{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا عن النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله مُشاهدينا الكرام، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ سهل بن رفاع العتيبي. باسمي واسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق والعلم النافع والعمل الصالح.
{نستأذنكم شيخنا في البدء بقراءة المتن}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ)}
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلى كل من صَلَّى وسَلَّم عليه. أما بعد، فقد تحدث ابن تيمية -رحمه الله- في هذا الفصل عن الموضوع الثالث من موضوعات هذا الكتاب، حيث تحدث فيما سبق عن الإيمان بالأسماء والصفات، ثم عن الإيمان باليوم الآخر، وهذا هو الموضوع الثالث عن معتقد أهل السنة والجماعة -الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة- في الإيمان بالقدر خيره وشره.
والإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، كما جاء في حديث جبريل الذي يُسمَّى بأم السنة، ولهذا من أنكر القدر فقد كفر؛ لأنه قد أنكر رُكنًا من أركان الإيمان الستة، وأهل العلم في كتب العقائد يُعنون بهذا الباب عناية كبيرة، فلا تكاد تجد مُصنَّفًا من مُصنَّفات العقيدة المُسندة أو المُختصرة إلا وتجد فصلًا يتعلق بموضوع القدر، فمنهم من يُفرده في فصل مستقل، ومنهم من يجعله ضمن الإيمان بالأسماء والصفات، كما فعل الطحاوي وغيره من العلماء، والسبب الذي جعلهم يبحثون مسائل القدر في مسائل الأسماء والصفات؛ لأن موضوع القدر يتعلق بصفات الرب تبارك وتعالى، يتعلق بعموم علمه، بما في ذلك علم الرب تبارك وتعالى بأفعال العباد، وكتابته لكل شيء بما في ذلك أعمال العباد، ومشيئته لكل شيء بما في ذلك أفعل العباد، وخلقه لكل شيء بما في ذلك أفعل العباد.
ولهذا منهم من يفرده في فصل مستقل، ومنهم من يجعله ضمن مباحث الأسماء والصفات، لتعلقه بالعلم والكتابة والمشيئة والإرادة والقدرة والخلق.
ومنهم من يفرده في مؤلفات خاصة، فيفردون موضوع القدر في كتب خاصة لأهميته.
ومن الأسباب التي لأجلها ساق ابن عمر حديث أبيه المشهور، الذي هو حديث جبريل الذي يسمى بأم السنة، كان في مسألة القدر وظهور القدرية في أواخر زمن الصحابة، وحديث جبريل هو أول حديث في صحيح مسلم بعد المقدمة، حيث ذكر الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، في باب -والأبواب ليست من مسلم بل هي من الشراح- لكن الباب يوضح المراد، في كتاب الإيمان في باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات القدر لله سبحانه وتعالى، وبيان الدليل على التبرؤ ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه.
ثم قال الإمام مسلم: قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري: بعون الله نبتدئ، وإياه نستكفي، وما توفيقي إلا بالله جل جلاله، ثم ساق بسنده عن أبي خيثمة، زهير بن حرب، قال: حدثنا وكيع، عن كَهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: "كانَ أوَّلَ مَن قالَ في القَدَرِ بالبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ"، وهؤلاء هم القدرية الأوائل، أتباع معبد الجهني، الذين نفوا جميع مراتب القدر، "كانَ أوَّلَ مَن قالَ في القَدَرِ بالبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ"، قال: "فانْطَلَقْتُ أنا وحُمَيْدُ بنُ عبدِ الرَّحْمَنِ الحِمْيَرِيُّ حاجَّيْنِ، أوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فَقُلْنا: لو لَقِينا أحَدًا مَن أصْحابِ رَسولِ اللهِ ﷺ، فَسَأَلْناهُ عَمَّا يقولُ هَؤُلاءِ في القَدَرِ، فَوُفِّقَ لنا عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ داخِلًا المَسْجِدَ، فاكْتَنَفْتُهُ أنا وصاحِبِي أحَدُنا عن يَمِينِهِ، والآخَرُ عن شِمالِهِ، فَظَنَنْتُ أنَّ صاحِبِي سَيَكِلُ الكَلامَ إلَيَّ، فَقُلتُ: أبا عبدِ الرَّحْمَنِ إنَّه قدْ ظَهَرَ قِبَلَنا ناسٌ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، ويَتَقَفَّرُونَ العِلْمَ" وانظر ولا تغتر بسيماء أهل الأهواء، كما وصف النبي ﷺ الخوارج، فقد يتلبسون أحيانًا بلبوس العلم، ولكن عندهم ضلال وانحراف في فهم العلم.
ولهذا انظر كيف يصف هؤلاء القدرية، وهذا فيه تنبيه وخاصة للشباب ألا تغتر بالمظاهر، وإنما عليك أن تنظر إلى سلامة المنهج، وسلامة المعتقد.
قال: "فَقُلتُ: أبا عبدِ الرَّحْمَنِ إنَّه قدْ ظَهَرَ قِبَلَنا ناسٌ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، ويَتَقَفَّرُونَ العِلْمَ" يعني: لاحظ أن سيماء القدرية والخوارج يقرأون القرآن ويتقفرون العلم، ولكن ما الإشكال؟
قال: "وذَكَرَ مِن شَأْنِهِمْ، وأنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أنْ لا قَدَرَ" وهذا فيه فائدة منهجية لطالب العلم وللشباب، وهي: ممن تأخذ العلم؟ فلا تغتر بالمظاهر، فإنهم يقرأون القرآن.
وانتبه لأن سيماء القدرية هي نفسها سيماء الخوارج، يقرأون القرآن ويتقفرون العلم.
"وذَكَرَ مِن شَأْنِهِمْ، وأنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أنْ لا قَدَرَ" أي: ينفون القدر، وهذا ضلال في فهم النصوص، وأنهم يزعمون أيضًا "أنْ لا قَدَرَ، وأنَّ الأمْرَ أُنُفٌ".
قال ابن عمر: "فإذا لَقِيتَ أُولَئِكَ"، هذا حكم الصحابة فيهم، "فإذا لَقِيتَ أُولَئِكَ فأخْبِرْهُمْ أنِّي بَرِيءٌ منهمْ، وأنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، والذي يَحْلِفُ به عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ لو أنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فأنْفَقَهُ ما قَبِلَ اللَّهُ منه حتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ".
إذن عدم الإيمان بالقدر يُبطل جميع الأعمال الأخرى.
ثُمَّ قال: "حدَّثَني أبِي عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ قالَ: بيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ يَومٍ، إذْ طَلَعَ عليْنا رَجُلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّيابِ، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عليه أثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حتَّى جَلَسَ إلى النبيِّ ﷺ" ثم ساق الحديث المشهور الذي يسمى بأم السنة، كما أن الفاتحة هي أم القرآن.
فحديث جبريل هذا، والذي هو أول حديث في صحيح مسلم يُسمَّى بأم السنة، رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، ورواه البخاري ومسلم كذلك من حديث أبي هريرة.
فالشاهد من هذا أنَّ الإيمان بالقدر رُكن من أركان الإيمان الستة، كما جاء في هذا الحديث، والإيمان بالقدر فرع عن الإيمان بالله لماذا؟
لأنه إيمان بعلم الله، إيمان بقدرة الله، إيمان بمشيئة الله، إيمان بخلق الله تبارك وتعالى، ولهذا هو يتعلق بتوحيد الربوبية، ويتعلق كذلك بتوحيد الأسماء والصفات.
يتعلق بتوحيد الربوبية؛ لأنه إيمان بأن الله هو الخالق لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، وإيمان بأنه لا يحصل في الكون شيء إلا بمشيئة الله، بما في ذلك أفعال العباد، ولهذا فالقدرية أي: نفات القدر يسمون بمجوس هذه الأمة، كما سيأتي؛ لأنهم جعلوا العباد يخلقون أفعالهم استقلالا، وزعموا أنه لا أثر لمشيئة الله في أفعال العباد، فهنا وقع الخلل عندهم في هذا الركن، ثم وقع الخلل عندهم في توحيد الربوبية، ثم وقع الخلل عندهم في توحيد الأسماء والصفات، فانظر أهمية هذا الركن.
ولهذا لَمَّا سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن القدر قال: القدر هو قدرة الله، انظر هذا الجواب السديد، قال: القدر هو قدرة الله، هل يستطيع الإنسان أن يحيط بقدرة الله؟ الجواب: ما يستطيع، فالله على كل شيء قدير بما في ذلك أفعال العباد.
وسئل مرة عن القدر فقال: "القدر هو علم الله"، والإنسان لا يحيط بعلم الله، فالله يعلم كل شيء، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم المستحيل الذي لم يقع لو وقع كيف يقع، ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال:23]، ولهذا قال الشافعي -رحمه الله- ناظِروا القدرية بالعلم، فإن أقرُّوا به خُصِمُوا، وإن أنكَروه كفَروا، ويقصد بالعلمُ هنا، علم الله تبارك وتعالى، يعني يُقال للقَدَرِي أمثال هؤلاء الذين ذكرهم الرَّاوي، الذين يقولون: الأمر أُنُف لا قَدَر، يُقال لهؤلاء القَدَرية: هل الله يعلم ما أنتم فاعلونه غدًا أم لا؟ يعني: يُقال لمن ينفِي القدَر هذا السؤال العقلي، هل الله يعلم ما أنت فاعله غدًا أم لا؟
فإن قال: نعم، الله بكل شيء عليم، فقد خُصِم لأن هذا هو القدر، أن تؤمن بعلم الله -عز وجل- المطلق بكل شيء، بما في ذلك أفعال العباد، وإن أنكر فقد كفر، لماذا قد كفر؟ لأنه أنكر علم الله عز وجل، ويترتب عليه اتهام الرب تبارك وتعالى بأنه يحصل في الكون ما لا يعلمه، وهذا تنقص في حق الرب تبارك وتعالى.
إذن هذه العبارات عن هؤلاء الأئمة الكبار مهمة جداً في فهم هذا الباب، وكذلك معالجة الشُّبَه التي يوردها شياطين الإنس أو شياطين الجن على الإنسان في هذا الباب العظيم.
وموضوع القدر من الموضوعات الكبرى التي يحصل فيها اللغط، ويكثر فيها الجدل، لدى أصحاب الديانات، في الفلسفات، أو فيما يسمى اليوم بدورات التدريب، أو تطوير الذات، حيث تجد الخلل الكبير في هذا الباب، خاصة إذا خاض فيه من لم يُحقق الإيمان في القدر، كما جاء في النصوص الشرعية، فربما ضلَّ، خاصةً قضية الشر، وهل في قدر الله شر؟ وتأثير الأسباب إلى غير ذلك، فهو من الموضوعات المهمة التي ينبغي للمؤمن أن يُحقق الإيمان فيها.
قال المصنف -رحمه الله-: (وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ) ما معنى تؤمن؟ ليس المقصود هو التصديق المجرد كما تقدم، بل هو الإيمان الحقيقي، اليقين الصادق الذي يثمر الاعتقاد، ويثمر الرضا بأقدار الله، ويثمر الإيمان بشرع الله تبارك وتعالى، فالمقصود هنا (تؤمن) أي: الإيمان الشرعي، الذي هو اعتقاد جازمٌ لا شك فيه ولا ريب، يُثمر الامتثال لأمر الله، والرضا بقضاء الله وقدره، ومعلوم أن الناس في الإيمان مراتب كما تقدم، ولكن لا باس من التأكيد عليه؛ لأن المصنف هنا أعاد العبارة في قوله: (وتؤمن).
الناس في الإيمان ثلاث درجات: مسلمون، ومؤمنون، ومحسنون، مثل مراتب الدين، فمنهم من معه الأصل الذي يُبقيه في دائرة الإسلام وينفعه من عدم الخلود في النار، هذا هو أصل الإيمان وأصل التوحيد وأصل الدين، ومنهم من معه الكمال الواجب، ومنهم من معه الكمال المستحب، وهذه درجات الدين، ودرجات الإيمان، ودرجات التوحيد. أصل كمال واجب وكمال مستحب.
وهذه الدرجات كما أنها في الدين بأكمله، أو في الدين بعمومه، هي كذلك في كل عبادة، انظر في الصلاة مثلاً، فالصلاة فيها أركان، فيها واجبات، وفيها مستحبات قولية أو فعلية.
الحج مثلاً، الحج تجد فيه أركانا لابد منها، ويبطل الحج بتركها، وفيه واجبات تجبر، وفيه مستحبات، إما أقوال أو أفعال، وهكذا شعب الإيمان، أو شعب الدين فيها ما هو أصل، وفيها ما هو كمال واجب، وفيها ما هو كمال مستحب، وهذا كما يقال في الدين بعمومه، يقال: في كل عبادة، ومن ذلك ما يتعلق بالإيمان بالقدر.
إذن الناس في إيمانهم بالقدر على مراتب، ولهذا قال: (وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ) كما تقدم، وهي فرقة من اثنين وسبعين فرقة، وكما تقدم أيضا في وسطيّة أهل السنة والجماعة، أنهم وسط بين طرفي نقيض في باب القدر. الجبرية من جهة، والقدرية من جهة أخرى، وسيأتي الحديث عن هذه الفرق، وعن الشبهات وكيفية الرد عليها. وأهل الحق وسط بين طرفين نقيض.
(وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ) القدر هو تقدير الله عز وجل للكائنات، حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
بعض العلماء في كتب العقائد، خاصة الكتب المتأخرة، قد يُعبرون بالقضاء والقدر، فهل ثمة فرق؟ الجواب: من أهل العلم من يقول: لا فرق بينهما، أو من باب تأكيد العبارة.
ومنهم من يفرق بينهما، ويقول: القدر مأخوذ من التقدير، أو من القَدْر، والقضاء الذي هو الحكم، وقضاء الله وحكمه وأمره وإرادته نوعان:
هناك قضاء كوني، وحكم كوني، وأمر كوني، وإرادة كونية، وهذه يلزم منها الوقوع، ولا يزم منها المحبة والرضا.
وهناك القضاء الشرعي، الحكم الشرعي، الأمر الشرعي، الإرادة الشرعية المتعلقة بالشرائع، وهذه يلزم منها المحبة، ولا يلزم منها الوقوع، وعليه فالقضاء بهذا التقسيم يكون أشمل من القدر.
ومن أهل العلم من قال: إن القضاء قبل، وإذا وقع يسمى قدرًا، ومنهم من عَكَسَ وقال: هو قدر، فاذا وقع يسمى قضاءً.
على كلٍ مِن أهل العلم من يفرق بين القضاء والقدر، ومنهم من لا يفرق بينهما، ولهذا يقولون: هو قضاء كما سبق، فاذا وقع يقال له: قدر، والانسان لا يعرف بالشيء المقدر إلا بعد وقوعه، ولهذا احتجاجه بالقدر على شيء لم يقع كان احتجاجًا بشيء لا يعلمه، فإذا جاء الجبري واحتج عليك بأن هذا أمر مُقدر، فقل له: كيف عرفت أنه مقدر؟ هل اطلعت على الغيب؟ أنت لا تعلم ما هو مقدر إلا بعد الوقوع، ولذا كان احتجاجك بشيء لا تعلمه احتجاجًا غير صحيح، ولهذا الإنسان إذا أصيب بمصيبة ماذا يقول؟ قدر الله وما شاء فعل، يعني جاء الحديث بروايتين، «قَدَرُ الله وَمَا شَاءَ فَعَلْ» أو يقول: «قَدَّرُ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» يعني: يجوز أن تقول هذا أو ذاك، تقول: قَدَرُ الله، يعني: هذا قدر الله وما شاء فعل.
أو تقول: «قَدَّرُ الله وَمَا شَاءَ فَعَلَ» هذا هو ما يتعلق بالفرق بين القضاء والقدر.
قال: (وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) الخير هو ما يتوافق مع رغبات الإنسان، والشر ما لا يتوافق مع رغباته وأماله، ولكن السؤال المهم، هل في قدر الله شر؟ وهذا سؤال مهم، وقد يرد على بعض الناس لَمَّا يقرأون مثل هذه الكتب، وهذا جاء في حديث جبريل، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، فهل في قدر الله شر؟
الجواب يحتاج إلى تفصيل؛ لأن ثمة قدر فعل، وثمَّة مقدور مفعول، ففعل الرب تبارك وتعالى كله خير، كما جاء في الحديث في دعاء الليل، «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ ليسَ إلَيْكَ» ، ففعل الرب تبارك وتعالى كله خير، والشر الموجود إنما هو شر في: المقدورات، المخلوقات، المفعولات، فثمَّة فعل وثمَّة مفعول، ثمة قدر، وثمة مقدور، فالشرور الموجودة هي من قدر الله، وهي شرور في المقدورات المفعولات المخلوقات، وأيضا هذه الشرور الموجودة في المخلوقات هي موجودة شرعا وعقلا وحسًا، فهي: المصائب والأمراض والآفات والكوارث، هي شرور بلا شك، ولكن نقول: هذه الشرور وإن كان فيها شر من وجه، ألا أنَّ فيها خير من وجه آخر.
ولهذا نقول: لا يوجد في خلق الله ما هو شر محض، نعم يوجد ما هو شر جزئي، أو شر إضافي، وأمَّا الشر المحض فهذا غير موجود، وهذا الشر الجزئي -الشر الإضافي- فيه خير، يعني نأخذ على سبيل المثال لتوضيح هذه المسألة، لَمَّا يُقرر الأطباء لأحد المرضى بضرورة بتر القدم، فنسأل، هل بتر القدم حينئذٍ شرٌ أم خير؟ أي حين يقرر الأطباء بأنه لا بد من بتر قدم هذا المريض، فالمريض سيفقد قدمه، ولذا فالمريض ينظر للأمر على أنه شر؛ لأنَّ قدمه سيتم بترها، ولكن المصلحة خير، لأن المرض قد يصل لجميع الجسم، فهذه الصورة تبين أن البتر شرٌ من وجه، ولكن العواقب فيها خير.
ومثل هذا الحدود التي تقام والتعزيرات، فقد يَنظر لها الإنسان على أنَّ هذه العقوبات شرور، ولكنها فيها خير في استتباب الأمن، وحفظ الأمن، وردع المجرمين، فهذا هو المقصود بأنه شر جزئي، أو شر إضافي، فهو شر من وجه، ولكن فيه خير.
أمَّا الشرُّ المحض المطلق فهذا لا يوجد في خلق الله تبارك وتعالى.
وأيضا مسألة أخرى تتعلق بهذه المسألة، وهي: هل ينسب الشر إلى الله؟ الجواب أنَّ الشر لا ينسب إلى الله بإطلاق إلا على أحوال ثلاثة:
الحال الأولى: أن يدخل في عموم المخلوقات، مثل قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49] فهل الشر يدخل؟ نعم يدخل، فكل المخلوقات هي من خلق الله تبارك وتعالى، فيدخل الشر في عموم الخلق، أو يضاف الشر إلى المخلوق، مثل قول الله تبارك وتعالى: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق:2]، فهنا أُضيف إلى رب بإضافته إلى خلقه.
والثالث أن يُحذف الفاعل تنزُّهًا، كما ذكر الله عز وجل في سورة الجن عن مؤمني الجن وأنهم قالوا: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الحن:10]، انظر الأدب من إخوانكم من الجن، ما نسبوا الشر إلى الله، فقط الخير نسبوه إلى الله، بينما الشر من أدب العبودية وأدب الدعاء ما نسبوه إلى الله.
إذن لا يضاف الشر إلى الله مباشرة إلا في هذه الأحوال الثلاثة.
والشر الموجود في مقدورات الله ومخلوقات الله هو شر جزئي، شر نسبي، شر إضافي، وأما الشر المطلق المحض فهذا لا يوجد في خلق الله تبارك وتعالى.
إذن مُراد المؤلف -رحمه الله- بقوله: (وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) قَصَدَ الشر الموجود في المفعولات، المقدورات، المخلوقات، التي فيها خير من وجه آخر.
الإيمان بالقدر يُثمر للمؤمن ثمرات عظيمة، ومن ثمرات الإيمان بالقدر أنه من تمام الإيمان بالله، فلا يتم إيمانك بالله تبارك وتعالى حتى تُؤمن بالقدر. لماذا؟ لأنه إيمان بعلمه المطلق، إيمان بكتابته، إيمان بمشيئته وإرادته، إيمان بخلقه تبارك وتعالى.
إذن الإيمان بالقدر هو من تمام الإيمان بالله.
ثانياً: أنه من تمام الإيمان بالروبية، فهو إذن هو مرتبط بربوبية الله تبارك وتعالى.
وثالثاً: أن من ثمرات الإيمان بالقدر أن الإنسان يرد أموره كلها لله، في السراء شاكر، وفي الضراء صابر، فاذا حصلت له النعم يحمد الله ويشكره، ويعرف أن هذا فضل من الله تبارك وتعالى، وليس من ذكائه ولا من عبقريته، فالخير ينسبه لله تبارك وتعالى، واذا وقع في شر ومصيبة، فإنه يلجأ الى الله تبارك وتعالى، فيرد أموره كلها لله، ولهذا جاء في الحديث: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له» . فأمره كله خير، فهو في السراء شاكر، وفي الضراء صابر، وهذا ثمرة من ثمرات الإيمان بالقدر.
ولهذا لاحظ حال مرضى المسلمين، وما يتعرض لهم من مصائب، تجد أهل الإيمان والرضا خاصة في قمة الطمأنينة، بل يتعجب أطباء الكفار من مرضى المسلمين، يقولون: عجبا لمرضاكم، إذا عرفنا أنه مسلم، فلا نجد حرجا في إخباره بحالته الميؤوس منها؛ لأنه يعرف أنه مُؤمن بقضاء الله وقدره، ولهذا تجده يقول: لا أجد حرجًا إذا عرفنا أنه مؤمن في إخباره بحالته، وأما مرضاهم فما يستطيعون إخبارهم خشية انهيارهم، لأن الدنيا هي سعادته الوقتية الوهمية المؤقتة، فإذا فقدها فقد كل شيء، ولكن المؤمن يعرف أن ما عند الله خير له وأبقى، ولهذا تجده في قمة الرضا، بل حيانا لَمَّا تزور بعض كبار السن ممن عندهم اليقين، تحقر نفسك إليهم، لماذا؟ لأنك تجده في قمة الرضا.
ولهذا في حديث ابن عباس المشهور، لَمَّا قال: كنت رديف النبي ﷺ يومًا، فقال: «يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ» ، وانظر هذا الخطاب يوجّه لغلام صغير؛ لأن ابن عباس لَمَّا توفي النبي ﷺ لم يكن قد ناهز الاحتلام.
فهذا الخطاب يوجّه لشاب يعني لم يناهز الاحتلام، ويوجّه له هذا الكلام العظيم الذي فيه ترسيخ للعقيدة، ولهذا نحن لا نستهين بترسيخ العقيدة في نفوس الناشئة، هم يستوعبون وهم يدركون، وتُعتبر هذه العقائد إذا تعلموها وهم صغار كالنقش على الحجر.
فابن عباس غلام لم يناهز الاحتلام في ذاك الوقت، وبالرغم من ذلك يعلمه هذا الكلام العظيم، ولهذا عُنِي العلماء بحديث ابن عباس، بل شرحه ابن رجب -رحمه الله- في مؤلف خاص، سمَّاه: "الاقتباس في شرح حديث ابن عباس"، وهو من ضمن أحاديث الأربعين النووية، وشرحه كذلك ابن رجب في الأربعين النووية، فهو من الأحاديث المهمة التي تُرسِّخ عقيدة الإيمان بالقدر في نفوس الناشئة.
من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أن الإنسان يضيف النعم إلى المنعم -جل جلاله- فلا يبطر، ولا يتكبر، بل يعرف أنَّ ما أصابه من خير فمن الله، وما أصابه من شر فهو كذلك من الله، إلى غير ذلك من الثمرات التي هي ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر.
قال المصنف -رحمه الله-: (وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ) لا يتم إيمان العبد بالقدر حتى يؤمن بمراتبه الأربع، التي هي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق. والمصنف -رحمه الله- من حسن التصنيف جعل هذه المراتب الأربعة على درجتين، فجعل الأولى والثانية درجة، وجعل الثالثة والرابعة درجة، وهذا من حسن التصنيف والتقسيم في العلم لفهم العلم، ولاحظ أنه في كل زمن تجد العلماء لهم طرائق في تصنيف العلم، كما أنه في زمننا تطورت وسائل التعليم فأصبح عندنا ما يسمونه بالخارطة الذهنية، تشجير أو تقسيمات العلم، ففي كل زمن العلماء يأتون بمثل هذه الوسائل التي تسهل فهم العلم.
قد يقول قائل: كيف يأتي بهذا التقسيم؟ نقول: هو تقسيم مهاري مثل تقسيمات العلوم الأخرى التي تساعد على فهم العلم.
ما السبب الذي جعل المصنف -رحمه الله- يقسم هذه الأمور الأربعة على هذين القسمين؟
قسمها بالنسبة للنظر إلى المخالفين في القدر، فوجد أن الذين خالفوا في القدر -نفات القدر- على درجتين:
القدرية الأوائل، أتباع معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وهؤلاء نفوا مراتب القدر الأربع، فجعل هذه درجة، ثم جاءت القدرية الثانية "المعتزلة" فأثبتوا العلم والكتابة، ونفوا المشيئة والخلق، فجعل هؤلاء درجة، فهذا هو السبب الذي جعل المصنف -رحمه الله- يقسم هذه المراتب على درجتين.
قد يقول قائل: هذه المراتب من أين جاء بها العلماء؟ يقال: جاءوا بها من خلال الاستقراء لأدلة القدر من الآيات والأحاديث، كما أنهم استقرأوا النصوص التي جاءت في الصلاة، فقالوا: هذه أركان، وهذه واجبات، وهذه مستحبات، فاستقرأوا الأحاديث والآيات التي جاءت في الحج فقالوا: هذه أركان وهذه واجبات وهكذا.
وهم أيضًا قالوا بهذه المراتب وهذه الدرجات في القدر بناء على الاستقراء وتتبع للأدلة التي جاءت في موضوع القدر.
قال: (وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ) لا يتم إيمانك بالقدر حتى تؤمن بهذه الدرجات وهذه المراتب، ثم قام بتوضيح الدرجة الأولى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالْخَلْق،ِ وَهُمْ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِّنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ. فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ:اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَم تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: 70]، وَقَال َ: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22].
وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً: فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ. وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ.. وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ)}.
أحسنت، هذه هي الدرجة الأولى من درجات الإيمان بالقدر، والتي تتضمن شيئين:
الأمر الأول: تتضمن الإيمان بعلم الله المطلق بكل شيء، بما في ذلك أفعال العباد، وينبغي التنبه هنا أن الخلاف في باب القدر بين أهل السنة وبين القدرية ليس في عموم العلم، فهم لا ينكرون العلم المطلق، وإنما الإنكار عندهم هو عِلم الله لأفعال العباد، وذلك لشبهة عقلية كما هي الشبه التي مرت معنا، تحكيم العقول القاصرة في الغيب، فهم حكموا عقولهم وقالوا: كيف يعلم أفعال العباد وهي ما وقعت؟ فيقال: الله -عز وجل- بكل شيء عليم، هذا هو السبب الذي من أجله أنكروا ذلك، ومثل هذه الشبهة العقلية التي ترد على أمثال هؤلاء في كل باب من أبواب الدين.
قال: (فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِما الْخَلْق عاملون) لاحظ أنه نصَّ على ماذا؟ نص على موضع الإشكال، موضع الإشكال يتعلق بأفعال العباد، وليس الإشكال في عموم صفة العلم، وإنما الإشكال عندهم، هل الله يعلم أفعال العباد قبل وقوعها أو لا يعلم؟ ولذا قال: (الإيمان).
وكما تقدم المقصود بالإيمان: الإيمان الجازم، والإيمان الحقيقي، والاعتقاد الذي لا شك ولا ريب فيه، فهذه هي المرتبة الأولى، (الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِما الْخَلْق عاملون، بعلمه القديم) يعني: بعلمه الأزلي، والقديم هنا هو وصف للعلم، وليس وصف للرب، يعني كما هو في دعاء دخول المسجد، «كان إذا دخل المسجدَ قال: أعوذُ باللهِ العظيمِ، وبوجهِه الكريمِ، وسلطانِه القديمِ، من الشيطانِ الرجيمِ»
فهو وصف للقدم وهو وصف للصفة، والمقصود هنا بالعلم الأزلي، (الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِما الْخَلْق عاملون، بعلمه القديم) يعني: علمه الأزلي.
(الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا) فإذا كان الله -عز وجل- متصفًا بالعلم المطلق، فلا شك أنه يدخل في هذا علمه بما الخلق عاملون، الذي هو موضع النزاع بين أهل السنة وبين الجبرية في هذا الباب.
ثم فَصَّل فقال: (وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِّنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ) يعني: كما أنه -عز وجل- يعلم الآجال، ويعلم الأرزاق، فهو كذلك يعلم الطاعات، ويعلم المعاصي حتى وإن لم تقع، ولهذا هو يعلم أهل الجنة، ويعلم أهل النار، فإذا قال قائل: كيف؟
نقول: الكيف مجهول، هذا يتعلق بالرب، وعقول البشر لا تحيط بقدرة الرب تبارك وتعالى، ومن ينازع في ذلك فكأنه ينازع في صفات الربوبية، أو يقيس صفات الرب على صفات العبد القاصر الناقص، الذي بدأ بضعف وينتهي بضعف.
هذه هي الإشكالية التي تَرِد على أمثال هؤلاء، سواء في القديم أو في الحديث، في قضية القدر أو مشكلة القدر هي القياسات الفاسدة، لَمَّا يقيس عظمة الرب بالعبد الضعيف، فهنا ترد الإشكالات وترد الشبه، ويقع الخلل في مثل هذه القياسات.
ولهذا قال: (وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِّنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ) فكما أنه يعلم الآجال ويعلم الأرزاق، فكذلك هو يعلم الطاعات ويعلم المعاصي، هذه هي المرتبة الأولى، وتقدم الحديث عنها، وسيأتي ذكر الأدلة بعد ذلك، فهو قد جعل أدلة العلم والكتابة واحدة، وأيضا ما يتعلق بالعلم مرَّ معنا في باب الصفات، ولهذا لاحظ الترابط بين هذه الأبواب، فما يتعلق بعلم الله المطلق هذا تقدم في آيات الصفات وأحاديث الصفات، في إثبات علم الله تبارك وتعالى المطلق بكل شيء، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وأخفى، ومن ذلك ما يتعلق بأفعال العباد.
المرتبة الثانية، قال: (ثُمَّ كَتَبَ اللهُ) وهنا نقول: بعد العلم المطلق هل تكون الكتابة سهلة أو لا؟ الجواب: تكون سهلة جدًا ولا إشكال فيها، إذا علمنا أن الرب -عز وجل- يعلم كل شيء، ما المانع أنه يكتب ذلك؟! لأن علمه -عز وجل- ليس قاصرا، بل هو يعلم المستحيل الذي لم يقع لو وقع كيف يقع! ولهذا لا ترد شبهة على الإنسان في أنه قد يكتب شيئًا ويقع خلاف ذلك، نقول: هذا من قصور الفهم عندك، ومن الفرضيات الخاطئة. لماذا؟ لأن الكتابة مبنية على العلم، خاصة ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، ولا تسأل كيف كُتبت؛ لأن الكيف مجهول، لأن هذا يتعلق بصفات الرب، ولهذا لَمَّا عَلِمَ كل شيء، كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلاق، وأيضا المكتوب منه ما هو أشياء مقدرة على العبد لا خيار له فيها مثل الآجال أو المصائب التي ليس له فيها اختيار ولا مشيئة ولا دخل له فيها، فهي مكتوبة، وكذلك أفعال العباد فهي مكتوبة.
قد يقول قائل: كيف كتبت وهي لم تقع؟ نقول: الكيف مجهول؛ لأن هذا مبني على علم الله تبارك وتعالى، فلما علم كتب، والأمر سهل؛ لأن هذا مبني على العلم، وهذا يتعلق بالرب وخصائص الرب، لا يعلم بذلك أحد، ولهذا ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ سر الله في خلقه، لم يطلع عليه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولهذا الرسل وهم سادات الخلق، وقد أطلعهم الله على شيء من علوم الغيب، هل يعلمون كل شيء؟ لا.
ولهذا -كما جاء في الحديث لَمَّا سأل جبريل النبي ﷺ متى الساعة؟ قال: «مَا المسؤول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السائل» فهذا الرسول ﷺ لا يعلم، وكما وصفه الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف:188]، فإذا كان الرسول ﷺ لا يعلم، وكذلك الإنسان لا يعلم ما هو مكتوب، فلا يأتي إنسان ويقحم نفسه في البحث عما هو مكتوب، نقول: هذا سر الله في خلقه، وهذه خصائص الرب فلا تُشغل نفسك بها، ولا تتعب نفسك في البحث عنها، فَتُدْخِل عليك شياطين الإنس وشياطين الجن الأمراض المستعصية التي يصعب عليك أن تخرج منها، والتي ربما بسببها تخسر دنياك وأخراك.
قال: (ثُمَّ كَتَبَ) يعني: أن الكتابة مبنية على العلم. (ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ) وهذا اللوح الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق، ولا نعلم شيئًا عن صفة هذا اللوح، ولكنه محفوظ لم يطلع عليه أحد، لا ملكٌ مُقرب، ولا نبيٌ مُرسل.
(مَقَادِيرَ الْخَلْقِ) العموم، قال: (فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ) قال أهل العلم: الأولية هنا هي أولية مقيدة، ليس يُفهم منها أن القلم هو أول المخلوقات؛ لأن هذا الحديث الذي جاء فيه ذكر القلم، وكان عرشه على الماء، دلَّ على أن العرش كان موجودًا والماء كذلك كان موجودًا، فيكون معنى (فأول) يعني: حين خلق الله القلم، فهي أولية مُقيدة، وهذا يُجاب به عن سؤال ما أول المخلوقات؟ نقول: العلم عند الله، ولكن الأحاديث بيّنت أنه عندما خلق الله القلم كان عرشه على الماء، معنى هذا أنَّ العرش سابق، وأن الماء سابق لخلق العرش، ومعنى ذلك أن العلم عند الله تبارك وتعالى، فالأولية هنا أولية مقيدة، يعني: حين خلق الله القلم.
(قَالَ لَهُ: اكْتُبْ) أيضا من المسائل التي ترد على الناس، كيف يوجه الخطاب للقلم؟ نقول: الله على كل شيء قدير، الجمادات يجعلها الله تبارك وتعالى محسوسة، ولا تستبعد ذلك ولا تستغرب ذلك، فالناس اليوم يتعاملون مع الأجهزة، فأنت تخاطب الجهاز وهو يحول الصوت إلى كتابة، والآن في طور الذكاء الاصطناعي، فهذه قدرات البشر وهي قدرات ضعيفة، فكيف تستبعد أن يوجه الخطاب للقلم؟ نقول: الله -عز وجل- على كل شيء قدير، وهذه تفوق قدرات البشر، أي أن هذه الجمادات يوجه لها الخطاب وتتكلم.
فقال له الرب: (اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟) فهذا خطاب وجه للقلم، ولهذا اعلم أنَّ أهل الإيمان هم أصحاب العقول، هم أذكى الناس، بل هم أذكى الأذكياء، صحيح العلوم البشرية قد فاقت، ولكنها لا تصل إلى درجة علوم الوحي؛ لأنها علوم أذكى الأذكياء، ولهذا انظر حتى عند عوام المسلمين لَمَّا يقرؤون القرآن، ويؤمنون بأن الطير لها منطق، وأن الهدهد خاطب سليمان، وأن النملة تكلمت، ما ورد عليهم إشكال، وكذلك بما يتعلق بالجمادات وخطاب الجمادات، لم يرد عليهم إشكال لماذا؟ لأن عندهم يقين وعندهم إيمان، ولهذا فهم من أذكى الناس، بل هم أذكى الأذكياء.
بينما تنظر إلى غيرهم كيف يضيعون ويتيهون ويحارون وينتهون بالإفلاس في هذه الدنيا، وهذا غير الإفلاس في الآخرة، ولهذا قال له: (اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) إذن هذه هي الكتابة.
إذن النتيجة وهذه هي ثمرة الإيمان كما جاء في حديث ابن عباس، (فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ)؛ لأنَّ هذه الكتابة مبنية عن علم الرب تبارك وتعالى، مبنية عن حكمة، مبنية عن عدل، لا يظلم الله تبارك وتعالى مثقال ذرة، فهذه هي الثمرة.
(فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ) هذا هو سبب اليقين عند أهل الإيمان، (وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ) يعني: ما أخطأه يعني: ما قُدِّرَ ألا يُصيبه فهو لن يصيبه، وما أخطأه كذلك، أي: كان سيصيبه ولكنه لم يصبه كذلك لن يصيبه، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ) وهذه أخذها من حديث ابن عباس في توجيه النبي ﷺ له، «يا غلامُ إنِّي أُعلِّمُك كَلِماتٍ» .
ثم ذكر الدليل على مرتبتي العلم والكتابة التي هي الدرجة الأولى، (كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَم تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾) هذه مرتبة العلم، (﴿إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾) فعلمه عز وجل وكتابته يسير.
وقال: (﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾) فقوله: (﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ﴾) هذه ثمرة الإيمان بالقدر في الأرض، يعني: المصائب العامة والكوارث، (﴿وَلا في أَنفُسِكُمْ﴾) الذي يصاب بها الإنسان خاصة، (﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾) والكتاب هو اللوح المحفوظ، وهذا دليل على الكتابة، دليل على الإيمان بأن كل شيء مكتوب، (﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾) الضمير في (﴿نَّبْرَأَهَا﴾) يعود على شيء، هل يعود على الأرض؟ أو على الأنفس؟ أو على المصيبة؟ وليتأمل الإخوة المشاهدون في تدبّر الآية، (﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا في أَنفُسِكُمْ﴾) إذن عندك الآن مصيبة، والمصيبة في الأرض، (﴿وَلا في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾) هل نبرأها يعني أن المصيبة مكتوبة قبل وقوعها؟ أو المصيبة مكتوبة قبل خلق الأرض؟ أو المصيبة مكتوبة قبل خلق الأنفس؟ الآية تحتمل الجميع، وهذا من تدبر القرآن، فالآية تفهمها على هذا المعنى الشامل، (﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾) أي: من قبل أن نخلق هذه المصيبة، أو من قبل أن نخلق الأرض؛ لأن المقادير كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، أو من قبل خلق هذه النفس، فانظر سعة المعنى!
ولهذا فالمسلم عندما يتدبر هذه المعاني تُعطيه سعة في المعنى في التدبر. (﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾) فهذا التقدير وهذه الكتابة هي يسيرة على ربي تبارك وتعالى.
قال: (وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ) الذي هو التقدير العام في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر بن العاص. قال: (وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً). هو إذن هنا يبين لك أنواع التقدير، وأهل العلم يقولون: أنواع التقدير أربعة أنواع، وأحيانا بعضهم يختصرها فيقول: ثلاثة أنواع:
التقدير العام: هذا الذي كان في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذا تقدير عام، دل عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، في أن الله -عز وجل- كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، هذا التقدير العام في اللوح المحفوظ لا يطلع عليه أحد، ولا يغير ولا يبدل، سرُّ الله في خلقه.
قال في الثاني: (وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ) هذه الكتابة الثانية، يسميها أهل العلم: الكتابة العمرية، الكتابة التي عند خلق الجنين.
قال: (قبل نفخ الروح فيه) جاء الحديث أنَّ الكتابة بعد النفخ، وجاء في رواية أنها قبل النفخ، المصنف هنا اختار الرواية الأولى أنَّ الكتابة قبل النفخ، والذي يرجع إلى حديث ابن مسعود المشهور، وهو من أحاديث الأربعين النووية يجد أنَّ الحديث جاء بروايتين، فهذه الكتابة العمرية عندما يبلغ الجنين مئة وعشرين يومًا.
انظر إلى الدقة، وهذا قبل أن يتطور الطب، قد حددت بالأيام، وهذه من دلائل النبوة، كيف يخبر ﷺ بمراحل نمو الجنين قبل أن يصل الطب إلى ما وصل إليه.
(قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ) وقضية نفخ الروح والكتابة هذا لا يطلع عليها البشر؛ لأنها تفوق قدرات البشر، ولكن أهل الإيمان، وأهل علوم الوحي يعرفون ما لا يعرفه علوم المادة، أو العلوم التجريبية.
(قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا) وهو الملك الموكل، (فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ) إذن الأرزاق مكتوبة لا تقلق، والآجال مكتوبة فلن تسبق يومك، والأعمال مكتوبة ولا تتكل عليها، هذه الكتابة تتعلق بعلم الرب، (وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ.. وَنَحْوَ ذَلِكَ).
هو ذكر النوعين، ويضاف لها ما يسميه أهل العلم بالتقدير السنوي، أو التقدير الحولي، وهذا الذي يكون في ليلة القدر، وهناك نوع رابع يسمونه: التقدير اليومي، كما دلَّ عليه قوله تبارك وتعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾ [الرحمن: 29].
قال (فَهَذَا التَّقْدِيرُ) يعني: الذي يتعلق بالعلم والكتابة، قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، الذي جاء ذكرهم في حديث ابن عمر، الذين هم أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي الذين كفرهم السلف، فكانوا ينكرون عِلم الله بأفعال العباد، وينكرون كتابته لأفعال العباد، والسبب سقامة العقول، العقول القاصرة، وهذا موجود حتى في هذا الزمن، وللأسف يسمون أنفسهم تنويريين وهم مساكين لا يعقلون، ولهذا يعترف هؤلاء إذا وقفوا بين يدي الرب تبارك وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ﴾ فنصيحة نوجهها لهؤلاء الذين يقحمون أنفسهم في الاعتراض على الوحي بزعمهم أنهم أصحاب عقول.
وكذلك للمغرور بهم، فهؤلاء المساكين منهم من هلك وانتهى، وأصبح في صفحات التاريخ السوداء، ومنهم من يزال يعترض على الوحي المنزل، وهؤلاء هم أنفسهم سيأتي يوم يعترفون بأنهم لا يعقلون، مثل من سبق، أمثال: معبد الجهني، غيلان الدمشقي، الجعد، الجهم، وأمثالهم كثير على مر التاريخ.
(فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا) إذن جعل القدرية على مرتبتين، الغلاة الأوائل، وهذا يدلك على أن الباطل دركات، كلهم نفات للقدر ولكنهم يختلفون.
(وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ) يقصد المُعتزلة؛ لأنَّ المُعتزلة أثبتوا العلم وأثبتوا الكتابة، يعني: أثبتوا الدرجة الأولى، ولكنهم نفوا الدرجة الثانية.
وبهذا يكون المؤلف قد انتهى من الدرجة الأولى المتعلقة بالإيمان بالقدر، ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونكمل إن شاء الله في الحلقة القادمة، أسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق والإيمان، واليقين بقضاء الله وقدره.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حُسنِ متابعتكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.