{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على أشرف الأنبياء، وإمام المرسلين، حياكم الله وبياكم، مرحبًا بطلاب العلم، نرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخ إبراهيم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{بارك الله فيكم، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند حديث عمران بن حصين}.
نكمل بسم الله.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهَا، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ. قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ». قَالَ الْبُخَارِيُّ: "يُقَالُ: إنَّهُ عُمَرُ".
وَلِمُسْلِمٍ: «نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ -يَعْنِي: مُتْعَةَ الْحَجِّ- وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى مَاتَ» وَلَهُمَا بِمَعْنَاهُ)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فما زال المصنف -رحمه الله- يسوق الأحاديث الدالة على تقرير حكم المتعة، وأعني بها: متعة الحج، وأنها لم تُنسخ من رسول الله ﷺ، وقد ساق فيها حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- وهو حديث جليل، قال فيه: («أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى»)، وهو قول الله -عز وجل-: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ ، قال: («فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ») يعني: أنه استدل على المتعة بثلاثة أدلة، هي أصول الاستدلال:
الدليل الأول: الكتاب، والدليل الثاني: السنة، والدليل الثالث: الإجماع، فأمَّا الإجماع فإنه قال: («فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ») يعني: فعلها صحابة النبي ﷺ، وفيه دلالة على أنَّ عمران بن حصين كان ممن أُمِرَ بفسخ الحج إلى العمرة.
قال: («وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهَ») أي: لم تنسخ بالقرآن، «وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَ» أي: لم ينه عنها رسول الله ﷺ، («حَتَّى مَاتَ»).
وقوله: («قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ») يريد بذلك عمر -رضي الله عنه-، وهذا مما يدل على أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- قد كانوا يختلفون في المسائل، ويرد بعضهم على بعض، فإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ ما سواها من أصول الدين من باب أولى، فلو كان ثم أمر اختص بعلي -رضي الله عنه- قد منع منه، أو حيل بينه وبينه، لَمَا سكت عنه علي -رضي الله عنه- ولا أنكر، إذا كان عمران -رضي الله عنه- وهو لا يبلغ مقدار علي -رضي الله عنه- قد أنكر على عمر -رضي الله عنه- فإنَّ من سوى عمران -رضي الله عنه- من باب أولى، وعلي -رضي الله عنه- كان أولى بالإنكار، ولهذا فعلها علي -رضي الله عنه-، فإنه قد جاء في صحيح الإمام البخاري، أنَّ عثمان وعليًا -رضي الله عنهما- اختلفا في المتعة، فكان علي يأمر بها، وكان عثمان ينهى عنها، قال: فأهلَّ علي -رضي الله عنه- بالمتعة، وقال: "ألا أُراك تنهى عن أمر أَمرَ به النبي ﷺ!".
فإذًا كان الأمر بين الصحابة -رضي الله عنهم- واسعًا، وإنما نهى عنها عمر -رضي الله عنه- فيما سبق وقررناه، من أنه كان يريد -سياسة شرعية منه- يريد أن لا تخلو الكعبة ممن يزورها ويعتادها في كل عام.
قوله: (وَلِمُسْلِمٍ «نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ، يَعْنِي: مُتْعَةَ الْحَجِّ، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى مَاتَ») فيه دلالة أيضًا على مشروعية فسخ الحج إلى العمرة، وهذا قول الإمام أحمد، وهو قول من الأفراد التي تفرد بها عن جمهور العلماء، أعني بها: أصحاب المذاهب الثلاثة، فسخ الحج إلى العمرة، أن يحرم بالحج مُقترنًا بالعمرة، ثم يفسخ الحج، ويجعلها مقتصرة على العمرة، فإذا فرغ من العمرة أكمل حجه، هذا جائز.
وقد فعله النبي ﷺ وأمر به أصحابه -رضي الله عنهم- ولا يصح أن ينهى عنه.
{قال -رحمه الله: (بابُ الهَدْي.
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: «فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ أَشْعَرْتُهَا وَقَلَّدَهَا أَوْ قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ. وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِل»)}.
الهدي: هو ما يُهدى للحرم من بهيمة الأنعام، وبهيمة الأنعام هي: الغنم والإبل والبقر، هذه هي التي تهدى إلى البيت، وما سواها لا يهدى إلى البيت، والهدي بوجه عام على نوعين: هدي واجب، وهدي مُستحب، فأمَّا الهدي الواجب فهو هدي المتعة والقرآن، هذا هدي واجب، المتمتع والقارن يجب عليهما الهدي، وأمَّا الهدي المستحب؛ فإنه ما يهديه الإنسان، سواء كان محرمًا أو غير محرم إلى البيت، ويجوز للإنسان أن يُهدي إلى الحرم حتى وهو في بيته، وفيه حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: («فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ أَشْعَرْتُهَا وَقَلَّدَهَا أَوْ قَلَّدْتُهَ» )، والقلائد خيط تقلد به الناقة تقلدًا، يعني: توضع كالقلادة عليها، تعلق عليه النعل أو نحو ذلك، حتى تعرف هذه الناقة أنها مُهداة إلى بيت الله -عز وجل- كعلامة، أو إشعار.
(«فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ») فيه دلالة أنه يشرك أهل البيت في هذا العمل، ولَمَّا كان الهدي من النبي ﷺ أحب ﷺ أن لا يُخلي أهله من الأجر، حتى لو كان أجرُ فتل القلائد، ففتلتها عائشة -رضي الله عنها- وقد جاء أنَّ النبي ﷺ أهداها غنمًا، وليست إبلاً هذه المرة، قال: أهدى رسول الله ﷺ مرة غنمًا، كما في حديث عائشة الذي سيأتي بعد قليل.
ها هنا قال: («ثُمَّ أَشْعَرْتُهَ») الإشعار هو الشق في السنم، وهذا لا يكون إلا للإبل، يعني: الغنم لا تشعر، والبقر على الصحيح من أقوال أهل العلم لا تشعر، قالوا: يشق السنام شقًا خفيفًا حتى ينزل منه دم يسير بما لا يؤذيه، فيكون علامة على أنه هدي.
