الدرس السادس عشر

فضيلة الشيخ أ.د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

8910 18
الدرس السادس عشر

العقيدة الواسطية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) ، نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح كتاب (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الأستاذ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، باسمي واسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حيّاكم الله، وحيّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لِما يحب ربنا ويرضى.
{نستأذنكم في البدء فضيلة الشيخ}.
نعم، استعن بالله.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّة رَسُولِ اللهِ ، حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ‏:‏ «‏أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي‏».‏
وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه -وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ- فَقَالَ‏:‏ ‏«‏وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي‏».‏
وَقَالَ‏ :‏ ‏«‏إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ‏»)
}.
‏بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلّي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلى كل من صَلَّى وسلَّم عليه، أمَّا بعد، فأرحب بكم -أيُّها الإخوة- المشاهدون والمشاهدات في شرح (العقيدة الوسطية) ونحن في الدرس الثاني من الأصل الرابع، المتعلق بمعتقد أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله ، وقد بيّن المؤلّف -رحمه الله- فيما سبق بيان مُعتقد أهل السنة والجماعة في محبة الصحابة والترضي عنهم والترحّم، وبيان سلامة ألسنتهم لصحابة النبي ، وسلامة القلوب.
ثم ذكر الأدلة، ثم ذكر مناقب وفضائل ومراتب الصحابة في الفضل، ثم ذكر ما يتعلق بالشهادة، أي: لمن شهد لهم بالجنة، ثم ذكر ما يتعلق بمراتب الخلفاء الأربعة، وأشار إلى مسألة مُهمة وهي حُكم من قَدَّمَ عليًّا على عثمان، وأنَّ ذلك قد أزرى بالمهاجرين والأنصار.
انتقل إلى مسألة أيضا متفرعة عن موضوع الصحابة، وهي ما يتعلق بآل البيت وأمهات المؤمنين، فقال: (وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ) وهذا وإن كان داخلا في موضوع الصحابة إلا أنه خصوص بعد عموم، وأشار إلى هذا الأصل أيضا لوجود النزاع والخلاف فيه عند أهل الأهواء والابتداع فيمن يسبون آل بيت النبي ، أو يُغلون في آل بيت النبي ، ويقال في آل بيت النبي ما يقال في الصحابة، فأهل السنة والجماعة يُحبونهم محبة إيمان؛ لأن محبتهم من محبة الله، ومن محبة رسول الله ، فهم يحبون أهل بيت النبي، وإذا قيل: آل البيت فيدخل في ذلك أزواجه، فإنه في اللغة إذا قيل: "آل الرجل" فإنه يدخل فيه أولاده، ويدخل فيه أزواجه، ويدخل فيه قرابته.
(وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ) التولي هنا تولي إيمان، ولهذا من يُبغضهم ويُعاديهم، فإن هذا خلاف الإيمان، وخلاف الولاء للمؤمنين، وبُغضهم هو بغض للمؤمنين، بل هو بغض لخيار المؤمنين.
إذن هذا المعتقد عند أهل السنة والجماعة في محبة آل بيت النبي وفي توليهم، وبنوا ذلك على ما جاء في الأدلة من الكتاب والسنة، وذلك لأمور:
لإيمانهم، فلهم حق الإيمان، ولقرابتهم من الرسول ، فلهم حق القربى، وإن كانوا من الصحابة فلهم حق الصحبة، فأهل بيت النبي بما في ذلك أزواجه.
آل البيت عموماً إن كانوا من الصحابة فلهم على الأمة ثلاثة حقوق:
- حق الإيمان والإسلام الذي هو حق عام.
- حق القرابة، وهو حق خاص.
- حق الصحبة، وهذا عام لجميع الصحابة.
وأمَّا إن كان آل البيت من غير الصحابة ممن جاءوا بعدهم، أي: من التابعين أو من جاء بعدهم، فلهم حق الإيمان وهذا عام لكل مؤمن، وحق القرابة، ولهذا نصَّ المصنف -رحمه الله- على مُعتقد أهل السنة والجماعة.
ولهذا فالمتأمل في أحوال أهل السنة والجماعة يجد أنهم يسمون بناتهم بأسماء أمهات المؤمنين، وبفاطمة بنت النبي، ويسمون أولادهم بأسماء آل البيت، كما هو ظاهر في أحفاد وأولاد شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب.
