الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ أ.د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

9384 18
الدرس الحادي عشر

العقيدة الواسطية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما عن النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح (العقيدة الواسطية) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ سهل بن رفاع العتيبي. باسمي واسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق والعلم النافع والعمل الصالح.
{نستأذنكم شيخنا في البدء بقراءة المتن}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين، قال المؤلف -رحمه الله-: (وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ‏.‏ فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ‏)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأُسلِّم على الْهَادِي الْبَشِيرِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يوم الْدِّينِ، أما بعد، فلا يزال الحديث في بيان أحوال الناس في الآخرة ومنازل الآخرة، وقد ذكر المؤلف -رحمه الله- في الدرس السابق ما يتعلق بالبعث والحشر، ثم دنو الشمس من رؤوس الخلائق، ونصب الموازين، ونشر الدواوين والحساب، ثم ما يتعلق بحوض النبي .
وقد بقي مسألة فيما يتعلق بالحوض، وهي مسألة يكثر السؤال عنها، وهي: ما الفرق بين الحوض والكوثر؟
الجواب: أن الكوثر هو الخير الكثير، ومنه النهر الذي يكون في الجنة، وأما الحوض فإنه في عرصات القيامة؛ لأنه يُذادُ عنه أقوام، إلا أنَّ الحوض يستمد ماءه من نهر الكوثر، يَصب فيه ميزابان من نهر الكوثر، نسأل الله -عز وجل- أن يمن علينا وعلى إخواننا المشاهدين بالورود على حوض النبي ، فنشرب منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا.
ولهذا من السلف من كان يتضلع من ماء زمزم لظمأ يوم الهواجر، أي لظمأ هذا اليوم.
قال في الأمر السابع -في اختصار وإجمال- فما يتعلق بالصراط والقنطرة بين الجنة والنهر، قال: (وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ) أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار.
الصراط: ينطق بالصاد والسين والزاي، وكلها لغات، وعرفه بأنه الجسر.
وكذلك يُقال: الجِسر أو الجَسر، أي: بالكسر أو الفتح لغتان، يقال: الجسر أو الجسر الذي هو (مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ)، والغرض منه هو عبور المؤمنين عليه إلى الجنة.
قال: (وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) ما المقصود بـقوله: (بين)؟ هل المقصود أنه يقع في الوسط بينهما؟ لا، ليس هذا هو المراد. إذن "بين" باعتبار الإيصال لا باعتبار الوصال بينهما، يعني لا يقال: إن الجنة في جهة والنار في جهة والجسر بينهما، بل هو على متن جهنم ليجري إيصال المسلمين إليه إلى الجنة.
من الذين يعبرون على الصراط؟ هل جميع الخلائق، أو أهل الإسلام فقط؟
الجواب: أهل الإسلام فقط، أهل الإيمان من جميع الأمم، يعني: المؤمنون من جميع الأمم، وأمَّا الكفار فقد أُخذ بهم إلى النار ابتداءً كما جاء في الأحاديث في آخر المحشر الذي مقداره خمسين ألف سنة، ويُؤخذ بكل أمة تتبع ما تعبد، فَعَبَدةُ الشمس تكور في النار، وعبدة الكواكب، وعبدة البشر، وعبدة فرعون، ويُؤخذ كل هؤلاء إلى النار ابتداءً، ولا يبقى في المحشر إلا هذه الأمة وفيها منافقوها، ثم يتجلى لهم الرب -تبارك وتعالى- كما تقدم في تجلي الرب في المحشر، ورؤية المؤمنين والمنافقين له في المحشر.
إذن المنافقون يُؤخذون في ظلمة قبل الصراط، كما ذكر الله في سورة الحديد، إذن لا يعبر عليه إلا أهل الإسلام.
قال: (وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ) وقد دلَّ عليه قول الله -تبارك وتعالى- في سورة مريم: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم:71-72]، وقد فسّر ذلك الصحابة كابن مسعود وغيره أن المقصود بالورود هنا: العبور على متن جهنم عبر الصراط، وجاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين، وحديث ابن مسعود كذلك في الصحيحين، قال النبي : «ثمَّ يضربُ الجسرُ على جَهنَّمَ وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سَلِّم سَلِّم»، ودعاء الأنبياء حينئذ، اللهم سَلِّم سَلِّم.
أول من يعبر على الصراط من الأمم: أمة محمد ، وأول من يعبر عليه من الأنبياء هو: محمد ، قال: (يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ) والمراد بالناس هنا: أهل الإسلام؛ لأن من عَبَدَ الكواكب، وعَبَدَ الشجر، وعَبَدَ الأموات قد أُخِذَ بهم ابتداءً إلى النار، عياذًا بالله، فالمراد بالناس هنا: أي أهل الإسلام، كما جاء في الحديث.
ثم بيّن صفة العبور، طبعا ما يتعلّق بصفة الصراط، جاء في أحاديث كثيرة أنه أدق من الشعر، وأحدّ من السيف، عليه كلاليب مأمورة بخطف من أُمِرَت بخطفه، وحسكة وصفها النبي مثل: «شوك السعدان» إلى غير ذلك مما جاء في وصف الصراط ووصف الكلاليب التي هي مأمورة بخطف من أُمرت بخطفه.