قال: («وَقَلَّدَهَا أَوْ قَلَّدْتُهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِل») بعث بها مع من؟
مع الصديق -رضي الله عنه- في السنة التاسعة، فنحرها الصديق -رضي الله عنه- لَمَّا نَحَرَ بُدنه في اليوم العاشر، («وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِل») يعني: كل شيء كان يفعله كما يفعل المحل، وهذا لا يعني أنك إذا أهديت شيئًا للبيت أنك تصنع ما يصنعه الحاج؛ لأن بعض الناس يقول: إذا أهديت فامكث حتى تنحر الهدي، فإذا نُحِرَتْ أحلل، نقول: لا.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرَّةً غَنَم»)}.
هذا هو الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، وهو أن النبي ﷺ أهداها مع الصديق، والظاهر -والله أعلم- أنه بعث مع الصديق النوعين جميعًا، بعث معه شيئًا من الغنم وشيئًا من الإبل، إلى بيت الله -عز وجل-، ويجوز للإنسان أن يهدي ما شاء، سواء كانت غنمًا أو إبلا.
ونقول: الأفضل في الهدي إنما هو الإبل؛ لأنها من أعظم ما يكون من تعظيم الشعائر، وهذا بخلاف الأضحية، فالأفضل في الأضحية الغنم، وأمَّا الهدي فالأفضل فيه بلا شك عند جماهير العلماء -وهو قول جماهير الصحابة- أنه هو البدنة.
{من فروقات البدنة أنه يكون فيها الاشتراك}.
بلا شك فأنت إذا أهديت بدنة واحدة، كأنما أهديت سبعًا من الغنم، فهذا مما يدل على عظم الهدي إلى البيت.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: «ارْكَبْهَ». قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: «ارْكَبْهَ». فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا، يُسَايِرُ النَّبِيَّ ﷺ.
وَفِي لَفْظٍ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ الثَّالِثَةِ: «ارْكَبْهَا. وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ»)}.
هذا الحديث بَيَّنَ فيه النبي ﷺ شيئًا من معاني الهدي أو العمل مع البدن، والأصل في الهدي إذا ساقه الإنسان أنه يجوز له أن يركبه، وقد كانوا في الجاهلية يتورعون عن ذلك، فرخص لهم النبي ﷺ أنه يجوز له أن يركبها غير مُضرٍ بها إذا احتاج إليها، هذا الرجل كان يمشي ويسايرها، ما عنده راحلة، فأمره النبي ﷺ أن يركبها، فقال: («ارْكَبْهَ»)، فقال: (إنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: «ارْكَبْهَ») يعني: أعلم أنها بدنة، إذا ما الذي ينهى عنه في البدن؟
إذا مشيت بها في الطريق، وخشيت موتها، فيجوز لك أن تنحرها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك، وإنما تدعها للناس، يتصدق بلحمها. لماذا؟
حتى لا تكون وسيلة إلى أن تعطب الإبل وتضعفها حتى تصل بها إلى نحرها وإطعام رفقتك منها، فأمر النبي ﷺ أن تنحر، ويُضرب سنامها بشيء من دمها، ولا تأكل منها أنت ولا رفقتك، وهذا إذًا من معاني الهدي، أنك لا تأكل منها شيئًا منها إذا ماتت في الطريق، يعني: إن نحرتها قبل محلها، فإن نحرتها في محلها فالسنة أن تأكل منها، كما جاء عن النبي ﷺ أنه مائة من الإبل ثم أمر من كل شيء منها ببضعة، ثم وضعت في قدر، فطعم منها النبي ﷺ وشرب من مرقها، وهذا غاية ما يكون في ماذا؟ في الأكل منها؛ لأنَّ الله -عز وجل- قد قال: ﴿فَكُلُوا مِنْهَ﴾ فأمر بالأكل، لكن لماذا أنت لا تأكل منها في الحالة الأولى؛ لأنها لم تبلغ محلها.
في الحالة الأولى لَمَّا نُحِرَت قبل اليوم العاشر ما تحل لك، وبالتالي لا تأكل منها، ولا يأكل منها أحد من أهل رفقتك، وأمَّا البقية من المسلمين فيأكلون، حتى ولو كان مُحرمًا.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئً».
وَقَالَ: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَ»)}.
هذه أيضا من الأحكام المتعلقة بالبدن، وهو أنه ما يجوز للإنسان أن يُعطي منها شيئًا في جزارتها، والأصل في هذه البدن بوجه عام المسوقة إلى البيت أنها لله -عز وجل- فإذا كانت لله -عز وجل- فلا تستعض بشيء منها مالا، كيف؟ قال: أنا أهديت مائة بعير، فسأبيع جلودها، نقول: لا يجوز، لأنك تصدقت بها كاملة، تصدقت بلحمها وجلودها، بل أكثر من ذلك أنهم كانوا يُجللون الإبل، كيف يجللها؟
تعرفون جلال الصلاة، النساء تسمي الشيء الذي تلفه الآن عليها وتصليه عليه تسميه إجلالاً؛ لأنها تتجلل به، يعني: يغطيها. فكانوا يأتون بهذه الجلال فيضعونها على الإبل ثم يشقونها من جهة السنام، فإذا شقها من جهة السنام أصبح السنام كأنما هو مثبت لها، وغطيت الإبل، ولم يصبح باديًا منها إلا سنامها، فيكون هذا إشعارًا على أنها هدي، الهدي الآن فيه أمور:
الأمر الأول: أنه يشق السنام، وهو ما يسمى الإشعار.
الأمر الثاني: أنه يُجلل.
الأمر الثالث: أنه يقلد.
وأحيانا يضعون هذه الجلال حتى تقيها أحيانا من شدة الحر ونحو ذلك، وقد أمر النبي ﷺ بأن يتصدق بهذه الجلال كلها. لماذا؟
لأنها من ضمن ما يُتَصدق به، فيتصدق بها.
قال: («وَأَنْ لا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئً») بعض الناس إذا جاء يوم الأضحى، يؤجر الجزار بجزء من الذبيحة، ويقول له: تعال اذبح وأعطيك الربع مثلاً، فنقول: هذا لا يجوز، لكونها لله، وبالتالي لابد أن يكون أجر الجزار منفصلا، بمائة ريال أو خمسين ريال، أو أقل أو أكثر، وإن أردت أت تعطيه بعد ذلك صدقة أو هدية من نفس الذبيحة، فجزاك الله خيرا، ولا بأس في ذلك، ولكن له لا تعطيه في جزارتها، أي: لا تعطيه منها كأجرة، هذا هو النهي.
وقال: («نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَ») يعني: نحن نعطيه المال.
{قال -رحمه الله: (عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ، فَنَحَرَهَا. فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ)}.
في هذا الحديث بوجه عام مشروعية نحر الابن الإبل قائمة، ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَ﴾ الصواف هي القائمة على ثلاثة قوائم.
فإذًا يشرع أن تُثنى رجلها، وتنحر وهي قيام مُقيدة، فرأى رجلا قد أناخ بدنتها وينحرها، فقال: (ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ).
{قال -رحمه الله: (بابُ الغُسْلِ للمُحْرِمِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا يَغْسِلُ رَأْسَهُ. قَالَ: فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ. فَسَلَّمْت عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ، حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ. ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ: اُصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ ﷺ يَغْتَسِلُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: "فَقَالَ الْمِسْوَرُ لابْنِ عَبَّاسٍ: لا أُمَارِيكَ أَبَداً".
القرنانِ: العمودان اللذان تُشَدُّ فيهما الخشبة التي تُعَلَّقُ عليها بكرةُ البئرِ)}.
قال المصنف -رحمه الله: (بابُ الغُسْلِ للمُحْرِمِ)، والغسل المحرم بوجه عام على نوعين، الغسل للإحرام، وهذا لا خلاف بين العلماء -رحمهم الله- في استحبابه، وقد ثبت أن النبي ﷺ لَمَّا كان اليوم الذي أحرم فيه أصبح مغتسلاً ﷺ، فإنه طاف على نسائه واغتسل، ثم أصبح محرمًا، وقد قال النبي ﷺ لأسماء بنت عميس وهي نفساء: «مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ»؛ فَدَلَّ ذلك بوجه عام على مشروعية الاغتسال للمحرم، وهذا مما حُكِيَ فيه الإجماع عند العلماء -رحمهم الله- على مشروعيته واستحبابه.
هذا فيما يتعلق بالغسل للمحرم، أمَّا الغسل بعد الإحرام، فهذا مما وقع فيه خلاف قديم بين السلف، فقد كان من السلف من ينهى عن الغسل للمحرم، ويرى أنه نوع ترفه، ومن هؤلاء المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- فإنه قد كان ينهى عنه أولا، حتى بَيَّنَ له ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قد رَخَّصَ فيه، يقول ها هنا في الحديث: إِنَّ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ)، والأبواء مكان بين مكة والمدينة، يسمى الآن: مَستورة.
(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا يَغْسِلُ رَأْسَهُ. قَالَ: فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْ) البئر لها عمودان، هذان اللذان يمسكان العمود الذي عليه البكرة، هذان يسمان القرنان؛ لأنهما كأنهما قرنا البئر.
قال: (وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟) هذه في الحقيقة من لطائف المسائل، ابن عباس ما أرسل كيف يغسل، وإنما أرسله يسأله هل كان يغتسل أو لا؟
فلما وصل إلى أبي أيوب ورآه يغتسل؛ رأى أنه من الحمق أن يسأله، هل كان يغتسل المحرم أو لا يغتسل؟
كيف تراني الآن اغتسل ثم تسألني، فغير السؤال بطريقة جيدة، وسأله كيف كان يغسل النبي ﷺ رأسه؟ (فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ، حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ. ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ: اُصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ. ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ ﷺ يَغْتَسِلُ) يعني: أنه يغسل رأسه غسلا بليغًا؛ لأنَّ البعض قال: يُخشى أن يسقط منه بعض الشعر، فنقول: هذا الشعر الذي يسقط لا عبرة به، ولا يعد من قص الشعر أو من الأخذ من الشعر الذي نهى عنه الشارع، وهذا أمر بسيط ويسير، كما لو أن الإنسان حصل فيه شيء يسير في أظافره فأزاله، فلا يعد مُزيلا لأظافره.
لو أنَّ الإنسان خرج مثلا في عينيه بعض الشعرات الناتئة فأزالها، فلا يعد قد أخذ شيئًا من شعره، فالأمر في ذلك -إن شاء الله عز وجل- واسع، ودل ذلك بوجه عام على مشروعية غسل المحرم.
وقد ثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يتقامسون في الماء، ما معنى التقامس؟ قال ابن عباس: قال لي ابن عمر يومًا: تعال أقامسك ونحن محرمون.
ما معنى أقامسك؟ يعني: تدخل رأسك وأدخل رأسي في الماء، والفائز هو آخر واحد يخرج رأسه، وهذا نوع من المسابقات عندهم تسمى تقامس، وهي تشمل غسل الرأس، فدل ذلك بوجه عام على أنه يجوز للمحرم، بل يُشرع للمحرم أن يغسل رأسه؛ لأن هذا من إزالة الوسخ أو إزالة الأشياء المستكرهة، لأن الإحرام قد يطول بالإنسان أحيانا مما يؤدي إلى تغير رائحته ونحو ذلك.
قال: (وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ الْمِسْوَرُ لابْنِ عَبَّاسٍ: لا أُمَارِيكَ أَبَد) يعني: أَقَرَّ المسور لابن عباس بأنه أعلم منه، مع أنَّ ابن عباس كان أصغر من المسور، لكن بلا شك أنَّ ابن عباس -رضي الله عنه- أعلم من المسور بن مخرمة -رضي الله عنه.
{قال -رحمه الله: (بابُ فَسْخِ الحجِّ إِلى العُمْرَةِ.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ ﷺ وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيُّ -رضي الله عنه- مِنْ الْيَمَنِ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَأَمَرِ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ: أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا، إلَاّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إلَى مِنىً، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ».
وَحَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ، فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ: أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ)}.
هذا حديث جابر -رضي الله عنه- وإذا قيل جابر والحج، فجابر أعلم الصحابة بحج النبي ﷺ، وهو المرجع في حج النبي ﷺ، وهو أحسن من ساق حجة النبي ﷺ في الحديث الطويل الذي أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله- من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر -رضي الله عنه-.
قال المصنف: (بابُ فَسْخِ الحجِّ إِلى العُمْرَةِ) هذه المسألة هي المسألة الخلافية التي وقع فيها النزاع بين الإمام أحمد والأئمة الثلاثة، حكم فسخ الحج إلى العمرة، يعني: أن تهل بالحج قارنًا أو مُتمتعًا أو مُفردًا، ثم تفسخه إلى العمرة، بحيث أنك تحج بعد أن تفرغ من عمرتك، وتتحول من كونك قارنًا إلى كونك مُتمتعًا.
هذه المسألة ما حكمها؟ الأئمة الثلاثة يقولون: لا يجوز، يقولون: يجوز لك ابتداء أن تحج مُتمتعا. ما يخالفون في هذا، ولكن تحج قارنًا ثم تفسخ، فلا.
{طيب لو كان يشترط أنه يفسخ؟}
يقولون: ما في اشتراط ها هنا، هذه مسألة محسومة عندهم، يقولون: ما يشرع فسخ الحج إلى العمرة. لماذا؟ لأنك تفسخ شيء أكبر إلى شيء أصغر، ولا يكون هذا.
هل يعترض عليهم بفعل النبي ﷺ؟
قالوا: هذا خاص بالنبي ﷺ. من أين أتيتم بالخصوصية؟
قالوا: أبو ذر –رضي الله عنه- قال: "شيئان خاصان لأصحاب النبي ﷺ، متعة الحج، ومتعة النساء". نقول: لا، بلا شك أنَّ النبي ﷺ سئل عن هذا الأمر، "لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟" قال ﷺ: «للناس عَامَّة» هذا نص قاطع، وقول أبي ذر -رضي الله عنه- إنما هو اجتهاد منه.
فإذًا على الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه يشرع فسخ الحج إلى العمرة، وقد بلغت الأحاديث في حد التواتر، ولهذا لَمَّا أنكر بعض العلماء على الإمام أحمد -رحمه الله- قال: "أأدع سبعة عشر حديثًا قد رويت عن النبي ﷺ إلى قولك!" وذلك لَمَّا قال له بعض الرواة: يا أبا عبد الله، كل أمرك سديد إلا أنك تقول: بفسخ الحج إلى العمرة.
قال: قد كنت أظنك عاقلاً فبان لي أنك أحمق، أأدع سبعة عشر حديثًا رويت عن النبي ﷺ إلى قولك! فما يجوز للإنسان أن يترك سنة النبي ﷺ إذا استبانت لقول أحد من الناس كائنًا من كان، وهذا في الحقيقة مما يدل على اتزان أهل السنة والجماعة، واتباع السلف الصالح -رضوان الله عز وجل عليهم- أنهم لا يتهيبون حتى مخالفة عمر -رضي الله عنه-، إذا كانت السنة في الجانب الآخر، فجانب السنة مُقدم على كل من سواها، نعتذر لهم ونترضى عنهم، ونظن بهم الظن الحسن، لكن ما نتابعهم في هذه المسألة، ونقدم قول رسول الله ﷺ على قول غيره.
قال ها هنا: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: «أَهَلَّ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ ﷺ وَطَلْحَةَ») وأَهَلَّ بالحج يعني: إما قارنًا أو مُفردًا، ما كان عندهم شيء اسمه "تمتع" بالمعنى المعروف عند المتأخرين.
قال: (وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ ﷺ وَطَلْحَةَ) ذكرنا أنَّ من كان معه الهدي كان أبو بكر الصديق وعمر، واليسير من الصحابة كالزبير وغيرهم، لكن الظاهر -والله أعلم- أنَّ جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- إنما قال بحسب ما يعرف، وقد كان الظاهر -والله أعلم- أنه إنما قال ذلك لأن طلحة -رضي الله عنه- قد كان قريبًا للأنصار مداخلاً لهم.
المهاجرون كان عندهم اشتغال بأموالهم وتجاراتهم، وما كان لهم مداخلة كبيرة بالأنصار، ومما يدل عليه أنَّ كعب بن مالك -رضي الله عنه- لَمَّا تاب الله -عز وجل- عليه ماذا قال؟ يقول فلما أتيت المسجد قام إليَّ الناس يهنئونني، ولم يقم لي أحد من المهاجرين إلا طلحة بن عبيد الله، وقالك والله لا أنساها لطلحة أبد الدهر، وكان طلحة قريبًا من الأنصار -رضي الله عنهم، وكان يستعمل بعضًا منهم، يعني كان طلحة -رضي الله عنه- يستعمل سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أحيانًا على خيله حتى يرعاها؛ لأنه كان من كبار أثريا الصحابة -رضي الله عنهم-.
فإذًا الظاهر -والله أعلم- أن جابرا ظن ذلك لكن ثبت أنَّ جمعًا من الصحابة -رضي الله عنهم- قد ساقوا الحديث.
قال: (وَقَدِمَ عَلِيُّ -رضي الله عنه- مِنْ الْيَمَنِ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ) وجابر -رضي الله عنه- له مداخلة ومحبة ومعرفة بحال علي -رضي الله عنه- ويزيد الأمر تأكيدًا أنَّ هذا الحديث قد روى أصله: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فإنه هو من استنبط هذا الحديث من جابر، فهذا الحديث إنما هو من رواية عطاء وغيره، لكن في مسلم بمعنى هذا الحديث عن محمد بن علي استنبطه، مع أنه صغير، أي: محمد بن علي، كان صغيرًا، والتابعون ما كانوا يتجرأون على الصحابة، فجاء محمد بن علي إلى جابر -رضي الله عنه- وقد بلغ من الكبر عتيا، وقد عمي -رضي الله عنه- فسلم عليه فقال: من؟ قال: محمد بن علي. قال: ابن الحسين؟ قال: نعم، قال: أهلًا ومرحبًا بابن أخي.
قال: ثم حل إزاري ثم وضع يده على صدري، ثم قال: سل يا ابن أخي عمَّا شئت. يعني: أنت السؤال لك مفتوح، فسأله عن حجة النبي ﷺ وجزاه الله خيرا، ورضي الله عن الباقر، فإنه لَمَّا سألها بقره له جابر -رضي الله عنه- فكان جابر هو الباقر حقًا، وبقر له يعني: أعطاه الحجة العظيمة، التي هي حجة النبي ﷺ بأحسن سياق.
قال: (وَقَدِمَ عَلِيُّ -رضي الله عنه- مِنْ الْيَمَنِ) هذه ذكرها أيضًا في قصة محمد بن علي. قال: (فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ) فيه دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يهل بإحرام مبهم، لكن يستبين لاحقًا، وهذا لا يدخل ضمن الجهالة، لماذا؟
لأنه مجهول الآن، لكنه معلوم العاقبة فيما بعد، هم يقولون: كل مجهول يؤول إلى معلوم فإنه يجوز، فالجهالة تؤول إلى علم ليس فيه مشكلة، لكن المشكلة الجهالة التي لا تؤول إلى العلم، بل تؤول إلى النزاع، وما تدري ما هي؟ فلو قلت: أهللت بما أهل به أحد الناس. من هو؟ ما أدري، طيب كيف تعلم؟
لو أهللت بما أهل به مثلا الشيخ إبراهيم، ما في بأس، إذا كنت ستعلم ما أهل به إبراهيم فما فيه بأس.
فإذًا قال علي -رضي الله عنه: أهللت بما أهل به النبي ﷺ، كذلك قاله أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- (فَأَمَرِ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ: أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً) وهذا مما يدل على فسخ الحج للعمر، لأنهم قَدِمُوا حِجَاجًا، إمَّا مفردين أو قارنين، فأمرهم النبي ﷺ أن يجعلوها عمرة، يعني: يتحولون إلى العمرة، أي: بفسخ الحج إلى العمرة؛ فدل ذلك على تقرير مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-.
(فَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا، إلَاّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ) فمن كان معه الهدي؛ فإنه يبقى على إحرامه، حتى ينحر هديه يوم اليوم العاشر. فقالوا هذا ما يدل على أن المتعة ما هي معروفة. هذا مما سبق وهذا مما يقرر.
(فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إلَى مِنىً، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ) كيف؟ لأنهم سألوه أي الحل؟ لأنهم حتى الآن ما استوعبوا بعد. قال: «الحل كله» هم ظنوا أنَّ الحلَّ لا يصل إلى حلِّ النساء.
قال جابر -رضي الله عنه: "فحللنا حتى سطعت المجاور بين الرجال والنساء، يعني: وقع الجماع بينهم" الرجل يرجع يجامع زوجته.
قال ها هنا: (وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ) هذا تثنية له يعني: استبشعوا هذا الأمر، (فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ)، هذا دلالة على أنهم ما يعرفون هذا الأمر. فقال: («لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ»). هذا تطييب لخاطرهم، لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنعتم، أحل ولم أسق الهدي معي، وإنما أشتريه من مكة كما تشترونه أنتم، وأكون متمتعا؛ فدل ذلك -والله أعلم- على أنه يُشرع للإنسان الذي لا يسوق الهدي أن يحج مُتمتعًا، هذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله-.
ثم كانت مسألة أخرى حصلت في هذا الحديث أطاقها جابر عنه قال: (وَحَاضَتْ عَائِشَةُ. فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ) عائشة -رضي الله عنها- قدمت، الأصل فيها أنها قارنة، فلما أمر النبي ﷺ نساءه بالإحلال، ويتحولن إلى متمتعات لم تستطع ذلك. لماذا؟ لأنها لم تطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فقال لها النبي ﷺ: استمري على كونك قارنة، يعني لا تحلين، فلعل الله -عز وجل- أن يرزقك، فاستمرت قارنة؛ لأنها ما تستطيع أن تحل. كيف تحل؟ كيف تطوف بالبيت وهي حائض؟ ما يجوز لها الطواف في البيت. فمكثت على إحرامها وعلى كونها قارنة حتى جاء اليوم العاشر، فلما كان اليوم العاشر طهرت -رضي الله عنها- يقال: إنها طهرت في عرفة، فأمرها النبي ﷺ أن تطوف إلى البيت، وبالصفا والمروة.
طافت بالبيت وبالصفا والمروة، وهذا الطواف لَمَّا يكون من القارن يقع عن الحج وعن العمرة، فقال لها النبي ﷺ: «طَوافُكِ بالبَيتِ وبينَ الصَّفا والمرْوَةِ يَكْفيكِ لحجَّتِكِ وعُمرَتِكِ». قالت: لا، يرجع صواحبي بعمرة وحجة وأرجع بحج. قال لها النبي ﷺ: «ألم تكوني طفت؟» قالت بلى قال: «إن طوافك بالبيت يكفي»، فأصرت تريد لها عمرة منفصلة عن الحج، وما كانت -رضي الله عنها- صغيرة السن، سبع عشرة سنة ذاك الوقت. فقالت: يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة، وأنطلق بحج. فقال لها النبي ﷺ: «طَوافُكِ بالبَيتِ وبينَ الصَّفا والمرْوَةِ يَكْفيكِ لحجَّتِكِ وعُمرَتِكِ»؛ لأنَّ أعمال القارن وأعمال المفرد سيان، وإنما يتميز القارن عن المفرد بشيء واحد فقط، الذي هو النية والهدي. وأمَّا بقيتها فإن كل أعمالهما سيان، ومع ذلك فإنَّ النبي ﷺ أراد أن يطيب خاطرها، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُردفها معه على راحلته ويخرجها إلى التنعيم. وهذه تسمى عند العلماء بالعمرة المكية، العمرة عندهم عمرة المكي، والمكي ها هنا الذي هو من سكان مكة، والعمرة المكية، الفرق بينهما أن عمرة المكي الذي هو من سكان مكة، والعمرة المكية هي عمرة الرجل الأفاقي، والآفاقي الذي هو من غير أهل مكة، إذا فرغ من عمرته، هل يشرع له العمرة أو لا؟ هذه قد قال بها بعض الشافعية استنباطا من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالوا: عائشة رخص لها النبي ﷺ، فنقول: إنَّ النبي ﷺ ما رخص لها إلا تطيبًا لخاطرها، وإلا فإنَّ النبي ﷺ لم يأمر بها بقية أصحابه -رضوان الله عز وجل عليهم- قد كان من أصحابه جماعة قد حجوا قارنين، بل إنه ﷺ هو نفسه قد حج قارنًا ولم يعتمر العمرة المكية هذه، فأمره أن يخرجها إلى التنعيم فاعتمرت.
قالوا: هذا مما يدل على أنه يُشرع للإنسان إذا أراد العمرة أن يجمع فيها بين الحل والحرام. قالوا: لماذا أخرج عن التنعيم؟
حتى يجمع بين الحل والحرام، قال بعض العلماء: إنما هذا -والله أعلم- إنما هو في غير المكي؛ لأنَّ أصله أو ميقاته خارج، ميقاته هو الحلف، أمَّا المكي فإنَّ ميقاته هو الحرم، وهذه مسألة خلافية بين العلماء.
ويقال: الأولى في هذا أن يحرم خارجًا؛ لأنَّ من أحرم من المكيين خارج الحرم، وقع الإجماع على صحة حجه، أو على صحة عمرته، ما في خلاف بين العلماء أو ما هناك نزاع بين العلماء في مثل هذه المسألة في المكي.
قال: (فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ) هل هذه العمرة مشروعة؟
نقول: هذه العمرة ليست مشروعة، وإنما فعلها النبي ﷺ تطيبًا لخاطر عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-.
{قال -رحمه الله: (عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً»)}.
حديث جابر -رضي الله عنه- هذا هو أيضا كالتقرير لحديثه السابق، وحديث ابن عمر -رضي الله عنه- وحديث ابن عباس وغيرهم من أحاديث أصحاب النبي ﷺ في أنَّ النبي ﷺ قد أمر أصحابه أمرًا جازمًا، أمر أصحابه القارنين، أن يفسخوا الحج إلى العمرة، وقد أكدها بقوله: قال: («وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ»)، وفي بعض الروايات: «ونحن لا نذكر العمرة» يعني: ما نعرفها، لبيك حجًا. لبيك حجًا. لبيك حجًا؛ لأنهم ما كان معهم هدي، وكان يثقل عليهم أيضا شراء الهدي، بعضهم فحج مفرد ولا حج قارن وما ذكر العمرة، يرى أن العمرة تدخل في القارن مباشرة، فأمرهم النبي ﷺ، قال: «فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً» يعني: أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، وهذا يقرر ما ذكرناه من أن قول الإمام أحمد -رحمه الله- في هذه المسألة هو القول الصحيح الراجح.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ»)}
هذا حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وفيه أنَّ النبي ﷺ وأصحابه قدموا إلى مكة صبيحة رابعة، فإنهم قد خرجوا من المدينة يوم الخامس والعشرين، ومكثوا قريبًا من عشرة أيام في الطريق، فدخلوا إلى مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأمرهم ﷺ أن يجعلوها عمرة؛ فامتثلوا، ثم سألوا يا رسول الله، أي الحل؟ يعني هل نحل حلا أصغر أو حلا أكبر؟ الحل الأصغر الذي يصنع فيه كل شيء إلا النساء، والحل الأكبر الذي يصنع فيه كل شيء حتى النساء.
قال: فقال النبي ﷺ («الْحِلُّ كُلُّهُ») يعني: الحل الأكبر، ترجع كما أنك لم تكن محرمًا، يعني: لا تمتنع من شيء، ففعل الصحابة -رضي الله عنهم- حتى قال جابر -رضي الله عنه- في الحديث الآخر: "حتى سطعت المجاور بين الرجال والنساء".
{قال -رحمه الله: (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - وَأَنَا جَالِسٌ - كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ. فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ»)}.
النبي ﷺ في المشاعر لما كان يتنقل من منى أو من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، كان يردف بعض أصحابه -رضي الله عنهم- فأردف في المرة الأولى لَمَّا ارتحل ﷺ، وصار منتقلاً من عرفة إلى مزدلفة، أردف أسامة بن زيد، أردفه ﷺ ليخدمه، فإن هؤلاء كانوا شبابا يخدمون النبي ﷺ، ويعينونه في إناخة الراحلة، وفي وضوء النبي ﷺ، وفي إنزال الرحل من النبي ﷺ، ونحو ذلك، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يُخدم في السفر، وقد كان النبي ﷺ يقول لأبي طلحة لَمَّا أراد أن يسافر: التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني.
يقول أنس -رضي الله عنه- فجاء بي أبو طلحة إلى النبي ﷺ، فدل بوجه عام على أن الخدمة في السفر ليست مما يعاب، يعني: أن الرجل يخدم، ما يقال هذا نوع من الترف، لا يقال هذا، بل إنَّ النبي ﷺ الذي كان لديه خادم، إمام الزاهدين ﷺ كان لديه من يخدمه من أصحابه -رضوان الله عز وجل عليهم- بل إنَّ هذا أحيانًا قد يكون عونًا للإنسان على التفرغ للعبادة، ولِمَا هو أهم، فينبغي للإنسان أن يراعي حاله، وأن يرى ما هو الأكمل. يقول: أنا من عادتي أن أختم. نقول ما في بأس أن يكون معك خادم، ومن ترى من الخدمة تختلف باختلاف الأزمنة، في الزمان السابق كان يكون معه واحد، وفي أزمنتنا هذه أن يذهب إلى حملات توفر الخدمات، ما في حملات لا عندها خدمات بدأت. هذا نوع من الخدمة.
هل يكره للإنسان يذهب إليها؟
نقول: ما يكره، ذهبت إلى حملة توفر لك خدمات جيدة، وتعينك على الحج، ما هناك بأس. قد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يخدم في حجه ﷺ، ولأجل ذلك سئل أسامة -رضي الله عنه- لَمَّا كان رديف النبي ﷺ من عرفة إلى مزدلفة. كيف كان رسول الله ﷺ يسير حين دفع؟ يعني: دفعًا من عرفة إلى مزدلفة، وهذا هو الدفع الأكبر.
قال: (كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ)، والعنق الذي هو السير المتوسط، وكان ﷺ يقول: «عليكم بالسكينةِ والوَقارِ، فإنَّ البِرَّ ليس في إِيضاعِ الإبلِ» . الإيضاع الذي هو الإسراع، يقول الله -عز وجل: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ أوضعوا يعني: أسرعوا.
قال: (كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ) يعني: إذا وجد ﷺ متسعًا في الطريق تقدم، فدل ذلك على أنَّ الأصل في الإنسان أو الأصل في السير بوجه عام أن يسير الإنسان السير المعتدل، سير السكينة والوقار، ولكن إذا فسح له الطريق ما في بأس، ولهذا في الحج يشرع للإنسان في مشيه لوحده أن يسرع؛ لأنه هو هدي النبي ﷺ في المشي، ما يتكاسل ولا يتماوت، بل يعجل بذلك
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ. فَقَالَ: رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ. اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ وَلا حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إلَاّ قَالَ: «افْعَلْ وَلا حَرَجَ»)}
هذا حديث عظيم جليل، وهو من أعظم أحاديث المناسك وأكثرها تيسيرا على الناس، وأظن -والله أعلم- في الحج أنه ليس شيء يحتاج إليه، أكثر مما يحتاج إلى هذا الحديث؛ لأنه من أعظم الأحاديث التي سهلت للناس ورخصت لهم.
الأصل بوجه عام أنَّ النبي ﷺ لَمَّا طلع عليه يوم الحج الأكبر الذي هو يوم العاشر، كان أول ما صنعه النبي ﷺ أن دفع من مزدلفة إلى منى قبل شروق الشمس بشيء يسير، ثم قصد ﷺ إلى جمرة العقبة، وهي الجمرة الكبرى، فرماها النبي ﷺ بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم إنه ﷺ ذهب إلى بُدنه فنحرها، ثم دعا حالقه فحلق رأسه، ثم إنه ﷺ ذهب إلى البيت الحرام لطواف الإفاضة، وهذا ترتيب أعمال يوم الحج أو يوم النحر، وهي أعمال مجهدة، وفيها وقت وانتقال؛ ولأجل ذلك نام النبي ﷺ حتى قال بعض الصحابة -رضي الله عنهم- صلى النبي ﷺ المغرب والعشاء ثم نام، ولم يذكروا صلاة الليل من شدة التعب، ومن شدة حرص النبي ﷺ على أن يستقيظ لهذا اليوم وهو في غاية ما يكون من النشاط؛ لأنك من حين ما تصلي صلاة الفجر ستبدأ بالعمل الذي هو الدعاء، فستقف عند المشعر الحرام للدعاء، تدعوا الله -عز وجل- دعاء طويلا حتى يسفر.
هذه الأعمال الأربعة ترتيبه على ما ذكرناه هو السنة الثابتة عن النبي ﷺ بلا خلاف، فإن قدم بعضها على بعض، فقد وقع خلاف بين العلماء -رحمهم الله- هل يجوز أو ما يجوز؟ وهل فيه دم أو ما فيه دم؟
ولكن الصحيح في هذه المسألة أنها قد حسمت بقول النبي ﷺ: («افْعَلْ وَلا حَرَجَ»). لكن من العلماء من قال: إنَّ هذا إنما يكون لمن فعلها نسيانا؟ هذا الرجل قال: (لَمْ أَشْعُرْ) قَدَّم الحلق على النحر، وقدم النحر على الرمي، لكنه في كلها يقول: (لَمْ أَشْعُرْ) لكن من يشعر هل يجوز له أن يقدمها؟ يعني: من يتعمد ذلك، هل يجوز له أن يقدمها؟
هذه المسألة مما وقع فيه الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- والظاهر -والله أعلم- أنه يجوز تقديمها، لكن الحقيقة من الأحسن والأولى أن ترتب كما رتبها النبي ﷺ، خاصة القارن الذي معه الهدي، فإن المتقرر عند العلماء أنه متى ما رمى جمرة العقبة حل. وبعض العلماء يقول: اثنان من ثلاثة، والصحيح في هذا أنه إذا رميتم جمرة العقبة فقد حلَّ لكم كل شيء إلا النساء، رميت العقبة حل.
لكن إذا رميت العقبة وأنت قارن، يجوز لك الآن أنك تحلق رأسك، وأن تتطيب وأن تلبس قبل أن تنحر هديك، مع أن النبي ﷺ قد قال لحفصة: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» . وقال ﷺ: «وأمَّا من أهدى فساق مع الهدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى ينحر». قيدها بالنحر.
يقال والله أعلم: إن من ساق معه الهدي فهذا حكمه، ما تصنع شيئا حتى تنحر، وأما ما سوى ذلك فالظاهر -والله أعلم- أن الأمر في ذلك واسع، من حين ما ترمي جمرة العقبة فأنت تكون قد أحللت -إن شاء الله عز وجل- وتكون الإحلال الأصغر، والإحلال الأصغر يعني: تصنع كل شيء إلا النساء، تتطيب، تلبس المخيط، وتحلق شعرك، تأخذ من أظفارك، هذه كلها تسمى عند العلماء -رحمهم الله- قضاء التفث، وتمنع من النساء حتى تطوف طواف الإفاضة مع ما سبق. يعني: تجمع بين هذه الأربع كلها، تكون فرغت من الرمي، وفرغت من الحلق، وفرغت من النحر، وفرغت من طواف الإفاضة.
فإذا فرغت من ذلك فقد حلَّ لك كل شيء حرام عليك، ولهذا النبي ﷺ لَمَّا أفاض أتى يريد نساءه، فعاشرهم ﷺ، فدل ذلك -والله أعلم- على أنه متى ما فعل هذه الأربع حلَّ التحلل الأكبر، الذي هو الحل كله، كما قاله ﷺ.
قال ها هنا: (لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ) الأصل أن الذبح مقدم على الحلق، كما ذكرناه سابقًا. فقال: («افْعَلْ وَلا حَرَجَ») وجاء آخر فقال: (لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ) والأصل أنَّ الرمي مقدم على النحر. فقال: («افْعَلْ وَلا حَرَجَ»). قال في بعض الروايات: أن بعضهم قال يا رسول الله: (لم أشعر فطفت بعد ما أمسيت) فقال النبي ﷺ: («افْعَلْ وَلا حَرَجَ») قال: (فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إلَاّ قَالَ: «افْعَلْ وَلا حَرَجَ»).
إذًا هذا هو الأصل بوجه عام في الحج، أن يقال: كل ما لم تثبت فيه سنة عن النبي ﷺ لا محيص عنها، في الأصل يوسع للناي فيها. يوسع للناس في أمور كثيرة، يعني: الرمي مثلا على سبيل المثال في الليل، لا يمنع منه. يقال للإنسان يرمي في الليل: ورميك في الليل أحب وأحسن من رميك قبل الزوال، في أيام التشريق، أن ترمي في الليل أفضل من أن ترمي قبل الزوال. لماذا؟ لأنَّ الرمي في الليل جماهير العلماء على صحته، وأمَّا الرمي قبل الزوال فإنه مما وقع فيه الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- حتى قيل: إنه ما رخص به إلا عطاء -رحمه الله-.
الرمي قبل طلوع الشمس يوم النحر، هذا مما وقع فيه الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- فيقال: ترمي في الليل في ذلك اليوم، أحسن وأهون من أن ترمي قبل طلوع الشمس. هذه كلها من التوسيع. يوسع ويعمل فيها أيضا بالسنة، ويستصحب قول النبي ﷺ في هذا الحديث: («افْعَلْ وَلا حَرَجَ») في التوسيع على الناس.
من لم يستطع من الناس المكث في منى أيام التشريق، ما عندهم مخيم، ما يلزم بالمكث في عرفات أو في مزدلفة، ما يلزم بالمكث في المزدلفة، يقال له: امكث حيث شئت، قد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "امكث حيث شئت" يعني: ما دام أنك لا تتمكن من المكث بالمكان الشرعي فغيره، سواء حتى في مكة، يعني: حتى لو أردت أن تخرج من مكة أصلا تخرج من مكة وتعود ترمي الجمار، ما في بأس؛ ولهذا جاء عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: إذا رميت الجمرات فبت حيث شئت، وكان ابن عباس -رضي الله عنه- لا يرى وجوب البيتوتة بمنى، لكن الصحيح وجوبها، لكن يقال: من لم يستطع؛ فإن الأمر في ذلك واسع، ومرخص له.
{يا شيخ بالنسبة لـ «افْعَلْ وَلا حَرَجَ» هل هي في الأعمال التي تفعل فقط يوم النحر، سواء حتى تقديم السعي على طواف الإفاضة، هل يدخل هذا في جملة افعل ولا حرج؟}.
الأصل في هذا -إن شاء الله- أنه قد جاء عن النبي ﷺ في بعض الروايات، وإن كان فيها نظر، أنه قال: "سعيت قبل أن أطوف قال: «افْعَلْ وَلا حَرَجَ» فهذا -والله أعلم- هذا مما يوسع فيه -إن شاء الله عز وجل-
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَرَآهُ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ﷺ)}.
هذا حديث قد ذكره المصنف -رحمه الله- لبيان الموضع الذي رمى فيه النبي ﷺ، والحقيقة أنَّ هذا الحديث مما يبين أن الصحابة -رضي الله عنهم- قد حفظوا أفعال النبي ﷺ غاية الحفظ، فهذا يتعلق برمي جمرة العقبة التي هي الجمرة الكبرى، وهي أقرب الجمر إلى مكة وأبعدها عن منى، هي الواسطة التي بين مكة وبين منى، كيف رماها النبي ﷺ؟
النبي ﷺ لَمَّا جاء إلى جمرة العقبة من جهة منى تياسر ﷺ، بمعنى أنه وضع الجمرة عن يساره، ثم إنه ﷺ استقبلها حتى كانت منى عن يمينه، ومكة عن يساره، ثم رماها بسبع حصيات، هذه المنطقة تسمى منطقة بطن الوادي، وفي السابق قبل تقريبا عشرين سنة أو خمس عشرة سنة، الرمي ما كان متاحًا إلا من هذه المنطقة، والمنطقة الأخرى كان فيها جبل، فهدم الجبل وأزيل، والأصل عند العلماء -رحمهم الله- وقد حكي الإجماع على أنه من حيث ما وقع الرمي أو حيثما حصل الرمي أجزأ، ما دام أنه قد وقع في الصحن، فهو مجزئ. لكن ما هو الأفضل؟
نقول: بلا شك أنَّ الأفضل هو مقام النبي ﷺ، لَمَّا قام في بطن الوادي، والأمر في ذلك كله على السعة. هل يدعو عند هذه الجمرة؟
ما يدعو، هذه الجمرة لم يرد عن النبي ﷺ أنه دعا عندها، وإنما ورد الدعاء عند الجمرة الأولى، والجمرة الوسطى، ونكتفي بذلك -إن شاء الله عز وجل-.
{أحسن الله إليكم شيخنا، فتح الله لكم، ونفع بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله تبارك وتعالى- في لقاءات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.