{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على أشرف الأنبياء، وإمام المرسلين، حياكم الله وبياكم، مرحبًا بطلاب العلم، نرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي، يصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخ إبراهيم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (بابُ دخولِ مكةَ وغيرِهِ)}
نشرع فيه -إن شاء الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
{قال -رحمه الله- (بابُ دخولِ مكةَ وغيرِهِ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: «اُقْتُلُوهُ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد عقد المصنف -رحمه الله- هذا الباب الجليل، وهو (بابُ دخولِ مكةَ وغيرِهِ)، وهذا الباب كثيرًا ما يُذْكَرُ فيه كيف دخل النبي ﷺ إلى هذا البلد؟ يعني من أين دخله؟ وعلى أي حال دخله ﷺ؟، ثم يذكر فيه أيضًا بعض الأحكام المتعلقة بالعمرة، والطواف، والسعي، ونحو ذلك، ولهذا سيذكرها المصنف -رحمه الله- كلها في هذا الباب، فهو من الأبواب التي تعد في (كتاب الحج) من أوسع الأبواب؛ لأنه قد يدخل فيها أحيانًا صفة العمرة بتمامها.
قال: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «اُقْتُلُوهُ») في هذا الحديث أمور:
الأمر الأول: جواز أن يدخل الرجل مكة بغير إحرام، إذا لم يكن مُريدًا للحج أو العمرة، أو مريدًا للنسك بوجه عام؛ لأنَّ النبي ﷺ لَمَّا دخل مكة دخل وهو عليه المغفر، والمغفر هو الخوذة، التي تغطي رأس المقاتل، وفيه دلالة على أنَّ النبي ﷺ قد كان يأخذ بالأسباب، وهذا أمر جليل يا إخوان، فالنبي ﷺ يعلم أن الله -عز وجل- لن يقبضه حتى يخيره، «ما من نبي يتوفى حتى يخير»، ومع ذلك فإنه ﷺ في حربه يأخذ بالأسباب، من أخذ السلاح، ومن لبس المغفر، ومن اتقاء بالمحجن ونحوها، وهذا كله تعليم منه ﷺ لأمته.
قال: (فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ) أمَّا ابن خطل هذا، فقد كان اسمه عبد الله، وكان مُسلمًا، وقرأ شيئًا من القرآن، ولكنه خُذِلَ وارتدَّ عن دين الله -عز وجل-، وكان له قينتان، أي: جاريتان مغنيتان، تغنيان بهجاء النبي ﷺ، فنذر النبي ﷺ دمه، ونذر يعني: أهدر دمه ﷺ، وقال: «إذا رأيتموه فاقتلوه»، فلمَّا دخل النبي ﷺ مكة؛ أَمَّنَ الناس كلهم، إِلَّا بضعة نفر، وكان من بينهم: عبد الله بن خطل، وكان من بينهم: عبد الله بن أبي أمية، أخو أم سلمة، حتى استأمن له بعض الصحابة فَأَمَّنَه، وكان منهم: عكرمة بن أبي جهل، والذي ذهب فارًّا إلى اليمن، ثم رجع بأمان إلى النبي ﷺ، وكان من ضمنهم: عبد الله بن خطل؛ فإنه قد كان يظن -وهذا من جهله وحمقه- أنَّه ما دام في الكعبة؛ فإنَّ الحرم سيحميه، ويكون أمنًا، مع أنه في الحرم أصلا، فذهب وتعلق بأستار الكعبة، يعني: عائذًا بالكعبة من رسول الله ﷺ، ولكن النبي ﷺ معه الإذن الرباني من الله -عز وجل- الذي هو الساعة، فقال النبي ﷺ: «اقتلوه» فقتلوه، ويذكر أنَّ الذي قتله هو أبو ذر -رضي الله عنه وأرضاه- قتله وهو متعلق بأستار الكعبة، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن سَبَّ النبي ﷺ؛ فإنَّ دمه هدر؛ لأنَّ سبَّ النبي ﷺ من أعظم من المخرجات من دين الله -عز وجل-، وقد ذهب جماعة من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية، إلى أنه لا تُقبل منه توبة؛ لأنَّ هذا حق مُتعلق برسول الله ﷺ، يقال له: أسلم، فإذا أسلم نقول: الحمد لله، وإسلامك ينجيك عند الله -عز وجل- في الآخرة، لكن الآن يقام عليك الحدَّ، حتى ولو كان مسلمًا، حتى ولو رجع للدين.
والصحيح -والله أعلم- في هذه المسألة أنه إن رجع إلى دين الله -عز وجل- سقط عنه القتل، لماذا؟ شيخ الإسلام ابن تيمية ذهب إلى أنَّ هذا الحكم مُتعلقًا بمقام النبي ﷺ، وقال: مقام النبي ﷺ والإذن منه والاستسماح لا نستطيعه، نقول: عندنا -بحمد الله- الآيات العامة في أنَّ من ارتد عن دين الله -عز وجل- ثم جاء مسلمًا؛ فإنَّ الله -عز وجل- يقبل منه. هذا أمر.
الأمر الثاني: أنَّ هذا الحكم لن يأتي لذات النبي ﷺ لكونه محمد بن عبد الله، وإنما تعظيم لمقام النبوة، التي هي أداء وإبلاغ عن الله -عز وجل-، فإذا كان من سَبَّ الله -عز وجل- أجمعت الأمة على أنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه؛ تاب الله -عز وجل- عليه، فإذًا كذلك أيضًا مَن سبَّ النبي ﷺ؛ فإن باب التوبة له مفتوح، وهذا المعنى يقال حتى لا ييأس الناس؛ لأنَّ كثيرًا من الناس الذين -والعياذ بالله- قد يقع في هذا الأمر، وإذا قيل له: لا، حتى لو تبت، هذا فيما بينك وبين الله -عز وجل- يوم القيامة، لكن الحجة يقام عليك. قال: ما أرجع إلى الدين أبدًا.
إذًا هذه المسألة من المسائل التي ينبغي أن تُراعى في مثل هذا.
وفي الحديث بيان أنَّ النبي ﷺ قد دخل مكة عُنوة، يعني: بالسيف، وهذا هو القول الصحيح خلافًا لقول الإمام الشافعي -رحمه الله-.