صفة العبور كما جاءت في حديث ابن مسعود وغيره، أنَّ الناس يعبرون على الصراط بحسب أعمالهم، وذكر المؤلف -رحمه الله- خلاصة ما جاء في الأحاديث الطوال في وصف عبور الناس على الصراط، وخلاصتها أنَّ من كان في الدنيا سريعاً إلى طاعة الله، كان على الصراط كذلك، ومن كان في الدنيا سَبَّاقًا مُسارعاً إلى الخيرات، كان على الصراط كذلك، ومن كان في الدنيا بطيئاً إلى طاعة الله، كان على الصراط كذلك، فالجزاء من جنس العمل، ولهذا انظروا ما جاء في الأحاديث في وصف عبور الناس على الصراط.
قال: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ) وجاء في بعض الأحاديث «كطرف العين»، (وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ)، انظر سرعة البرق، فهذا الموفق بما وفقه الله -عز وجل- من أعمال صالحة، ومن مسابقة ومسارعة ومنافسة، يمر على الصراط كلمح البصر، أو كالبرق.
(وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ)، وفي بعض الأحاديث من يمر كالطير، انظر التفاوت، هذا لمح البصر، وهذا كالبرق، وهذا كالريح، وهذا كالطير، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، لا شك أن الفرس الجواد أسرع من الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي ماشيًا، ومنهم من يزحف زحفا.
انظر التفاوت! وهذا كله بسبب التفاوت بين الناس في الأعمال الصالحة، وهذا أيضا يدل على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان والأعمال الصالحة، ليسوا سواء في الدنيا، ولا في الاحتضار، ولا في القبر، ولا في المحشر، ولا في العبور على الصراط، ولا في الجنان، وهذا التفاوت يدل على التفاضل لأهل الإيمان في الإيمان، وليس كما يقول أهل الأهواء: إنهم على مرتبة واحدة، فيتفاوتون وانظروا هذا التفاوت في العبور على الصراط.
(وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا) فيسقط ويقوم فيسقط فينجوا، ومنهم تخطفه الكلاليب فيسقط في جهنم. قال: (فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم) يعني: إنما خطفته بسبب ضعف الأعمال، قصور في الأعمال، فمنهم من تخطفه الكلاليب ولكن ينجو بحمد الله، ومنهم من تخطفه فيسقط في النار.
هل النار يدخلها أحد من أهل التوحيد؟ نعم، ولهذا يقولون في أهل التوحيد إذا دخلوا النار: الموحد لا يُلقى في النار كما يُلقى الكفار، هو كان يظن لنفسه النجاة، ولكنه لم ينج، ولاحظ أن هذا محصلة تطهير كانت في الدنيا، محصلة تطهير كانت في القبر، محصلة تطهير كان في المحشر، ولهذا فالإنسان لا يستهين بمظالم العباد، حتى مثاقيل الذر، ولهذا الموحد لا يُلقى في النار كما يلقى الكفار، ولا يَلقى في النار كما يَلقى الكفار، ولا يبقى في النار كما يبقى الكفار.
والشاهد من هذا أنه ثمة طوائف من الموحدين، بل من المصلين، بل من الصائمين، بل من المزكّين من يدخل النار، والسبب مظالم العباد التي ربما بعض الناس لا يلقي لها بالاً، ولهذا بعض أحيانا يفهم التدين فهمًا قاصرًا، يظن أن التدين محصور فقط في الصلاة والزكاة والصيام والحج، والتدين أشمل من هذا، يشمل هذه الأشياء، ويشمل البر، ويشمل الصلة، ويشمل إكرام الضيف، الإحسان إلى الجار، يشمل إماطة الأذى عن الطريق، يشمل أداء الحقوق والأمانات التي وكلت بها، كلها تدخل في مفهوم التدين، كما جاء في حديث الشعب.
لذلك فالذي قَصَّر في الحقوق والأعمال وظلم العباد وإن كان يصلي ويصوم ويزكّي، فقد يدخل النار فيعذّب فيها، نسأل الله -عز وجل- السلامة والعافية.
قال: (فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ) يعني: أنَّ من عبر عليه بأي صورة كانت، ويختلف الناس فيها، ففي هذا دليل على السلامة والنجاة، نسأل الله -عز وجل- من فضله.
(فمن مرَّ)، يعني: عبر على الصراط، فقد نجا؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران:185].
ثم إذا نجا من نجا من هؤلاء بحسب أعماله، من مر كالبرق، كالبصر، كالريح، كالطير، كالطرف العين، كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، كَرِكَابِ الإِبِلِ، مَن يَعْدُو عَدْوًا، مَن يَمْشِي مَشْيًا، مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، من هو مخدوش ناج. انظر! كل هؤلاء نجوا، ولكن نجاتهم ليست على مرتبة واحدة، ولكن الجميع نجا، ثم يدخلون الجنة.
أيضًا ثمة امتحان آخر، وهو الوقوف على القنطرة، والقنطرة قيل: هي نهاية الصراط من جهة الجنة، وقيل: بل هي جسر مُستقل، ولهذا قال: (فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ) أي: الصراط (وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)، والقنطرة قد جاءت في الأحاديث أنها (بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) والبينية هنا واضحة لا إشكال فيها.
(فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ) وهنا قد يرد إشكال، قد يقول قائل: كيف يَقتص بعضهم من بعض؟ أليس القصاص قد تم في المحشر؟ وتم الحساب، وتم الوزن، وهل الاقتصاص هنا سيؤثر في نقصان العمل؟ هل الاقتصاص هنا قد يُؤثر على الإنسان فتنقص الحسنات فيعاد إلى النار؟
الجواب: هذا الاقتصاص إنما هو من باب تصفية ما في القلوب، كما قال الله -تبارك وتعالى: ﴿وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ [الحجر:47] يعني: تلاحظ في أمور الدنيا من باب التقريب لهذا المعنى، أن شخصًا قد يظلمك، ثم يأتي ويعتذر، أو ترفع عليه قضية فتأخذ حقه، هل تبقى النفوس صافية؟ الإجابة: لا. صحيح قد يكون أدى الحق مضاعفًا، ولكن يبقى في النفس شيء، يبقى غبن، يعني: مثل الإنسان الذي يقتل قريبًا له، ثم يعفو عنه، هل يبقى صديقه وحميمه؟
لا، بل يبقى في النفس شيء، ولهذا فهذا القصاص كما ذكر أهل العلم ليس هو لأجل القصاص من الحسنات والسيئات، وإنما هو لأجل إزالة ما في القلوب، ﴿وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾، ولهذا أحيانا بعض الناس يتصور أن في الجنة حسد أو أنَّ في الجنة غبطة! نقول: لا، بل أحيانا بعضهم -خاصة عند بعض النساء- قد تتصور أنها تغار من الحور العين! نقول: هذا يحدث في مقاييس الدنيا، وأما مقاييس الآخرة، فإن هذا غير موجود، أقصد قضية الحسد، قضية الغيرة، قضية أنَّ فلانًا أعلى مرتبة من فلان، هذا غير موجود أصلا، ﴿وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾.
فقال أهل العلم: هذا الاقتصاص الذي يكون على القنطرة، إنما هو لتصفية ما في النفوس؛ لأن الاقتصاص الذي هو أخذ من الحسنات وطرح عليه من السيئات، هذا كان في ساحة المحشر، ولهذا لاحظوا أنه قال: (فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا) هذا يدل على أنَّ هذا الاقتصاص هو تهذيب وتصفية لِمَا في النفوس، (فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا) مما في نفوسهم، أُذِنَ لهم بعد ذلك بدخول الجنة. وسيتحدث عن دخول الجنة فيما يتعلق بشفاعة النبي لهم بدخول الجنة، هذا ما يتعلق بالصراط، والقنطرة التي تكون بين الجنة والنار.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ‏.
وأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ النبي مُحَمَّدٌ ، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ‏.‏
وَلَه فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ‏:‏ أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى؛ فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ‏.‏ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة‏.‏ وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ‏.‏ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا‏.‏ وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ)
}.
قال المصنف -رحمه الله- في الموضوع التاسع في أحوال الآخرة فيما يتعلق بالشفاعة: والشفاعة هي طلب التجاوز عن الغير، وأيضًا طلب تجاوز وعفو عن السيئات، وأيضا طلب لدخول الجنة أو النجاة من النار، والشفاعة قد دلَّت عليها الأدلة الكثيرة في القرآن وهي ظاهرة، وكذلك في الأحاديث، وأحاديث الشفاعة متواترة، وقد أنكرها الخوارج والمعتزلة؛ لأنها تتعارض مع أصلهم الفاسد في تكفير مرتكب الكبيرة، والقول بخلوده في النار، ولهذا لَمَّا أصلوا هذه الأصول الباطلة الفاسدة، جاءوا إلى أحاديث الشفاعة وهي كثيرة، فردوها وأنكروا عليها، وردوا على الصحابة.
قال: (وأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ النبي مُحَمَّدٌ ) هذه من خصائصه ، فقد خُصَّ بخصائص في الدنيا، وخُصَّ بخصائص في الآخرة، ومن الخصائص التي خُصَّ بها أنه (أَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ)، وأهل العلم قد كتبوا مؤلفات خاصة في خصائص النبي ، الخصائص التي خُصَّ بها في أحكام الدنيا، والخصائص التي خُصَّ بها في أمور الآخرة.
ومن الخصائص ما جاء هنا أنه أول من يستفتح باب الجنة، وأيضا ما خُصَّ به من الشفاعة العظمى في أهل الموقف، التي يعتذر عنها الأنبياء، وكذلك ما خُصَّ به من شفاعته لعمه أبي طالب، فهذه من الخصائص التي خُصَّ بها محمد ، وثمة خصائص أخرى، أنه يحمل لواء الحمد يوم القيامة.
قال: (وأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ النبي مُحَمَّدٌ ، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ) كما جاء في حديث الجمعة وغيرها، «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَومَ القِيامَةِ».
قال: (وَلَه فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) هذا على وجه العموم، وإلا فعند التفصيل ستجد أنها أكثر من هذا، ولهذا ذكر المؤلف هنا هذه الشفاعات للنبي .
قال: (الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى؛ فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ)؛ وقال في الثانية: (فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة). قال: (الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ)، وقال: (وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ).
إذن الثالثة ليست خاصة، بل يشترك فيها النبي مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والأعمال الصالحة، فالقرآن يشفع، والصيام يشفع.
إذن قوله: (وَلَه فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) يعني: من جهة العموم والخصوص.
وسماحة شيخنا الشيخ باز -رحمة الله عليه- قال: الشفاعات التي تقع يوم القيامة ست شفاعات معروفة من الأدلة الشرعية، قال: منها ثلاث شفاعات تختص بالنبي ، وهي: الشفاعة العظمى في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم، وهي التي ذكرها ابن تيمية هنا.
الثانية: الشفاعة في أهل الجنة حتى يدخلوها، وهي التي ذكرها في الثانية.
الثالثة: شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، والمصنف ما ذكرها هنا؛ لأن هذا المتن مختصر، حتى جُعل في ضحضاح من نار. قال: وهذه الشفاعة خاصة بالنبي وبعمه أبي طالب، وأمَّا ما سواه من الكفار فلا شفاعة فيهم؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر:48].
ثم ذكر جملة من الشفاعات منها: الشفاعة فيمن استحق أن يدخل النار ألا يدخل النار، وهذه له ولغيره، ويدخل في هذا النوع: أقوام استحقوا النار أن لا يدخلوا النار من عصاة الموحدين، وأقوام دخلوا النار فيخرجوا منها، وهتان الشفاعتان أنكرها الخوارج والمعتزلة؛ لأن عندهم مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فهو خالد مخلد في النار، ولهذا ما تنفعه الشفاعات، ولا تنفعه الأعمال الصالحة في الآخرة عند الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، بينما أهل السنة يثبتون هذه الشفاعات، شفاعة النبي وغيره أيضا، فهي يشترك فيها الكل، شفاعته لأقوام استحقوا النار أن لا يدخلوا النار، وأقوام دخلوا النار أن يخرجوا من النار.
وهذه الشفاعة، أي: في أقوام دخلوا النار أن يخرجوا منها، قد جاءت في أحاديث كثيرة، منها حديث أنس، «انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ»[1]، وكلمة «أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى» يدل على تفاوت الإيمان الذي في القلوب، فالناس يتفاوتون، «ومن في قلبه» تدل على أن الإيمان الذي في القلوب يتفاضل الناس فيه ويتفاوتون فيه.
وهناك شفاعات أخرى، منها: شفاعته في رفع درجات أهل الجنة، وهذه الشفاعات أيضا يشترك فيها القرآن، ويشترك فيها الصيام، ويشترك فيها الصالحون، فهذه أنواع الشفاعات.
طبعا هنا سؤال قبل أن ندخل في بعض التفاصيل، هل هناك أناس لا يشفعون من المؤمنين؟ نحن ذكرنا أن ثمة شفاعات يشترك فيها: الأنبياء، والشهداء، والصالحون، والأعمال الصالحة، والسؤال: هل هناك أناس من المسلمين لا تُقبل لهم شفاعة؟
نعم جاء في صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء، عن أم الدرداء أن النبي قال: «إنَّ اللَّعّانِينَ لا يَكونُونَ شُهَداءَ، ولا شُفَعاءَ يَومَ القِيامَةِ»[2]، يعني: كثير اللعن الذي مات من غير توبة، فإن من عقوبته يوم القيامة أنه يُحرم الشفاعة في غيره، ولذا فليحذر المسلم خاصة الشباب ممن يكثر على ألسنتهم اللعن، يرى أنها من زوال الكلفة فتجده يُصَبِّح وَيُمَسِّي زملائه باللعن، بل ما يكتفي بلعنه، بل يلعن والديه، والإنسان إذا لعن والديه رجعت على والديه عياذا بالله. فلينتبه الشباب من اللعن.
واللعن -عياذا بالله-، يعد من الصفات القبيحة، و «إنَّ اللَّعّانِينَ لا يَكونُونَ شُهَداءَ، ولا شُفَعاءَ يَومَ القِيامَةِ».
من المسائل المهمة هنا، نقول: من أسعد الناس بشفاعة النبي يوم القيامة؟
جاء في صحيح البخاري أن أبا هريرة -رضي الله عنه- سأل النبي هذا السؤال قال: يا رَسولَ اللَّهِ مَن أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِكَ يَومَ القِيَامَةِ؟ قالَ رَسولُ اللَّهِ : «لقَدْ ظَنَنْتُ يا أبَا هُرَيْرَةَ أنْ لا يَسْأَلُنِي عن هذا الحَديثِ أحَدٌ أوَّلُ مِنْكَ لِما رَأَيْتُ مِن حِرْصِكَ علَى الحَديثِ».
ثم قال: «أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ، مَن قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِن قَلْبِهِ، أوْ نَفْسِهِ»[3]. فأكثروا من قول: "لا إله إلا الله" بصدق وإخلاص، فهذا هو أسعد الناس بشفاعة النبي يوم القيامة.
كذلك من الأمور التي ينال بها المسلم شفاعة النبي الإكثار من الصلاة عليه، وأيضا الدعاء بعد الأذان، «مَن قالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هذِه الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الذي وعَدْتَهُ، حَلَّتْ له شَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ»[4]. فيحرص المسلم على متابعة الأذان والدعاء بعد الأذان.
أيضا سكنى المدينة، إلى غير ذلك من الأسباب التي بها ينال هذا الفضل العظيم، وهو شفاعة النبي يوم القيامة.
كذلك القرآن يشفع لصاحبه، والصيام يشفع لصاحبه، «اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ»[5]، وهذه منقبة وفضيلة فهنيئا لأهل القرآن، وأهل القرآن هم ممن يقيمون حروفه وحدوده، وليس المقصود بأهل القرآن الحفظة فقط، أو من يقيمون حروفه ويضيعون حدوده، بل من هؤلاء من يكونوا أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، كما جاء في الحديث: «إنما قرأ القرآن ليقال قارئ».
إذن أهل القرآن هم الذين أقاموا حروفه وحدوده، ولهذا لَمَّا سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلق النبي ، قالت: «كان خُلُقُه القُرآنَ»[6]، فهؤلاء هم أهل القرآن، وهكذا إذا قيل في أهل الحديث، فليس المقصود بأهل الحديث من يحفظون الأسانيد ويحفظون الرجال، ثم تراهم من أضعف الناس في العبادات، لا. فهؤلاء ليسوا من أهل الحديث، بل وُجد من المستشرقين من له عناية، ووجد من أهل البدع من له عناية، ولكن أهل الحديث هم من عُنوا به رواية ودراية، ولهذا من بركة العلم على أهله، ومن بركة القرآن على أهله، ومن بركة السنة على أهلها، أن ترى أثر العلم في عقيدته، في عباداته، في أخلاقه، في تعاملاته، هؤلاء هم أهل القرآن وأهل الحديث.
ولهذا إذا قيل أهل السنة، فليس المقصود أنهم عنوا بها رواية، بل عُنوا بها رواية ودراية، وانظروا إلى علماء أهل السنة، ترى السنة في عباداتهم، في أخلاقهم، في تعاملاتهم، ولذلك رأينا من مشايخنا أمثال الشيخ بن باز -رحمة الله عليه- وشيخنا الشيخ محمد بن عثيمين، كيف كانوا يطبقون السنة في أخلاقهم، وفي تعاملاتهم، وفي لباسهم، وفي أكلهم، وفي شربهم، وفي عباداتهم، ما يمكن أن تجد هؤلاء العلماء ممن هم أضعف الناس في الصلاة، إذا ذهبت إلى هؤلاء العلماء إذا لم تجده في الصف الأول خلف الإمام، فاعلم أنه مشغول في عمل آخر، بينما تجد أحيانا ممن ينتسب إلى العلم، وهو من أضعف الناس في العبادات، بل قد تجد العوام وبسطاء الناس أفضل منه في أداء العبادة، في الصف الأول يتقن العبادة، وتجده قد يُعنى بالعلم ولكنه في العمل لديه القصور، فهذا وإن انتسب للعلم لكن ليس هو من أهل القرآن على الحق والحقيقة، وليس هو من أهل الحديث على الحق والحقيقة، كما تدعي بعض الفرق أنهم من أهل السنة، مثل: الأشاعرة والماتريدية، يدعون أنهم من أهل السنة! فنقول: هذه الدعوة الواقع يكذبها؛ لأنكم تردون السنة، ولا أثر للسنة في أخلاقكم، ولا في عباداتكم، ولا في معاملاتكم، ولا في عقائدكم.
فقد يأتي من يدعي أنه من أهل القرآن، وتكون هذه الدعوة لا دليل عليها، كما ادَّعى أقوام أنهم يحبون الله، ويحبون الرسول ، فنزلت آية المحنة وآية المحبة، ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران:31].
لذلك نقول لكل من يدعي محبة الرسول : الدليل على المحبة أنك تمتثل سنته، أما أن تدعي محبة وتبتدع في الدين، فهذه دعوة لا دليل عليها، دعوة يدعيها كل دعي، أن تدعي محبة رسول الله ثم أنت تخالف هديه في سمتك، في مظهرك، في عباداتك، في عقائدك، في معاملاتك، فهذا ادعاء يكذبه القرآن في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:31].
هذه في الحقيقة وقفة مهمة تتعلق بالشفاعة؛ لأنها ثمرة هذا العلم، لاحظوا أيها الإخوة الكرام أن هذه الأمور -التي لها العقائد- هي أمور إيمانية، أمور تربوية فيها تزكية، هذه ثمرة الإيمان بهذه الأشياء، أن تظهر الثمرة في العبادات، في الأخلاق، في الاعتقادات.
أما إذا كان يحفظ هذه المتون ثم لا يظهر ثمرتها، فلا فائدة من هذا العلم، بل يكون حُجَّةً على صاحبه، «والقرآن حُجَّةً لك أو عليك».
ذكر الشفاعة العظمى، وهذه الشفاعة تكون في أهل الموقف، هذه الشفاعة ما شروطها؟
يشترط فيها فقط الإذن للشافع أن يشفع. لكن هل يشترط فيها الرضا عن المشفوع فيه؟
لا يشترط، لماذا؟ لأنها في أهل الموقف لأجل الفصل والقضاء بينهم، ولهذا الناس في هذا الموقف العظيم كما ذكر المصنف في أحوالهم، تدنو الشمس، ويلجمهم العرق، ويصابون بالكرب العظيم، والعطش، فيقول بعض الناس إلى بعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما أصابنا؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟
فيقولون: بلى، أبوكم آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، يذكرونه بخصائصه، وهذه من آداب الشفاعة، أنك إذا أردت لشخص أن يشفع لك، فأنت تُبَيِّنُ محاسنة، انظروا في الأدب.
فذكروا آدم بخصائصه، فقالوا: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فذكروه بهذه الأشياء، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما أصابنا؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟
فيعتذر آدم بأنه قد نهي عن الأكل من الشجرة فأكل، طبعاً هو يعتذر بذنب قد تاب منه وَقَبِلَ الله توبته، ولكنه أراد الاعتذار، كما الإنسان إذا أراد أن يعتذر عن الشفاعة فيعتذر بأي اعتذار.
وأيضاً من حكمة الله -تبارك وتعالى- أن يظهر مكانة نبيه محمدًا ، فيعتذر آدم بهذا العذر من ذنبٍ قد تاب منه، «اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نوح»! وانتبه فالناس يأتون في الشفاعة العظمى إلى أولي العزم من الرسل، الخمسة مع آدم بالترتيب، فيعتدر فيقول: «اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نوح».
لماذا نوح؟ لأنه هو أول الرسل، لا يوجد بين آدم ونوح نبي ولا رسول، وما يوجد في بعض كتب التاريخ بأنه إدريس هذا ليس عليه دليل، فليس بين آدم ونوح نبي ولا رسول.
ويأتون نوحا عليه السلام، فأيضا يذكرونه بخصائصه، أنت أول رسول، وسماك الله عبدًا شكورا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما أصابنا؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟!
فيعتدر نوح عليه السلام بأنه كانت له دعوة فدعا بها على قومه؛ لأنه ما من نبي إلا وله دعوة، فدعا بها نوح على قومه. وقال النبي : «وأُرِيدُ أنْ أخْتَبِئَ دَعْوَتي شَفاعَةً لِأُمَّتي في الآخِرَةِ»[7]، صلوات الله وسلامه عليه، ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة:28]، فقد استأثر بدعوته لتكون شفاعة لأمته يوم القيامة.
فيعتذر نوح عن الشفاعة العظمى في أهل الموقف للفصل والقضاء، التي هي المقام المحمود، فيقول: «اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إبراهيم»، وانتبه لأن كل نبي يعتذر ويرشدهم إلى من يذهبون إليه.
فيأتون إبراهيم أيضا فيذكرونه بخصائصه، فذكروه بأن الله قد اتخذه خليلا، ويقولون: ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما أصابنا؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟
فيعتذر إبراهيم بأنه قد كذب ثلاث كذبات، طبعا هي ليست كذبات، بل هي من باب المجادلة والنظر، ولكنه يريد الاعتذار، وهذه الكذبات لما قال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات:89]، ولَمَّا قال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء:63]، ولَمَّا قال: لملك مصر: هذه أختي، يقصد سارة؛ لأجل أن ينجيها من كيده.
يقول: «اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى موسى»، فيأتون موسى -عليه السلام- فيقول لهم: «إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ»[8]، يعني: يقول كما قال الأنبياء قبله، ثم يعتذر ويقول: وإني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، طبعا هذا كان قبل النبوة، وكان قتل خطأ، ثم يقول: اذهبوا إلى غيري!
طبعا ذكروا موسى عليه السلام فقالوا: أنت كليم، لأن الله خصَّ إبراهيم بالخُلَّة، وخصّ موسى بالكلام. قال: «اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عيسى».
فيأتون عيسى فيقولون: أنت الذي خلقك الله من أمٍّ بلا أب، وذكروه بخصائصه فيعتذر، ولم يذكر ذنبًا، وهذه حكمة إلهية؛ لأن الله قد حفظه ببركة دعوة جدَّته له، وجدته هي أم مريم، ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [مريم:36]، فيعتذر عيسى عليه السلام ويقول: «اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى محمد ».
فيأتي الناس إلى محمد فيذكرونه بخصائصه، أنت الذي غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول : «أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا»، ولهذا فهو سيد الخلق يوم القيامة ولا فخر. فيذهب فيخر تحت العرش ساجداً فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع!
قال: «فيفتح الله عليَّ من محامده»، وهذا يدل على أنَّ لله محامد لا نعلمها، كما له أسماء لا نعلمها، وله صفات لا نعلمها، كذلك له محامد لا نعلمها.
قالَ: «فيفْتَحُ اللَّهُ» وكلمة فيفْتَحُ اللَّهُ تدلَّ على أنَّ الإنسان قد يفتح الله عليه من أبواب العبادات وأبواب الذكر، ولذا فالعلماء يسمون كتبهم: "فتح"، ويدعون للقارئ ولطالب العلم بقولهم: فتح الله عليك، ولهذا قال: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ ويُلْهِمُنِي مِن مَحامِدِهِ»[9]، فدل على أن له محامد لا نعلمها.
أيضا النبي ما تقدّم بطلب الشفاعة، وإنّما أُذِنَ له، فيقال: «يا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ»، فيشفع عليه الصلاة والسلام في أمّته.
طبعا أهل العلم يذكرون الشفاعة العظمى في سياق الشفاعة لأهل الكبائر، إلا أنّها جاءت في الشفاعة لأهل الموقف، وهذه الشفاعة هي التي سمّاها الله -عز وجل-: المقام المحمود، وذلك في قوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ [الإسراء:79].
وهي التي يدعو بها المسلم بعد كل أذان، «اللَّهُمَّ رَبَّ هذِه الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الذي وعَدْتَهُ، حَلَّتْ له شَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ»[10]، وهذا هو المقام المحمود، شفاعته في أهل الموقف، بعد أن يعتذر عنها آدم، ثم بقية أولي العزم من الرسل، نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ثم يشفع عليه الصلاة والسلام.
ولهذا قال: يتراجع الأنبياء، آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم عن الشفاعة، حتى تنتهي إليه .
هذه الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، في أهل الموقف للفصل والقضاء بينهم.
قال: (وأما الشفاعة الثانية فيشفع لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة) وهذه خاصة به عليه الصلاة والسلام، وهذه لأهل الجنة، ولهذا يشترط فيها الإذن، ويشترط فيها الرضا عن الشافع، والرضا عن المشفوع فيه.
وأما الإذن فلا إشكال، وأما الرضا فالذي يشفع هو محمد صلوات الله وسلامه عليه في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة.
قال: (وهاتان الشفاعتان خاصتان له) أي: المقام المحمود، وشفاعته في دخول أهل الجنة الجنة، ويضاف لها ما ذكره المؤلف، وهي شفاعته في عمه أبي طالب، كما جاء في الحديث الصحيح.
قال: (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا) أي من عصاة الموحدين، وهذه أنكرها الوعيديه، الخوارج والمعتزلة.
قال: (وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ) فيشفع الأنبياء، والصديقون الذين يأتون بعد مرتبة النبوة، فالصديق هو كثير الصدق في اعتقاداته، وأقواله، وأفعاله. ومرتبة الصديقية كما تقدم تأتي بعد مرتبة النبوة، ثم تليها مرتبة الشهادة، فيشفع الصِّديق كذلك.
فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، هذا صنف.
قال: (وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا) إذن النوع الثاني قسمه إلى صورتين:
أقوام من أهل التوحيد استحقوا النار، ألا يدخلوا النار، وهذه ليست خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، بل يشفع الأنبياء، ويشفع الشهداء، ويشفع الصديقون، والصالحون، وكذلك الأعمال الصالحة تشفع في أقوام استحقوا النار ألا يدخلوا النار، وأقوام دخلوها، وهل يدخل النار أحد من أهل التوحيد؟
نعم، ولهذا أهل العلم يقولون: دخول الجنة على نوعين، ودخول النار على نوعين:
دخول الجنة على نوعين، منها:
دخول من أول وهلة فيمن حقق التوحيد كامل أو راجحًا.
دخول بعد تطهير، وهذا فيمن حقق أصل التوحيد، فيدخلها مآلاً، فدخول الجنة إما ابتداءً أو مألاً.
ودخول النار على نوعين، هما:
دخول مؤبّد في حق الكفار بشتى أصنافهم.
ودخول مؤقت في حق عصاة الموحدين، ولهذا قال فيه: (فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لا يَدْخُلَهَا) من أهل التوحيد، ويشفع فيمن دخلها من الموحدين، دخول مؤقت، أن يخرج منها، وهذه الشفاعة تتكرّر كما جاء فيها حديث أنس، تتكرّر أربع مرات وربما أكثر.
ثم قال: (وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ) كما جاء في الصحيحين، وهذا يدلّ على أن عقوبة الآخرة قد تسقط عن العاصي بنحو عشرة أسباب أو أكثر، فعقوبة العصاة قد تسقط عن العصاة من الموحدين بأسباب كثيرة، أُفردت في مؤلف خاص فيما يتعلق بالوعيد الأخروي.
من الأسباب التي تسقط بها العقوبة في الآخرة:
التوبة، فالتوبة تجب ما قبلها. والاستغفار -استغفار المسلمين-، وأحيانا تسقط أحيانا العقوبة بالحدود التي تقام عليه في الدنيا، وتسقط عقوبة الآخرة في النار بالتطهير في القبر، وتسقط برجحان كفة الحسنات في الميزان، وتسقط العقوبة بالحسنات التي تهدى إليه بعد موته من أداء حقوق، وسداد ديون، وحسنات تنفعه.
تسقط أحياناً بالشفاعة، وتسقط بالتطهير، كما مر معنا في حديث مانع الزكاة، تصفح له صفائح من النار فيكوى بها جبينه وظهره، وكلما بردت أعيدت إليه، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
ثم يرى مصيره بعد ذلك إما إلى الجنة وإما النار، بمعنى أنه قد تكفي العقوبة التي عوقب بها في المحشر، فلا يدخل النار، فتسقط عقوبة النار بتطهيره في المحشر، كما طُهِّرَ في القبر.
وتسقط بالشفاعات بأنواعها، وقد تسقط العقوبة بعفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما جاء في الصحيحين، قال الرب -تبارك وتعالى-: «شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع الشهداء، وشفع الصالحون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار»، أي: من أهل التوحيد ممن لم يعملوا خيراً قط، يعني فيما يظهر للناس، فيدخلهم الجنة، ولهذا قال -كما جاء في الصحيحين-: «ويُخرِج الله من النار أقواماً»، والمقصود بالأقوام هنا: أهل التوحيد، لأن النصوص يجمع بعضها إلى بعض، وليس المقصود هؤلاء الكفار؛ لأن الكفار في النار خالدين وإنما المقصود بالأقوام هنا من آل التوحيد ممن لم يشفع لهم أحد، بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته.
ثم إذا خرج أهل التوحيد من النار وهذبوا، يُطرحون في نهر يسمى: نهر الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة، ثم يدخلون الجنة، ولهذا آخر من يدخل الجنة من؟ هو آخر واحد يخرج من النار من أهل التوحيد.
فآخر من يدخل الجنة من المؤمنين، هو آخر من يخرج من النار من الموحدين، كما جاء في الأحاديث، فإذا خرج أهل التوحيد ممن كانوا في النار بسبب ذنوبهم، يبقى في النار فضل، قال: (وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ) وهذا تقدم وقد أشرنا إليه في الأحاديث.
قال: (وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ) بعد أن دخل أهل الجنة الجنة، وبقي أهل النار الذين هم أهلها فيها خالدين، قال: (يبقى في الجنة فضل ويبقى في النار فضل) أما الجنة فينشئ الله لها خلقا، يعني: المقاعد التي كانت لأهل النار في الجنة يُنشئ الله لها خلقًا، وأما النار بعد أن يخرج أهل التوحيد منها يبقى فيها فضل، فماذا يفعل؟ فيضع الرب -تبارك وتعالى- قدمه فيها، فينزوي بعضه إلى بعض فتقول: «قط قط»، وهذا من كمال رحمة الله -تبارك وتعالى- بأهل الجنة، ومن كمال عدله، أنه لا ينشئ للنار خلقًا.
فمن كمال رحمته -تبارك وتعالى- وفضله، ومن كمال عدله، أنه سبحانه يضع قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض.
لاحظ أن المصنف -رحمه الله- اكتفى بمثل هذه المسائل لأنه هنا قال: (ومن الإيمان باليوم الآخر)؛ لأن ثمّة مسائل أخرى تتعلّق مثلاً بالجنّة، وتتعلّق بالنار، وما يتعلّق بمراتب أهل الجنّة في الجنّة، وما يتعلّق بالنعيم في الجنّة، وما يتعلّق برؤية الرب -تبارك وتعالى- وهو أعظم نعيم يتنعّم به أهل الجنّة، ومن أفضل الكتب التي أُلفت في بيان نعيم الجنة ودرجات الجنة، وما يتعلق بأحكام الجنة: كتاب ابن القيم -رحمة الله عليه- والذي سماه: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، فمن أراد أن يتعرف على هذا النعيم العظيم في الجنة، وخلود أهل الجنة، والأحكام المتعلقة بالجنة، وما يرد من إشكالات يطرحها من يطرحها، مثل: هل الجنة التي دخلها آدم هي جنة الخلد؟ يجد هذا في كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" لابن القيم، وهو كتاب نفيس.
وأفضل كتاب أُلِّف في بيان صفة النار، ودركات النار، وما يتعلق بأبواب النار، والعذاب في النار، والخلود في النار عيادا بالله، سيجده في كتاب تلميذه ابن رجب: "التخويف من النار، وبيان حال أهل البوار"، فهذه من أعظم الكتب، والمصنف -رحمه الله- بحكم أن المتن مختصر لم يتعرض لهذا، أي: لم يتعرض إلى وجود الجنة الآن، وأبدية الجنة، ووجود النار الآن وأبدية النار؛ لأن المتن مختصر.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّار، ِوَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ)}.
ختم المؤلف هذا الفصل المتعلق بهذا الركن -بالإيمان بالله واليوم الآخر- بهذه الخاتمة الجامعة الجميلة، قال: (وَأَصْنَافُ)؛ لأنه ذكر أمثلة، (وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّار، ِوَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ) يعني: في الكتب السماوية، ولكن ما في القرآن واضح عندنا. ولكن ما الذي يُثبت لنا صحة ما ورد في الكتب الأخرى؟ لأنه دخلها التحريف والتغيير والتبديل.
قال: (وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ) مما هو موجود وخاصة في كتب التفسير وغيرها وكتب الأحاديث، لكن ما هو مأثور عن الأنبياء يُعرض على القرآن، فما صدقه يُصدق، وما كذبه يُكذب، وما سكت عنه فيدخل في باب حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، لكن أعطاك قاعدة مهمة ومفيدة لطلاب العلم وللدعاة وللوعاظ وللخطباء وأئمة المساجد، قال: (وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ ) يعني: مما جاء في القرآن والسنة الصحيحة، (مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ)، ولاحظ هنا أن ما يتعلق بأحوال الآخرة غيب، لا مجال فيها للقياسات الفاسدة، لا مجال فيها للعقول السقيمة، لا مجال فيها للاعتراضات، ويأتي من يقحم عقله السقيم في أمور الغيب، فهذه أمور غيب تعتمد على الوحي، ولهذا تؤخذ من الكتاب. وأما الكتاب فهو مليء بما يتعلق بأحوال الآخرة، وكذلك في السنة، بل لم يأت في الشرائع السابقة مثل ما جاء في القرآن الكريم، فيما يتعلق بالمعاد، أو بالحجج العقلية، وما يتعلق بتفاصيل الجنة وتفاصيل النار.
إذن نقول كما ذكر المؤلف -رحمه الله-: إذا كان في العلم الموروث عن محمد ما يشفي ويكفي، فلا حاجة للواعظ أن يعتمد على المنامات والقصص والإسرائيليات في أبواب الترغيب والترهيب، أو يعتمد على الأخبار المكذوبة والموضوعة، أو الأخبار الضعيفة.
نقول: ما جاء في القرآن وصح في السنة، فإنه يُغني ويَشفي ويَكفي عن أن تبعث عن مرققات القلوب، أو مما يُرهب الناس في أحوال الآخرة، ما هو موروث عن النبي من ذلك ما يشفي ويكفي، ولكن قال: (فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ) والقرآن مليء والسنة مليئة، وقد كتب أهل العلم في ذلك المؤلفات التي يستفيد منها المسلم.
ومثل هذه الموضوعات موضوعات مهمة تربوية، تُرغِّبْ وتُرَهِّب وتزكي، وتحض على الأعمال الصالحة، ولهذا كما ذكرنا في أول هذا الباب، أن الإيمان باليوم الآخر كثيرا ما يقترن بالإيمان بالله، «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ»؛ لأنه هو الذي يدفع الإنسان للعمل، ويزجره عن الظلم وعن المعصية وعن ارتكاب ما نهى عنه الربُّ -تبارك وتعالى- وزجر.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا جميعا بما نقول ونسمع، وأن يُحسن خاتمتنا، وأن يمن علينا برؤية وجهه الكريم في جنات النعيم، وبالورود على حوضه في عرصات القيامة، إنه جواد كريم، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وجزاكم عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أيضا أيها الإخوة والأخوات، نلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------------------
[1] روى البخاري (7510)، ومسلم (193).
[2] رواه مسلم (2598).
[3] أخرجه البخاري (99)
[4] رواه البخاري (614).
[5] رواه مسلم (804).
[6] أخرجه أحمد (25813).
[7] أخرجه البخاري (6304)، ومسلم (198).
[8] أخرجه البخاري (3340) واللفظ له، ومسلم (194)
[9] أخرجه البخاري (3340) واللفظ له، ومسلم (194).
[10] رواه البخاري (614).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك