الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

22798 18
الدرس الحادي عشر

عمدة الأحكام 2

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على أشرف الأنبياء، وإمام المرسلين نبينا محمد، حياكم الله وبياكم، مرحبا بطلاب العلم. نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي، يصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله شيخ إبراهيم، حياكم الله وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند حديث أنس بن مالك.
بسم الله، قال المصنف -رحمه الله: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ. قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَأَكْثَرُنَا ظِلاً: صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ. قَالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ، وَسَقَوْا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فما زال المصنف -رحمه الله- يسوق الأدلة الدالة على الترخيص في الفطر أثناء السفر، والمصنف -رحمه الله- ها هنا يريد أن يجمع الأدلة التي تُبين أحوال الصيام في السفر بوجه عام، وقد ذكر المصنف -رحمه الله- جملة من الأحاديث عن النبي ﷺ، منها ما جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ﷺ قَالَ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ»؛ فدلَّ ذلك على الترخيص، وعلى التسوية بين الأمرين في الظاهر، ثم ساق أيضًا حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلَاّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ»، وساق أيضًا حديثا آخر وهو حديث حمزة بن عمرو الأسلمي أنَّ النبي ﷺ قال: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مَنْ شَاءَ أَخَذَ بْهَا فَحَسَنٌ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»، وساق حديث جابر -رضي الله عنه- السابق الذي قال فيه: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» . ثم ساق أيضًا حديث أنس -رضي الله عنه- وكل هذه الأحاديث إذا جمعت، ظهر لنا معنى جليل، وهو أن يقال: إنه لا يصح أن يُحكم على الصيام في السفر بحكم مُطلق، فيقال: الصيام في السفر أفضل أو يقال: الفطر في السفر أفضل، ولكن يمكن أن يقال: إنما ذلك بحسب حال الشخص، وهذا يدل على أنَّه يختلف باختلاف الأشخاص، فإن ضعف الصائم عن السفر، وكان في ذلك مشقة عليه، وكان هذا الرجل ممن لا يُخدم ولكن هو "مَهَنَةَ أنْفُسِهِمْ" كما قالت عائشة -رضي الله عنها- فمثل هذا يقال: الأحسن والأولى في حقه الفطر، وأمَّا إن كان الرجل ممن يغلب عليه أنه يخدم ويُعتنى به ويُحتفل به، وأنَّ الصوم في السفر لا يَشق عليه مشقة تترجح على مشقته عليه لو كان في الحضر؛ فيقال في مثل هذا: الأولى في حقه الصيام.
وقد ذكر المصنف -رحمه الله- حديث أنس -رضي الله عنه- قال: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ) ودلَّ ذلك على أنَّ الأمر في السفر -بحمد الله- واسع، وعلى أنَّ هذا يتناول -والله أعلم- شهر رمضان؛ لأنه لو لم يتناول شهر رمضان لَمَا كان لقول أنس: (فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ) حاجة، فلمَّا يقول: المفطر، معناه أنه قد أفطر في شيء كان الأولى به أن يصومه، أي أنَّ الأصل فيه الصيام.
قال: (فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَأَكْثَرُنَا ظِلاً: صَاحِبُ الْكِسَاءِ) وكأن أنس -رضي الله عنه- الآن يبين السبب الذي دعا بعض الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الفطر، وهو أنَّ اليوم كان حارًا. قال: (وَأَكْثَرُنَا ظِلاً: صَاحِبُ الْكِسَاءِ)؛ لأنه يُظلله على نفسه.
قال: (وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ) لِمَا كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الخصاصة والمجاعة، ومن المعلوم أنَّ كثيرًا من الصحابة كان من أصحاب الصُّفة، أي: كانوا فقراء، وما كان منهم من يملك إزارًا ورداءً، وإنما يملكون الأزر، فمثل هذا يتقي الشمس بيده، أي لا يستطيع أن يضع شيئًا يقيه الشمس، وإذا قرن هذا بحالنا الآن مع وجود السيارات، ومع وجود الطائرات، ومع وجود المظلات، ومع وجود وسائل الراحة، فيتبين أنَّ الصيام في هذا العصر أصبح ميسورًا جدًا حتى في حال السفر.
ومع ذلك نرجع فنقول: إنَّ الأصل في ذلك حال الإنسان، فإذا كان في حال الإنسان أنه يصوم في السفر فيشق على من معه من الناس، وهو مما يُقتدى به، فيقال: الأولى في مثل هذا الفطر.
{ما هو وضع الصيام في السفر الميسور كحال من يسافرون بالطائرة؟}
إذا كان السفر ميسورا فالأفضل في حق الإنسان أن يصوم.
قال: (فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ وَسَقَوْا الرِّكَابَ)، أي: أنَّ المفطرين قاموا على الصِّيَام، وهذا أمر معتاد حتى في الزمان الأول، أنَّ المفطر كان يخدم الصائم، ولهذا لا يستنكر أن يُخدم الصائم، خاصة إذا لم يكن بطلبه؛ لأنَّ هذا نوع من إشراك المفطر في الأجر، فهذا من الأمور التي ينبغي أن ينبه عليها، لكن لا يَطلب، ويشرع للمفطر أن يخدم الصائم حتى يكون شريكًا له في الأجر، وحتى يكون مُعينًا له على هذه العبادة.
قال: (وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ) أي: الخيام، (وَسَقَوْا الرِّكَابَ) التي هي الجمال ونحوها، فقال رسول الله ﷺ: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ». فظهرت عندنا قاعدة جليلة، وهي أنَّ الأصل في العبادات أن يُراعى فيها حال اللزوم والتعدي، فالعبادة اللازمة مفضولة عن العبادة المتعدية، والأصل في العبادة المتعدية أنها مقدمة على العبادة اللازمة. ولَمَّا كان فطر هؤلاء في السفر قد أنتج وأثمر أن قاموا على الصوام، وسقوا الركاب، وضربوا الأبنية؛ فإنَّ هذا كله أجر عظيم، وهذا مما يدل على أنَّ الصيام وإن كان أجره عظيمًا؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إِلَّا الصِّيَامَ، فإنَّه لي وَأَنَا أَجْزِي به» ، إلَّا أنَّ العلماء قالوا: "القيام على مصالح المسلمين أولى من ذلك"، أي: النفع المتعدي بالقيام على مصالح المسلمين أولى من ذلك؛ يعني: لو أنَّ رجلا من الناس قال: أنا سأصوم، لكن إن صمت ضعفت عن القيام على الأسر المحتاجة، أنا سأطوف على الأسر المحتاجة، وسأقضي حاجاتهم، وسأقف في جمعيات خيرية وأتلقى احتياجات الأسر، فيقال: لا شك أنَّ هذا العمل أولى من صيامك، إذا كان صيامك من باب النافلة، فلهذا قال النبي ﷺ: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ» فدلَّ على أنَّ العمل المتعدي أفضل من العمل اللازم، حتى وإن كان هذا العمل عملاً جليلاً، قال عنه الله تبارك وتعالى: «إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به».
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إلَاّ فِي شَعْبَانَ)}.
هذا حديث جليل، من أعظم الأحاديث التي عليها مدار جملة من الأحكام، وهو من الأحاديث التي تحتاجها النساء كثيرًا، وهو من جملة الأحاديث التي تدل بوجه عام على الترخيص في قضاء رمضان، والمصنف -رحمه الله- إنما ذكر هذا الحديث لمعنى حسن؛ فإنه لَمَّا ذكر الأحاديث التي فيها الصيام والفطر في رمضان، ومن المعلوم أنَّ المفطر في رمضان بالإجماع عند العلماء يجب عليه القضاء.
فقال المصنف -رحمه الله: الأمر في ذلك واسع، إن وجب عليك قضاء شيء من رمضان فلا تظن أنك مجبر على قضائه بعد الفراغ من رمضان فورًا، وإنما أنت في فُسحة فيما بينك وبين رمضان القادم، أي: أنك في فسحة أحد عشر شهرًا، والأصل في ذلك هو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ) أي: قضاء أيام الدورة الشهرية، (فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إلَاّ فِي شَعْبَانَ) أي: من السنة القادمة.
قال العلماء -رحمهم الله: وهذا هو أحد الأسرار أو المعاني اللطيفة في قول عائشة -رضي الله عنها: «كان يَصومُ شَعبانَ كُلَّه إلَّا قَليلًا، بل كانَ يَصومُ شَعبانَ كُلَّه» . قالوا كان يصومه مع أهله، أهله الآن يصومون قضاء، والنبي ﷺ يصوم شعبان صيام نافلة، أي: يُعينهم ﷺ على القضاء، ومن المعلوم أنَّ النبي ﷺ قد كان عنده تسع نسوة، لأنَّه قد يأتي رجل ويقول: أيام القضاء سبعة، فنقول: هذا إذا كان عندك امرأة واحدة، ولكن النبي ﷺ كان عنده تسع نسوة، والأمر في هذا يختلف، فواحدة تأتيها عادتها أول الشهر، والأخرى وسطه، والثالثة في آخره، وهكذا، ولذا كان النبي ﷺ يصوم حتى يُعين نساءه على القضاء، وحتى يرفع عنهن حرج رعاية مقامه ﷺ. يقول الإنسان كيف؟
نقول: قول عائشة في بعض الروايات التي عند البخاري، قال يحيى بن سعيد: «الشُّغْلُ برَسولِ اللهِ ﷺ» أي: أنها قد حبست نفسها لرسول الله ﷺ وحاجته، فهي لا تعلم قد يأتي النبي ﷺ في النهار فيريد أن يصيبها، ولا تريد أن تعتذر له بكونها صائمة، ومن المعلوم أنَّ هذا صوم واجب؛ لأنه قضاء رمضان، يعني: ليس صوم نفل تستطيع أنَّ تقطعه، ولكنه صوم واجب، فتخاف أن تكون قد حبست نفسها عن رسول الله ﷺ، فكأنما اعتادت بفعل النبي ﷺ، أنه كان يصوم في شعبان نفلا، ويصوم هؤلاء ما عليهن من قضاء رمضان.
قالت: (كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إلَاّ فِي شَعْبَانَ).
إذا الأصل في صوم رمضان أن يقال: إنه موسع، وأنه لا يجب أيضًا مُتتابعًا، وإنما يجوز للإنسان أن يفرقه، فإذا كان عليه صوم خمسة عشر يومًا أو ثلاثين يومًا؛ فإنَّه يستطيع أن يصوم كل شهر يومين أو ثلاثة أيام، حتى يُدرك القضاء، والأهم في ذلك أنَّه إذا دخل رمضان من السنة القادمة؛ فإنه لا يجوز للإنسان أن يُؤخر شيئًا.
هل لو فرط في القضاء حتى دخل عليه رمضان التالي، يسقط عنه القضاء؟
نقول: لا، بل عليه القضاء ولكنه ارتكب اثمًا فعليه أن يتوب وأن يستغفر الله -عز وجل، وذهب بعض العلماء إلى القضاء مع الكفارة، ومناسبة الكفارة أنه أَخَّرَ القضاء تأخيرًا خارج الشرع، وقالوا: ناسب الكفارة -ها هنا- من جهة أنَّ الله -عز وجل- قد أقام الإطعام مقام الصيام لغير القادر، فَلَمَّا فرطت كنت أشد حالا من غير القادر، ولذا قالوا: يجمع عليك ها هنا، القضاء والكفارة، ولكن الأظهر -والله أعلم- في هذا أن يقال: إنَّه إن تاب إلى الله -عز وجل- وقضى ما عليه، كان ذلك مجزئًا في حقه.
{أحسن الله إليك. بالنسبة عائشة -رضي الله عنها- حينما كانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان من السنة التي بعده، ما وجه تخصيص شهر شعبان؟}.
الظاهر -والله أعلم- أنها كانت تخصص شهر شعبان؛ لكونه هو الفرصة الأخيرة، وما سوى ذلك كأنما أخذت الأمر فيه على السعة، وهذا أيضًا أحد المعاني التي استدل بها بعض العلماء -رحمهم الله- وهذا أيضًا من المسائل التي تسأل عنها النساء كثيرًا- قالوا: سيدرك صوم عرفة مثلا أو صوم عاشوراء أو غيره، فهل معنى هذا أنَّ عائشة -رضي الله عنها- لم تكن تصوم هذه الأيام البتة؟ أو هل عائشة لم تكن تصوم بعد رمضان شيئًا سوى من شعبان الذي يليه؟
نقول: الظاهر -والله أعلم-أن هذا بعيد، وأنه يرخص في صيام مثل هذه الأيام التي يفوت وقتها، لماذا؟ لأننا اتفقنا على أنَّ الأصل في القضاء هو التوسعة، فإذا كان كذلك، وأراد صوم عاشوراء أو صوم عرفة لم يكن عليه في ذلك حرج، من جهة أنه لم يأت بأمر منكر، وهذا كحال من قيل له: اعلم أن وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى مصير ظل الشيء مثله، فقال: علمت ذلك. فدخل عليه وقت صلاة الظهر، هل يجب عليه أن يبادر بالصلاة؟ نقول: لا؛ لأنَّ الأصل في ذلك التوسعة، إذا لم يكن تم جماعة ملتزم فيها ومرتبط بها، فالأصل في ذلك أنه موسع عليه، وإلا ما كان هناك معنى لكون الصلاة موقت لها وقت دخول ووقت خروج.
لو قال: إذا كان كذلك، فهل يجوز لي أن أتنفل ما شئت من النوافل قبل ذلك؟
نقول: هذا كحال رمضان، بل هذا من باب أولى وأحرى، لماذا؟ لأنَّ هذا أداء وهذا قضاء، ومما لا شك فيه أنَّ الأداء مقدم على القضاء، فإذًا الأمر في ذلك على ما ذكرناه -إن شاء الله.
{هذا قد يجرنا إلى مسألة أصولية، وهي: أليس بالأصل أنَّ الإنسان إذا تعلق شيئًا بذمته؛ فعليه أن يأتيه أولا؟}.
نعم هذا هو الأصل، وبوجه عام يقال: على الإنسان أن يبادر بالقضاء حتى لا يدركه أمر الله، لكن لو أدركه أمر الله -هذا هو السؤال- هل يكون معذورًا أو غير معذور؟
نقول: الصحيح في مثل هذا أنه معذور؛ لأننا نقول: إنما يؤمر بالمبادرة بالقضاء من أفطر في رمضان لغير عذر، كحال -والعياذ بالله- من جلس في بيته وقال: لا أريد أن أصوم، أو إنسان أدركته الشهوة فعاشر أهله، ففسد صومه في ذلك اليوم. هذا يجب عليه من حين ما يفرغ من عيد الفطر أن يبادر لماذا؟ لأنه غير موسع له في القضاء؛ لأنَّه لم يفطر لعذر.
ولكن من أفطر لعذر فلا ينبغي أن يقال: إنه مفرط، بل الأمر في ذلك واسع، حتى إنَّ بعض العلماء -رحمهم الله- قالوا -وهذا قول وجيه-: إنه لو أدركه أجل الله -عز وجل- قبل رمضان التالي، وأراد وليه أن يصوم عنه فإنَّه لا يشرع له الصيام. لماذا؟ لأنه غير مُفرط، وهذا الأمر سيأتي -إن شاء الله- كما سيذكره المصنف -رحمه الله- في حديث: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: هَذَا فِي النَّذْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ)}.
هذا الحديث من عُمد أحاديث الأحكام، وهو من الأحاديث الجليلة التي يترتب عليها جملة كبيرة من المسائل، وهي من المسائل التي قال بها الإمام أحمد -رحمه الله- واعتمدها في مذهبه، وتميز بها مذهب الحنابلة عن غيره من المذاهب، أصل هذه المسألة أنَّ النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» هذا ندب من النبي ﷺ لولي الميت، وولي الميت هو وارثه بحسب القرب منه، فوليك هو وارثك، وبحسب القرب تكون الولاية، فإذا مات الميت وخلف أولاده وإخوانه وأعمامه؛ فنقول: الأقرب -ها هنا- الأولاد، وإذا لم يكن هناك أولاد، فنقول: الأقرب الإخوة، وهكذا. إذًا هؤلاء هم الأولياء، وهذا يشمل الإناث كما يشمل الذكور، وسيأتي أيضًا بيانه في المرأة التي جاءت إلى النبي ﷺ تقول: «إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ» ، قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، وقول النبي ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ» نكرة، ولم يحدد هذا الصيام، هل هو صيام قضاء رمضان أو صيام نذر أو صيام كفارة؟ وإنما قال: «صِيَامٌ» فهل يفهم من هذا الاطلاق أو أنه يقيد؟
ذهب الإمام أحمد -رحمه الله- إلى أن هذا مُقيد في صيام النذر، وقال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» إنما هو في النذر، وهو الصيام الذي لم يجب بأصل الشرع، وإنما أوجبه الإنسان على نفسه بالتزام التزمه، كما لو قال الإنسان: عليَّ لله نذر إن شَفَى الله مريضي أن أصوم شهرً، فشفى الله مريضه؛ فإنه يجب عليه أن يصوم شهر، هذا قول الإمام أحمد -رحمه الله.
ومن المقرر عند الأئمة الأربعة -رحمهم الله- أنَّ الصيام الواجب بأصل الشرع لا يُقضى عن صاحبه، مثل: صيام رمضان، ومن تركه فهو على حالين، إن كان مُفرطًا فليس بأهل للقضاء، ولا يُقضى عنه، وإن كان غير مفرط فما حاجتك لأن تقضي عنه وقد عذره الله.
إذًا هذا الحديث محمول على ماذا؟ محمول عندهم على صيام النذر، وذهب جماعة من العلماء -رحمهم الله- وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وقول جماعة من علمائنا المعاصرين إلى أن هذا الحديث محمولا على عموم الصيام، وأنه يقال فيمن مات وعليه صيام، سواء كان هذا الصيام ثابتًا بأصلٍ شرعي أو أنه صيام نذر؛ فإنه يُشرع لوليه أن يصوم عنه، قالوا: لأنَّ (صِيَامٌ) نكرة قد تحمل على كل صيام، خاصة أنه قد جاء في حديث ابن عباس أنَّ امرأة قالت: يا رسول الله إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر، قالوا: كأنَّ صوم شهر ها هنا يُوهم أنَّه صيام شهر رمضان، هي لم تحدده، ولكن الشهر دائمًا في العام الأغلب، إذا قيل: صوم شهر، كأنما هو شهر رمضان، وهذا يدل -والله أعلم- على العموم، وأنه صيام واجب بأصل الشرع، فلمَّا تركته هذه المرأة قد تكون تركته لعذر، والظاهر -والله أعلم- أنها تركته لعذر، وأنَّ هذا العذر لم يستمر بها، وهذه مسألة مهمة، وهي: من أفطر في رمضان لعذر استمر به حتى توفاه الله، فيقال في هذه الحالة لوليه: لا تصم عنه البتة، لا في قول الإمام أحمد ولا في قول غيره؛ لماذا؟ لأنه قد عذره الله -عز وجل- والواجب ها هنا أن يُطعم عنه في كل يوم مسكين، كما صنع أنس -رضي الله عنه- فأمَّا إنَّ أفطرت في رمضان لعذر، ثم انقطع عذرك وعدت صحيحًا، ولم تقضي؛ فإنه يدخل في هذه المسألة، فيقال للولي: يشرع له في مثل هذه الصورة أن يقضي أو أن يقضي عن وليه.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: «لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».
وَفِي رِوَايَةٍ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا؟» فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ»)
}.
هذا حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وهو الحديث الذي جعل الإمام أحمد -رحمه الله- يحمل حديث عائشة السابق «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» على النذر؛ لأنه قال: إنَّ النصوص يجمع بعضها إلى بعض، قال: فلمَّا نظرنا إلى حديث ابن عباس رأينا أنَّ في الرواية الأخرى (إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ)، وقيدته بالنذر، (أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟) فقال: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ» ومن خالف هذا القول، قال: إن هذه واقعة وتلك أيضًا واقعة أخرى، وقول النبي ﷺ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» الظاهر -والله أعلم- أنه وارد على غير سبب، وما ورد على غير سبب أكثر في الإطلاق من الوارد على سبب.
فإذًا من عمل بحديث عائشة -رضي الله عنها- له وجهه، ولكن الحقيقة أنَّ حديث عائشة «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» لم يعمل به أحد من المذاهب الأربعة، وإنما عمل به بعض تلاميذهم كشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض العلماء المتأخرين -رحمهم الله- وأمَّا جماهير الأئمة الأربعة؛ فإنهم لم يعملوا به، وبوجه عام أوسع المذاهب في هذه المسألة، أعني: في قضاء العبادات عن الميت، وفي وصول العبادات للميت، أوسعها هو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- ويليه في ذلك مذهب الإمام أبي حنيفة، فإنَّ الإمام أحمد وأبا حنيفة يريان أنَّ العبادات إذا فعلها الحي وأهدى ثوابها للميت؛ فإنها تصل إليه.
ولَمَّا سُئل ابن المبارك -رحمه الله- عن هذه المسألة قال: أمَّا الصدقة فليس فيها نزاع، بمعنى أنَّ كثيرًا من الناس لا تثب إليه نفسه في علاقته بوالده وبوالدته وبأخيه وقريبه إلَّا إذا توفاه الله، وهذا أمر جيد، وهذا أحسن حالاً ممن لا يُبالي بكل حال، فإذا كان كذلك لجأ إلى العبادات وإهداء العبادات لهذا الميت، فنقول: إنَّ علاقة الحي بالميت على منازل، فأولها الدعاء وهو الواصل بالإجماع، وهو خيرها وأفضلها، أن يدعو الإنسان للميت وأن يستغفر له، فإنَّ هذا يصل بالإجماع عند العلماء، وأصله الصلاة على الميت، وهو أولى ما يجب في حق الميت، فإنه لو كان شيء يجب في حق الميت أولى من الدعاء؛ لأمر الله -عز وجل- به ذوي القربى لقريبهم الذي توفي، وهو سيورث لك أموالاً ضخمة وطائلة، وستنقطع علاقتك به، فلو كانت الأموال تصل إليه أو تنفعه كثيرًا لأمر الله -عز وجل- بها، قال: تصدق عليه بما شئت، ولكن هذا لم يرد، هذا فيما يتعلق بالدعاء، ويليه الصدقة عن الميت.
والصدقة عن الميت قد جاء فيها حديث سعد بن عبادة -رضي الله عنه- وفيه أنَّ أمه ماتت، فسأل النبي ﷺ عن خير الصدقة عليها، فأمره بسقي الماء، وهذا الحديث وإن كان في إسناده نظر، إلا أنَّ هذا المعنى مما يتيسر فيه.
