموضع من المواضع التي لا يَعرف فيها أحد أحد. عند نشر الدواوين؛ لأنه لا يدري هل سيأخذ الكتاب بيمينه أم بشماله؟ نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا وإخوانا المشاهدين ممن يأخذون كتابهم بيمينهم، وعند الوزن لا يدري من الذي يرجح، وعند المرور على الصراط كما جاء في الحديث وإن كان فيه ضعف، ولكنه يحتج به في مثل هذه الأمور من باب الاستئناس. لا يعرف أحد أحد.
هذا هو الأمر الرابع، أي: ما يتعلق بنشر الدواوين.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا)}.
هذا هو الأمر الخامس مما يكون في المحشر، الحساب، والقرطبي ذكر ترتيبًا لها، وأحيانًا قد يتردد أهل العلم في ترتيبها، لكن ثمة ترتيب، يعني: مثلاً قضية النشر بلا شك أنه سيكون قبل الوزن. وبعضهم يقول الحساب قبل؛ لأن الحساب قد تؤخذ حسنات منه لحقوق الناس ومظالم، فبعض أهل العلم له اجتهاد في ترتيبها.
قال: (وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ)، وهذا يدل على أن الذي يتولى الحساب هو الرب تبارك، والحساب هو إطلاع العباد على أعمالهم، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، أدلة الكتاب كثيرة، منها مثلا: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم﴾.
وحساب الرب نوعان: هناك حساب يسير، وهناك حساب عسير.
الحساب اليسير: هو حساب المؤمن، وهو العرض، يستره الله -تبارك وتعالى- بكنفه فيقرره ذنوبه حتى يظن أنه قد هلك، فيقول الله: إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها اليوم، ولهذا مَنْ سَتَرَ على المسلمين سَتَرَ الله عليه في الدنيا والآخرة؛ لأن الله قال: سترتها عليك، ولهذا من وقع في ذنب ومعصية فليستتر بستر الله، وقد قال النبي ﷺ: «كل أمة معافى إلا المجاهرون»، فالمجاهر يستره الله، فيصبح ويكشف ستر الله، ولذلك قال الله -تبارك وتعالى- في الحساب اليسير -العرض-: «قد سترتها عليك في الدنيا»، فمن وقع في المعصية فليستتر بستر الله.
وكذلك الستر المشروع على العاصي من المسلمين، خاصة العاصي الذي لا ضرر في معصيته على المسلمين، وإنما يكون ضرره على نفسه فقط، وليس الضرر من باب تحذير المسلمين من شره.
وقد جاء في الأدلة بأن الله سريع الحساب، وسريع الحساب بمعنى أن حسابه واقع لا محالة، والشيء إذا كان واقعًا لا محالة، فهو سريع الوقوع.
وقيل: سريع الحساب أنه لا يشغله حساب شخص عن شخص، فبعض العقول لا تتصور هذا، وطبيعي أن يحدث هذا لأنك تقيس ذلك على مقاييس البشر، والبشر ما يستطيع أن يسمع لهذا وهذا في آن واحد، بينما الخالق -عز وجل- يحاسبهم في وقت واحد.
قال: (وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ) ثم بين أنواع الحساب، (وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) هذا هو حساب اليسير، ولهذا كان النبي ﷺ يدعو في آخر صلاته ويقول: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا»، وهكذا ينبغي للمسلم أن يدعو بهذا في آخر صلاته وقبل السلام. «اللهم حاسبني حسابا يسيرا».
قال: (وَأَمَّا الْكُفَّارِ) وهذا هو الحساب العسير، (فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ) وهنا يشير المصنف -رحمه الله- إلى أن أعمال الكفار لا تُوزن؛ لأنهم ليس عندهم حسنات توزن، فهم يحاسبون ولكن لا تُوزن أعمالهم.
(فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا) يعني من باب إقامة الحجة.
ما أول ما يُحاسب عليه العبد في حق الله؟
الصلاة، فإذا صلحت صلح سائر عمله.
وما أول ما يُحاسب عليه العبد في حقوق العباد؟
الدماء، لشأنها العظيم، ولذلك قَتْلُ المسلم من الموبقات، من الكبائر، بل جاء الوعيد فيه بغضب الله وسخطه، والوعيد بالنار، ولذلك أول ما يقضى بين العباد في حقوق العباد: الدماء، ولذلك إذا قتل إنسان شخصاً ثم عفا الورثة، لا يظن أن الأمر انتهى، بل حق الميت باق، نعم الورثة أسقطوا حقهم بالعفو أو بقبول الدية، ولكن أين حق الميت؟
يبقى حتى يلقى الله -تبارك وتعالى-، وهذا فيه دليل على شناعة القتل، خاصة إذا قتل المسلم ظلماً وعدواناً، أو قتله وهو يصلي، أو قتله وهو في طاعة، فهذا من أعظم الذنوب، هذا ما يتعلق بالحساب.
هل هناك أناس لا يحاسبون؟
نعم، جاء في السبعين ألف بأنهم كما جاء في الحديث الطويل، «ومعهم سبعون ألف يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب» فاحتار الصحابة فيهم، ثم أخبرهم النبي ﷺ بأنهم «الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» هل تعرف أحدا منهم؟
عكاشة بن محصن؛ لأنه قال: يا رسول الله ادع الله أن أكون منهم! قال: «أنت منهم».
فهؤلاء الظاهر أنهم لا يُحاسبون لا في القبر، ولا يعذبون في القبر، ولا يُحاسبون في المحشر ولا يعذبون، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا منهم.
{قال: (وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ ﷺ ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا)}.
هذا هو الموضوع السادس وهو يتعلق بحوض النبي ﷺ، قال: (وَفِي عَرُصَاتِ الْقِيَامَةِ) يعني ساحات القيامة، فالحوض يكون في ساحات القيامة؛ لأنه يذاد عنه أقوام، والحوض قد جاءت فيه الأحاديث متواترة، وهل هو خاص بالنبي ﷺ أو لكل نبي حوض؟
جاء في الأحاديث أنه لكل نبي حوض، وأنهم يتباهون، ولكن حوض النبي ﷺ يمتاز بأنه أعظمها وصفاً، وأكملها حالاً، وأكثرها وارداً.
وأيضا جاء في الأحاديث بيان صفة الحوض، فطوله شهر وعرضه شهر، وأنه موجود الآن، ولذا قال المصنف في وصفه كما جاء في الأحاديث المتواترة: (ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا) نسأل الله الكريم من فضله.
(وكونه لا يظمأ بعدها أبدًا) يدل على أن من شرب من الحوض دخل الجنة من أول وهلة.
هل جميع الأمة تشرب من الحوض؟
نقول: نعم إلا من أحدث في الدين حدثا، كما جاء في الحديث أنه يُذاد أقوام عن الحوض، فيقول: «أمتي أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوه بعدك» فكل من أحدث في الدين حدثا، أصحاب البدع، وخاصة لكل من أنكر الحوض، فنقول لكل من أنكر الحوض: أنت حري بأن تحرم هذا النعيم، كما يقال لكل من أنكر رؤية المؤمنين لربهم: أنت أول واحد يحرم هذا النعيم؛ لأنك أنكرته وما أمنت به، وهكذا يأتي المعتزلة ويأتي من ينكر مثل هذه الأمور، فيكون هو أولى الناس، وهكذا كل من أحدث، أصحاب البدع بأنواعها، بدع اعتقادية، بدع قولية، بدع الأذكار، «إنك لا تدري ما أحدثوه بعدك»، والنبي ﷺ يقول: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فمن أحدث في الدين حدثًا ثم مات من غير توبة، فإنه يحرم من الورود على الحوض.
والحوض يكون في عرصات القيامة؛ لأنه يذاد عنه أقوام.
وبهذا نكون قد انتهينا بحمد الله من هذا الدرس، وبقي لنا ما يتعلق بمسائل نكملها إن شاء الله في الدرس القادم، نسأل الله -عز وجل- أن يمن علينا وعلى إخواننا المشاهدين بالشرب من حوض النبي ﷺ، وأن يمن علينا بحسن الختام، وقبول الأعمال، إنه جواد كريم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأفدتم، وجزاكم عنا خير الجزاء، والشكر موصول إليكم أيضا أيها الاخوة والأخوات، ونلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------------
[1] أخرجه البخاري (1268)، ومسلم (1206).
[2] رواه مسلم (106).
[3] أخرجه البخاري (2371) ومسلم (987).
[4] أخرجه البخاري (6682)، ومسلم (2694).
[5] أخرجه أحمد (3991)، وابن حبان (7069).
[6] أخرجه أبو داود (4799)، وأحمد (27517).