{قال- رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى»)}.
هذا وصف لكيفية دخول النبي ﷺ إلى مكة، والنبي ﷺ دخل مكة من شمالها؛ لأنه قَدِمَ من المدينة؛ والمدينة في الشمال، فإذا قَدِمَ إلى مكة من المدينة؛ فإنَّ أول ما يأتيه من جهة مكة هي ما يسمى الآن بالحجون، فدخل النبي ﷺ من جهة الحجون؛ لأنها أعلى مكة، دخلها النبي ﷺ، وهو الآن معروف عند أهل مكة، ولا يزال يسمى إلى الآن الحجون، أي: (مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى)، والثنية السفلى أسفل مكة؛ إذًا هذه -والله أعلم- إنما هي فيمن كان ممره كما مَرَّ النبي ﷺ، وإلا فكيفما دخل الإنسان أجزأ، كيفما دخل الإنسان، يقال: كأهل المدينة، ومن كان على سمة أهل المدينة، السُّنَّة فيكم أن تدخلوا من هذا المقام، أو من هذا المكان، وأما من كان سوى ذلك فيدخل من حيث شاء.
وفيه معنى آخر، وهو أنه يستحب مخالفة الطريق في الدخول والخروج، فيقال للإنسان: لمن من أهل نجد مثلاً، ادخل من طريق الهدى، والسنة إذا أردت أن ترجع فلترجع من طريق السيل مثلا، لماذا؟
اقتداءً بالنبي ﷺ، لأنَّ هذا المعنى يلحظ ملحوظ، وله آثار من بينها -والله أعلم- تعمير هذا البلد بالطاعة، فإنك أنت الآن في طاعة، وهذه كلها بقاع ستشهد لك يوم القيامة، فإذًا هذا المعنى من المعاني التي تلحظ هنا.
{قال رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -ضي الله عنهما- قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْبَيْتَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَلَمَّا فَتَحُوا: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ. فَلَقِيتُ بِلالاً، فَسَأَلَتْهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ»)}.
هذا حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- الذي هو أصلح حديث جاء عن النبي ﷺ في صلاته ﷺ داخل الكعبة، فإنَّ صلاة النبي ﷺ في الكعبة قد وقع فيها النزاع بين الصحابة -رضي الله عنهم- فقال ابن عباس -رضي الله عنه- كما رواه البخاري من حديث كُريبة عن ابن عباس: «أنَّ النبي ﷺ لم يصل في البيت، وإنما طاف فيه ودعا في نواحيه»، فنقول: هذا هو مبلغ علم ابن عباس في هذه المسألة.
وأمَّا من سوى ابن عباس كبلال الذي دخل مع النبي ﷺ؛ فإنه قد نقل لنا أنَّ النبي ﷺ قد صلى فيه، وزاد أنه وصف الموضع، فإنَّ النبي ﷺ لَمَّا دخل مكة في فتح مكة دعا عثمان بن طلحة، وهو من بني شيبة، من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار كانوا هم حجابة البيت، أي: الذين بيدهم مفتاح الكعبة، وكانت المكارم موزعة بين أفخاذ قريش، فلكل قوم مكرمة من المكارم:
فمنهم مثلا من يتولى أعنة الخيل، والقيادة في المعارك الحربية، كبني مخزون.
ومنهم: من كان يتولى السقاية، كبني هاشم.
ومنهم: من كان يتولى دار الندوة والحكم والقضاء، كبني عبد الدار.
ومنهم: من كان يتولى الحجابة، كبني شيبة، هؤلاء الذين أيضا يرجعون إلى بني عبد الدار.
فإذًا كانت المآثر والفضائل مُقسمة في أحياء قريش، فدعا النبي ﷺ عثمان بن طلحة فخشي، وكان المفتاح مع أمه، فطلب المفتاح منها، فقالت: لا، فقال أعطنيه، فوالله لأن لم تعطينيه لأتكئن على سيفي هذا، حتى يخرج من ظهري، هذا قبل أن يسلم، قال: أعطيني المفتاح حتى أسلمه للنبي ﷺ. ومما يذكرونه في السيرة، ولم ينقل بإسناد صحيح أنَّ النبي ﷺ أراد قبل الهجرة أن يدخل البيت فمنعه عثمان بن طلحة، فقال له النبي ﷺ: «يَا عُثْمَانُ لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي، أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ» فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ وَذَلَّتْ، قَالَ: «بَلْ عُمِّرَتْ يَوْمَئِذٍ وَعَزَّتْ» فلمَّا جاء عثمان بالمفتاح للنبي ﷺ، وقد كان حينها مشركًا، أخذه النبي ﷺ ثم فتح فدخل إلى الكعبة، ومعه ثلاثة نفر، أسامة بن زيد، الذي كان حِبَّ رسول الله ﷺ، وابن حبه، وبلال الذي هو مؤذنه ﷺ، وعثمان بحكم كونه هو الحاجب، فدخل النبي ﷺ الباب، وطاف في أنحائها كلها، ولكن قبل الطواف في أنحائها كلها، يعني: الدوران فيها، لَمَّا دخل إلى الباب تقدم حتى لم يكن بينه وبين الجدار الذي أمامه إلا ثلاثة أذرع، فصلى النبي ﷺ، وقال: «هَذِهِ الْقِبْلَةَ»، يعني: الكعبة هي القبلة، لكن ما هي قبلة القبلة؟ هو الباب، لو أنَّ إنسانًا قال: الكعبة قبلة، لكن أريد قبلة القبلة فيها، نقول: قبلة القبلة فيها هو بابها، أي: جهة الباب، فإذا صليت إلى الباب هذه هي قبلة القبلة، ولهذا لَمَّا صلى النبي ﷺ قال: هذه القبلة، يعني: لمن أراد قبلة القبلة؛ فهذه هي قبلة، وإلا من صلى في أنحائها كلها جازت الصلاة بالإجماع؛ لكن أفضل المواضع أن تدخل وتدع الباب خلفك، والجدار الذي أمامك فتصلي، كما فعل النبي ﷺ.
ثم طاف ﷺ في نواحيها وكبر، ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام، فقال: «قاتلَهُمُ اللَّهُ، واللَّهِ لقَد علِموا ما استقسَما بِها قطُّ»[1]، ورأى صورة مريم العذراء وعيسى -عليهما السلام؛ فأمر النبي ﷺ بهذه الصور فطمست. ثم خرج النبي ﷺ وبيديه المفتاح، فدفعه إلى عثمان، وقال: «اليوم يوم وفاء وبر، خُذُوهَا يَا بَنِي شَيْبَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ»[2]، فلم يبق من مآثر مكة مُتعلقًا بقوم إلا هذه في بني شيبة، وأمَّا بقية المآثر انتهت لماذا؟ لخشية الناس من قول النبي ﷺ لا ينزعها منكم إلا ظالم، انظر كل الأمور المتعلقة بالولايات والخلافات والصلاة، تنازعها الناس، إلا هذا الأمر. لماذا؟
لقول النبي ﷺ: «خُذُوهَا يَا بَنِي شَيْبَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ».
(فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ) حتى لا يكثر ازدحام الناس عليهم. (فَلَمَّا فَتَحُوا: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ) وهذا لحرص ابن عمر على تتبع آثار النبي ﷺ، (فَلَقِيتُ بِلالاً، فَسَأَلَتْهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ)، فتقدم النبي ﷺ فجعل عمودًا عن يمينه، وعمودا عن يساره وصلى ﷺ.
{قال -رحمه الله- (عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- «أَنَّهُ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: إنِّي لأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ، لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»)}.
نعم هذا هو أصح حديث جاء عن النبي ﷺ وأعلاه، في مشروعية تقبيل الحجر الأسود، والحجر الأسود هو الذي يلي الركن اليماني، وهو أوضح أركان الكعبة وأعظمها، والظاهر -والله أعلم- أنَّ الركن اليماني يُشرع استلامه، كما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: «لَمْ أَرَ النبيَّ ﷺ يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إلَّا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ»[3]، أي: الركن اليماني والركن الذي يليه، وهو الحجر الأسود، وأمَّا ما سواهما من الأركان؛ فإنها لا تمس، وهي التي تسمى عند العلماء بالركنين الشاميين، هذان لا يمسان، وقد كان معاوية -رضي الله عنه- يطوف بالكعبة، وكان يستلم الأركان كلها، فقال له عبد الله بن عباس: «إِنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ، فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ»[4]، فيقال: لا، لأنَّ سنة النبي ﷺ مقدمة، فإذًا الذي يمس هما الركنان، وأمَّا ما سواهما فلا يمس، والسبب في ذلك أنَّ البيت لم يبن على قواعد إبراهيم، ومن المعلوم أنَّ الركنين الشاميين فيهما الحِجْر، وهذا يعني أنَّ الركنين ليسا هما الركنان الذين أسسهما إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولم يكن ابن عمر يعلم قول النبي ﷺ لعائشة: «لَولا أنَّ قَومَكِ حديثُ عَهْدٍ بجاهليَّةٍ، لأمرتُ بالبَيتِ، فَهُدِمَ فأدخلتُ فيهِ ما أُخْرِجَ منهُ وألزَقتُهُ بالأرضِ، وجعلتُ لَهُ بابَينِ: بابًا شَرقيًّا، وبابًا غَربيًّا، فإنَّهم قد عجَزوا عن بنائِهِ، فبلَغتُ بِهِ أساسَ إبراهيمَ»[5]، فلمَّا عرفه استذكر مُباشرة بفطنة الصحابة -رضي الله عنهم- وسعة علمهم، قال: "لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله ﷺ: ما أرى رسول الله ﷺ ترك الركنين الأخرين إلا أنَّ البيت لم يُتمم على قواعد إبراهيم"، وهذا فهم عميق.
فإذًا، بوجه عام الحجر الأسود يُشرع فيه أمور: إن استطعت أن تقبله، فهذا أولى ما ينبغي فيه، وإن لم تستطع فالأولى أن تمسه، وإن لم تستطع فمسه بعصا، كان يتناوله ﷺ بمحجن، فإن لم تستطع فأشر إليه إشارة؛ كما كان النبي ﷺ يفعله.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلَاّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ»)}.
هذا من سنن الطواف، والأصل بوجه عام أنَّ الإنسان إذا دخل البيت؛ فإنَّ أول شيء يعمله أن يستلم الحجر الأسود، كما كان النبي ﷺ يفعله، فإن تعذر عليه ذلك، أشار إليه وكبر، كما كان النبي ﷺ يفعل، ثم يشرع في الطواف، هذا هو أول ما يصنعه المعتمر حينما يقدم إلى مكة، ولهذا لا يُشرع في البيت الركعتان، بل يقال: إنَّ تحية البيت هي الطواف؛ لأنَّ الركعتين تشرع أصلا بعد الطواف.
فإذًا أول ما تبدأ في البيت هو الطواف في البيت، وإذا كان كذلك؛ فإنه يُشرع للإنسان في أول طواف يقدمه أن يخب ثلاثة أطواف، والخبُّ هو الهرولة، يهرول الهرولة الخفيفة التي بين بين، من الحجر إلى الحجر، ثلاثة أطواف بتمامها، وهذا يسمى عند العلماء بالرمل، والرمل هذا قد كان له حالان، الحال الأول: الرمل الذي كان في عمرة السنة السابعة من هجرة النبي ﷺ، وكانت قريش قد جلست في الجهة المقابلة التي هي الجهة الشامية المعروفة الآن، يطالعون النبي ﷺ وأصحابه، ويتهامسون ويقولون: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فهم ضعاف وصفر وما يستطيعون يمشون، فأمرهم النبي ﷺ -يريد أن يظهر همة أصحابه- بالاضطباع؛ فاضطبعوا؛ لأنَّ الاضطباع من صفات الرجل الشديد، ولهذا ترى أن الصيادين في الزمان الأول يضطبع؛ دلالة على الهمة والنشاط، فأمرهم بالاضطباع، فهذه من سنن الطواف، وأمرهم ﷺ بالرمل، أن يرملوا ثلاثة أشواط، ولكن رخص لهم في المشي ما بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود؛ لأنَّ هذه المنطقة ما كانت تراهم قريش فيها؛ لأنَّ قريشًا كانت على الجانب الآخر.
قال: (وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلَاّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ) فلمَّا رأتهم قريش قالت: هؤلاء الذين تقولون قد أوهنتهم حمى يثرب، والله إنهم كالغزلان"، فوصلت الرسالة التي أراد النبي ﷺ أن يوصلها لهم، هذا في الزمن الأول في عمرة سنة القضاء، وعمرة القضاء كانت في السنة السابعة.
هل حدث الرمل في السنة العاشرة؟
جاءت السنة العاشرة، وآتينا ننظر هل يرمل النبي ﷺ أو لم يرمل، قال عمر -رضي الله عنه- اسمع، قال كلامًا عظيمًا، قال: ما لنا وللرمل، إنما كان شيئًا رآينا به المشركين، ثم قال: هو فعل فعله النبي ﷺ فلا نزال نفعله، فلمَّا كانت السنة العاشرة رأينا هل ضمن النبي ﷺ ولا لا؟ رأينا أنه رمل، وزاد في الرمل؛ فإنه رمل من الحجر إلى الحجر، ثلاثة أشواط كما جاء عن جابر -رضي الله عنه- رمل من الحجر إلى الحجر، قد يقول قائل: ما هي الحاجة؟ نقول: تماما كحاجتنا نحن إلى الاقتداء بأم إسماعيل، التي كانت تسعى بين الصفا والمروة، وأم إسماعيل ليست أولى بالاتباع من صحابة النبي ﷺ، وما كانوا عليه في الجهاد في سبيل الله.
فإذًا يُشرع الرمل، والحقيقة أنَّ التأكيد في الرمل قد يقال: إنه آكد -والله أعلم- حتى من السعي بين الشوطين، أو الهرولة بين العلمين الذين في السعي.
إذًا قال: («فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلَاّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ») إذًا يُشرع للإنسان في أول طواف أن يرمل.
طيب ماذا عن بقية الطوافات؟ نقول: لا. حيث إنَّ طواف الإفاضة ليس فيه رمل، لماذا؟ لأن النبي ﷺ طاف وما رمل.
هل طواف الوداع فيه رمل؟
نقول: ليس فيه رمل، هذا هو أول طواف، الذي هو طواف القدوم، فهذه إذًا من سنن الطواف.
{لكن بقية الطوافات سواء كان من أهل مكة أو غيرها}.
كلها ليس فيها رمل.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ»)}.
ذكر عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- في هذا الحديث معنى جليلا، وهو أنَّ النبي ﷺ أول ما يقدم مكة يستلم الركن الأسود، وهذه من السنن المهجورة، هي أحيانًا قد تصعب على كثير من الناس، ولكن لو تيسرت فنقول: إنه لا ينبغي للإنسان أن يهجرها، من السنن أن يكون أول ما يقدم الإنسان البيت أن يُقبل الحجر الأسود، وإن عجز عن ذلك يستلمه بيده؛ وإن عجز فالتكبير والإشارة يقومان مقام الاستلام.
قال: «إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ»، ذكر أنه يَخُبُّ ثلاثة أشواط، ولم يستثن ما بين الركنين؛ فدل على أنها تستوعب بالهرولة، التي هي الخَبُّ.
{قال- رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ».
المِحْجَنُ: عصا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ)}.
هذا حديث ابن عباس -رضي الله عنه- في أنَّ النبي ﷺ طاف في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن، وهذا فيه مشروعية الطواف على الراحلة للحاجة؛ وإنما طاف النبي ﷺ في حجة الوداع ليراه الناس وليشرف عليهم، فهو مُقيد بالحاجة.
لطن قد يسأل سائل، ويقول: كيف تقولون هذا، وفي حديث جابر أنَّ النبي ﷺ هرول، أي: رمل في ثلاثة أشواط، نقول: ما طاف النبي ﷺ في حجة الوداع طواف واحدًا، وإنما طاف ثلاث طوافات، فالطواف الأول كان مَاشيًا، والطواف الآخر الذي هو طواف الوداع -والله أعلم- فإنما طافه النبي ﷺ راكبًا، وبقية الطوافات الله أعلم.
وطواف الإفاضة هذا هو الطواف المختلف، لكن الأخير يقينا كان على راحلة، والظاهر -والله أعلم- أنه كان على راحلته ﷺ؛ فإذًا طاف ﷺ في بعض الطوافات على بعيره، قال: "ليشرف وليسأله الناس، فإن الناس قد رشوه، يقولون: هذا رسول الله، هذا رسول الله، ازدحموا عليه ﷺ فطاف.
فإذًا يدل هذا بوجه عام على جواز الطواف على الراحلة، والحمد لله هذا من الأمور التي يوسع فيها، يقال للإنسان: إن كان عندك أطفال، كان عندك نساء عليهن الطواف اركب هذه السيارات المتنقلة كهربائية أو اركب العربيات أو نحوها من الأمور.
قال: «طَافَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ» في جواز إدخال البعير إلى الحرم، وفي دلالة على أنَّ روث البعير -أكرمكم الله- وبعره ليس نجسًا؛ لأنه لو كان نجسًا ما رخص في إدخاله.
قال: «عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ» هذا هو ما قررناه سابقًا، وهو أنَّ من عجز عن تقبيل الحجر؛ فإنه يستلمه بيده، فإن عجز استلمه بشيء معه، والمحجن هي العصا المحنية التي هي العكاز، وكانوا يستخدمونها لأجل أنهم كانوا يجتذبون بها، فالرجل على بعيره وسقط منه شيء فيجتذبه بها.
فإذًا هذا مما يشرع أيضًا بوجه عام، أي: يطوف الإنسان، فإذا كان قريبَا أو يستطيع أن يستلم الركن، لكن الآن لم يتسن للإنسان أن يستلمه بعصا حتى لا يؤذي الناس، ولهذا يقتصر على أن يشير إليه ويكبر.
قال- رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: «لَمْ أَرَ النَّبيَّ ﷺ يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ إلَاّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ».
الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ: الركن اليماني، والركن الشرقي الذي فيه الحجر الأَسود)}.
هذه من خاصية هذين الركنين، وهي من السنن المهجورة، وهي استلام الركن اليماني، واستلام الركن اليماني أحيانًا يسهل ولا يكون عليه زحام مثل: الحجر الأسود؛ فيشرع للإنسان أن يستلمه بيده، ولكن هل يشرع له أن يشير إليه؟
نقول: لا يشرع، وإنما المشروع فيه الاستلام فحسب، فأمَّا الإشارة إليه فإنها لم ترد عن النبي ﷺ، وكذلك أيضًا التكبير، لا يشرع أن يكبر، لماذا؟ لأنه ليس محلاً للتكبير،
فإذًا الركن اليماني والحجر الأسود هما الركنان اللذان يُستلمان، وأمَّا ما سواهما؛ فإنها لا تستلم، وبناء عليه استلام بعض أركان الكعبة، أو بعض أجزاء الكعبة، نقول: لا يشرع هذا كله، وقد جاء عن بعض السلف -رحمهم الله- أنهم كانوا يُشرعون الوقوف في الملتزم أو يستحبون الوقوف في الملتزم، والأمر في ذلك واسع، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم.
{قال- رحمه الله: (بابُ التَّمتُّعِ.
عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ، قَالَ: «سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ؟ فَأَمَرَنِي بِهَا، وَسَأَلَتْهُ عَنْ الْهَدْيِ؟ فَقَالَ: فِيهِ جَزُورٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ قَالَ: وَكَانَ نَاسٌ كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ. فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ: كَأَنَّ إنْسَاناً يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ. فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثَتْهُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ»)}.
قال: (بابُ التَّمتُّعِ) وإنما ذكر المصنف -رحمه الله- التمتع لأمرين اثنين:
الأمر الأول: أنه أفضل الأنساك على قول الحنابلة -رحمهم الله- وهو القول الصحيح.
الأمر الثاني: أنه هو النسك الوحيد، الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء؛ لأنَّ الأنساك في الحج ثلاثة:
النسك الأول، الإفراد: وهو أن يحرم بالحج وحده لا يخلطه بعمرة.
النسك الثاني، القِرآن: وهو أن يحرم بالحج والعمرة معًا، ولا يفصل بينهما، وهذان النسكان لم يقع فيهما خلاف بين العلماء.
النسك الثالث، التمتع: وهو أن يحرم بالعمرة، فإذا فرغ منها بتمامها وتحلل، ثم دخل في الحج، وهذا النسك قد وقع فيه الخلاف في الزمان الأول بين الصحابة -رضي الله عنهم- حتى بَيَّنَ لهم النبي ﷺ مشروعيته، ثم وقع بينهم آخرًا على عهد عمر -رضي الله عنه- فإنه كان ينهاهم عن التمتع، حتى يعمر البيت؛ لأنَّ عمر -رضي الله عنه- كان يرى أن الناس يأتون فيقرنون بين الحج والعمرة، وإذا قرن بين الحج والعمرة لم يعد يأتي للبيت، فنهاهم عمر -رضي الله عنه- عن التمتع، ثم ذكر فيه حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وإنما قُدِّمَ حديث ابن عباس -رضي الله عنه- لأنَّ ابن عباس كان حامل لواء الدفاع عن التمتع، كيف؟
نقول: لَمَّا جاء عمر -رضي الله عنه- ونهى الناس عنه، تعارف كثير من الناس على أنَّ متعة الحج لا تجوز، ولهذا يقول: (جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ؟) يعني: هل هي جائزة أو لا؟ قال: (فَأَمَرَنِي بِهَ)؛ لأنَّ ابن عباس -رضي الله عنه- كان يرى أنَّ سُنَّة النبي ﷺ مُقدمة على قول كل أحد، ولهذا هذا هو النص الذي جاء في قول ابن عباس: "يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ! أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟". وقول أبي بكر وعمر، معاذ الله أن يكون اعتراضًا على سنة نبي الله ﷺ، فحاشاهما -رضي الله عنهما- وإنما كان رأيهما أنهما لم يكونا يحبان أن يخلو البيت من الناس في الحج والعمرة؛ لأنَّ الإنسان إذا جاء مُتمتعًا اعتمر عمرة كاملة وحل منها، ثم حج، قال: عهدي بالبيت السنة القادمة، فدخلوا مكة؛ ويتضرر أهلها، ولهذا من طعن في أبي بكر وعمر قيل له: يلزمك أن تطعن حتى في علي -رضي الله عنه- قال: كيف؟
نقول: إنَّ عليًا -رضي الله عنه- الذي كان يرى جواز المتعة، ويرى مشروعيتها كان يقول: "تمامهما في قول الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:196] أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ما معنى من دويرة أهلك؟
يعني: أن تحرم للحج إحرامًا يخصه، وتحرم للعمرة إحرامًا يخصها، فأراد عليٌّ -رضي الله عنه- أن تحيا مكة أيضًا؛ فقد كان هذا هو مذهب عمر -رضي الله عنه- لكن قول النبي ﷺ مُقدمٌ على قول كل أحد، ولهذا قال عمران -رضي الله عنه: "أُنْزِلَتْ آيَةُ المُتْعَةِ في كِتابِ اللَّهِ، فَفَعَلْناها مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَمْ يُنْزَلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ، ولَمْ يَنْهَ عَنْها حتَّى ماتَ، قالَ رَجُلٌ برَأْيِهِ ما شاءَ" يقصد عمر رضي الله عنه.
فإذًا الصحيح -والله أعلم- أنَّ المتعة ثابتة عن النبي ﷺ، ولهذا لَمَّا نقل بعض العلماء للإمام أحمد -رحمه الله- أخذ يجادله في المتعة، قال: "سبحان الله حديث أرويه عن النبي ﷺ من سبعة عشر وجهًا أتركه لقولك"، فإذا المتعة مما قد يقال فيه: إنه من المسائل المتواترة في سنة النبي ﷺ، وقد كان ابن عباس حامل لواء المتعة، بل إنه قد زاد في ذلك، وكان له مذهبًا غريبًا، كان ابن عباس يقول: من يحج البيت قارنًا بحج أو عمرة، يعني: من لم يفرد العمرة أو يفرد الحج، يعني: من حج البيت قارنًا، فإن كان ليس حاملاً للهدي معه، يعني: لم يستصحب الهدي؛ فإنه يُحلُّ وجوبًا من حين ما ينتهي من السعي.
وكان يقول: "من طاف وسعى بين الصفا والمروة فقد حلَّ" يعني: أنت متمتع رغما عنك، إلا إذا كنت قد سقت الهدي. كيف؟
قال الرجل: أنا ما أرى المتعة، طيب ما الذي ترى؟ قال: أنا أرى القرآن، طيب تفضل اقرن، فلمَّا طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، نقول له: الآن معك الهدي ولا لا؟ قال: لا، ما معي، قد أحللت، ابن عباس يقول: قد أحللت حُكمًا.
قال ابن القيم -رحمه الله: هذا القول هو الذي تدل عليه النصوص؛ فإنَّ النبي ﷺ قد أمر به أصحابه وما رخص لهم؛ قال: «حلوا كلكم فحلو»، فهذا هو قول ابن عباس- رضي الله عنه-.
إذًا التمتع ما هو؟ التمتع هو أن يحرم الإنسان بالعمرة والحج، يقول في التلبية ماذا؟ بعض الناس يقول: لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج، نقول: ما يشترط.
تقول: لبيك عمرة وحجًا، يصح، تقول: لبيك حجًا وعمرة، هذه كلها تسمى تمتعًا، وتخرج ولا تكون سائقًا للهدي معك، فتؤدي عمرتك كأنما تؤديها في غيرها، تطوف بالبيت سبعة أشواط، وتسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم تقصر، ثم تحل إحلالاً أكبر، يعني: تعود كما لم تكن قبل الإحرام، وتصنع كل شيء، فإذا جاء اليوم الثامن أحرمت بالحج من مكانك، فإن كنت في الفندق أحرمت منه، تحرم بالحج من مكانك، هذه هي المتعة بوجه عام التي جاءت عن رسول ﷺ، وهي التي أمر بها رسول الله ﷺ أصحابه.
قال: «وَسَأَلَتْهُ عَنْ الْهَدْيِ؟» إذا تمتعت فإن عليك هديًا، هذا الهدي زعم بعض العلماء أنه هدي جُبران، وقال: إنما شرع الهدي للترفه، بإسقاط أحد السفرين، قالوا هذا رأينا أنه مشروع في حق المتمتع وحق القارن؛ لأنَّ القارن متمتع أيضًا، قالوا: فدل على أنه إنما شُرع لأنه ترفه بإسقاط أحد السفرين كيف؟ قالوا كان يجب عليك سفرًا للحج وسفرًا للعمرة، فلما جمعتهما في سفر واحد؛ وجب عليك الهدي، ولهذا قالوا: لو أنَّ إنسانًا أحرم بعمرة متمتعًا بها إلى الحج، ثم خرج إلى مسافة قصر أو إلى ما جاوز المواقيت أو رجع إلى بلده ثم عاد في مكانه هذا أو في عامه هذا؛ فإنه يسقط عنه الهدي، لماذا؟ لأنه لم يتمتع ولم تترفه بإسقاط أحد السفرين، فيقال: إن هذا المعنى يحتاج إلى نص ثابت عن النبي ﷺ، وليس هنا نص، بل قد يقال: إن هذا زيادة كرامة؛ لأنَّ هذا الهدي الذي يهديه ليس هديا ممقوتًا، ومما يدل عليه أنَّ هذا الهدي مما يؤكل، أي: مما يشرع فيه الأكل، فليس كهدي الجبران والفدية، الذي لا يشرع فيه الأكل وإنما تصدق فيه، فدل على أنَّ هذا الهدي ممدوح ومحبوب إلى الله -عز وجل-، فهذا هو الظاهر في مثل هذه المسألة.
قال: (وَسَأَلَتْهُ عَنْ الْهَدْيِ؟) يعني: هل يجب فيها؟ (فَقَالَ: فِيهِ جَزُورٌ) يعني: تتصدق أو تهدي بعيرا كاملا، (جَزُورًا، أَوْ بَقَرَةً، أَوْ شَاةً، أَوْ شِرْكًا فِي دَمٍ)، يعني: أن يشترك سبعة في بقرة أو بدنة، حيث يجوز الاشتراك في البدنة أو البقرة، وأمَّا الغنم فلا، فالغنم إنما هو عن نفس واحدة.
قال: (وَكَانَ نَاسٌ كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ. فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ: كَأَنَّ إنْسَاناً يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ)، ففرح بها، واستيقظ وأخبر بها ابن عباس، ففرح بها وقال: اسمع. ما تحفظ حديث وفد عبد القيس، الذي يرويه أبو جمرة، قال ابن عباس -رضي الله عنه: "كنت أترجم بين ابن عباس وبين الوفود كيف يترجم، وكلهم عرب؟
يترجم بسبب أن بعض الوفود كانت لغتهم لا تفهمها قريش، فكان هو يخبرهم بلغة هؤلاء القوم، أي: بلهجتهم.
قال: أقم عندي يا أبا جمرة أجعل لك سهمًا من مالي، ابن عباس بجلالة قدره، يطلب من هذا الرجل أن يقيم عنده. لماذا؟ لأجل هذه الرؤيا، حتى إذا جاءت الوفود أقول لهم: يا أبا جمرة، الذي أفتيتك به قص عليهم القصة؟ وتقول: إني أتيتك فسألتك عن المتعة فأمرتني بها، وسألتك عن الهدي فقلت كذا، فنمت فرأيتك في المنام قائلا: (حج مبرور ومتعة متقبلة)، فكان كل ما جاء وفد؛ نقل إليهم أبو جمرة هذه الرؤيا، ففرح بها ابن عباس -رضي الله عنه- هذا الفرح، قال: (فَحَدَّثَتْهُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ) فيه دلالة على أنَّ الرؤيا قد يُستأنس بها إذا وقعت موافقة للشرع، تقع موافقة للشرع الحمد لله، فالحمد لله مزيد يقين ومزيد ثبات، وأما إذا ما وقعت مخالفة للشرع؛ فإنه لا عبرة بها.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الْحُلَيْفَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ. وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ. وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ»)}.
هذا حديث ابن عمر -رضي الله عنه- وهو حديث عظيم القدر، وهو من أوفى الأحاديث التي فيها بيان حُجة النبي ﷺ، وليس أوفى منه إلا حديث جابر -رضي الله عنه- وفيه قوله: (تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى) مع أنه قد تقرر عند العلماء -رحمهم الله- كما قال الإمام أحمد: لا أشك أن النبي ﷺ حج قارنًا، وكل من عقل عن النبي ﷺ وجمع نصوص، دل على أن النبي ﷺ قد حج قارنًا، ولم يحج متمتعًا، ومما يدل عليه أنَّ النبي ﷺ لَمَّا قالت له حفصة: " ما شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا ولَمْ تَحْلِلْ أنْتَ؟"، قال: «إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وقَلَّدْتُ هَدْيِي، فلا أحِلُّ حتَّى أحِلَّ مِنَ الحَجِّ»[6]، فدل على أنه كان ﷺ كان قارنًا.
إذًا من أين جاء لفظ المتعة؟
نقول: هذا مما يدخل على كثير من الناس، من حمل الاصطلاحات المتأخرة، على الاصطلاحات المتقدمة، حملوا الاصطلاحات المتأخرة في التفريق بين القرآن والمتمتع على عرف الصحابة، وعرف الصحابة أن المتعة لفظ عام، يطلق على المتمتع وعلى القارن، بل إنهم أصلا ما كانوا يعرفون المتعة، هم حجوا مع النبي ﷺ، وكانوا كلهم قارنون مع النبي ﷺ، كل من حج مع النبي ﷺ إنما حج معه قارنًا، ولم يحج متمتعًا. لماذا؟ لأنه لَمَّا أمرهم بالإحلال ثقل عليهم، كيف نحل ما كانوا يعرفونه، كيف يثقل عليهم؟ وهو نسك معروف عندهم، بل ما كان معروفا عندهم، لأنَّ هذا النسك كان نسكًا جديدًا عندهم، ألم نقل قبل أن العمرة في أشهر الحج كانت من أعظم الفجور في الأرض! أليس كذلك؟ فإذا تمتعوا المتعة المعروفة عندنا أصبحت عمرة مكتملة، وهذه لا يعرفونها، فإذًا قوله: تمتع بمعنى أنه قرن، ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة:196]، هذه واردة أصلا في المقام الأول على القارن، واردة في المقام الأول عن القرآن؛ لأنه متمتع بالعمرة إلى الحج، إذا قال: (تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ) وقوله: (وَأَهْدَى) هذه أيضًا حكم آخر، وهو أنَّ النبي ﷺ ساق معه الهدي، وهذه من السنن المهجورة، لأنَّه ما في أحد يسوق الهدي الآن إلا نادرًا، يقال لأهل نجد أو لأهل المدينة أو غيرهما: سق الهدي معك، سق الهدي ما المانع، وليس من شرط سوق الهدي أن يكون مجاورًا لك؛ يا أخي أنت تعلم الناس من أصحاب الحلال يبيع حلاله في مكة أيام العيد، ونسمع أنا أشتري منك الآن. أنا أشتري منك أضحيتي. وخذها معك، هذا سوق للهدي، أو لم يبعث النبي ﷺ بهديه مع أبي بكر في حجة أبي بكر، مع دلالة على أنه يُشرع الإهداء إلى الحرم حتى في غير النسك، ولهذا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ . ما الهدي؟ الهدي لا يساق للبيت، والقلائد المقلدة كانت العرب تعظمها، حتى إنَّ النبي ﷺ في قصة الحديبية لَمَّا جاءه الرجل من بني كنانة، قال النبي ﷺ: «هذا فُلَانٌ، وهو مِن قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ، فَابْعَثُوهَا له فَبُعِثَتْ له»[7] وهو كافر مشرك، جاء وافدًا عن قريش، فلما رآها قال: أرى البدن والله ما أرى أن هؤلاء يصدون عن البيت، بُدن مقلدة تصدهم عن بيت الله -عز وجل-، فإذًا هذه من أعظم شعائر دين الله -عز وجل-.
(فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) ساق ﷺ معه ثلاثة وستون، وقدم على -رضي الله عنه- بسبعة وثلاثين، فاكتمل هديه ﷺ مائة، ما في إسراف، يؤكل؟ ما في إسراف، استكثر من الهدي.
قال: (وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) يعني -والله أعلم- أنه ﷺ قال: "لبيك عمرة وحجًا، لبيك عمرة وحجة" يعني: قدم العمرة على الحج.
قال: (فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى) تمتع ما معناها؟ معناها أنه قرنه.
قال: (فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذي الْحُلَيْفَةِ) منهم: أبو بكر وعمر وأثرياء الصحابة، الزبير وعلي -رضي الله عنهم- كل هؤلاء، لكن علي ما قدم من ذي الحليفة، وإنما قدم من اليمن، لكن هؤلاء كلهم قد ساقوا الهدي.
قال: (فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الْحُلَيْفَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ) ليس عنده شيء يهديه، وكان منهم كل نساء النبي ﷺ ما كان عندهم هدى.
قال: (فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ) قدم ماذا؟ قدم مكة، وقالها ﷺ بعد أن فرغ من الطواف والسعي، قال للناس: («مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ») متى تقضي حجك؟ تقضي حجك بنحر بدنك، هذا هو قضاء الحج، فإذا لا تحل من شيء حرمت منه، حتى ترمي وتنحر.
قال: (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ) ما هي الحاجة لهذا الحكم، إذًا كانوا هم يعرفون أنهم متمتعون، وأنهم سيحلون؟ لأنهم ما كانوا يعلمون، كلهم الآن إنما هم قارنون ولم يكونوا متمتعين، فأمرهم النبي ﷺ بأن ينتقلوا إلى هذ النسك الجديد.
(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ). قال تقصير لماذا؟ لأنه يشرع للمتمتع أن يقصر، ولا أن يحلق؟ يقصر حتى يوفي شعره المتبقي لحلق الحج.
قال: (ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ) يعني: ويهل بالحج في اليوم الثامن. (وَلْيُهْدِ) يعني: الآن هو متمتع، أي: عليه الهدي.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) ثلاثة أيام في الحج، يُشرع عند العلماء -رحمهم الله- أن يكون آخرها يوم عرفة؛ السابع والثامن والتاسع. قالوا: لأن هذه إذا صامها في الحج بلا نزاع، فإن عجز فقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «لَمْ يُرَخَّصْ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ أنْ يُصَمْنَ، إلَّا لِمَن لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ»[8]؛ فيصوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وسبعة إذا رجع إلى أهله على السعة.
قال: (فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ. وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةً) مضى الحديث السابق، تذكرونه قبل حديثين أو ثلاثة أحاديث، قال: (وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين) هذه هي السنة، وأيضا من السنن الواردة عن النبي ﷺ إذا فرغ من الطواف أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم، من حديث جابر -رضي الله عنه- «أنَّ النبي ﷺ قرأ فيهما بسورتي: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد» حتى ما يضيق على الناس، ثم ينصرف.
قال: (ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَ) في عند مسلم أن النبي ﷺ لَمَّا فرغ من هاتين الركعتين، رجع فاستلم الحجر مرة أخرى، ثم ذهب إلى الصفحة، قال: (فَأَتَى الصَّفَا، وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ) هذا دلالة على أنَّ الطواف بالصفا والمروة يسمى طوافًا، وهذا ينبغي أن يتنبه له؛ لأنه قد يرد أحيانا طاف بين الصفا والمروة، فيفهم بعض الناس أنه خطأ، يقول: كيف طاف وإنما هو سعي، طبعا هذه كلها أعراف تعارفنا عليها الآن، وإلا كان عند السلف يسمى طوافا؛ لأنه ذهاب وإياب، هذا يسمى طواف، ذهابه مرة وإيابه مرة، فيبتدأ بالصفا وينتهي عند المروة.
قال: (وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ) هذا هو الفرق الآن بين المتمتع والقارن، المتمتع لَمَّا طاف وسعى فرغ وأحل، وأمَّا القارن فإنه لم يزل في حجه، حتى يحل، طيب ما هو الأفضل، القرآن أو التمتع؟
نقول: أمَّا من ساق الهدي معه؛ فإن في حقه القرآن؛ لأنه هو الواجب عليه، وإمَّا أن يحج مفردا أو يحج قارنا، ما في شي ثان، ولا يجوز لك التمتع ما دام أنك قد سقت الهدي.
وأمَّا من لم يسق الهدي معه؛ فإنَّ الأفضل فيه هو التمتع، والنبي ﷺ ما كان يأمر أصحابه بترك الأفضل، إلى يذهبون معهم وهو لم وهم نبي يسوقون الهدي مقارنين ثم يأمرهم النبي ﷺ بأن يفسخوا حجهم هذا إلى عمرة، ما يمكن النبي ﷺ يعمله إلا لأنه يرى، ولهذا قال: «لوِ استَقبلتُ مِن أمري ما استَدبرتُ لفعلتُ كما فعلتُمْ، ولَكِنِّي سقتُ الهديَ، وقرَنتُ»[9].
قال: (فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ) يعني: كل من كان من الصحابة -رضي الله عنهم- قد ساق الهدي؛ فإنه لم يحل حتى حل يوم النحر، ومنهم الزبير -رضي الله عنه- حصلت له قصة طريفة ذكرها مسلم -رحمه الله- في صحيحه، وهو أنه كان ممن ساق الهدي فما أحل، وأمَّا زوجه أسماء فإنها لم تسق الهدي مثل حال نساء النبي ﷺ، فأحلت، قالت: فلبثت ثيابي وتزينت وأقبلت إلى الزبير، فقال: ابتعدي عني ابتعدي عني، فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟ يعني: لا تخشى مني. وقد ثبت أيضًا أنَ عليًا -رضي الله عنه- لَمَّا قدم من اليمن فقال له النبي ﷺ: «بما تهللت؟» قال بإحرام كإحرام رسول الله ﷺ، فقال: «هل سقت الهدي؟» قال: نعم. قال: «فابقى على إحرامك» فذهب فوجد فاطمة مثل: حال نساء النبي ﷺ قد تحلت ولبست ثياب، صبيغًا واكتحلت، فقال لها: من أمرك؟ قالت: إن أبي أمرني بذلك، قال: فانطلق محرشًا إلى النبي ﷺ قال: يا رسول الله أما تدري الذي صنعت فاطمة؟ قال النبي ﷺ: «صدقت، أنا أمرتها بذلك». وأمَّا أبو موسى فقد أهل بما أهل به النبي ﷺ؛ لأنه قدم مع علي، لكنه ما ساق العلي، فقال له النبي ﷺ: «هَلْ سُقْتَ الهدي؟» قال: لا. قال: «فَأَهل»، فأمره النبي ﷺ بالإهلال.
فهذا هو بيان النسك بوجه عام، ونسك التمتع وبيان أنه من السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ، التي أمر بها أصحابه -رضوان الله عز وجل عليهم-.
{أحسن الله إليكم.
(عن حفصة -رضي الله عنها- زوج النبي ﷺ أنها قالت: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا ولَمْ تَحْلِلْ أنْتَ؟ قالَ: «إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وقَلَّدْتُ هَدْيِي، فلا أحِلُّ حتَّى أحِلَّ مِنَ الحَجِّ»)}.
هذا الحديث هو كالإكمال لحديث ابن عمر -رضي الله عنه- وفيه أنَّ حفصة لَمَّا أحلت سألت النبي ﷺ: ما شأنك لم تحل؟ فقال: «إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِيِ» والتليد هو جمع الرأس، ووضع صمغ أو نحو ذلك حتى لا يتشعث، ولا يجتمع فيه القمل ونحو ذلك.
قال: «وقَلَّدْتُ هَدْيِي، فلا أحِلُّ حتَّى أحِلَّ مِنَ الحَجِّ»، فدل على أنَّ من ساق معه الهدى لم يحل حتى ينحر هديه.
لعلنا نكتفي بذلك إن شاء الله.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وفتح الله لكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن مشاهدتكم واستماعكم، نلتقي بكم -بإذن الله- في لقاءات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------------
[1] رواه البخاري (1601)، ومسلم (1331).
[2] رواه البخاري (4063).
[3] رواه البخاري (1609).
[4] رواه البخاري.
[5] أخرجه البخاري (1586)، ومسلم (1333).
[6] رواه البخاري (1697).
[7] رواه البخاري (2731).
[8] رواه البخاري: (1997).
[9] أخرجه أبو داود (1797) النسائي (2725) واللفظ له.