الأمر الثالث: الصيام والحج عنه، فأما الصيام عنه إذا كان قضاء لفرض قد فاته، فإنه مشروع على ما قررناه، إلا إن كان مُفرطًا، فإنه لا يُصام عنه، وكذلك الحج؛ فإنَّه يُحج عنه أيضًا إذا لم يكن قد حج فرضه، وأما الزيادة في هذين المعنيين -بمعنى أن يصوم عنه صوم نفل، فيتنفل بالصيام عن قريبه، ويتنفل بالحج عن قريبه، فهذا هو الذي منع منه الإمام مالك والشافعي، وقالا: إنها لم ترد، والأصل في النصوص الالتزام بها، والإمام أحمد وأبو حنيفة قالا: يجوز، وإن كان الإمام أحمد -رحمه الله- لا يستحسنه، ولكنه يقول: يجوز.
ولهذا قال الحنابلة: وكل قربة فعلها وأهدى ثوابها لحي أو ميت وصله، لكن هل كانت هذه المسألة من عمل الصحابة؟ هل كان الرجل إذا توفي قريبه صام عنه؟ وهل كان إذا توفي قريبه أخذ يحج عنه؟ أو كما يفعله عندنا يضحي عنه؟
نقول: إنَّ هذه لم تكن عند الصحابة -رضي الله عنهم- ولكنهم كانوا يتصدقون ويدعون، فالصدقة والدعاء هي أعظم ما يتقرب به، وأولى من ذلك كله أن يحيا بعض آثار الميت، يعني: إذا كان للميت مثلا آثار علمية تنشر، وإذا كان له مواقع وكتابات فيها دعوة -الآن أصبح تويتر وغيره لا يكاد أحد يخلو منها- وحتى لو لم يكن صاحب علم، فربما نشر دعاء أو ذكرًا، هذه تنشر بين الناس؛ لأنها قد تكون من الصدقة الجارية عليه، هذا هو من أولى ما يُتقرب به لله -عز وجل- عن هذا الميت؛ لأنه نَشرٌ وإحياءٌ لأثره الصالح، وأمَّا ما سوى ذلك؛ فإنه حقيقة لا ينبغي، يعني الأفضل في هذه المسألة أن يقال: إذا كنت ستعمل عملا فأنت تراك ستحتاجه، وهذا أحيانا من الأمور التي يغفل عنها كثير من الناس، تريد أن تصوم فصم عن نفسك، تريد أن تحج فحج عن نفسك، ولا تظن أنك أعظم محبة ورحمة بهذا الميت من ربه -عز وجل.
إذًا عليك بالدعاء، وإن كنت تريد أمرًا بخلاف ذلك، فعليك بالصدقة عنه، وهذا يكفي -إن شاء الله عز وجل-.
{بالنسبة لمن يهدي ثواب صدقته للميت أو غيرها فهل يصله ويصل للميت أو يصل لأحدهما فقط؟}
الأصل أنه يصل إلى الميت، وقد يصل لهذا الحي أجر البر، وإذا قلنا لو أنَّ الإنسان صام مثلا صوم غير فرض وأهداه، فنقول: على قول الإمام أحمد يصله، ولكن هل يكتب له ولك؟
نقول: لا، الأصل في الثواب أنَّه إنما يكتب لشخص واحد، لكن أنت يصلك أجر البر والصلة، وإذا قلنا بصحة هذه المسألة، والحقيقة أنَّ هذه المسألة عندي فيها تردد، والظاهر والله أعلم أنه في هذا يلتزم بالدعاء، والصدقة عنه، والاستغفار له، والترحم عليه، ونحو ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ»)}.
المصنف -رحمه الله- ذكر حديث سهل -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله ﷺ قال: «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» وفي هذا الحديث إشارة من النبي ﷺ إلى الالتزام بأحكام الشرع، والنهي عن التعمق في الدين، وأنَّ التعمق في الدين ليس مما يريده أو يحبه الله -عز وجل.
والأصل في دين الله -عز وجل- أنَّه دين قصد، واقتصاد في سبيلٍ وسُنة خير من اجتهاد في غير سبيل ولا سنة، هذا هو الأصل، والقاعدة التي قعدها الصحابة -رضي الله عنهم- من فهم النبي ﷺ، لَمَّا جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال: إني لا أتزوج النساء، وقال الاخر: إني لا أكل اللحم، وقال الثالث: أمَّا أنا فأقوم ولا أنام، فقال النبي ﷺ: «لكنِّي أصومُ وأُفطرُ، وأقومُ وأنامُ، وآكلُ اللَّحمَ، أتزوَّجُ النِّساءَ. فمَنْ رغِبَ عن سنَّتي فليس منِّي» فإذًا الأصل أنَّ الشارع يحب مراعاة حدود الله- عز وجل-، ومن مراعاة حدود الله- عز وجل- مراعاة المقاييس أو المعايير أو الأوقات الشرعية التي وقتها الله -عز وجل-، فإذا كان كما أنه لا يسوغ لك أن تتأخر في الأكل أو الشرب ولو دقيقة واحدة، بعد أن يستبين لك طلوع الفجر، فكذلك الله- عز وجل- يحب أيضًا أن تأخذ حتى بالرخصة، فإذا انتهى الصيام بادرت بالفطر، حتى يتمايز صومك الشرعي عن الصوم الاعتيادي.
كيف يتميز الصوم الشرعي عن الصوم الاعتيادي؟
إذا غربت الشمس وتحقق من غروبها بادرت بالفطر، ولهذا قال النبي ﷺ: «لا يَزَالُ النَّاسُ بخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ»، يعني أنَّ هذه الأمة لا تزال أمة مرحومة، أمة فيها الخير، ما دام أنَّها عاملة بهذه السنة عن رسول الله ﷺ، والتي هي سنة تعجيل الفطر.
فإذًا يُستحب بوجه عام أن يُعجل الفطر عند أذان المغرب، ولهذا جاء في حديث عبد الله بن أبي أوفى، أنهم كانوا مع النبي ﷺ في سفر، فقال للرجل: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَ» فنظر فقال: يا رسول الله إنَّ عَلَيْنَا نَهَارًا، بسرعة تعجيل النبي ﷺ للفطر، قال: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَ» قال: إنَّ عَلَيْنَا نَهَارًا، لماذا؟ لأنَّ هذا الصحابي يظن أنَّ الليل المأمور فيه بالفطر، إنما هو الظلام، وهذا ما هو بصحيح، المأمور به إنما هو غيبوبة الشمس، ولهذا قال: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَ»، فلما نزل فجدح شرب منه النبي ﷺ، فقال: «إذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قدْ أقْبَلَ مِن هَاهُنَا، فقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ»، ولهذا ذهب بعض أهل العلم -رحمهم الله- إلى أنَّ فطر الصائم يقع جبرًا، وهذا يشبه مذهب ابن عباس- رضي الله عنه-، كيف يقع جبرًا؟
قالوا: سواء كنت تفطر أو لا تفطر، فإذا أذن المغرب فأنت مفطر، حتى لو لم تأكل؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «فقد أفطر الصائم» وهذا قول له وجاهة، لكن مما يضعفه شيئًا يسيرًا أنَّ النبي ﷺ قد رخص في الوصال إلى السحر، ولكن يقال في الجمع بين هاتين الصورتين: إنَّ ثَمَّ حالين، الحال الأول: حال من لم ينو الوصال، فهذا الظاهر -والله أعلم- أنه إذا غربت الشمس وقع فطره.
والحال الثانية: حال الرجل الذي قال: لي رخصة في الوصال إلى السحر، فأنا سأواصل، فها هنا -والله أعلم- قد يقال: إنه يمد فطره إلى السحر، وبوجه عام نقول: إن هذا -أعني مد الفطر إلى السحر- هو خلاف سنة النبي ﷺ، ولهذا لَمَّا أراد الله- عز وجل- لهذه الأمة، أي: الأمة السنية الخير، عجل الفطر، ولَمَّا أراد الله- عز وجل- لغيرها من أهل البدع والضلال أَخَّرَ الفطر إلى اشتباك النجوم، فكانوا لا يفطرون إلا بعد ما يفطر المسلمون بنصف ساعة أو أربعين دقيقة تقريبًا، هذه كلها من رحمة الله- عز وجل- التي يريدها بهذه الأمة، أن يعجل الناس الفطر، وهذه في الحقيقة من السنن التي لا يزال الناس والحمد لله متمسكون بها.
ما يقول الإنسان لحاجة الناس للطعام والشراب، نقول: لا، ونحن -بحمد الله- نحسن الظن بالمسلمين، ونقول: لا، ليس الأمر لحاجة الناس للطعام والشراب، بل لأمر آخر وهو اتباع السنة، وهذا هو حسن الظن الواجب بالمسلمين.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا: فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»)}.
هذا هو الحديث السابق الذي ذكرناه قبل قليل، ذكرنا أنه رواه عبد الله بن أبي أوفى، ورواه أيضًا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، قال النبي ﷺ: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَ» يعني: من جهة المشرق، «وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَ» يعني: من جهة المغرب، «فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» فبين النبي ﷺ أنَّ العبرة باكتمال غيبوبة الشمس، واكتمال تحقق الليل، وتحقق غياب النهار، هو الأصل بوجه عام، ولهذا الأصل فيه، أنه هو الوقت الذي يؤذن فيه للصلاة، الوقت الذي يؤذن فيه للصلاة هذا هو وقت الفطر، وقد يقول الإنسان: ما حاجتنا إلى تقرير هذه المسائل؟
نقول: لأن هذه السنة منتشرة الآن عندنا، وإلا فإنها قد تخفى في بعض الآثار، ولما غلب على الأمة الدولة البويهية الرافضية، والدولة العبيدية الدعية، غابت هذه السنة، فموهوا على الناس، وأوهموهم أن الفطر لا يقع بغروب الشمس، بل نحتاج أن نتريث بعد ذلك، إلى ثلث ساعة أو ربع ساعة أو أكثر من ذلك، فساق المصنف -رحمه الله- هذه النصوص لتقرير هذه السنة عن رسول الله ﷺ.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْوِصَالِ. قَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ. قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى». وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
الوِصال: هو وصل الصوم متابعة بعضه بعضاً دون فطر أَو سحور)
}.
لَمَّا تكلم المصنف -رحمه الله- وقدم المقدمات الدالة على فضل تعجيل الفطر، وعلى أنه «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا. وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا: فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» عقب ذلك بحديث الوصال، والوصال هو وصل صيام اليوم باليوم الذي بعده من غير فطر بينهما، هذا هو الوصال أن يصوم يومين أو أكثر من ذلك من غير أن يفطر.
{هل كانوا يقدرون؟}
نعم، كان عندهم من القوة ما يقدرون به على أن يواصلوا أربعة عشر يومًا، وقد ثبت ذلك صحيحًا عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- فإنه ممن لم يعرف نهي النبي ﷺ عن الوصال، فكان يواصل في مكة وحرها أربعة عشر يومًا، أي: قريبًا من نصف شهر نصف وهو صائم، ليس عن الطعام فقط، وإنَّما عن الطعام والشراب، وهذا كثير مما يظنه بعض العقلانيين وبعض أصحاب علم النفس وبعض أصحاب ما يسمونه بالفسيولوجيا وغيرهم من الاعتقادات التي يعتقدونها، أنَّ أجسام البشر على نمط واحد، وما إلى ذلك.
نقول: لا، قد كان لهؤلاء السلف الصالح -رضوان الله عز وجل عليهم- من القوة والقدرة ما لم تكن لنا، ولهذا لا نستغرب إذا رأينا شدتهم في القتال، وشدتهم في العبادة، كان لهم أجسام لم تكن كأجسامنا، وإذا قارن الإنسان أجسامه بأجسام الجيل الذي قبله، والجيل الذي قبله، رأى الفرق واضحًا، الأمر ليس متباعد ما بيننا وبينهم إلا خمسين سنة أو سبعين سنة، ومن الطرائف في نقص الناس، أنَّ الله -عز وجل- قد خلق آدم على كهيئة بطول ستين ذراعًا، أي أنَّ طوله في السماء ستون ذراعا، وهذه تعني ما بين العشرين إلى الثلاثين متر، على خلاف الأذرع -والله أعلم- في الذراع أنها نصف متر وزيادة، ولهذا فنحن نتكلم عن خمسة وثلاثين متر. وجاء في بعض الروايات، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن، ومع ذلك فإنهم يقولون: إنَّ عبد المطلب جد النبي ﷺ. قد كان يقف إلى جواره العباس فيكون إلى منكبه، أقصر من أقصر، ويقف العباس فيقف إلى جواره ابنه عبد الله ابن عباس حبر الأمة، فيكون إلى منكب والده العباس، وقال ويقف بجواره علي فيكون إلى منكب ابن عباس، وما زال الخلق ينقص، حتى بلغ النقص إلى ما وصل إليه.
وقد يأتي في بعض الأزمان أنَّ الناس يستصحون فيطولون وتعظم أجسامهم، هذه سنة موجودة، ووارد حصولها.
الشاهد أنَّ الوصال، هو وصل اليوم باليوم الذي يليه، وقد كان النبي ﷺ يصنعه. لماذا؟ لأنه يطعم ويسقى، «إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى» ليس الطعام والسقاية الحسية المعروفة؛ لأنه لو كان يطعم ويسقى حسيا ما كان صائمًا، ولكنه يطعم ويسقى من القوة التي يمدها الله -عز وجل- به، وفي هذا دلالة على أنه كلما كان أكثر إيمانا بالله -عز وجل- وقوة في دين الله -عز وجل- كان أكثر قوة في بدنه، يقويه الله -عز وجل- ويعينه، ولهذا يُعان الإنسان أحيانًا على العبادات ما لا يعان غيره، وقد يُظن فيه ضعف الجسد، لكن يقدر على العبادة ما لا يقدر عليها أصحاء الرجال، ولهذا ما نستغرب إذا رأينا أن بعض كبار السن قد بلغ السبعين والثمانين وهو يقوم على كثير من العبادات، يقول أبو إسحاق السبيعي: يا معشر الشباب، بادروا الشباب قبل أن يرحل، فإني والله لا أريد أن أقوم الليلة فما أستطيع أن أقوم إلا بسورة البقرة"، يقوم الآن في الصلاة بسورة البقرة كاملة، ولو قلت لبعض الشباب الآن، قم الليل بسورة البقرة في ركعة لقال: هذا طويل جدًا، فعظم عليه ذلك، ولهذا نقول: كلما كان العبد أكثر إيمانا بالله -عز وجل- كلما كان أقوى.
قال: «إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى» وفي بعض الروايات: «إِنِّي أَبِيتُ مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِي» يعني: من ربي -عز وجل- وهذه سقاية ليست حسية، وإنما هي سقاية وطعام معنوي، وفيه أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- لَمَّا أبوا ذلك، يعني: حملوا قول النبي ﷺ على أنه إنما يراد به التسهيل عليهم، الترخيص لهم، من نحو قول النبي ﷺ لهم يوم الحديبية: «انحروا واحلقو» فلم ينحر أحد منهم ولم يحلق، فحملوا هذا الأمر على هذا فواصلوا، فلما صنعوا ذلك وأكثروا على النبي ﷺ في طلب الترخيص بالوصال؛ فَواصَلَ بهِمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَيْنِ أوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ رَأَوُا الهِلالَ، فقالَ النبيُّ ﷺ: «لَوْ تَمَادَّ لي الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ المُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ» يعني: إذا كنتم تريدون أن تقلدوني في هذا الأمر، الذي هو خاص بي، فكنت سأواصل بكم وصالا يتعبكم، ويجعل الإنسان -كما نقول نحن- يقول: توبة، لا أرجع إلى هذا أبدا.
قال أبو هريرة وأنس: «كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهو». يعني: كأنما أراد النبي ﷺ الزجر لهم ها هنا، قال النبي ﷺ: «إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى» فإذا ظهر لنا أنَّ الوصال وصل اليوم باليوم غير مشروع. والصحيح من أقوال أهل العلم أنه محرم، وإن كان بعض العلماء قال: إنه مكروه، لكن الصحيح أنه محرم.
ثم إنَّ النبي ﷺ لاحظ بعض الصحابة ما زال عنده محبة للصيام؛ فرخص لهم في أن يواصلوا إلى السحر، «فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ» يعني: إلى قريب من صلاة الفجر، والأهم أن يفصل بين صيام هذا اليوم وصيام اليوم الآخر بأكلة، والتي هي أكلة السحر، هذا لمن أراد، ولكن هل هذا هو الأفضل؟ لا، الأفضل هو ما ذكره المصنف -رحمه الله- «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ».
قول النبي ﷺ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَ» هذا هو الأفضل، وإذًا فيقال للإنسان: إذا كان هذا هو الأفضل، فما هو حاجتك إلى أن تتعب وترهق نفسك بصيام خمس ساعات أو سبع ساعات إضافية، وهناك مشقة، وليس أجرك كأجر من صام؟
هل من مَدَّ الصيام له أجر؟ هذا هو السؤال.
نقول: له أجر، ولكنه ليس كأجر من عجل الفطر، وهذا هو فيصل النزاع في هذه المسألة، فهو مأجور، ولكنه ليس كأجر من عجل الفطر، بل من عجَّل الفطر أعظم أجرًا؛ لأنَّه صار محققًا لسنة التعجيل، فمن عجل الفطر أعظم ممن مدَّ فترة صيامه لهذه الساعات السبع أو الثمانية، التي لم يأمر الله -عز وجل- بها.
قال -رحمه الله: (بَابُ أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنِّي أَقُولُ: وَاَللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَقَالَ: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ». قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ». قُلْتُ: أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً، فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد. وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ». فَقُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد -شَطْرَ الدَّهْرِ- صُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْم»)
}.
هذا الحديث حديث جليل، وعظيم القدر، وهو من عُمد أحاديث صيام التطوع، وفيه أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لَمَّا أسلم في السنة السابعة، وهو ممن تأخر إسلامه، ولكنه لَمَّا أسلم جدَّ في العبادة، جدَّ في قيام الليل وصيام النهار، وقد دخل عمرو بن العاص يومًا على بيت ولده فوجد امرأته -أي امرأة ولده عبد الله- فلمَّا سألها أخبرته بحال عبد الله، ما هو حال عبد الله؟
حاله أنه يصوم إلى أن تغرب الشمس ومن ثم يفطر، فإذا أفطر قام يُصلي فيما بين المغرب والعشاء، ثم يصلي العشاء، ثم يقوم الليل إلى أن يطلع عليه الفجر. إذا ما هناك وقت لزوجته، فأُخبر النبي ﷺ بقول عبد الله: والله لأصومنَّ النهار ولا أقومنَّ الليل ما عشت، هذا حلف.
فقال رسول الله ﷺ: («أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟» قال: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) الآن هو في زمن الشباب، ولا يدري ما يحصل له فيما بعد. فهو في زمن شره وحرارة ونشوة، ولا يعلم ما الذي سيترتب عليه فيما بعد، فقال النبي ﷺ: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ»، أي: أخبره النبي ﷺ بأنه لا يستطيع ذلك، من جهة ماذا؟ من جهة أنه سيدركه زمان يعمر فيه وتكبر فيه سنه، وما يستطيع أن يفي بهذا اليمين الذي عاهد الله -عز وجل- عليه، ومن جهة أنَّ بذلك سيضر بنفسه؛ لأنه قال قد قال النبي ﷺ: «فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذلكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، ونَفِهَتْ نَفْسُكَ» وقوله: «ونَفِهَتْ نَفْسُكَ» أي: ملته، لماذا؟ لأنَّ العبادة إذا كانت متتابعة للإنسان يملها، ولهذا من رحمة الله -عز وجل- أن جعل العبادات متنوعة، هناك صلاة، وهناك صيام، وهناك زكاة، وهناك حج، وهنا أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهناك بذل في وجوه الخير، وهناك ذكر لله -عز وجل- وهناك قراءة القرآن. ولو اتينا للعبادات القولية، سنجد أنها تتنوع، والعبادات الفعلية أكثر منها، أذكار الصباح والمساء، وقراءة القرآن، وأشياء كثيرة. كل هذه من العبادات، وذلك حتى يتنقل الإنسان في رياض الجنة.
قال: «فإنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلكَ، هَجَمَتْ عَيْنَاكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ» وهجمت له العين، أي: تتعب العين.
قوله: «وإنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ حَقًّ»، حق أهلك أن تجلس معهم، وأن تعاشرهم.
وحق نفسك، أي: الطعام والشراب، وأن تمتعها بما أحلَّ الله -عز وجل-، ومن الأمور التي يغفل عنها كثير من الناس أن يغفل عن مكافأة نفسه على العبادة، وهذا من المعاني العجيبة، وهو مستنبط من حديث ابن عمرو -رضي الله عنهما.
كيف يكافئ نفسه على العبادة؟
كثير من الناس يكافئ نفسه على جِدِّه في عمل الدنيا، تجد المعتبر عند الناس أنَّ عندهم شهر إجازة في السنة، وهو شهر مكافأة حتى يروح فيه عن نفسه؛ لأنّه أخذ أحد عشر شهرًا، أو اثنا عشر شهرًا من العمل، ثم أخذ شهرًا إجازة ينفث فيه عن نفسه، فيأتي كثير من الناس ويقول أريد أن أكافئ نفسي، حتى صارت عرفًا عند الناس، أنَّ من عمل عملا حسنًا فعليه مكافأة نفسه.
أنت وضعت لك غرضًا وهدفًا تصل له، فإذا وصلت له كافأت نفسك، كيف؟
بشراء سيارة مثلا أو بسفر، أو غير ذلك، وهذا أمر لا بأس فيه، ولكنه يكون من باب أولى في العبادة، فإذا عملت عبادة فكافئ نفسك، ولهذا كان سفيان الثوري -رحمه الله- يأكل حتى يشبع ثم يقول: أكدها كَدَّ العبد في العبادة، أي: يجتهد، فوسع لنفسك، فما دام أنك قد عبدت الله -عز وجل- عبادة.
ومن معالم هذا الامر عيد الفطر، فهو مكافأة من الله -عز وجل- لهذا يحرم صيامه، وهذا المعنى ينبغي أن يستصحب، أنك كلما تعبدت الله -عز وجل- فكافئ نفسك على هذه العبادة التي تعبدت الله -عز وجل- بها، بأن تأكل مما أحلَّ الله -عز وجل- لك.
قال: «إنَّ لنَفْسِكَ عليكَ حقًّا، ولِرَبِّكَ عليكَ حقًّا، ولِضَيْفِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لِأهلِكَ عليكَ حقًّا، ولزورك عليك حق» يعني: ضيفك، ثم أخبر النبي ﷺ عبد الله بن عمرو بمنهج شرعي في الصيام، سنذكره -إن شاء الله عز وجل- في المجلس القادم بحول الله وقدرته.
{أحسن الله إليكم شيخنا، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفتح لنا ولكم، وأن يزيدنا ويزيدكم من فضله، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبلغنا وإياكم شهر رمضان، وأن يُعيننا واياكم فيه على العبادة، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا واياكم لكل خير.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، أستودعكم الله، ونلتقي بكم في لقاءات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك