{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات، أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة، نستكمل فيها شرح (العقيدة الواسطية) مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، أهلاً وسهلاً بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق لِمَا يحب ويرضى، والعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل وسيلتنا إليه التوحيد والإخلاص، إنه جواد كريم.
{نستأذنكم فضيلة الشيخ في قراءة المتن}.
نعم استعن بالله تعالى.
{اللهم اغفر لنا ولشيخنا والمستمعين.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران:55] ﴿بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْه﴾ [النساء:158]، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:10]، ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ [غافر:36-37]، وَقَوْلُهُ: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك:16]، ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك:17])}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من صلى وسلم عليه، أمَّا بعد، فلا يزال الحديث موصولا في الشواهد التي ذكرها المؤلف -رحمة الله عليه- للتأكيد على صحة مُعتقد أهل السنة والجماعة، في أنهم يصفون الله -تبارك وتعالى- بما وصف به نفسه، وينفون عن الله -عز وجل- ما نفاه عن نفسه بالضوابط السابقة، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وهذه الآيات في العلو.
فقط أشير في الحلقة السابقة أنه انتهينا من ذكر آيات الاستواء، وربما الإخوة والأخوات يرجعون للنسخ، ونحن أشرنا إلى ثمّة فروقات في بعض النسخ، ذكر آية طه، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اْستَوَى﴾، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾، قال: (في ستة مواضع) يعني: بلفظ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ في ستة مواضع، و ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اْستَوَى﴾ في موضع، فيكون المجموع سبعة.
وفي بعض النسخ -وهي النسخة التي بين يدي- قال: (وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اْستَوَى﴾ في سبعة مواضع)، وهذا الذي علقت أنا عليه، وذكرت أنت لي -بارك الله فيك- بعد الحلقة أنه يوجد اختلاف بين النسخة التي معي، والنسخة التي معك، وهو اختلاف أحيانا يسير والمعنى واحد، فلما ذكر عندك الآية الأولى ثم قال الآية الثانية في ستة مواضع هي مجموعها سبعة.
والنسخة التي معي سرد فيها الآيات، في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة الرعد، ثم في سورة الرحمن، ثم الفرقان، والسجدة، والحديد، فهذه سبعة مواضع، وفي سورة طه ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اْستَوَى﴾، والبقية ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾.
وتقدم الحديث عن معنى الاستواء، ووقفنا في الحقيقة مع وقفة مهمة، لماذا هذه الوقفة المهمة؟ لأنه وجد في العصور المتأخرة، وليس بحمد الله ثمة اختلاف في القرون الفاضلة، فلا يوجد في القرون الفاضلة من يُحرف صفة الاستواء بالاستيلاء، وإنما جاء هذا في العصور المتأخرة عند أهل الأهواء والافتراق والابتداع، ثم كثر في العصور المتأخرة على يدي المحرفة والمبتدعة، يحرفون كلام الله وكلام النبي ﷺ بما لا يتفق مع معنى القرآن، ولا مع لغة العرب، ولا مع ما قاله سلف الأمة.
ولهذا -أيها الإخوة الكرام- بم وصف النبي ﷺ الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؟ قال: «هم من كان على مثل ما كنت عليه أنا وأصحابي» فنقول لهؤلاء المعطلة المحرفة: هل أنتم على مثل ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه لكي تميزوا أنفسكم؟ هل أنتم من أهل السنة والجماعة حقاً ومن الطائفة المنصورة حقاً؟ انظروا المعيار هل ما تقولونه في الاستواء والعلو هو ما قاله الصحابة والتابعون وأئمة الفقه والحديث؟ الواقع خلفاتي.
بعد أن انتهى من آيات الاستواء انتقل إلى آيات العلو التي تلوتها قبل قليل، فإن قال قائل: ما الفرق بين صفة الاستواء وبين صفتي العلو؟
نقول: أولا صفة العلو صفة ذاتية يتصف بها الرب -تبارك وتعالى- ولا تنفك عنه، بينما صفة الاستواء صفة فعلية، ولهذا جاءت من الفعل: ﴿ثم استوى﴾ فهي مشتقة من الفعل.
ثانياً: أن صفة الاستواء دليلها هو الدليل السمعي، أي: لا مجال للعقل فيها، وأمَّا صفة العلو فقد دل عليها السمع والعقل، ولهذا ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن أدلة العلو أكثر من ألف دليل في الكتاب، وجاء إثبات صفة العلو بأنواع من الدلالات، بالنَّصِّ على العلو، كما تقدم بآية الكرسي، ﴿العلي﴾، وأحيانا بمعنى: الاستواء على العرش، فإن من معاني استوى: يعني: علا، ويأتي العلو أيضا بدليل نزول الأشياء، والنزول من أعلى. وكذلك صعود الأشياء، ودلَّ عليه دليل الفوقية، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ وغيرها من الأسباب.
بل الفطرة تدلُّ على العلو، ولهذا كان من أسباب توبة الأشعري أنه أورد على شيخه إيراداً لَمَّا أخذ ينفي في صفة العلو فقال له: أخبرني عن ما يجده الإنسان في نفسه ضرورة، أنه إذا أراد أن يدعو يرفع يديه إليه إلى السماء!
فالسمع والعقل والفطرة كلها تدل على إثبات صفة العلو، وفي هذا رد على المعطلة الذين ينفون هذه الصفة التي عليها أكثر من ألف دليل.
صفة العلو -كما دلت عليها هذه الآيات- تنقسم إلى ثلاثة أنواع وتنبه لها:
المعنى الأول: علو الذات وهو الذي أنكره المبتدعة، وهو علو حسي، وهذا أنكره المبتدعة.
النوع الثاني: علو معنوي وينقسم إلى قسمين:
علو القدر وعلو القهر، وهذا هو الذي أقر به بعض المبتدعة، وأنكروا علو الذات الذي هو علو حسي.
ولأهمية هذه الصفة أفردها بعضها أهل العلم في مؤلفات خاصة، كما فعل الذهبي في كتابه العلو.
أيضا أفردوا صفة العرش والاستواء العرش بمؤلفات خاصة، فيفردون هذه المسائل بمؤلفات خاصة لكثرة من حَرَّفَ هذه الصفات وعطل هذه الصفات، من أهل الابتداع والاهواء والافتراء.
الآيات التي ذكرها المصنف -رحمه الله- في إثبات هذه الصفة، قال: (وَقَوْلُهُ: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾) فالفعل ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ يدل على صفة التوفي، و ﴿وَرَافِعُكَ﴾ يدل على صفة الرفع، والرفع يدل على صفة العلو؛ لأن الرفع يكون من أسفل إلى أعلى، ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ يدل على صفة التوفي، و ﴿وَرَافِعُكَ﴾ يدل على صفتي الرفع، فدل على صفة العلو.
وقال: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْه﴾ ونلحظ هنا أنَّ الإنسان البسيط يعرف المعنى، والفعل ﴿رَّفَعَهُ﴾ يدل على الرفع، ويدل كذلك على صفة العلو، ولاحظ كيف أنَّ الفعل دل على أكثر من صفة.
وفي الآية الثانية، قال الله تعالى عن فرعون: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ هذا فرعون -كما تقدم عن إبليس- يثبت صفة العزة، وهكذا فرعون يثبت صفة العلو لله -تبارك وتعالى-، وهذا مما يدل على أن هؤلاء الكفرة: إبليس وكذلك المشركون يقرون بكثير من الصفات التي هي صفات فطرية، صفات عقلية، بل حتى عند اليهود وعند النصارى يقرون بهذا، ولهذا لاحظ في الكوارث التي تجدها أحيانًا في بعض البلدان ويكونون على غير الإسلام، إذا وقعوا في كوارث فإنهم يرفعون أيديهم إلى السماء!
بل حتى في عالم الحيوان كما ذكر الجاحظ -في عالم الحيوان- أنه إذا اشتد بها المرض، فإنها ترفع أعناقها إلى السماء، ولذا فأمر العلو تدل عليه الفطرة.
في الآية الأخيرة في قوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾، والشاهد هنا: ﴿مَّن فِي السَّمَاء﴾ دلَّ على صفة العلو؛ لأن (في) هنا تحتمل أن تكون بمعنى (على)، فيكون المعنى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ يعني: على السماء، فدلت الآية على إثبات صفة العلو، وهذا وارد في اللغة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ما معنى سيروا في الأرض؟ الناس يعرفون المعنى، أي: على الأرض.
وقوله: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ يعني (على) هذا المعنى الأول.
أو يقال: إنَّ السماء بمعنى: العلو، وقوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ يعني: من في العلو، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ يعني: في العلو، فتكون (في) هنا بمعنى (على) أو تكون السماء بمعنى: (العلو)، وعلى هذين المعنين فالآية تدل على صفة العلو.
المعطلة قالوا: (في) هنا ظرفية، فيكون المعنى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ أي أنَّ السماء محيطة به، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
وهذا خلاف ما دلّت عليه أدلة الشرع، وأدلة العلو، وأدلة الكمال للربِّ تبارك وتعالى.
﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ﴾، والفعل ﴿يَخْسِفَ﴾ يدل على إثبات صفة الخسف.
قوله: ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ أيضًا تكرر الآية، والمعنى كما تقدم: ﴿فِي السَّمَاء﴾ يعني: في العلو، أو على السماء.
﴿أَن يُرْسِلَ﴾ الفعل (يرسل) دلَّ على صفة الإرسال.
﴿عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ فهذه الآيات أشار بها المصنف -رحمه الله- إلى إثبات صفة العلو للرب -تبارك وتعالى-، وهي من الصفات الذاتية، علو الذات الذي هو علو حسي، وكذلك تضمن علو القدر وعلو القهر، ولكن الآيات نصت على علو الذات.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد:4]. وَقَوْلُهُ: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة:7].
﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40]. وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه:46]. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل:128]. ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46]. ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249])}.
هذه الآيات السبع كلها في إثبات صفة المعيّة للرب -تبارك وتعالى- وثمة قاعدة مهمة قبل بيان وجه الدلالة في هذه الآيات ليتنبه لها الإخوة المشاهدون:
معيّة الرب -تبارك وتعالى- كما دلت عليها هذه الآيات تنقصم إلى قسمين:
هناك معيّة عامة لكل المخلوقات، وهذه المعيّة العامة مقتضاها الاطلاع والإحاطة كما في الآية الأولى، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وهي معيه لجميع المخلوقات، ومقتضى هذه المعيه الاطلاع والإحاطة.
النوع الثاني: المعيه الخاصة، كما جاء في الآيات الأخيرة، وهذه المعيه الخاصة مُقتضاها التأييد والحفظ والنصرة والإعانة، وهذه المعيه الخاصة يمكن أن نقسمها إلى قسمين كما دلت عليها هذه الآيات:
القسم الأول: أن تُضاف للشخص بعينه، كما في قوله تعالى عن نبيه: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ أي: معه ومع الصديق -رضي الله عنه- بالتوفيق والتأييد، وكما قال الله تعالى لموسى وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ فهي مُضافة إلى الشخص بعينه.
أو تُضاف للشخص بالوصف، كما في بقية الآيات، ﴿مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ﴾، ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ فهي إذن مضافة للأشخاص بالأوصاف. هذه هي أقسام المعيّة
قد يقول قائل، أو أحد الإخوة من المشاهدين: إذا قرأت آيات المعيّة في القرآن، فكيف أفرق بين المعيّة العامة والمعيّة الخاصة؟
أقول: خذ هذه القاعدة المهمة تساعدك في تدبّر القرآن وفقه هذه المعاني، إذا أردت أن تعرف -وهذا ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي- في تعليقاته على العقيدة الواسطيّة، يقول: إذا ردت أن تعرف هل المراد المعية العامة أو الخاصة، فانظر إلى سياق الآيات، فإن كان المقام مقام تخويف ومحاسبة للعباد على أعمالهم، وحث على مراقبة الله، فإن المعيّة عامة، كما في آية المجادلة التي مرت معنا، وكما في آية الحديد هنا ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾.
قال: وإن كان المقام مقام لطف وعناية من الله بأنبيائه وأصفيائه، وقد رُتبَت المعيّة على الاتصاف بالأوصاف الحميدة، فإن المعيّة معيّةً خاصة، وهو أغلب إطلاقاتها في القرآن، يعني: هذا هو الغالب، مثل: ﴿مَعَ المتقين﴾، ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وحوها.
وهذه القاعدة بها تفرق بين المعية العامة والمعية الخاصة.
في الآية الأولى: قوله تعالى في سورة الحديد في الآية الرابعة ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ الفعل خلق دلَّ على صفة الخلق، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى﴾ وهي من آيات الاستواء، وهي الآية السابعة من آيات أنواع المعيّة العامة، لماذا؟ لأنه جاءت في سياق ماذا؟ في سياق ماذا؟ التخويف والوعيد فهي عامة.
ثم قال: ﴿وَاللهُ ِبمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي: صفة البصر.
الآية الثانية: قال في سورة المجادلة: وقوله: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا﴾ هنا المعية عامة أم خاصة؟
المعية هنا عامة، في مقام التخويف والمراقبة، أي: ﴿أَيْنَمَا كَانُوا ثم ينبئهم﴾ الفعل دل عليه صفة ماذا؟
{الإنباء}.
أحسنت ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ دلَّ على صفة العلم.
هاتان الآيتان سيستفاد منهما فيما سيأتي إن شاء الله في الجمع بين العلو والمعيّة، فالله عز وجل جمع بينهما هنا في آية الحديد في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يعْلَمُ﴾ فدل على أن المعيّة هنا ليست بمعنى الاختلاط والامتزاج، بل بمعنى: العلم والإحاطة، وحينئذٍ لا تعارض -كما توهم المعطلة- أن إثبات المعيّة يعارض إثبات الاستواء.
نقول: لا تعارض؛ لأن الله جمع بينهما، وهو -سبحانه- أعلم بنفسه، وأصدق قيلا، وقد جمع بين صفة الاستواء وبين صفة المعيّة، فدل على أنه لا تعارض بينهما، ودل على أن المعيّة لا تعني الامتزاج والاختلاط، بل تعني العلم، ولهذا قال: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فمعناها: العلم والبصر والاطلاع والإحاطة وليس كما يزعم المعطل بأنها اختلاط وامتزاج، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ولاحظ هذا أيضا في بقية الآية.
طبعا هاتان الآيتان الأولى من سورة الحديد والثاني من سورة المجادلة كلاهما يدل على المعية العامة، بقية الآيات تدل على المعي الخاصة في قوله تعالى: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وهنا معي خاص معهم بتوفيقه وتأييده وحفظه ونصرته، ولهذا قال: ﴿لاَ تَحْزَنْ﴾ وهكذا يقال لكل مسلم: إذا كنت توقن أن الله معك فلا تحزن، كما بين الله تعالى أنَّ نبيه ﷺ قال لصاحبه الصديق -رضي الله عنه- الذي يأتي المبتدعة فيطعنون به، وقد أثنى الله عليه في كتابه، والنبي ﷺ يقول له: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ ثم يأتي هؤلاء المبتدعة فيطعنون بالصديق -رضي الله عنه وأرضاه-.
في الآية التي بعدها، قال تعالى لموسى وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ لاحظوا هَذِه الآيَاتِ -كما ذكر الشيخ- جاءت في مقام اللطف، في مقام الحفظ، فِي مَقَام العناية، فِي مَقَام الرعاية، فَهَي تَدلُّ على المعية الخاصة، فقال الله تعالى للموسى وهرون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾.
أيضا لاحظوا كلمة ﴿أسمع وَأَرَى﴾ ليست بمعنى مجرد السمع بل مقتضى ذلك: الإجابة والتأييد.
أيضا لاحظ ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ فالمعية لا تعارض العلو في الآية التي بعدها.
طبعا هاتان الآيتان ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، انني معكم اسمع وأرى، المعية أضيفت لشخص بعينه، للنبي ﷺ والصديق، والآية الثانية لموسى وأخيه عليه السلام.
الآيات الثلاث فيها إضافة للمعية بالوصف ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ فهو مع كل متقي ولهذا أيها المتقي إذا أردت أن يكون الله معك بتوفيقه وتأييده ونصرته وحفظه فعليك بالتقوى وعليك بالإحسان.
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ محسنون في ماذا؟ محسنون في عبادة الله، ومحسنون إلى عباد الله، أمَّا الإحسان في عبادة الله فهو أعلى مرتبة في الدين، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى عباد الله.
فإذا أردت أيها المسلم أن يكون الله معك، فعليك بالإحسان في عبادة الله، وعليك بالإحسان إلى عباد الله، فالله مع المحسنين ويحب المحسنين.
ولهذا قد يقول قائل: هل يمكن للإنسان أن ينال شرف المعية؟
نقول: نعم، انظر في الأوصاف في كتاب الله التي يحبها الله، وفي الأوصاف التي ذكر الله -عز وجل- أنه مع أهلها فاتصف بها، وإذا كان الله معك، فأنت الموفق، وأنت المسدد، ولن ينال منك أحد؛ لأن الله معك.
إذن لا تحزن، إن الله مع الذين اتقوا، ومع المحسنين، ومع الصابرين أيضا، وهذه معية خاصة مقتضاها التوفيق والتأييد.
مع الصابرين في جميع أنواع الصبر، الصابرين في عبادته، والصابرين عن معاصيه ومحارمه، والصابرين على أقداره المؤلمة، فهذا يشمل جميع أنواع الصبر.
والصبر من العبادات العظيمة، والجزاء عليه بغير حساب، فضلا عن هذه الثمرات والفوائد، فالله يحب الصابرين، ومع الصابرين، والأجر على الصبر بغير حساب كالصيام.
في الآية الأخيرة: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ﴾ إثبات صفة "الإذن"، والله مع الصابرين وهذا معية أيضا خاصة مقتضاها التوفيق والتأييد، وهي مضافة إلى الصابرين بجميع أنواع الصبر.
فهذه الآيات السبع في إثبات المعيّة بنوعيها، المعيّة العامة، والمعيّة الخاصة، ومن ثمراتها السلوكية أنك أيها المستمع تنظر الآيات التي ذَكَرَ الله -عز وجل- أنه مع أهلها بالوصف فتتصف بهذه الأوصاف، حتى تنال هذه المرتبة العظيمة، فيكون الله معك بتأييده ونصرته وتوفيقه، وهذه هي ثمرة التعبد لله -تبارك وتعالى- بمقتضى الأسماء والصفات.
{أحسن الله إليكم
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَقَوْلُـهُ: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: 87]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾ [النساء:122]، ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 116].
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ [الأنعام:115]، ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:164]، ﴿مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ﴾ [البقرة:253]، ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف:143]، ﴿نَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52].
وَقَوْلُـهُ: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الشعراء:10]، ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة﴾ [الأعراف:22].
وَقَوْلُه: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 65].
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 6]. ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75]. ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: 15]. ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الكهف: 27]. وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: 76])}.
هذه الآيات الستة عشر كلها تدل على صفة الكلام لله -تبارك وتعالى-، وصفة الكلام أيضاً من الصفات التي كثر فيها الجدل لدى المخالفين والمحرفين لكلام الله، كصفة الاستواء وصفة العلو، وصفة المعيّة، وصفة الكلام، وسيأتي أيضا بعض الصفات الأخرى من الصفات التي أفردت في مؤلفات خاصة، وكثر فيها الجدل، وتفرّع عنها مسائل أخرى سيأتي الحديث عنها فيما يتعلق بالقرآن فهو فرع عن الكلام في هذه الصفة.
أهل السنة والجماعة يعتقدون في هذه الصفات أن الله -تبارك وتعالى- يتكلم بكلام حقيقي، كما أثبت الله ذلك في كتابه، وكما أثبته رسوله ﷺ، وكما كلّم الله -عز وجل- بعض رسله.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن الرب سبحانه وتعالى يتكلم بكلام حقيقي، متى شاء، كيف شاء، إذا شاء، بحرف وصوت مسموع، لا يماثل صفات المخلوقين.
فثمّة ثلاثة أمور تتعلق بهذا الصفة، والتي هي أصول تقوم على هذا الصفة:
المشيئة، التعلق بالذات، والصوت، وكل أصل من هذه الأصول خالف فيه من خالف من المبتدعة، فالأصل الأول =ممكن أن نجعلها على شكل أسئلة- لأن كل أصل يوجد مخالف من المبتدعة فيه.
السؤال الأول: يقول هل كلام الرب متعلق بقدرته ومشيئته أو بغير مقدرته ومشيئته؟
متعلق بقدرته ومشيته، فهو صفة فعلية من حيث الآحاد، وهو صفة ذاتية من حيث النوع، وهكذا يقال في مثل هذه الصفات المتعلقة بالمشيئة، فهي صفة ذاتية من حيث نوعها، وفعلية يفعلها ما تشاء كيف شاء، هذا هو السؤال الأول، ويوجد من خالف به من المعطلة.
السؤال الثاني يقول: هل كلام الرب سبحانه قائم بذاته مُتصف به، أو هو خارج عن ذاته منفصل عنه؟
المعتزلة جعلوا الصفة مخلوقة، ولهذا قالوا: إن القرآن مخلوق، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
الأصل الأول هو أن الأشاعرة جعلوا الكلام نفسيًا بغير حرف ولا صوت ولا مشيئة، فخالفوا في هذا الأصل.
السؤال الثالث يقول: هل يتكلم بصوت أو بغير صوت؟
أيضا وجد من خالف من المعطلة في هذا الأصل.
إذن أهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله -تبارك وتعالى- يتكلم بكلام حقيقي متى شاء، وكيف شاء، إذا شاء، بحرف وصوت مسموع، يقولون: هذه الصفة تتعلق بالمشيئة، وتتعلق بالذات، وتتعلق بالصوت المسموع، كما سمع ذلك الأنبياء.
لاحظ أن المصنف قد أطال في ذكر الشواهد فذكر ستة عشر دليلا لماذا؟ لوجود المخالف في هذه الصفة.
قال: (وَقَوْلُـهُ: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾) فقوله: ﴿أَصْدَقُ﴾ يدل على صفة الصدق، فالله إذا موصوف بالصدق حديثا هنا أيضا الحديث والصدق والحديث كلها هي لوازم للكلام.
والآية الثانية: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾ أيضًا صفة الصدق، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ صفة القيل والقول، وكلها تدل على إثبات الكلام.
الآية التي بعدها: قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ﴾ هذه صفة القول، ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى﴾ هل سمع عيسى قولا؟
نعم، سمع وأجاب.
إذن كيف يقول هؤلاء المعطلة: إن الكلام منفصل عن الذات، أو يقولون: هو كلام نفسي، والله يقول: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ﴾ فيثبت صفة القول، التي هي صفة الكلام.
الآية الرابعة: قوله ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾، فـ "كلمة" فيها إثبات صفة الكلام، موصوف بالصدق والعدل.
إذن هذه الآيات فيها إثبات القول وإثبات الكلام، وأنه مسموع، فيكون بصوت.
الآية الخامسة: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ من المتكلم هنا؟ الله -عز وجل-، وقد جاء بعض المحرفة -التحريف اللفظي- وحرفوا هذه الآية، وقالوا: إن المتكلم هنا هو موسى، فموسى كلَّم الله، وحتى على هذا التحريف فموسى يُكلم من يسمع ومن يتكلم، ولهذا جاء في الآية التي بعدها: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾، هذا ما يمكن أن يحرفونه، ما استطاع المعطلة أن يحرفوها تحريفًا لفظيًا.
أما التحريف المعنوي فهذا كثير.
الآية السادسة: ﴿مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ﴾ أيضا فيها إثبات، فمعنى أن منهم من كلَّم الله أن الله يسمع، وقد كلَّمهم.
الآية الثامنة: ﴿نَادَيْنَاهُ﴾ صفة النداء، والنداء معناه: أنه قول وصوت.
﴿مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ﴾ صفة القرب، ﴿نَجِيًّا﴾ أيضا فيه صفة المناجاة.
التاسع: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ﴾ والنداء يكون بحرف وصوت مسموع، ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
العاشرة: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا﴾ صفة النداء وصفة النداء معناها: بصوت وحرف مسموع ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة﴾ فالنداء لا يكون إلا بصوت مسموع.
الحادي عشر: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ والعرب تعرف معني النداء، وأنه بصوت مسموع.
الآية الثانية عشرة: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ إذن إثبات صفة الكلام، وكذلك إثبات أن القرآن من كلام الله، يعني: لا نقول: القرآن هو كلام الله فقط، بل هو من كلام الله، ولذلك جميع الكتب السماوية الصحيحة السابقة هي من كلام الله، فالقرآن من كلام الله.
وقوله: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ إذن القرآن هو كلام الله، وهذه الإضافة إضافة صفة إلى موصوف، وليس كما يقول المعتزلة ومن قلدهم: إنها إضافة مخلوق إلى خالقه، بل هي إضافة صفة إلى موصوف.
وقوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾ أهل السنة والجماعة يعتقدون في القرآن أنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.
وقوله: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ إثبات صفة الكلمات، وأن القرآن من كلمات الله.
وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ﴾ الشاهد: (يقص) والقصص لا يكون إلا قولا، فدل على أن القرآن كلام الله؛ لأن الله هو الذي يقص هذا القصص، كما قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ فالقرآن كلام الله، فكل هذه الشواهد تثبت صفة الكلام لله -تبارك وتعالى-، وتثبت أن القرآن هو كلام الله، وأن الكلام من الصفات الفعلية المتعلقة بالقدرة والمشيئة، وأن الرب مُتصف بهذه الصفة التي لا تنفك عنه، وأن هذا الكلام يكون بحرف وصوت، سمعه منه أنبياؤه، وسيأتي أيضا مزيد إيضاح في الأحاديث.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام:92]، ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر:21]، ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ َاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [النحل:101]، ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل:102]، ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا ُيعَلِّمَهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: 103])}.
أحسنت، هذه الآيات الثلاث هي تفريع عن الشواهد السابقة، فلما ذكر في الشواهد السابقة ما يتعلق بصفة الكلام عموما، وأشار أيضا إلى شواهد تدل على أن القرآن كلام الله، ذكر هنا ما يتعلق بتنزل القرآن، والتنزل فيه إثبات العلو، وفيه إثبات أيضا أن هذا القرآن ليس بمخلوق، بل هو كلام الله، مُنزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
وقوله: ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ الفعل يدل على ماذا على صفة التنزيل، والتنزيل يدل على صفة العلو، فدل على أن هذا القرآن المبارك منزل من عند الله، فالتنزيل هنا مقيد بأنه من عند الله -تبارك وتعالى-، وهذا بخلاف إنزال المطر أو غيره، فإنه يكون من السماء، ولهذا ذكر أهل العلم أنواع التنزيل، وأن التنزيل قد يكون من الله كتنزيل القرآن، وقد يكون التنزيل من السماء، كنزول المطر، فالتنزيل أنواع.
قوله: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا﴾ الفعل "أنزلنا" يدل على العلو، ويدل أيضا على أن القرآن منزل، وهذا هو دليل أهل السنة الجماعة في قولهم: القرآن كلام الله منزل، أنزلنا هذا القرآن ﴿لو أنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَه خَاشِعًا مُتَصَدِّعاً مِن خَشْيَةِ الِله﴾.
وقوله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا﴾ أيضًا صفة التبديل المبنى على الحكمة، ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ َاللهُ أَعْلَمُ﴾، أي: صفة العلم، ﴿بِمَا يُنَزِّلُ﴾، أيضًا صفة التنزيل، وتدل على صفة العلو، ﴿قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ لاحظوا الإشارات إلى العلو، ﴿لِيُثَبِّتَ﴾ الفعل هذا يدل على صفة التثبيت، ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ﴾ صفة العلم، ﴿أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا ُيعَلِّمَهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾، فالشاهد من هذه الآيات: إثبات أن القرآن منزل من عند الله، فهو منزلٌ غير مخلوق، والآيات التي قبلها تدلُّ على أنه كلام الله، وهذه الآيات تدلُّ على أنه منزل.
{قال المؤلِف -رحمه الله-: (وَقَوْلُهُ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:22-23]، ﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ [المطففين: 23]، ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35])}.
هذه الآيات تدل على ماذا؟ هذه الآيات ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، ﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ تدل على أي شيء؟
تدل على النظر إلى الله، طيب هل النظر إلى الله صفة؟ لأن النظر يتعلق بالمخلوق، ولهذا بعض الوهل العلم يقول: إن المصنف هنا لم يقصد إثبات رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى-، لأن هذا سيأتي في مباحث الإيمان باليوم الآخر، أعظم نعيم يتنعم به أهل الجنة هو: رؤيتهم لربهم تبارك وتعالى -نسأل الله الكريم من فضله- ويرونه في المحشر، ويرونه في جنات النعيم، فالنظر يتعلق بنظر المخلوق إلى الخالق، ولكن قد يتضمن بعض الصفات، ومن هذه الصفات أن الله -تبارك وتعالى- يُرى، وأنه في مكان وليس كما يقول المعطلة: إنه لا يشار إليه، ولا يكون في مكان.
بعض الأهل العلم يقولون: آيات النظر تدل على صفة التجلي المتعلقة بالرب، فإن الله -تبارك وتعالى- يتجلى لعباده، فإذا تجلى لهم رأوه.
إذًا لاحظ آيات الرؤية فيها هذان الدليلان:
- دليل التجلي للمؤمنين فيرونه.
- ودليل أنه يُرى، ومعناه: أنه يكون في مكان كما أنه في العلو.
الآيات التي دلت على الرؤية خمس آيات، والمصنف -رحمه الله- أشار هنا إلى أربع آيات:
الأولى: من سورة القيامة، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، فـ ﴿نَّاضِرَةٌ﴾ من النُّضرة، ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ فيها إثبات أن المؤمنين يرون ربهم -تبارك وتعالى-، ومعنى ذلك أنه قد تجلى لهم.
والآية الثانية، في قوله في المطففين: ﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ هذه الآية تكررت مرتين.
والثالثة، في سورة يونس: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ وكلمة ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ فسرها النبي ﷺ كما في حديث صهيب عند مسلم: برؤيتهم لربهم -تبارك وتعالى-، وهذا من التفسير النبوي للقرآن، وسنستفيد في بيان منزلة السنة من القرآن، وأن السنة تأتي مفسرة للقرآن، كما فسَّر النبي ﷺ هذه الآية.
الآية الرابعة في سورة ق: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ والمزيد هو رؤيتهم لربهم -تبارك وتعالى-.
الآية الخامسة، وقد استدلّ بها الشافعي في سورة المطفّفين ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ وجه الاستدلال؟ نعم مفهوم المخالفة، فإذا حجب الله رؤيته عن الكفار، فبمفهوم المخالفة أن المؤمنين يرون ربهم -تبارك وتعالى-.
فهذه الآيات الخمس، ثلاث آيات في سورة المطففين، وثنتان متكررتان، وكلها تدل على إثبات رؤية المؤمنين ربهم -تبارك وتعالى-.
وهذه الرؤية تدل على أنه قد تجلى لهم، وأما الأحاديث فسيشير المصنف -رحمه الله- إلى أنَّ الأحاديث في هذا الباب متواترة.
طبعاً المعطلة منهم من حرف هذه الآيات، طبعاً لما أنكروا العلو، وأنكروا أن يكون الله -تبارك وتعالى- في مكان، ولهذا يقول المعطلة -كما موجود في بعض كتبهم في بعض المتون التي يتداولونها-: يقولون كان الله ولا مكان، ثم خلق المكان، وهو على ما كان عليه قبل خلق المكان.
هذا الكلام الموجود في بعض المتون حقيقته نفي العلو ونفي الاستواء، فهم يقولون: كان الله ولا مكان، ثم خلق المكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان، حقيقة هذا الكلام الموجود في بعض المتون التي قد يتداولها بعض المسلمين وينخدعون بها!
هذا الكلام إذا وجدتموه أيه الإخوة الكرام إنما يقوله المعطلة، الذين لا يؤمنون باستواء الرب -تبارك وتعالى- على عرشه، وقد يوجد عند بعض الناس أحيانا عن حسن نية وغفلة يتداولون مثل هذه المقاطع، مثلما يتداولون مقطع الصبي الذي يحفظ متنا أشعريا وأمه معجبة به، والحقيقة حفظوه تحريف كلام الله، وربوه تربية سيئة، فتجد بعض الناس يتداولونه على سبيل الإعجاب، وهذا فيه تغرير وإضلال لناشئة المسلمين.
ماذا قال المعطلة الذين عطلوا صفة العلو وصفة الاستواء لَمَّا جاءت هذه الآيات؟
أخذوا يتكلفون في ليي أعناق النصوص، فمنهم من يقول: هي ناظرة إليه بقلبه، ومنهم من يقول: ناظرة إلى الثواب، إلى غير ذلك من التأويلات والتحريفات الباطلة.
وذكر لي أحد الإخوة الكرام قصة فيها شيء من اللطافة والطرافة، يقول: كنت في سنة من السنوات وأنا في صحن الحرم، يقول في رمضان، وكنا عصر الجمعة، ويقول: كنت أقرأ سورة القيامة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ يقول: فأغلقت المصحف، ومن باب التدبر والامتثال وتطبيق السنة، رفعت يدي وأمامي الكعبة في عصر الجمعة، وقلت: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم.
يقول: يظهر أنه كان بجواري أحد هؤلاء المعطلة، يقول: فاستوقفني وقال: ماذا تقول؟ قلت: أسأل الله رؤيته في جنات النعيم، قال: أنت تفهم الآية غلط؛ لأن الله لا يرى، قلت: سبحان الله، الله يقول في كتابه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ وَأَنْت تقول لا يرى، قال: نعم، أنتم تفهمون القرآن غلط!
قلت: طيب أنا سأختصر لك الجواب، أنت تقول لا يُرى، نحن صائمون والآن عصر الجمعة، ساعة استجابة، وأمام بيت الله، ومسافرين، أسأل الله أن يحرمك رؤيته في الآخرة.
يقول: فغضب أشد الغضب، وقال: ما هكذا يكون الجدل والحوار، وليس هذا أدب الحوار. قال: أنا اختصرت لك الطريق، فأنت تريد أن تقنعني بأن الله لا يُرى، فأسأل الله -جل جلاله- أن يحرمك رؤيته في جنات النعيم.
يقول: فأخذ سجادته وخرج، يظهر أنه خرج من المسجد بأكمله، ولهذا نقول لهؤلاء المحرفة والمعطلة الذين يؤلفون الكتب في إنكار رؤية الله، نسأل الله -عز وجل- أن يهديكم أو يعاملكم بنقيض قصدكم.
ولهذا يقول ابن القيم في حادي الأرواح وهو يتكلم عن نعيم الجنة وعظيم نعيم الجنة، قال: من أنكر هذا النعيم فهو حري بحرمانه، فهكذا نقول: من أنكر الحوض وأحاديث الحوض فهو حري بأن يحرم من الورود على الحوض.
ومن جاء من هؤلاء المعطلة فأنكر رؤية الله، فهو حري بأن يحرم أعظم نعيم يتنعم به أهل الجنة، وهذا اختصار للمناظرات والجدل التي يحاول هؤلاء المعطلة الجدل، فقل لهم بطريقة مختصرة: أنا لا أدخل معكم في جدل ولا نقاش، فإذا كنت تنكر رؤية الله، فأسأل الله أن يعاقبك بنقيض قصدك، فلا تراه في الآخرة، سينقطع النقاش؛ لأن هذا جواب حكيم يغلق الطريق.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ)}.
ختم المصنف -رحمه الله- هذه الشواهد وهي كثيرة، وأنا وضعت في ثاني الحلقات سؤالاً للأخوة المشاهدين، فقلت: كم عدد الآيات التي ذكرها المصنف -رحمه الله-؟
كم عدد الأسماء التي ذكرت في هذه الآيات؟
كم عدد الصفات التي أُخذت من الأسماء؟
كم عدد الصفات التي اشتُقت من الأفعال أو نُصَّ عليها؟ وهذه تركناها للنشاط من باب تحريك الذهن.
لما ذكر هذه الشواهد قال لكم: (وهذا الباب) يعني: باب الأسماء والصفات، (في كتاب الله كثير) وصدق رحمة الله عليه، فالشواهد كثيرة، ولذلك فهذه الأمثلة هو لا يقصد بها الحصر، وإنما نوع في الشواهد والأمثلة، وذكر أدلة الأسماء، يعني: صراحة، أدلة الأسماء المتقابلة، أدلة الأسماء الإضافية، الصفات التي تؤخذ من الأفعال، الصفات التي تؤخذ من الأسماء، أو يُنَصُّ على الفعل، ونوع وتوسع في الصفات التي وقع فيها خلاف، فقال: (وهذا الباب) أي: باب الأسماء والصفات (في كتاب الله كثير) وهذا الباب في كتاب الله يعني: بعد أن ذكر الشواهد والضابط في ذلك، وأنَّ أهل السنة والجماعي يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه، وما نفاه عنه رسله، ويثبتون لله ما أثبته له رسله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن الله قد جمع فيما وصفه وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، قال: (وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِير) بل إن شئت أن تقول: إن كل آية في كتاب الله تدل على ذلك، لماذا؟ لأن القرآن كلام الله، القرآن كلامه وهو صفة من صفاته، فكل آية في كتاب الله إن لم تتضمن اسماً ولا صفةً صريحةً، فإنها تدلُّ على صفات الله؛ لأن القرآن من كلام الله.
ثم ذكر الحقيقة لفته مهمة جداً في الاستفادة من هذا، فقال رحمة الله عليه: (ومن تدبر القرآن طالباً للهدى تبين له الحق) متى يستفيد؟
يستفيد إذا أخلص النية، وكان قصده الاستفادة، نعم سيستفيد كما استفاد الإخوة المشاهدون ممن صدقوا النية في طلب العلم، والانتفاع في تدبّر هذه الآيات سينتفع.
ولكن من أراد الجدل والاعتراض فلن يستفيد، شياطين الجن والإنس ستؤزه لأن غرضه ليس الوصول إلى الحق، بل غرضه تحريف الكلام.
ولهذا انظروا إلى هذه العبارة الجميلة التربوية الإيمانية: "من تدبّر القرآن طالبًا للهدى، تبين له طريق الحق، فعليك يا أخي الكريم أن تدبّر القرآن، ثم إذا تدبرته وأنت تريد طلب الهدى فسيتبين لك طريق الصواب، خصوصا إذا صدقت في نيتك، وأردت بذلك الوصول للحق وإظهار الحق.
وأما إذا كنت تريد الباطل والمجادلة في الباطل، فلن تنتفع، بل سيكون هذا الكلام حجة عليك لا لك، أسأل الله -عز وجل- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا.
ولحظوا هذا القيد في إشارة إلى أن من ضل في هذا الباب فبسببه، إما بسبب الإعراض عن كتاب الله عموما، أو بسبب الإعراض عن فهمه وتدبّره، فهو يبذل جهده كيف يحرف هذه الآيات؟ كيف ينفي العلو؟ كيف ينفي المعيّة؟ كيف ينفي كذا؟ هذا ما أرد الهدى، ولهذا لن ينتفع.
ولكن من أراد الخير سينتفع ولابد، وهذا الباب في كتاب الله كثير، ومن تدبر القرآن طالبا للهدى، تبين له الحق.
أسأل الله -عز وجل- أن يرينا الحق حقا وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا وأن يوفقنا لاجتنابه، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا.
هذه الحلقة الخامسة، نكون بها والحمد لله قد انتهينا من الآيات المتعلقة بالأسماء والصفات.
أسأل الله -عز وجل- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، شكر الله لك، وشكر الله للإخواء المنسقين والمصورين ممن خلف الكواليس، ممن يعملون، كتب الله أجركم، ورفع الله قدركم في الدارين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأفدتم، وجزاكم عننا خير الجزاء، والشكر موصول إليكم أيضا أيها الإخوة والأخوات، شكرا لحسن استماعكم، ونلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.