وأمَّا إذا طعن فيه الرافض فنقول: كيف تطعنون فيه وأولاده وأحفاده كلهم على أسماء آل بيت النبي ، وثمة علاقة حميمية بين عموم الصحابة وبين آل بيت النبي ، فبعضهم أصهار لبعض، وبعضهم يسمي بأسماء بعض، وهذا ظاهر لمن تتبع سيرة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسيرة آل البيت، يجد علاقة المصاهرة، والعلاقة الحميمية، والتسمية بينهم، وفي ذلك رد على الروافض والنواصب الذين يطعنون في الصحابة، أو الذين يطعنون في آل بيت النبي .
إذن أهل السنة والجماعة يحبون أهل بيتي رسول ويتولونهم.
قال: (وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّة رَسُولِ اللهِ ، حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ) ، وكان هذا في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، بعد رجوعه من حجة الوداع، كما جاء في صحيح مسلم، وهو غدير معروف في الطريق بين مكة والمدينة، وقف عند هذا وخطب بأصحابه، وكان مما أمرهم به في تلك الخطبة، أن أوصاهم بكتاب الله، وأوصاهم بسنة رسوله ، ثم أوصاهم بآل بيتي.
«‏أُذَكِّرُكُمُ اللهَ» أي: باحترامهم وتقديرهم ومحبتهم وموالاتهم، ثم كرر ذلك ثلاثاً، فقال «‏أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، ‏أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» ثم يسأل كل مؤمن، من أهل بيته؟
لا شك أنهم نساؤه، وقرابته، ولا يمكن أن يأتي عاقل ويقول: إنَّ عائشة وأمهات المؤمنين لسن من أهل البيت، فهذا لا يقوله إنسان عاقل، ولا يقوله من يعرف اللغة العربية، وإنما يقوله أهل الأهواء والضلال والانحراف.
إذن إذا قال النبي : «‏أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» فيدخل في ذلك قرابته، ويدخل فيه ذريته، ويدخل فيه أزواجه.
إذن أهل السنة والجماعة بنوا هذا المعتقد على هذه الوصية، وأيضًا كما جاء في قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ .
(وَقَالَ أَيْضًا) -وهذا دليلٌ آخر لهذا المعتقد- (لِلْعَبَّاسِ عَمِّه) ، وأعمامه من آل بيته، (وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏«‏وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي‏») هذا هو التلازم، فمحبة الصحابة، ومحبة آل البيت، ومحبة أمهات المؤمنين، من محبة الرسول .
وأحبُّ النساء للنبي عائشة، ولذا نقول: من أبغضها فقد أبغض رسول الله ، ولا يُساوم علينا في ديننا، فلا يأتي أهل الأهواء ويساومون علينا في ديننا! إذن نقول: كل من أبغض عائشة فقد أبغض رسول الله ؛ لأنها أحبَّ النساء إلى النبي .
ولذا تجد أهل الأهواء إذا حُشِرُوا في هذه الزاوية، أخذوا يطعنون في الصحابة، والطعن في الأحاديث، والسبب أنه انطلق من الهوى والضلال.
فمن محبة الله، ومن محبة رسول الله أن يحب آل بيته رسول الله ، ولهذا قال: (‏«‏وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي‏») .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة، وله شواهد تدل على صحة معناه، وقال ابن تيمية: وقد زاد أهل الأهواء في هذا الحديث -حديث غدير خم-، بأنه قد أوصى بالولاية لعلي، وهذه من الزيادات الباطلة التي لم تثبت عن النبي .
وقال : (‏«‏إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ‏») وهذا الحديث جاء في صحيح مسلم، من حديث واثلة بن الأسقع، فدل على أنه خيار من خيار، على أنه من أشرف العرب نسبًا، وهذا مما شهد به أبو سفيان، وشهد به هرقل، فهو من أشرف الناس نسبًا.
ولهذا بيّن (‏«‏إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ») إسماعيل بن إبراهيم، (‏«وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ‏») وهذا يدلّ على تفضيل نسب النبي .
هذا ما يتعلق بحقوق آل البيت على آل المؤمنين وأنهم إن كانوا من الصحابة لهم ثلاثة حقوق، وإن كانوا من غير الصحابة -ممن بعدهم- فلهم حقان، وهذه الحقوق جاءت امتثالا لوصية النبي في آل بيته.
ثم انتقل أيضا إلى خصوص بعد عموم، أي أنه ذكر الصحابة وهذا "عموم"، ثم ذكر آل البيت، وهذا "خصوص"، ثم أمهات المؤمنين، وهذا "خصوص بعد خصوص"، فهن من آل البيت، وهن من الصحابة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ‏:‏ خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَمَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ‏.‏ وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ ‏:‏ ‏«‏فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ‏»‏)
هذا ما يتعلق بأمهات المؤمنين -أزواج- وهذا هو الأفصح في اللغة العربية، فيُقال: زوجات، ويُقال: أزواج، ولهذا أمر الله -عز وجل- آدم وزوجه، فيقال: زوج، ويقال: زوجة، ويقال: أزواج، ويقال: زوجات، وكل ذلك صحيح، ولكن أزواج أفصح.
(وَيَتَوَلَّوْنَ) هذا تولي الإيمان؛ لأن التولي معناه: المحبة والتقدير والترضي والترحم على أمهات المؤمنين.
(أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) كما نص الله -عز وجل- على ذلك في القرآن الكريم، ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ يقول ابن كثير في بيان معنى أمهات المؤمنين: أي في الحرمة، والاحترام، والتوقير، والإكرام، والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع.
إذن هن أمهات المؤمنين في التحريم لا في المحرمية، يعني: ما يكون محرم لهن، وإنما في الاحترام، والتوقير، ولا يجوز الزواج بهن بعد رسول الله .
قال: (وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ) إذن يعتقد أهل السنة والجماعة أنَّ عائشة وخديجة وبقية أمهات المؤمنين هن زوجات النبي في الآخرة، وهذا ردٌ على من يسبون أمهات المؤمنين، ويطعنون في الصديقة بنت الصديق، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيح عن عمار أنه قال في عائشة -رضي الله عنها-: "أعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة"، فهن أزواج النبي في الآخرة.
ثم نصَّ على فضل خديجة وعائشة، فأهل السنة والجماعة متفقون على أن أفضل أمهات المؤمنين خديجة وعائشة، ثم اختلفوا في المفاضلة بينهما، فقال قوم: إن خديجة أفضل، وقال قوم: إن عائشة أفضل.
الذين فضلوا خديجة -كما أشار المصنف رحمه الله إلى وجه التفضيل- لماذا خديجة أفضل؟
أولاً قال: هي أم أكثر أولاد، فجميع أولاد النبي من البنين والبنات من خديجة، وبقية أمهات المؤمنين العشر الباقيات ولا واحدة منهن أنجبت، وإبراهيم هو من الأمة، أي من مارية، وأما العشر الباقيات فلا واحدة منهن أنجبت، وجميع أولاده من البنين وبنات من خديجة، ولهذا فالذين فضلوا خديجة قالوا: هي أم أولاده من البنين والبنات.
ثانيا: أن أول من آمن به وعاضده على أمره، وهذه فضيلة أخرى.
ثالثا: أن لها من النبي المنزلة العظيمة، ولهذا كان كثيرا ما يُثني عليها، ويتصدق عنها، ويقدر صديقاتها حتى غارت عائشة -رضي الله عنها- من ذلك، فهذا دليل من يفضل خديجة.
وأمَّا من يفضل عائشة فيقول: هي البكر الوحيدة، وهي أحب النساء للنبي ، وهي أكثر الصحابيات رواية للحديث.
ابن القيم يقول: سألت ابن تيمية أيهما أفضل، خديجة أم عائشة؟! فقال: فضل خديجة في أول الإسلام، وفضل عائشة في آخر الإسلام، وأشار إلى أنَّ الفضل إنما يكون بالأعمال الظاهرة، وأمَّا ما في القلوب فهذا لا يعلمه إلا علام الغيوب، ولذا فالتفضيل هنا من جهة الأعمال الظاهرة، وأما كان عند الله فهذا لا يعلمه إلا علام الغيوب.
قال: (الصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) ومرتبة الصديقية -كما تقدم في أول الشرح- أنها مرتبة تأتي بعد النبوة، وتكون للرجال وللنساء، ولهذا فمريم صديقة، وعائشة الصديقة، والصديق الذي يصدق في أقواله وأفعاله، «ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا»، ولهذا يقال لأبي بكر: "الصديق"، ويقال لعائشة: الصديقة، فهي الصديقة، فكذب من يأتي ويسب أحب النساء للنبي ، ويسب الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات، لا يسبها إلا منافق، ما يسب عائشة ويطعن فيها إلا أهل النفاق والزيغ، وهذه قاعدة: من رأيتموه يسب عائشة فاعرفوا أنه من أهل الزندقة والنفاق ولا شك في ذلك. ولهذا قال النبي كما جاء في الصحيحين: (‏«‏فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ‏»‏) .
هذا ما يتعلق بأمهات المؤمنين، وكما تقدم فالمصنف -رحمه الله- هنا يشير في هذا المتن المختصر إلى ما يميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل النفاق، والضلال، والأهواء، والافتراق، والابتداع.
ولهذا تستطيع يا أيها المسلم أن تميز أهل السنة عن غيرهم بهذه المقاييس وهذه المعايير، وتستطيع أن تجعل هذه مقاييس ومعيار تميز به أهل السنة عن أهل الضلال والافتراق والابتداع.
ثم انتقل إلى مسألة أخرى من المسألة المتعلقة بهذا الباب العظيم المتعلق بمعتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة، فماذا قال؟!
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَتَبَرَّؤُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ‏،‏ وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ‏،‏ وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ) }.
قال: إن أهل السنة يتبرؤون من طريقة هؤلاء وطريقة هؤلاء، وكما تقدم أن أهل السنة وسط بين طرفي نقيض، وكما هم وسط في باب الصفات، وفي باب القدر، وفي باب الإيمان، كذلك هم وسط في أبواب الصحابة، ولهذا قال: (وَيَتَبَرَّؤُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ) سموا الرافض؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين، لَمَّا سألوه عن الشيخين أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما قال: "نعم وزيران وزيرا جدي" فهو من آل البيت لكنه ممن جاء بعدهم، فترضى عن أبي بكر وعمر فرفضوه، فسموا رافضة، فهم يتبرؤون من طريقة هؤلاء الروافض الذين يبغضون الصحابة عموما، بل يبغضون خيار الصحابة، فأبو بكر من خيار الصحابة، وعمر من خيار الصحابة، وعثمان من خيار الصحابة، وهكذا عائشة من خيار الصحابة.
فطريقة الروافض أنهم يُبغضون الصحابة، بل ويسبونهم، فأهل السنة يتبرؤون من طريقة هؤلاء.
وضدهم الذين ينصبون العداء لآل البيت، ينصبون العداء لعلي، وهذه طريقة الخوارج والنواصب، والعداء قد يكون بقول وقد يكون بعمل، أي: بسبِّ ولعن آل البيت.
يقول ابن تيمية في منهاج السنة: "الخوارج الذين يُكفرون عليًا، والنواصب الذين يُفسقونه"، وأما أهل السنة والجماعة فيتبرؤون من طريقة هؤلاء ومن طريقة هؤلاء، من طريقة النواصب، وكذلك من طريقة الخوارج، وكذلك من طريقة الروافض.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (‏وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَعامة الصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ‏: ‏إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ‏. وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ‏.
وَلَهُم مِّنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ -إِنْ صَدَرَ- حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِّنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِّنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ‏.‏ وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ‏.‏ ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ، الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ‏.‏ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ بالأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ‏:‏ إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أخطأوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ‏.‏
ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ، مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ‏.‏ وَمَن نظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ به عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ‏)
}.
هذا الفصل مهم جداً، وهو جواب لإشكال قد يورده أهل الأهواء في الطعن في الصحابة، فقد يأتي من أهل الأهواء والضلال والابتداع، فيطعن في الصحابة بزعمه أنه حصل من بعضهم خلاف، وحصل من بعضهم نزاع، وحصل بينهم قتال في الجمل وصفين، وقد يذكر بعض أهل السير بعض الذنوب التي تقع من الصحابة، فالمصنف -رحمه الله- يجيب عن هذا الإشكال، فيذكر قاعدة مهمة في هذا الباب يحتاجها المسلم عموما.
قال: (‏وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ) إذاً هذا هو الأصل، نقول: ما يروى في كتب التاريخ أو كتب السير، أو في بعض الآثار، فإن من طريقة أهل السنة والجماعة الإمساك، والإمساك يعني: عدم الخوض فيما وقع بين الصحابة من نزاع وخلاف. لماذا؟
لأن هذا الخوض سيولد الحزازات، وسيولد التحليلات، وسيولد الاتهامات، وربما يترتب على ذلك من السب واللعن والغيبة إلى غير ذلك، ولذلك من الخطأ الفادح أن بعض المتأخرين، وبعض الكتاب، وبعض المثقفين يُنَصِّبُ نفسه حكمًا بين الصحابة، وهو أصلا لم يشاهد هذه الأحداث، ولهذا لَمَّا سئل أحد التابعين عن الخلاف قال: خلاف سلمت منه أيدينا فالتسلم منه ألسنتنا.
أقول: من الخطأ الفادح أن بعض المتأخرين، وبعض الكتاب، يُنَصِّبُ نفسه حكمًا، ويبدأ في التحليل ثم يصوب ويخطئ ويسب، وهذا من الخطأ الفادح، ولهذا نقول: من يخوض في ذلك فقد خالف منهج أهل السنة والجماعة، ومنهجهم الإمساك؛ لأن الخوض سيترتب عليه ما يترتب من حزازات، وطعن، وتحليلات خاطئة، فهذا هو الأصل.
إذا اُضطروا للجواب عن شبهة يوردها أهل الأهواء، فما طرائق أهل السنة والجماعة في الجواب عن الشبهات والإيرادات التي يوردها أهل الأهواء في الطعن في الصحابة؟ كمثل من أراد الطعن في أحد الصحابة بأنه فعل كذا أو فعل كذا أو فعل الذنب الفلاني.
الجواب: إن أهل السنة والجماعة لهم أجوبة، أولا: الأصل هو الإمساك، فهم لا يخوضون إلا للحاجة، والحاجة تكون بكشف الشبهة والرد على ما يدعيه أهل الأهواء والافتراق، فيقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوِئ الصحابة لا تخلو من أربعة أحوال، ولينتبه الإخوة المشاهدون لها.
هذه الأثار المروية في مساوِئ الصحابة وفيما شجر بينهم من خلاف، وفيما يوجد في كتب التاريخ وفي بعض الكتب، لا تخلو من أحوال أربعة:
الأول: أن يكون كذب، وهذا كثير في كتب الرافضة، وكثير في بعض كتب التاريخ، كذبٌ محض، إسناده مُظلم، كله كذب، وخاصة ما يوجد في كتب الرافضة، ولهذا تجد أنه في الأصل لا أسانيد له، وإذا كان كُذِبَ على الله، وكُذِبَ على الرسول! أما توجد أحاديث موضوعة مكذوبة؟ فكيف بالصحابة؟ نقول: الكذب على الصحابة أهون فيمن كذب على الله وكذب على رسول الله، وخاصة عند أهل الأهواء، وخاصة ممن دينهم الكذب، ومعروف طوائف في الأمة دينهم الكذب، وتجده يسوق مثل هذه الحكايات بغير زمام ولا خطام، بل بأسانيد معروفة بالكذب، فيقال: إنَّ هذه المساوئ الموجودة في كثير من كتب أهل الأهواء غالبها ما هو كذب.
ثانيا: أن يقال إن أصله صحيح ولكنه قد زِيدَ فيه، وبُدِّلَ ونُقِّصَ وغُيِّرَ عن أصله، فمثلا: نحن لا ننكر حادثة الجمل، ولا صفين، ولكن ما يذكر من حكايات ومن تحليلات، وأن الصحابة قصدوا القتال. نقول: هذا غير صحيح، فالصحابة لم يقصدوا القتال ابتداءً، وإنما خرج الأمر عن أيديهم، فيكون أصله صحيح ولكنه قد زِيدَ فيه ونُقِّصَ، وهذا نوع من أنواع الكذب.
فالمبالغة وخاصة ما تمارسه بعض وسائل الإعلام من التهويل والتفخيم، وكما يقال: يضع من الحبة قُبة، فهذا كذب، صحيح أن الحدث صحيح، ولكن ليس بهذا السياق، وليس بهذا التضخيم!
مثال: أحيانا تجد حالة بسيطة -حالة غش في الجامعة- لطالب واحد، فيوضع العنوان: "الغش متفش في الجامعة!"، بالرغم من أنها حالة واحدة من أربعين ألف طالب، فهذا لا عبرة به! فيكون أصله صحيح ولكنه مبالغ فيه. هذا نوع من أنواع الكذب.
الثالث: أن يكون صحيح ولكنه صادر عن اجتهاد، فهم معذورون فيه، مجتهدون ومصيبون، أو مجتهدون ومخطئون، وكما قال النبي : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»، ولهذا أهل السنة والجماعة يقولون فيما حصل بين علي رضي الله عنه- في الجمل وصفين أن الحق مع علي. لماذا؟ لأن عليًا هو الخليفة، فعلي -رضي الله عنه- مجتهد ومصيب، ومن خالفه اجتهد فأخطأ؛ لأنَّ عليا هو الخليفة والأمر بيده، فيكون الأمر صادرًا عن اجتهاد، وإذا كان صادرًا عن اجتهاد فلهم فيه عذر، فالمصيب له أجر الاجتهاد والإصابة، ولمخطئ له أجر الاجتهاد.
الحال الرابعة: أن يكون ما هو ذنب محض، وخطأ محض. هل هذا متصور؟ دعك من الثبوت أو عدمه، ولكن هل يُتصور أن يقع الذنب من الصحابي؟! نعم يتصور؛ لأنَّ أهل السنة الجماعة لا يعتقدون في الصحابة العصمة، لا أحد يعتقد أن الصحابة معصومين، لأنَّ العصمة إنما تكون للأنبياء، بل حتى عند أهل العلم أن عصمة الأنبياء هي في التبليغ، وليست عصمة مطلقة في كل شيء، ولهذا النبي قال: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون»، وإنما العصمة تكون في تبليغ الوحي، فإذا كان هذا في الأنبياء، فكيف بالصحابة؟
ولهذا لا يُقال عند أهل السنة والجماعة: إن الصحابة قد عُصِموا من جميع الأخطاء، بل يقع منهم من الخطأ ما يقع من غيرهم، ولكنهم يُوفقون إلى التوبة.
ثم هل من شرط الرجل حتى يكون من المؤمنين ألا يخطئ أبدا؟
هل من شرط الرجل حتى يدخل الجنة ألا يذنب أبدا؟ هل هذا شرط؟
نقول: هذا ليس بشرط، وإذا كان هذا في آحاد الناس، فكيف بخيار الناس؟ بمعنى أن يقال: من شرط الإيمان ألا تذنب أبدًا، ومن شرط دخول الجنة ألا تخطئ أبدًا!
نقول: هذا لم يقل به أهل السنة والجماعة، وإذا كان هذا في عموم الناس، فكيف بخيار الناس؟ فليس من شرط الصحابي حتى يكون صحابيًا ألا يذنب أبداً، وألا يخطئ أبداً، بل يقع الخطأ والذنب منهم كما يقع من غيرهم، ولكنهم يُوفقون للتوبة.
ولهذا أشار المصنف -رحمه الله- في الاحتمال الرابع إلى أسباب سقوط العقوبة عن العاصي، يعني لو فُرِضَ، أو لو تنزلنا مع المخالف أنه قد ثبت فعلا ذنبا ما عن الصحابة، فنقول: متوقع لأن الصحابة ليسوا معصومين، وإن كنا نستبعد وقوع ذلك منهم، ونستبعد ثبوته، ولكن لو ثبت فإن هذا ليس بغريب، فهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر، يُذنبون ولكنهم يفقون للتوبة.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
هذا في أحد الناس، فكيف بخيار الخلق؟ ولهذا ذكر المصنف -رحمه الله- أسباب سقوط العقوبة عن العاصي، كأنه يقول: إذا كان العاصي من آحاد المؤمنين، تسقط عنه عقوبة الآخرة بنحو عشرة أسباب أو أكثر، فكيف بخيارهم؟ فكيف بسادات المؤمنين؟
ولهذا قال -بعد أن ذكر هذه الاحتمالات-: (وَهُم مَّعَ ذَلِكَ) يعني: أهل السنة والجماعة (وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ‏) ؛ لأنهم بشر.
نقول: هل الصحابي معصوم حتى لو جاء وأراد أن يطعن في صحابي وقال: إنه فعل كذا وكذا! نقول: وإن كان! هم بشر يخطئون كما يخطى غيرهم ولكنهم يوفقون، ولهذا كما مَرَّ في الأحاديث: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم»، وقال النبي في أهل بيعة الرضوان: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»، فهم يقع منهم الخطأ، ولذا انظر إلى هذا الجواب فهو كالبلسم الشافي لمن يريد التشويش على مناقب الصحابة فيدعي!
نقول: انظر في نفسك أولا وأنت تزعم الثناء عليك وعلى حزبك، انظر الأخطاء التي تقع فيها؟ فكيف بسادات الخلق؟
قال: (، وَهُم مَّعَ ذَلِكَ) أي أهل السنة والجماعة (لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ‏) كغيرهم، ولكن هذه الذنوب لو فُرِضَ أنها وقعت، فإنهم يوفقون للتوبة، ولهم من الحسنات والفضائل والسوابق ما تمحو تلك الذنوب.
وعند الفقهاء قاعدة، يقولون: "إذا بلغ الماء قلتين فإنه لا يحمل الخبث"، يعني: لو أتيت بنجاسة فوضعتها في البحر، هل يتنجس البحر؟ نقول: ما يتنجس.
ولذا نقول: هذا الذنب الذي لو فرض وقع من الصحابة فهو مغمور في بحور الحسنات، فيستحيل في بحور الفضائل والمناقب والأعمال الصعبة، ولهذا قال: (وَلَهُمْ مِّنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَة مَا يَصْدُرُ مِنُهُمْ إن صدر) يعني: تنزلنا معك في صحة هذا الخبر.
نقول: وإذا ثبت فهو مغمور في بحور الحسانات فيستحيل، (حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِّنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ) لماذا؟ لماذا يُغْفَر لهم من السيئات مَا لا يُغْفَر لمن بعدهم؟
لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مَا ليس لمن بعدهم، وعند أهل العلم قاعدة، وهي عند كل مؤمن، وهي: الحسنات يذهبن السيئات، فكيف إذا كانت هذه الحسنة هي الجهاد في سبيل الله؟ هي النصرة لدين الله؟ هي حمل الدين؟ هي النصرة لرسول الله ؟ كما وقع من خيار الخلق -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-.
قال: (وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ) كما جاء في أحاديث كثيرة، (وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ) كما تقدم.
وانتبه فالمصنف -رحمه الله- يضع هذا التقدير الرابع، فسلمنا لك أنه قد وقع منهم ذنب وخطأ.
قال: (ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ) نقول: إن وقع في هذا الذنب فإنه يوفق للتوبة، (أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ، الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ) ‏ يعني: يشير هنا إلى أسباب سقوط عقوبة الآخرة، وأن عقوبة الآخرة تسقط عن العاصي بأسباب منها:
أن يتوب، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تجب ما قبلها.
منها: أن يقام عليه الحد في الدنيا.
منها: استغفار المؤمنين.
منها: رجحان كفة الحسنات.
منها: أن يطهر في القبر أو في المحشر.
منها: رجحان شفاعة النبي ، ورجحان كفة الحسنات.
منها: عفو أرحم الراحمين، ونحو ذلك من الأسباب.
قال: (فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ بالأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ‏:‏ إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أخطأوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ‏) لاحظ أن كل هذه أجوبة لمن يريد إثارة هذه الشبهات.
(ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ) مما يشاغب به أهل الأهواء في التقليل من شأن الصحابة ومكانتهم.
(ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ، مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ) كما تقدم، إذا هو مغمور فيستحيل.
ما هي المناقب؟ قال: (مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ‏) ثم ذكر أثرًا عن ابن مسعود، فقال: (وَمَن نظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ به عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ‏) ، فإذا كان كذلك، فإنه لا يجوز لنا أن نقدح في الصحابة -رضي الله عنهم- ليجلي ما يروى في كتب أهل الأهواء، أو مما يروى من خلاف وشجار يكون قد صدر عن اجتهاد، أو هو مبالغ فيه، أو هو ذنب محض ولكنه لا يقدح في سبقهم ومكانتهم.
وبهذا يكون المصنف -رحمه الله- قد ختم هذا الفصل المهم بالجواب عن إشكال قد يورده أهل الأهواء في الطعن في الصحابة، ثم انتقل إلى الموضوع السادس.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمِنْ أُصًولِ أَهْلِ السُّنَّةِ‏:‏ التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ، وَمَا يُجرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِّنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) }.
هذا الأصل أيضا من الأصول التي تميز به أهل السنة والجماعة، وهو الأصل السادس، واختصره لوجود خلاف فيه، ولكنه خلاف يسير، فالخلاف فيه بين أهل السنة وبين المعتزلة وبعض الطرق الصوفية.
قال: (ومن أصول) وقلنا: إن (مِنْ) تبعيضية، يعني: من الأصول أيضا التي تميز بها أهل السنة والجماعة: (التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ) ويقصد بالتصديق هنا: الإيمان يعني: الإقرار بحصول الكرامات، وأنها حق، خلافا لمن أنكرها من أهل الأهواء والابتداع.
والكرامات جمع كرامة، والكرامة أمر خارق للعادة يجريه الله -عز وجل- على يد الولي، والولي هو المؤمن التقي، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ، ولهذا نقول: الولاية ليست ادعاء يدعيه أهل الأهواء والزيغ والضلال، وإنما الولاية هي المحبة والقرب، تكون بالطاعة.
والولاية لها جانبان: جانب يتعلق بالرب، وجانب يتعلق بالعبد.
الجانب المتعلق بالرب هو: المحبة والمودة، والجانب المتعلق بالعبد هو: الطاعة، ولهذا جاء في حديث الأولياء بيان أقسام الأولياء، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: «من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب»، وفي رواية: «فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إليه مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وَلَئن سألني لأعطينه، وَلئن استَعَاذنيِ لأعيذنه»
إذن حديث الأولياء بين الولاية من جانب الرب ومن جانب العبد.
الله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ، ولهذا نقول: كل مؤمن تقي فهو ولي لله، ثم على قدر إيمانك وتقواك تكون ولاية الله لك.
إذن ليست ادعاء يدعيه الإنسان، وليست بالبدع والخرفات، وإنما الحصول الولاية تكون بالإيمان والتقوى.
هل من شرط الولاية حصول الكرامة؟
نقول: ليس بشرط، فقد يكون الإنسان وليا من أولياء الله، ولا تجري على أيديه كرامات، ولهذا ذكر ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين أن أغلب الكرامات ظهرت بعد عهد الصحابة، ولم تظهر في عهدهم؛ لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم، ويقينهم. وأما من بعدهم فقد احتاج إليها لضعف الإيمان.
قال: (وَمِنْ أُصًولِ أَهْلِ السُّنَّةِ‏:‏ التَّصْدِيقُ) يعني: الإقرار بوقوع الكرامات، وكرامات الأولياء تختلف عن خوارق السحرة؛ لأن حال الساحر يختلف عن حال الولي، وتختلف أيضا عن معجزات وآيات الأنبياء، فثمة فرق بين كرامة الولي وخوارق السحرة ومعجزات الأنبياء، كما يوجد الفرق بين النبي، والساحر، والولي.
ثم ذكر أنواع الكرامات، فقال: (وَمَا يُجرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِّنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) إذن الكرامة قد تكون خوارق، وهذه الخوارق قد تكون في العلوم، وقد تكون في المكاشفات وهو الإلهام والتحديث، كما حصل لعمر -رضي الله عنه-، وقد تكون في أنواع القدرة كما حصل لأصحاب الكهف، وكما حصل لمريم، والتأثيرات.
ثم قال: (كالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ) ما حصل للفتية يعد كرامة؛ لأنه أمر خارق للعادة، (وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ) ، يعني يقول: إنه أمر مستفيض ومشهور.
ثم ذكر أن الكرامات موجودة في الأمة إلى قيام الساعة، بل إنها تكثر في آخر الزمان لحاجة المؤمن إلى التثبيت، كالرؤية الصالحة في آخر الزمان لا تكاد رؤية المؤمن أن تكذب.
من شروط الكرامة:
أولاً: أن يكون صاحب الكرامة مؤمناً تقيا. فإذا أردت أن تعرف هل هذه كرامة أم لا؟ فانظر إلى حاله، إذا كان مؤمنًا تقيًا فهي كرامة، وإذا لم يكن مؤمناً تقيًا فتعرف أنها شعوذة السحرة والدجالين.
والشرط الثاني: ألا يَدعي صاحبها الولاية، فلا يمكن أن يزكّي نفسه، لأنه لو زكّى نفسه لا يكون وليًا.
الشرط الثالث: ألا تكون خلاف الشرع، كالرؤى إذا جاءت مخالفة للشرع، فهذا يدل على بطلانها، فإذا كانت هذه الكرامة تدعو إلى ترك واجب أو فعل محرم فتعرف أنها ليست من الكرامات، بل هي من خوارق السحرة.
أهل العلم يذكرون أيضا الفروق في كتبهم المطولة بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة ومعجزات الأنبياء، ولا يتسع المقام إلى ذكر ذلك.
ولعلنا نكتفي بهذا القدر، وبه ينتهي الموضوع السادس، وبقي في الكتاب الموضوع السابع، وهو موضوع خاتمة الكتاب.
أسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والعمل الصالح والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن متابعتكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك