{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما عن النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح (العقيدة الواسطية) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ سهل بن رفاع العتيبي. باسمي واسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين، وأسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق، والعلم النافع، والعمل الصالح.
{نستأذنكم شيخنا في البدء بقراءة المتن}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَقَوْلُهُ ﷺ: «يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلِّمُ على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى كل من صلى وسلَّم عليه. أما بعد، فهذا هو الدرسُ السابع في التعليق والشرح على هذا الكتاب الموسوم بـ (العقيدة الواسطية).
وقد ذكر المُصنِّف -رحمه الله- في هذا الفصل ما يتعلَّق بالسُّنَّة، وبينَ منزلة السُّنَّة من القرآن، فقال في هذا الفصل -والإخوة يستذكرون هذا في الدرس السابق- قال: (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ).
ثم بينَ منزلة السُّنَّة من القرآن، فقال: فالسنة (تُفَسِّرُ الْقُرآنَ وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ).
ثمَّ ذكرَ ضابطًا مُهمًّا يُبيِّنُ مُعتقَد أهل السُّنَّ والجماعة في أحاديثِ الصِّفات، قال في هذا الضابط -وهو ضابطٌ مهم يَنبغي التنبُّه له، قالَ-: (وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك)، وقوله: (كذلك) أي: كما تقدم في باب الإيمان بالصفات، الإيمان بها من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
ثم ذكر نماذج، وكما تقدم في الآيات هو لا يريد الحصر، ولا يريد استقصاء كل أحاديث الصفات، وإنما يذكر نماذج تدل على صحة معتقد أهل السنة والجماعة.
قال في الحديث السادس: (وَقَوْلُهُ: «يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ كَأَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)، وكما تقدم إذا كان الحديث متفق عليه، فهو في أعلى دراجات الصحة.
إذا جاء في الحديث يقول الله تعالى، فهو من الأحاديث القدسية، والفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي، أن الحديث القدسي معناه ولفظه من الله، بينما الحديث النبوي فالمعنى من الله، واللفظ من النبي ﷺ. لماذا قلنا المعنى من الله؟
لأن النبي ﷺ لا ينطق عن الهوى، هذا هو الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي.
ما الفرق بين الحديث القدسي والقرآن؟ هناك عدة فروق، منها:
الوجه الأول: أن القرآن لفظه ومعناه من الله، وكذلك الحديث القدسي، إلا أن القرآن يُتعبد بتلاوته، بينما الحديث القدسي فلا يتعبد بتلاوته.
الوجه الثاني: القرآن جاء على جهة التحدي والإعجاز، بخلاف الحديث القدسي لم يأت على جهة التحدي والإعجاز.
الوجه الثالث: أن القرآن لا يجوز أن يُروى بالمعنى، بخلاف الحديث القدسي فيجوز أن يُروى بالمعنى، كما يروى الحديث النبوي بالمعنى، أي أنَّ القارئ للحديث والراوي لها إذا لم يكن ضبط اللفظ، له أن يقول: "أو كما قال النبي ﷺ".
قال ﷺ: («يَقولُ اللهُ تَعَالَى»)، والفعل (يقول): فيه إثبات لصفة القول، التي تدلُّ على صفة الكلام.
قال: («يَقُولُ الله تَعَالَى: يَا آدَمُ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ») ففيه إثبات صفة القول، وصفة النداء، وأن هذا القول والنداء بصوت مسموع، بدليل أنَّ آدم سمع هذا القول، وسمع هذا النداء، وسمع هذا الكلام، فينادي بصوت: («إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ») فدلّ الحديث على ما دلّ عليه القرآن من إثبات صفة القول لله تعالى على الوجه الذي يليق به، وإثبات صفة النداء، وأن هذا النداء بصوت مسموع، كما تقدّم في بيان صفة الكلام، وأن الله تعالى يتكلم متى يشاء كيف شاء، بحرف وصوت مسموع. هذا ما دلّ عليه هذا الحديث.
أيضا دلّ الحديث على إثبات الأفعال الاختيارية، فهو من أدلة أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات الاختيارية والأفعال الاختيارية، التي أنكرتها طوائف من المعطلة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَقَوْلُهُ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ»)}.
جاء في بعض النسخ أنَّ الحديث متفق عليه أيضًا كسابقه، وهذا حديث عدي بن حاتم المخرج في الصحيحين، يقول ﷺ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه» أي: من جهة الشمال، «فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» جاء في بعض النسخ: «حاجب»، وغالب الألفاظ أنه بدون هذه اللفظة.
قوله: «سيكلمه رب» هذا يدل على أن الكلام هنا بدون واسطة، وتكليم الله لعباده على نوعين:
النوع الأول: هناك تكليم بلا واسطة، كما جاء في هذا الحديث: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ» أي: بدون واسطة، أو بدون حجاب.
النوع الثاني: أن يكون الكلام بواسطة، ككلامه -عز وجل- لبعض رُسله ولملائكته، بأمره ونهيه وأخباره، لأنبيائه ورسله، فهذا الكلام كان من وراء حجاب، كان بواسطة، وأما النوع الأول فهو بلا واسطة، كما في الحديث، وكما في كلامه -عز وجل- لأهل الجنة، فيكلّمهم بلا واسطة -بدون حجاب، بلا تُرجمان-.
«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ» فيه إثبات صفة الكلام لله تبارك وتعالى على الوجه الذي يليق به، وأنه متكلمٌ بصوت؛ لأنه ليس بينه وبينه ترجمان، ولفظة: «ترجمان» فيها ست لغات، تُنطق بضم "التاء والجيم" وبفتحهما، وبفتح التاء وضم الجيم، أو العكس بضم التاء وفتح الجيم، فلهذا لا يُخطئ قارئ فيها، فتنطق: تُرجُمان، أو تَرجَمان، أو تَرجُمان أو تُرجَمان، وكل هذه الأوجه صحيحة.
قوله: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ» يدل على إثبات صفة الكلام لله تبارك وتعالى، كما دلت على ذلك الآيات الكثيرة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: «رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ؛ فَيَبْرَأَ». حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ)}.
هذا الحديث فيه أيضًا إثبات جملة من الأسماء والصفات، قال: (وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: «رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ»)، طبعًا («ربنا») إثبات لصفة الربوبية، وتقدم بأن («الرب») ورد في الأحاديث.
(«الله») اسم الله -عز وجل-، وتضمن صفة الألوهية.
(«في السماء») أيضًا تقدم بمعنيين: إما في العلو، أو على السماء، فهذه ثلاث صفات.
(«تقدس») إثبات لصفة القدوس، ومن أسمائه -عز وجل- القدوس.
(«تَقَدَّسَ اسْمُكَ») أي: تنزّه، كما تقدّم.
(«أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ») إثبات لصفة الأمر.
(«كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ») إثبات صفة الرحمة، وعلى الإخوة المشاهدين المتابعة لمعرفة كيفية استنباط الأسماء والصفات من هذه الأحاديث، وكيف أن هذه الأحاديث دلت على جملة من الأسماء والصفات، فيتأمل ويتدبر معاني الأسماء والصفات في هذه الأحاديث.
(«اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا») هذا فيه من الفوائد التوسل إلى الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسن وصفاته العلى، وهذا فيه امتثال لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ فهذا نوع من أنواع دعاء الله -عز وجل- بأسمائه، وهو التوسل المشروع.
والتوسل المشروع يكون بأسماء الله وصفاته، يكون بدعاء الله تبارك وتعالى، يكون بالأعمال الصالحة، فهذا نوع من أنواع التوسل المشروع، ففي الحديث توسل إلى الله تبارك وتعالى برحمته -عز وجل-، وتوسل له بأمره الذي في السماء والأرض، وتوسل باسمه -عز وجل-، إلى غير ذلك من أنواع التوسلات.
ولهذا قال بعد هذا الثناء على الرب بهذه الأسماء والصفات: («اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ») وهذا فيه إثبات صفة الرحمة، («اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا») وهذا فيه إثبات صفة المغفرة.
(«أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ») وقلنا -كما تقدم-: («رَبُّ الطَّيِّبِينَ») اسم من الأسماء المضافة لله عز وجل.
(«أَنْزِلْ») فيه إثبات صفة النزول، والنزول يدل على العلو، («أنزل رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ») أيضًا لاحظ كيف تكرر التوسل إلي الله بصفة الرحمة، («وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ») فيه إثبات صفة الشفاء، («عَلَى هَذَا الْوَجِعِ») يعني: المصاب أو المرض، («فَيَبْرَأَ») بإذن الله.
فدل الحديث على جملة من الأسماء والصفات، ومنها: صفة العلو، وصفة الرحمة، وصفة المغفرة، وجملة من الأسماء، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بما دلَّت عليه هذه الحديث، كما يؤمنون بما دلَّ عليه القرآن من إثبات الأسماء والصفات للرب تبارك وتعالى، على الوجه الذي يليق به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
هذا هو مُراد المؤلف -رحمه الله- بالاستدلال بهذا الحديث، وبينَّا الشاهد ووجه الاستدلال بهذا الحديث مع ما فيه من فوائد أخرى، من جهة بيان كيفية التوسل إلى الله تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته.
{قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ: «أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ»). حَدِيثٌ صَحِيحٌ}.
رواه البخاري ومسلم، فهو حديث متفق عليه.
قوله: («أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ») وقد تقدم معنا قوله: («في السّماء»)، كما في قوله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك:16]، وقلنا: إنّ عبارة («في السّماء») تحتمِل أن تكون في العلو، أو تحتمل أن تكون (على السّماء)، والحديث فيه إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى.
{أحسن الله إليكم.
(وَقَوْلُهُ ﷺ: «وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُما)}.
أيضا هذا الحديث دل عليه ما دلت عليه الأحاديث الأخرى، ولاحظ أن هذه الأحاديث وإن كان في بعض أسانيدها ضعف، إلا أنه من جهة المعنى فهناك أدلة تدل على ما دلت عليه من الصفات، وهذا هو وجه استدلال الأئمة بأمثال هذه الأحاديث التي يكون في إسنادها ضعف، ولكنها مقبولة من حيث المتن، فالمعنى يدلّ عليه أدلة أخرى.
لاحظ هنا يقول: («وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ») إثبات صفة العلو، وإثبات صفة الاستواء، وهذه أدلتها كثيرة، كما ذكر ابن القيم، أكثر من ألف دليل، وأما إثبات صفة العلو، وآيات الاستواء فقد تقدّم بأنها سبع آيات.
قوله: («وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ») إثبات صفة العلم، لاحظ في الحديث أيضًا إشارة إلى الجمع بين العلو والمعية، وسيأتي -إن شاء الله- في فصل مستقل، وتقدم أيضًا في آية الحديد الإشارة إلى الجمع بين العلو والمعية، وأنه لا تعارض بين العلو والمعية، ولا بين الاستواء والمعية، ولا بين العلو والاستواء وبين القرب، كما سيأتي تفصيله.
(«وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ»)؛ لأن المعية العامة مقتضاها العلم والاطلاع والإحاطة، فلا تتعارض مع العلو، ولا تتعارض مع الاستواء على العرش، وقد جمع بينهما رسول الله ﷺ في هذا الحديث، كما جمع الله بينهما في كتابه، فدلَّ الحديث على ما دلّت عليه الآيات من إثبات صفة العلو، وإثبات صفة المعيّة، وإثبات صفة الاستواء على العرش، وأنه لا تعارض بين علوه واستوائه، وبين معيّته لخلقه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: «أَيْنَ اللهُ؟». قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: «مَنْ أَنَا؟». قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
قوله للجارية: («أَيْنَ اللهُ؟») هذا يدل على أنه لا حرج أن يُسأل أين الله؟ خلافاً للمعطلة الذين يمنعون السؤال «أَيْنَ اللهُ؟»؛ لأن هؤلاء المعطلة ينفون أن يكون الله في مكان، أي في العلو، وينفون أن يكون الله قد استوى على العرش، ولهذا يمنعون السؤال «أَيْنَ اللهُ؟»، والنبي ﷺ وهو أعلم بربه، يسأل هذه الجارية: «أَيْنَ اللهُ؟» فماذا قالت، وبماذا أجابت؟ قالت: "في السماء"، وتقدم (في السماء) أي في العلو، أو على السماء، ففيه إثبات صفة العلو لله -تبارك وتعالى-.
قال لها: («مَنْ أَنَا؟») قالت: "أنت رسول الله ﷺ"، قال: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» وفي هذا فائدة مهمة، فائدة تتعلق بشهادة النبي ﷺ لهذه الجارية بأنها مؤمنة، وذلك بعد أن أقرَّت بأمرين مهمّين:
الأمر الأول: أقرَّت بالعلو.
الأمر الثاني: أقرَّت بالرسالة للرسول ﷺ، والإقرار للرسول بالرسالة معناه: تصديقه فيما أخبر عن ربه -تبارك وتعالى-، وبهذا تتحقق شهادة أن "لا إله إلا الله"، وشهادة "أن محمدًا رسول الله".
تأمل جوامع الكلم في هذا الحديث، لَمَّا سألها هذين السؤالين، «أَيْنَ اللهُ؟» هذا السؤال الأول، فأجابت جواباً صحيحاً لا يجيبه المعطل، حتى لو زعم هذا المعطل المحرف بأنه شيخ وأنه كبير، لو سألته «أَيْنَ اللهُ؟» لا يأتيك بجواب صحيح، وهذه الجارية أجابت الجواب الصحيح السديد، فقالت: "في السماء"، وانتبه فالذي يَسأل هو الرسول ﷺ، وهو نفسه الذي يصدقها.
ثم سألها سؤالاً آخر، «مَنْ أَنَا؟» فقالت: "أنت رسول الله"، إذا كان رسول الله فمُقتضى ذلك تصديقه فيما أخبر، وطاعتُه فيما أمر، واجتناب ما نهَى عنه وزجَر.
النتيجة بعد أن أقرَّت بإجابة جواب صحيح على هذه السؤالين، قال: («أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»).
وفي الحديث من الفوائد في شهادته ﷺ لهذه الجارية بالإيمان، والذي قال ذلك: لا ينطق عن الهوى، شهد لهذه الجارية بالإيمان، والتي اعترفت بأمرين:
الأمر الأول: اعترفت بعلو الله تبارك وتعالى.
الأمر الثاني: اعترفت برسالته ﷺ، وفي هذا دليل على أنه من أعظم أوصاف الله -تبارك وتعالى- الاعتراف بعلوه على خلقه، وأنه مستوٍ على عرشه، هذا من أعظم ما يُوصف به الرب تبارك وتعالى، ولهذا سألها هذا السؤال المهم.
وفيه أيضًا أن الاعتراف بعلو الله -تبارك وتعالى- وباستوائه على عرشه، أصل من أصول الإيمان. لماذا؟ لأنه ﷺ حكم بإيمانها لَمَّا أقرت بعلوه -تبارك وتعالى-.
وعلى هذا فمن أنكر علو الله المطلق من كل وجه، فقد حرم هذا الإيمان، من أنكر علو الله المطلق، أو علو الذات، أو علو القدر والقهر، هنا قد يوجد من المعطلة من يُقِر بعلو القدر وعلو القهر ولكن يُنكِر علو الذات، فقد حُرِم هذا الإيمان، ومن أنكر علو الله المطلق، علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، فقد حرم هذا الإيمان؛ لأنه هو بنفسه الذي شهد للجارية بأنها مؤمنة.
وفي الحديث من جوامع الكلم، ودلَّ أيضًا على أصول عظيمة في باب الإيمان؛ لقوله ﷺ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»، وذلك عندما أقرت بعلو الله تبارك وتعالى، وشاهدتها للرسول ﷺ بأنه رسول الله.
وإذا كنت أيها المؤمن تشهد بأنه رسول الله، فلا يمكن أن ترد السنة، ولا يمكن أن تعترض على رسول الله، ولا يمكن أن تستدرك في دين الله، كما تلاحظون من أهل الأهواء والزيغ والضلال، عافانا الله وإياكم وأصلحنا الله وهدى ضال المسلمين، فهو حديث عظيم، ولهذا اعتنى العلماء به، وهو حديث معاوية بن الحكم السُلمي، وله قصة مع هذه الجارية لَمَّا هَمَّ بضربها، فسألها النبي ﷺ فقال: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» وذلك عندما أجابت بهذين الجوابين المهمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ: «أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ» حَدِيثٌ حَسَنٌ)}.
قال: (حديث حسن، أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت) أيضًا هذا الحديث وإن كان في إسناده ضعف، إلا أنه من جهة المعنى والمتن تدل عليه الأدلة الكثيرة.
(وَقَوْلُهُ: «أَفْضَلُ الإِيمَانِ») هذا يدل على أن الإيمان يتفاضل، وأن أهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان، وسيأتي إن شاء الله في فصل مستقل فيما يتعلق بتفاضل أهل الإيمان في الإيمان، فهم يتفاضلون في الإيمان الذي في القلب، يتفاضلون في الإيمان الذي في أقوال اللسان، يتفاضلون في الإيمان الذي هو من أعمال الجوارح، وهذا أمر مشاهد كما دلت عليه النصوص الكثيرة، هو محسوس ومشاهد.
انظر في تسابق الناس في العبادات، هل يستوون؟ منهم من يحافظ على الفرائض والنوافل، ومنهم من يكتفي بالمحافظة على الفرائض، حتى في مسابقاتهم للفرائض فهم يتفاوتون، يتفاوتون في الاحتضار، يتفاوتون في المحشر، يتفاوتون في العبور على الصراط، يتفاوتون في الجنان، ولهذا النبي ﷺ يقول: («أفضل») وهي صيغة تفضيل، يدل على أن الإيمان يتفاضل، وهو كذلك شعب، وإذا كان الإيمان يتفاضل، فأهله كذلك يتفاضلون، ففيهم السابق للخيرات، وفيهم المقتصد، وفيهم الظالم لنفسه، فيهم من حقق الكمال المستحب، وفيهم من حقق الكمال الواجب، وفيهم من حقق أصل الإيمان فقط.
ولهذا يقول النبي ﷺ في هذا الحديث: («أفضل الإيمان») دل على أن هذه الصفة هي من أفضل صفات أهل الإيمان.
(«أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ») إثبات صفة المعية، ولكن من أي أنواع المعيّة؟ لعل الإخوة يذكرون، -مرَّ معنا في دروس سابقة- قاعدة مهمة من خلالها يستطيع القارئ للقرآن، وكذلك المتأمل في السنة النبوية، أن يميز نوع المعيّة، هل هي من المعيّة العامة أو المعيّة الخاصة؟ لعلكم تذكرون هذه القاعدة التي قلنا فيها:
إذا أردت أن تعرف هل المعيّة التي جاءت في النصوص هي معيّة عامة أو خاصة، فانظر في سياق الآيات والأحاديث، فإذا جاء السياق في مقام التخويف والمحاسبة والرقابة والاطلاع، فهذا يدل على أن المعيّة هنا عامة، وأما إذا جاء السياق في الآيات أو في الأحاديث في مقام العناية، والحفظ، والرحمة، فهذا يدل على أن المعية خاصة.
وعندما نطبق القاعدة على هذا الحديث، تكون المعية عامة أو خاصة؟ تكون خاصة، لماذا؟ لأنها جاءت في مقام اللطف والرحمة («أفضل الإيمان أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ»)، وهكذا في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:194]، وكذلك ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ معية خاصة، وقوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه:٤٦] معية خاصة أيضًا.
فالمعية هنا معية خاصة، وكما تقدم بأن مُقتضى المعيّة الخاصة الحفظ والتوفيق والتأييد والإعانة إلى غير ذلك من ثمرات المعيّة الخاصة.
أما المعيّة العامة، فمقتضاها العلم والاضطلاع والإحاطة، فدلّ الحديث على ما دلّت عليه الآيات من إثبات معيّة الله -عز وجل-، المعيّة الخاصة لعباده المؤمنين.
وأيضا دل على أن استشعار هذه المعيه هو من أفضل درجات الإيمان.
لماذا قلنا درجات؟
لأن فيه إشارة إلى مقام الإحسان، والإحسان هو أعلى مرتبة في الدين، كما جاء في حديث جبريل، («أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك») وهنا قال ﷺ: («أفضل الإيمان أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ») ففيه بيان مرتبة الإحسان، والمراقبة التي هي أعلى مرتبة من مراتب الدين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا الحديث دلَّ على ما دلَّت عليه الآيات السابقة، من أن إحاطة الله ومعيَّة الله بعباده لا تتعارض مع علوه واستوائه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية، تعليقاً على هذا الحديث مُبيناً معناه، يقول: وكذلك قوله ﷺ: («إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ») يقول: الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قِبَل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوق، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء، أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، كانت أيضًا قِبَل وجه، يعني كأنه يقول: كون المصلي يناجي ربه، فإن هذا لا يتعارض مع علوه؛ لأن الله -عز وجل- محيط بكل شيء، مطلع على كل شيء.
وهذا الحديث فيه بيان أن كون الله -عز وجل- قبل وجه المصلي لا يتعارض مع علوه واستوائه على العرش؛ لأن الله -عز وجل- مطلع ومحيط بكل شيء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: («اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ». رِوَايَةُ مُسْلِمٌ)}.
نعم هذا الحديث تقدم، واستدللنا به في بيان معنى: (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن) والإخوة المشاهدون يذكرون هذا، فنحن استدللنا بالحديث في تفسير قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وهذا من تفسير القرآن بالسنة فالنبي ﷺ فسر معنى الأول، ومعنى الآخر، ومعنى الظاهر، ومعنى الباطن.
وهذا الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، فيه (أن النبي ﷺ كان يقول إذا أوى إلى فراشه)، يعني: من الأدعية التي يقولها المسلم إذا أوى إلى فراشه.
فيه أيضًا التوسل بأسماء الله وصفاته، فإذا أوى إلى فراشه، قال: («اللهُمَّ») ومعناها: يا الله.
(«اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ») أيضًا هذه من الأسماء المضافة، هذا صفة الروبية، وأيضا من الأسماء المضافة "رب السماوات السبع، و "رب الأرض"، يأتي مركبًا ويأتي مفردًا، فتقول: «رَبَّ السَّمَوَاتِ» هذا اسم، و «رب الأرض» هذا اسم، أو مركبًا «رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».
أيضًا من الأسماء المضافة إثبات صفة الروبية «رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ»، أيضًا من الأسماء الإضافية، وإثبات صفة الروبية.
(«فالق الحب») أيضًا من الأسماء الإضافية، وفيه إثبات صفة الفَلْق.
(«والنوى») ممكن تقول: فالق الحب والنوى، أو فالق الحب وفالق النوى.
(«منزل التوراة والإنجيل والقرآن»)، أيضًا من الأسماء الإضافية، وإثبات صفة النزول، وإثبات صفة العلو، ورويت بوجهين: بالتخفيف والتشديد، («مُنْزِلَ التَّورَاة») أو («مُنَزِّلَ التَّورَاة»)، فـ («مُنْزِل التوراة») هذا اسم، ومنزل الإنجيل اسم، ومنزل القرآن اسم كذلك، أو تقول: مُنَزِّل التوراة، مُنَزِّل القرآن.
(«أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي») أيضًا توسل إلى الله تبارك وتعالى، («وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا») آخذ إثبات صفة الأخذ.
(«أَنْتَ الأَوَّلُ») وهذا هو الشاهد، من أسمائه: (الأول) ما معناه؟ لا أحسن من تفسير النبي ﷺ، فأنت الأول، وفسّره ﷺ بقوله: («فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ»)، وهذه إحاطة زمانية.
(«وَأَنْتَ الآخِرُ») من أسماء الله: "الآخر"، وأيضا صفة الآخرية، ما معناه؟ «فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ» الإحاطة الزمانية.
«وَأَنْتَ الظَّاهِرُ» أيضًا من أسماء الله، وإثبات أيضًا صفة الظاهرية، «فليس فَوْقَكَ شَيْءٌ» بيّن معنى الظاهر معناه: أن الأسماء لها معان، والصفات لها معان، وليس كما يقول المعطلة: إنها أسماء جامدة لا معنى لها، فهي أسماء تتضمن معان، ولهذا النبي ﷺ وهو أصدق الناس وأعلم الناس بربه تبارك وتعالى، يبين معنى هذه الأسماء، ومعاني هذه الصفات.
«وَأَنْتَ الْبَاطِنُ» أيضًا من أسماء لها "الباطن"، ودل على صفة الباطنية، فليس دونك شيء، لاحظ الحديث دل على الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية.
بعد هذا التوسل جاء الدعاء، وهذا هو التوسل المشروع، بعد هذا التوسل قال: «اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ» أو إذا كان يدعو الدعاء يقول: اقض عنّا الدّين وأغننا من الفقر، فهو حديث عظيم، فيه إثبات الأسماء والصفات لله تبارك وتعالى، وبيان معنى هذه الأسماء، ومعاني هذه الصفات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ ﷺ لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: «أَيُّهَا النَّاسُ! أرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا. إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
أيضًا هذا الحديث دلَّ على ما دلَّت عليه الآيات من إثبات الصفات المنفية، والنَّفي فيها ليس نفياً محضًا، بل يتضمن ضده من صفات الكمال.
قال المؤلف: (وَقَوْلُهُ ﷺ لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: «أَيُّهَا النَّاسُ! أرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ») الصفة منفية، وهي نفي صفة الصمم، والنفي ليس محضا، فإذا نفى صفة الصمم فمعناه أنه سميعًا.
«وَلاَ غَائِبًا» أيضًا نفي للصفة الغياب، وإذا نفى صفة الغياب فمعناه: الاطلاع والإحاطة بخلقه، والعلم على بصره وعلى رقابته لغير ذلك، ولذلك لاحظ جاء المعنى الإثبات قال: «إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا» هذه صفة الكمال التي تضمنتها صفات النفي بالضد، لا تدعون أصمَّ ولا غائبا، إذن النبي ﷺ جمع فيما وصف وسمى به ربه بين النفي والإثبات كما جاء في القرآن.
«إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا» فيه إثبات صفة السمع، وتقدم معناه، وصفة البصر، وتقدم معناه، وأيضا صفة القرب، وسيأتي تفصيلها أيضًا، وقد سبق أن أشرنا إليها، وسيأتي تفصيل القرب وأنواعه.
قال: «إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ» فيه إثبات صفة القرب، وقربه لا ينافي علوه ولا استوائه على عرشه، كما سيأتي إن شاء الله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (قَوْلُهُ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا حديث جرير بن عبد الله، وهو حديث عظيم متفق عليه، يقول فيه ﷺ: («إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ») وجاء في رواية الحديث أن النبي ﷺ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: («إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ»)، وفيه إثبات صفة التجلي، وأن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى.
(«كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ») قال أهل العلم: هذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وإنما المراد بيان أن الرؤية واضحة، رؤية جليه، («إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ») وهذه الكلمة الأخيرة بروايتين، بالتخفيف والتشديد، بالتخفيف وبالسكون، فتقول: «لَا تُضَامْونَ» يعني: لا يُصيبكم ضيم في رؤيته، بمعنى أنه لا يحول بينكم وبين الرؤية حاجب، ولا غيم، ولا قتر، بل هي كرؤية القمر ليلة البدر والسماء صافية، انظر رؤية الناس للقمر ليلة البدر وتكون السماء صافية، بمعنى أنه ليس هناك حاجب يحجب الرؤية، سواء من قتر، أو سحب، أو نحو ذلك.
وروية الكلمة بالتشديد: «لا تُضَامُّونَ» يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض، ومتى ينضم الناس بعضهم إلى بعض؟ إذا كانت الرؤية خفية، كما تلاحظ أحيانا في تراء الناس الهلال الكثير لا يشاهد الهلال، لا يعرف أين موضعه لخفاء الرؤية، ولهذا تجد الناس ينضم بعضهم إلى بعض لكي يتراءوا الهلال، بحيث أن الرائي يقول: انظر إلى هنا والبقية لا يشاهدونه لماذا؟ لأن الرؤية خفية، ولهذا لا يشاهدها كل أحد، ولكن رؤية ربي تبارك وتعالى رؤية واضحة جلية، «لا تُضَامُّونَ» في معنى لا يحول بينكم وبين الرؤية حائل لخفائها، ولا ينضم بعضكم إلى بعض لخفاء الرؤية، بل هي رؤية واضحة جلية.
ثم أشار النبي ﷺ إلى فائدة عظيمة فيها بيان سبب من أسباب رؤية الله تبارك وتعالى في جنات النعيم، نسأل الله الكريم من فضله، ما السبب الذي به تنال أيها المسلم هذا الشرف العظيم؟ ما السبب الذي به ترى ربك تبارك وتعالى في جنات النعيم؟
قال ﷺ: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا» ما التي قبل غروبها؟ العصر، وأما التي قبل طلوعها فهي صلاة الفجر، ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة في فضل هاتين الصلاتين، مثل: «مَن صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ» ، ومثل: «يتعاقبون فيكم مَلائِكةٌ باللَّيلِ ومَلائِكةٌ بالنَّهارِ، ويجتَمِعون في صلاةِ الفَجرِ وَصلاةِ العَصرِ» إلى غير ذلك من الأحاديث التي تبين فضل هاتين الصلاتين.
ومن فضلهما أنَّ من حافظ على هاتين الصلاتين نال هذا الفضل العظيم، ولهذا قال: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ» لاحظ كلمة: «اسْتَطَعْتُمْ» تدلّ على أن المسألة تحتاج إلى مجاهدة، فيا ترى من الغالب؟ هل هو أنت أو النوم والشيطان؟ لماذا؟ لأنه قال: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ».
قد يحتج البعض بالغلبة بالنوم، نقول: هذا احتجاج غير صحيح. لماذا الاحتجاج غير صحيح؟ بدليل أنه في الأمور الدنيوية ما تفوته في السفر، وفي المواعيد المهمة في العمل ما يفوته ذلك، ولو فاته مرة لا يفوته مرة أخرى. قد يفوته العمل فينال توبيخا ولفت نظر، ولكن ثق بأنه في المرات الأخرى لا ينم، هل في السفر سينام وتفوته الرحلات؟ ما يمكن، ولو فاتته رحلة لن ينسى طوال عمره.
وكذلك نقول: لمن تفوته صلاة الفجر أو صلاة العصر، مما يحفزك على المحافظة على هاتين الصلاتين أن تستشعر لهذا الفضل العظيم.
في قوله ﷺ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ»، ولاحظ أن القائل هو الرسول ﷺ، وتقدمت الآيات في إثبات رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى، فيأتي مخذول فينفي رؤية الرب تبارك وتعالى، هذا من الخذلان، وهذا من الحرمان، ولهذا يقول ابن القيم -رحمة الله عليه-: من أنكر رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، فهو حري بحرمانها، لأنه يوجد في أهل الأهواء والمعطلة من ينكرها، فنقول: من أنكرها -فإنك أيها المنكر لرؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى- فإنك حريٌّ بأن تُحرَم هذا النعيم العظيم، وهذا والله من الخُذلان والخُسران العظيم، نعوذ بالله من الضلال، ومن تعطيل أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، ومنها صفة التجلي، ومنها رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى، فمن أراد هذا النعيم العظيم، فليحافظ على هاتين الصلاتين، («فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا»).
ثم بعد أن ذكر هذه الحديث ختم بقاعدة مهمة مؤكداً على ما ذكره في أول هذا الفصل، وفي أول الكتاب.
{أحسن الله إليكم.
قَال -رحمه الله-: (إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ ﷺ عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ؛ بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ)}.
هذا في الحقيقة ضابط مهم أشار له المؤلف -رحمه الله- في ختام هذا الفصل، فهو لَمَّا ذكر هذه الأحاديث الستة عشر لا يريد الحصر واستقصاء هذه النصوص، وإنما أراد التمثيل، ولهذا قال لك بعد هذه الأمثلة: (إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ) التي جاءت في الأسماء والصفات (الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ ﷺ عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ، فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) كما تقدم وصفهم، ناجية في الدنيا من البدع، وناجية في الآخرة من النار، (أَهْلَ السُّنَّةِ)؛ لأنهم يعنون بسنة النبي ﷺ رواية ودراية، (أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ) ضابط هذا الإيمان الصادق، اليقين الذي لا اعتراض فيه على كلام الله، ولا اعتراض فيه على كلام رسول ﷺ، لا تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، هذا هو ضابط هذا الإيمان، (يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ) أي: بهذه الأحاديث، كما يؤمنون بالقرآن، بمعنى أن السنة في الاستدلال كالقرآن، وتقدمت الأدلة في بيان حجية السنة في أول هذا الفصل، فهم يؤمنون بهذه الأحاديث، وبما دلت عليه من الأسماء والصفات، كما أنهم يؤمنون بالقرآن؛ لأن الله يقول: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فهذا هو ضابط هذا الإيمان.
ضابط هذا الإيمان بالأحاديث أنهم يؤمنون بها إذا صحت عن الرسول ﷺ، كما يؤمنون بالقرآن إيماناً صادقًا جازمًا لا شك ولا ريب فيه، بما أخبر الله به في كتابه، يعني: كما يؤمنون بما جاء في القرآن، كذلك يؤمنون بما جاء في السنة، بهذه الضوابط، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
والتحريف تقدم، وهو إما تحريف للأحاديث، ومنها رد هذه الأحاديث، كما يزعم المعطلة بأن أحاديث الآحاد لا يحتج بها في العقائد، هذا استدراك على رسوله ﷺ.
والتعطيل يشمل تعطيل المعنى الذي دلت عليه هذه الأحاديث، وإذا أعياهم تعطيل المعنى قالوا بالتفويض، أي: أن الأحاديث لا معنى لها، وكأننا نُخَاطَبُ بلغة لا نفهمها.
والتكييف ضده بيان الكيفية، والله -عز وجل- ليس كمثله شيء، وتقدم عبارة الإمام مالك في الاستواء، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وقول أهل السنة: من غير تكييف، لا يعني أنهم ينفون الكيفية، وإنما لها كيفية ولكننا لا نعلم هذه الكيفية، ولذا ينبغي التنبه لهذه القاعدة.
إذا قالوا: "من غير تكييف" فهم لا يقصدون بذلك نفي الكيفية، وإنما يقصدون نفي العلم بالكيفية، أن الله ليس كمثله شيء.
(ولا تمثيل): المصنف كرر هذه العبارة؛ لأن هذا هو الذي جاء نفيه في القرآن، ولهذا أورد عليه المعترضون، وقالوا: لماذا قلت من غير تمثيل ولم تقل من غير تشبيه؟
قال: لأنَّ التمثيل هو الذي نفاه الله في كتابه، فهم لا يمثلون الله تبارك وتعالى بخلقه، وكذلك لا يمثلون خلقه به، فلا يجعلون صفات الخالق للمخلوق، كما يفعل أهل البدع، يجعلون صفات الألوهية وصفات الربوبية للمخلوقين وللأموات.
إذن أهل السنة والجماعة لا يمثلون الله تبارك وتعالى بخلقه، وكذلك لا يمثلون الخلق بالخالق، فالله -تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء.
وبهذه الخاتمة يكون المصنف -رحمه الله- قد ختم ما يتعلق بالشواهد من السنة، ثم بعد ذلك انتقل إلى بيان وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق المنتسبة للسنة، كما أن الأمة هي وسط بين الأمم، ولعلنا إن شاء الله في اللقاء القادم، نتحدث عن وسطية أهل السنة والجماعة، ونماذج وشواهد في بيان هذه الوسطية، ثم سيعود مرة أخرى إلى جملة من الصفات التي حصل فيها نزاع قوي، وبه يختم هذا الفصل المهم المتعلق بالأسماء والصفات.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل وسيلتنا إليه التوحيد والإخلاص، وأن يجعلنا ممن يحققون الإيمان بأسمائه وصفاته، فينالون هذا الفضل العظيم، وهذا الوعد العظيم من رسول الله ﷺ، فيمن آمن بأسماء الله وصفاته، وأن يمنَّ علينا جل جلاله بالفقه في الدين، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكراً لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصولاً لكم مشاهدينا الكرام على حسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.