{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على أشرف الأنبياء، وإمام المرسلين، حياكم الله وبياكم، مرحبا بطلاب العلم، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ.... يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخ إبراهيم}.
طيب الله أيامكم بكل خير، حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا بما نقول ونسمع، آمين.
{بارك الله فيكم، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما}.
نكمل بعون الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال- رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ». قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ». قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «وَالْمُقَصِّرِينَ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد ذكر المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- في دعاء النبي ﷺ للمحلقين وللمقصرين أن الحلق أو التقصير نسك لا يتم الحج ولا العمرة إلا به، وهذا هو قول جماهير العلماء -رحمهم الله، وقد ندب النبي ﷺ وأمر به فقال: «ومَن لَمْ يَكُنْ مِنكُم أهْدَى، فَلْيَطُفْ بالبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ، ولْيُقَصِّرْ ولْيَحْلِلْ»[1]، فجعل النبي ﷺ الإحلال منوطًا بفعل هذه الأشياء الثلاث، الطواف والسعي والتقصير أو الحلق.
فإذًا يقال: إنَّ الحلق والتقصير من أنساك الحج وأنساك العمرة، وهو مما يدل على تمام الذل لله وتعالى. كيف يدل على تمام الذل لله تبارك وتعالى؟
لأنَّ من تمام الذل وضع النواصي، ووضع النواصي يعني: إزالة الشعر، ولهذا كان من سيمات العرب أنهم كانوا لا يحلقون شعورهم إلا في حج أو عمرة، يقول جابر -رضي الله عنه: "كُنَّا نُعْفِي السِّبَالَ إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ". وقد ثبت أنَّ النبي ﷺ كان له شعر يضرب إلى منكبيه ﷺ. لماذا؟ لأنه كان على عادة العرب في إعفاء الشعور.
ومما يدل على معنى الخضوع لله -عز وجل- في وضع النواصي الخوارج لَمَّا اشتطوا في الدين وبالغوا فيه كان من سماهم التحليق، قال النبي ﷺ: «تمرُقُ مارقَةٌ على حينِ فُرقَةٍ من المسلمينَ فتقتُلُهم أدنى الطَّائفتينِ إلى الحَقِّ، سِيمَاهُم التَّحْلِيقٍ»[2]، ما معنى التحليق؟ تحليق الرؤوس. لماذا يحلقون الرؤوس؟
يقولون: أبلغ في العبادة، أي: ما يكفيهم أن يتعبدوا لله -عز وجل- بحلق الرأس في الحج، يقول: كما وضعت رأسي في الحج أو العمرة، فأنا أضع رأسي لله في كل وقت، ونقول: إنَّ التعبد لله -عز وجل- بحلق الرأس في غير الحج والعمرة بدعة، يجوز أن تحلق رأسك في غير الحج والعمرة، وليس في هذا بأس، لكن ليس تعبدًا، تحلقه لأنك اعتدت على ذلك، أو لأنك تريد الهوى والراحة، ما في بأس، أو حتى تريد أن تتزين، مع أنَّ الزينة ليست في حلق الرأس، ولكن الزينة تختلف في الأزمان والأوقات.
ولكن إذا كنت تريد راحة أو نظافة وما إلى ذلك، فلا بأس بالحلق، لكن أن تحلق رأسك لأجل العبادة، فهذا لا يجوز إلا في الحج أو العمرة.
ومن فعل ذلك، فقد وقع في بدعة شابه فيها الخوارج، ولهذا قال ﷺ: «سِيماهُمُ التَّحْلِيقُ أوْ قالَ: التَّسْبِيدُ»[3].
ويزيد على ذلك أنَّ عمر -رضي الله عنه- لَمَّا ضرب صُبيغًا قال له عمر -رضي الله عنه- قال: "لَوْ وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ بِالسَّيْفِ"[4]، أي: لو وجدتك محلوقًا لعلمت أنك لست رجل عنده إشكالات فكرية، بل لعلمت أنك صاحب منهج ضال، وعلمت أنك من الخوارج، الذين قال فيهم النبي ﷺ «سِيماهُمُ التَّسْبِيدُ».
فإذًا هذا المعنى حقيقة ينبغي أن يُستشعر؛ لأنَّ كثيرًا من الناس لا يستشعر معنى العبادة لله -عز وجل- عند الحلق وعند التقصير، وبه يُعلم -وهذا أيضا مما يستعان به على كثير من تحقيق السنة- أنه كلما كان الأمر أبلغ؛ كلما كان أكثر عبودية لله -عز وجل- كيف؟
نقول: النبي ﷺ دعا للمحلقين ثلاثا، ودعا للمقصرين مرة واحدة، ففضل النبي ﷺ المحلقين لماذا؟ لأنه أبلغ في التعبد لله -عز وجل-، أزال كل الشعر ووضعه لله -عز وجل-، بينما هذا أخذ شيئًا يسيرًا أو أخذ شيئًا وأبقى شيئًا، فكان صاحب التحليق أفضل.
قالوا: وهذا إجماع من العلماء على أنَّ التحليق أفضل من التقصير، إلا في حالة المتمتع؛ لأنَّ المتمتع في عمرته يُشرع له التقصير، ويكون في حقة أولى من الحلق، ولهذا لو نرجع للأحاديث نجد أنَّ النبي ﷺ قال في أغلب الأحاديث: «وَليُقَصِّرْ» وذلك لأنه سيحلق في الحج. قالوا: بقي شيء يوفيه من شعره حتى يحلقه بالحج.
لكنه لو قال: أريد أن أحلق مرة أخرى بالحج، نقول ما في بأس، فإذا جاء الحج نقول: إن كان ظهر شيء من شعرك، يعني: إذا كنت -على سبيل المثال- قد فرغت من عمرتك في واحد من ذي الحجة، وفرغت من حجك في اليوم العاشر، يكون حينئذ قد ظهر الشعر يسيرًا، فنقول: احلق، لكن لَمَّا يكون ليس بين حلقه في المرة الأولى، وبين حلقه في الحج إلا دقائق أو سويعات. نقول: الصحيح أنه يقصر، وإلا فإنه لم يجد شيئًا يحلقه، وهذا هو الذي يقال لك: لِمَ تحلق؟ ولا يُشرع في حقك الحلق، وإنما يُشرع في حقك التقصير.
{شيخنا أحسن الله إليك، التقصير يدخل فيه من يحلقه بالماكينة؟}
هذه المسألة سنذكرها الآن، وهي مسألة ما هو معيار الحلق؟
الحقيقة أنَّ الحلق إنما كان في الزمان الأول بالمواسي، فإذا أطلق الحلق فهو بالموسى، لكن حقيقة لا يبعد أن يقال: إن الحلق بالماكينة "صفر" هذا الذي لا يبقي شيئًا من شعر رأسه إلا آثار يسيرة يكون قريبًا منه، ويكون -إن شاء الله عز وجل- في معنى الحلق؛ لأنه إزالة لكامل الشعر، وما بقي شيء من الشعر، إلا منابت يسيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة، فيدخل فيه -إن شاء الله- لأن الصفر فعلا على مسماه، ولا يبقي شيئًا، وكثير من الناس يصعب عليه الحلق جدا بالموس؛ لأنَّه ربما جرحه وآذاه وما إلى ذلك، فالصواب -إن شاء الله عز وجل- أن الحلق بالموسى وما قاربه يكون داخلا فيه، وأما ما سوى ذلك مما يرى معه أثر الشعر، فإنه ليس حلقًا وإنَّما هو من التقصير.
{أحسن الله إليكم. في الجانب المقابل، ما هو ضابط التقصير الذي يجزئ؟}.
هذه أيضا مسألة كنا سنتكلم عنها، وهي: ما هو باب التقصير؟ هل يجوز للإنسان أن يأخذ شيئا يسيرا؟ شعيرات يسيرة، الصحيح لا، إن التقصير ينبغي أن يكون كالحلق أي: يشمل الرأس كلها، إمَّا أن يكون من جميع أجزاء الرأس أو يكون من غالبها، يعني: ما يستطيع الإنسان أن يأخذ من كل شعرة، ولكن يستطيع أن يأخذ من غالب شعر الرأس، إمَّا بالماكينة أو المقص أو نحو ذلك، وهذا هو التقصير المجزئ.
وأمَّا من يأتي فيأخذ شعيرات يسيرة؛ فإنَّ تقصيره لا يُجزئ. هذا أمر.
الأمر الآخر أنَّ المرأة لا يشرع في حقها الحلق، بل حرم العلماء -رحمهم الله- على المرأة الحلق؛ لأنَّ فيه مُشابه للرجل فيه، وقد كان السلف -رحمهم الله- ينهون المرأة أن تحلق رأسها، نعم قد ثبت عن بعض أمهات المؤمنين أنها حلقة شعرها في آخر عمرها، لكن -والله أعلم- أن ذلك كان لداء أو لعلاج أو نحو ذلك، ولذا نقول: يشرع للمرأة إذا كان ثم علاج أن تحلق شعرها، ولكن يُشرع لها أن تقصر منه مقدار أنملة، أي: تأخذ منه شيئًا يسيرًا، هذا هو التقصير الواجب في حق المرأة.
وينبغي أيضًا أن يُقال: أن التقصير ينبغي أن يكون تقصيرا شاملا للرأس كله، وينبغي أيضا أن يستشعر أنَّ هذا الحلق هو عبادة، وذلٌ لله -عز وجل-، فكلما كان الحلق أبلغ في ذله لله -تبارك وتعالى- والعلماء -رحمهم الله- يقولون: حلق الشعر لأحدٍ من الخلق شرك بالله -عز وجل-، إذا قصد بحلقه مخلوق.
كيف ذلك؟ مثل بعض علماء الصوفية، قد يطلب من مورديه أن يحلقوا شعورهم أمامهم، وهذا شرك بالله -عز وجل-؛ لأنها عبادة، فكيف تصرف العبادة لغير الله عز وجل؟ هذه مثل الذبح لغير الله -عز وجل- وهذه قد نص عليها الإمام ابن القيم -رحمه الله-، وقد نَصَّ عليها أيضا جماعة من العلماء -رحمهم الله-.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ. فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ. فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا حَائِضٌ. قَالَ: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: «اُخْرُجُو».
وَفِي لَفْظٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «عَقْرَى، حَلْقَى، أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَانْفِرِي»)}.
هذا الحديث مع حديث ابن عباس -رضي الله عنه- هو العمدة في أمور، منها:
وجوب طواف الوداع، إلا أنه يسقط عن الحائض والنفساء، من أين؟ من ترخيص النبي ﷺ لصفية، وواقع الحال أنَّ النبي ﷺ بعد أن أفاض من البيت، وبعد أن رجع بيومين أو يومين أراد من صفية -رضي الله عنها- ما يريده الرجل من امرأته، فقيل له: إنها حائض، فوجل النبي ﷺ وقال: («عَقْرَى، حَلْقَى») وهذا دعاء لا يُراد به المعنى، فـ («عَقْرَى») من العقر، الذي هو الذبح، و («حَلْقَى») أي: من المصيبة التي تحصل على الإنسان، وهذا من نحو قول الإنسان: تربت يداك، هذه كلها من الألفاظ التي لا يريد الإنسان بها معناها، وإنما جرى بها لفظ العرب، تقال في المشكلة أو النزاع أو نحو ذلك، وهي مثل: ثكلتك أمك، وتربت يمينك ،وغيرها من الألفاظ المعروفة عند العرب.
قيل له: إنها حائض، فقال النبي ﷺ: حائض، والظاهر -والله أعلم- أنَّ النبي ﷺ ظن أنها قد أخرت طواف الإفاضة؛ لأنَّ بعض النساء قد أخرن طواف الإفاضة، فقال النبي ﷺ: («أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟») دلَّ ذلك على ماذا؟ على أنَّ طواف الإفاضة لا يسقط بحال، وطواف الإفاضة هو الطواف الذي يكون في يوم العيد، يعني: بعد طلوع الشمس أو بعد طلوع الفجر، هذا هو طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة للحج، وهو من أركان الحج عند العلماء -رحمهم الله- ولا يسقط عن حائض، ولا عن نفساء.
طيب ما الذي تصنع؟ تجلس وتحبس أهلها ورفقتها إلى أن تطهر فتطوف، ولهم كذلك خيار آخر، ما هو؟
الخيار يرجع إلى جدة أو يرجع إلى بلده -إن شاء- ثم يرجع من جديد بعد أن تطهر، لكن بشرط أنه إذا رجع ما يصيبها حتى لو طهرت إلى أن تتحلل؛ لأنَّ هذا الإهلال حتى لو كانت رمت وحلقت ونحرت إلا أنَّ عليها الحل الأكبر، وهي لم تزل حتى الآن لم تحل الحل الأكبر.
إذًا هي تحبس رفقتها، وقد كانوا في الزمان الأول يحصل لهم بسبب طواف الإفاضة عناء شديد، فكانوا يأمرون النساء أن يعجلن طواف الإفاضة، وهذا من الأمور التي ينبغي للرجل أن يكون عاقلا، إذا كان معه نسوة خاصة من معه أكثر من امرأة، إذا كان مع امرأة قد يكون يعلم عادتها مثلا، يقول: أعلم أن عادتها ليست قريبة، ولكن لو كان معه أكثر من امرأة، قد تصيب واحدة منهن العادة، فينبغي له أن يكون أول ما يُبادر به في حق النساء طواف الإفاضة؛ لأنَّ كل ما سواه سهل، وليست ممنوعة منه، فهي تستطيع أن ترمي في أي وقت، وتستطيع أن تحلق، وما بقي بعد ذلك من مناسك فيجوز لها أن تحضرها، فإنَّ النبي ﷺ قال لعائشة: «فَافْعَلِي ما يَفْعَلُ الحَاجُّ، غيرَ أنْ لا تَطُوفي بالبَيْتِ حتَّى تَطْهُرِي»[5] المناسك كلها، مثل: عرفة ومزدلفة ورمي الجمرات، كل هذه تصنعها، ليس من شرطها الطهارة، وأمَّا الطواف فلا تطوف إلَّا وهي طاهر. هذا معنى من المعاني.
أيضا من المعاني أن الله -عز وجل- قد رخص -وهذا من الترخيص العظيم الذي هو من أعظم الرحمات التي رحم الله -عز وجل- بها عباده في الحج- حيث قد أسقط عن المرأة طواف الوداع، فَدَلَّ ذلك على أنَّ طواف الوداع طواف واجب، هو ليس من أركان الحج لكنه واجب، وطواف الوداع هو الطواف الذي يكون بعد انتهاء المناسك، وقبل مغادرة مكة والخروج منها، ويجوز للإنسان في هذا الطواف أن يجمع فيه بين طواف الإفاضة وطواف الوداع، مثل من يؤخر طواف الإفاضة ويطوف طوافًا واحدًا بنيتين، هما: نية الإفاضة، نية الوداع، فيجمع بين النيتين.
ولو نوى أنه يكون بنية طواف إفاضة فحسب؛ صَحَّ وكان مجزئًا، لماذا؟ لأنه هو بالفعل طواف وداع، بحكم ماذا؟ بحكم أنه آخر ما يصنعه.
فإذًا طواف الوداع واجب، لكنه قد يسقط عن النساء الحيض والنفساء، وقد كان جماعة من الصحابة أول الأمر يُنازعون في ذلك، فقد كان الأنصار يُنازعون في ذلك على مذهب زيد بن ثابت، ومذهب زيد بن ثابت أنه لم يكن يعفي النساء الحيض من طواف الوداع، فكان يحبسهن ويقول: تحبس الرفقة، وتحبس القافلة حتى تطهر.
فقال ابن عباس -رضي الله عنه-: إنَّ النبي ﷺ رَخَّصَ لهن. فقال الأنصار: والله لا ندع قول زيد بن ثابت ونأخذ بقولك. فقال: إمَّا لا، فاسألوا أم سليم، فإنَّ النبي ﷺ قد رَخَّصَ لها، فذهبوا إلى أم سليم، وأم سليمة أنصارية، فسألوها فقالت: إنَّ النبي ﷺ قد رَخَّصَ لها، فرجع زيد -رضي الله عنه- عن رأيه إلى رأي ابن عباس -رضي الله عنه-.
فإذًا طواف الوداع -كما ذكرنا- طواف واجب، ولكنه يسقط عن الحيض والنفساء.
{قال -رحمه الله: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَاّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ»)}.
قوله -رضي الله عنه: («أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ») أي: الطواف به، («إلَاّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ») هذه من المسائل التي قال فيها بعض العلماء -رحمهم الله-: إنَّ طواف الوداع يلزم حتى المعتمر، قالوا: لأنَّ قوله: («أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ») يشمل حتى المعتمر، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى وجوب طواف الوداع على المعتمر، والصحيح أنَّ هذا لا يجب على المعتمر، وإنَّما يجب فقط على الحاج، ومما يقرر هذا أنَّ النبي ﷺ قد اعتمر ثلاثة عُمر، ولم يذكر عنه ﷺ أنه أمر أصحابه -رضوان الله عز وجل عليهم- أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، فَدَلَّ ذلك على أنَّ هذا المعنى إنما هو مُقتصر على الحج؛ لأنه هو الزيارة الحقيقية لبيت الله -عز وجل-، وما سواه إنما هو زيارة أصغر.
إذًا في هذا المعنى من الأحكام: أنَّ الحائض لا يجوز لها الطواف بالبيت؛ لأنَّ النَّبي ﷺ قد منعها من ذلك، وإنها لا تخرج حتى تطهر ثم تطوف، هذا فيما يتعلق بطواف الإفاضة، وهكذا النفساء. فإن قيل: هل يلزم من ذلك حبس الرفقة؟ على سبيل المثال لو أنَّ امرأة لم تطف طواف الإفاضة، وهي من شرق آسيا، من أندونيسيا أو ماليزيا أو نحو ذلك، وطيارتها يوم ثلاثة عشر، وهي تعلم أنها لا تطهر إلا في يوم الخامس عشر، قلنا: الحمد لله طواف الوداع سقط عنك، لكن ماذا عن طواف الإفاضة؟
نقول لها: اذهبي وارجعي، تقول لا أستطيع، نقول: لها احبسي رفقتك. تقول: ما أستطيع! شيخ الإسلام ابن تيمية قال في هذه المسألة قولاً: إذا اضطرت إلى الخروج في مثل هذه الحالة، وأصبح من الممتنع عليها أن تحبس رفقتها، أو أن تعود، أو أن تبقي معها رجلا محرمًا؛ فإنها في مثل هذا تتلجم حتى تمنع الدم، وتطوف، تكمل حجها ثم تخرج، أي: لا يسقط عنها، بل لا بد أن تأتي به بلا شك. وهذا القول في الحقيقة قول وسط، وهو مما يحتاج إليه الآن كثيرًا؛ لأنَّ هذه مشكلة، ولا نستطيع أن نقول للمرأة طوفي طواف الإفاضة قبل يوم العيد، لأنه لا يشرع، وليس هذا وقته، كيف تطوف والناس في عرفة! وما نستطيع أن نقول لها: تأخري حتى تطهري؛ لأنَّها مرتبطة الآن بإجراءات، ومرتبطة بأمور كثيرة جدًا، خاصة أن الأمور أحيانا أصبحت أمورا دولية، يعني: حملات وتأشيرات، ما تستطيع. فيقال في مثل هذا -والله أعلم: إنها تعمل مثل ما قال شيخ الإسلام؛ لأنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية من مذهبه أنَّ الطواف ليس من شرطه الطهارة، وإلا من قال باشتراط الطهارة للطواف يقول: طوافك هذا عبث، أي: لا فائدة منه أصلا، لماذا؟ لأنك تطوفين على غير طهارة، كما من يصلي على غير طهارة، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الصحيح -والله أعلم- أنَّ الطواف بوجه عام يصح بلا بغير طهارة، وقول ابن عباس -رضي الله عنه: الطواف ببيت صلاة إلا أنَّ الله -عز وجل- قد أباح فيه الكلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه لا يراد به الصلاة من كل وجه، بدليل أنه يتكلم فيه، ويتحرك فيه، ويمكن أن تطوف وأنت محمول، والصلاة الواجبة ما يجوز الطواف فيها وأنت محمول، ونحو ذلك من المعاني التي تدل على الخلاف بين الصلاة والطواف.
بوجه عام يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إنَّ قواعد الشرع تقتضي ذلك؛ لأنَّ الشريعة مبنية على السماح وعلى التيسير.
{شيخنا أحسن الله إليك، هل يجوز للمرأة أن تتلافى هذه المشكلة ابتداء، يعني: هل يجوز لها منذ أن تدخل في مناسك الحج أن تأخذ حبوبًا لإرجاء الحيض؟}.
بلا شك بل قد يقال أحيانا: إنها إن كانت تعلم أنها حيضتها ستأتي في مثل هذا الوقت فيجب عليها إذ لم يكن ثمَّ ضرر؛ لأن هذا نوع من المراعاة والرعاية لأحكام الشرع، إذا ما استطعت أنت تؤخرين حجك إلى عام آخر لا يوافق الحج فيه الدورة؛ لأن الدورة من المعلومة عند النساء تتنقل، يعني: ربما الدورة تأتيها هذه السنة يأتيها في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فإن السنة التالية قد تأتيها مثلا في اليوم الخامس عشر، فإذا لم تستطع أن ترتب حجها على وقت يوافق دورتها فيقال في مثل هذا: خذي موانع الحمل، أو ما يرفع الحيض، فقد ثبت في مصنف ابن أبي شيبة أنَّ ابن عمر -رضي الله عنه- كان يأمر بناته -وهذا من العجائب- أن يأخذن دواءً يرفع الحيض، أو يمنع الحيض في الحج، حتى يكمل لها الحج، حتلا لا تعطلهم أو تحرم من الحج، والأمر في زمانهم أسهل، فحبس القافلة أسهل، لأنها عبارة عن إبل، ومجموعة أشخاص، وأمَّا الآن فالأمر أصعب من ذلك، ولذلك نقول: الأمر في ذلك على ما قررناه وبيناه.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: «اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنىً مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ»)}.
هذا الحديث وهو حديث ابن عمر -رضي الله عنه- في استئذان العباس -رضي الله عنه- («رسول الله ﷺ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنىً مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ») وهذا أصحُّ حديثٍ وأقوى دليلٍ جاء عن النبي ﷺ في وجوب المبيت ليالي منى، وليالي منى المرادة هي: "ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر" وبقي من ليالي منى ليلة التاسع، وهي ليلة يوم عرفة، وهذه الليلة ليست واجبة المكث عند العلماء بالإجماع؛ لأنه لو أنَّ إنسانًا ما أتى أصلا إلى منى ابتداء في يوم التروية، وإنما جاء إلى عرفة في يوم التاسع، كان حجه صحيحًا بالإجماع عند العلماء -رحمهم الله- لكن هذه الليالي، وهي الليالي الثلاث السابقة، هي الليالي التي وقع فيها الخلاف بين العلماء، هل يجب فيها المبيت أو يُسَنُّ؟ المبيت بـ “منى” بمعنى أن تمكث في منى، تضرب خيمتك وتبيت، إمَّا خيمة أو تبيت في الطرق أو تبيت في أي مكان، هذه من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء، ومن استدل بوجوب المبيت في منى، فقد استدل بحديث ابن عمر -رضي الله عنه-، وفيه أنَّ («الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنىً مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ») قالوا: لو لم يكن المبيت بـ “منى” عزيمة لما احتاج العباس أن يستأذن النبي ﷺ، وإنما مكث بلا استئذان، ولكن أورد عليهم بعض العلماء وقال: لا. إنما استأذن العباس النبي ﷺ -والله أعلم- لأنَّ العباس من المفروض به أن يكون بجوار النبي ﷺ، بحكم قربه رسول الله ﷺ، وكونه عم النبي ﷺ، ومن أهله.
وقوله: («مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ») لأنَّ العباس -رضي الله عنه- كان سيد بني هاشم، خلا رسول الله ﷺ، والسقاية كانت تنتقل في بني هاشم، فكانت في عبد المطلب، ثم ذهبت من عبد المطلب إلى أبي طالب، ثم ذهبت منه إلى أخيه العباس -رضي الله عنه-، فجاء الإسلام والعباس على السقاية، وسقاية الحاج عمل عظيم شريف، مما يتقرب به إلى الله -عز وجل-، حتى قال النبي ﷺ لَمَّا مَرَّ على بني هاشم: «اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ قَالَ لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ يَعْنِي عَاتِقَهُ وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ»[6]. كيف يغلبكم الناس عليه؟
لو نزل النبي ﷺ يعينهم في السقاية؛ لأتت الأمة كلها تقتدي بالنبي ﷺ في الإعانة، فذهبت الفضيلة عن بني هاشم.
ومع ذلك فالسقاية لم تدم في بني هاشم، وإنما انقطعت بعد تطاول الأزمان، استمرت إلى فترة طويلة، والظاهر أنه حتى الآن لا زال الهاشميون يَسقون، لكنها ليست هي السقاية المعتادة، التي كانوا يقفون على بئر زمزم، ويسقون الناس، وإنما الآن ربما يسقي بتنظيم ونحو ذلك.
ومن الطريف أن رجلا جاء إلى ابن عباس -رضي الله عنه- بعد وفاة العباس، فقال: يا بني هاشم، والله إني لا أدري أبخل بكم أم حاجة؟ قال: وما ذاك؟ قال: أراكم تسقون الناس الماء، وبنو عمكم -يقصد: بني أمية- وكانوا هم الحكام في ذاك الزمان يسقون الناس النبيذ والعسل والسمن. والنبيذ هو عصير العنب ونحوه.
فقال ابن عباس -رضي الله عنه: "والله ما بنا من بخل ولا حاجة. ولكن النبي ﷺ. مر علينا فقال: «هكذا فافعلو»، فنحن نفعل كما فعل النبي ﷺ، يعني: لا زلنا على ما كان عليه النبي ﷺ، وإنما كانوا يسقون الناس من زمزم؛ لأن من بعث زمزم إنما هو شيبة الحمد -عبد المطلب-، فكان هو على سقايته، وقد جعل العباس -رضي الله عنه- أنه كان يقول إني لا أحلها لمغتسل، فأما لشارب فحل وبل، يعني: من أراد أن يشرب منها فهي حلال له زلال.
الشاهد أنَّ السقاية كانت لبني عبد المطلب، وانتقلت فيهم حتى جاءت إلى العباس -رضي الله عنه- فاستأذن النبي ﷺ أن يكون في مكة، لماذا؟
قد يقول البعض: لأن الحجاج في مكة، نقول: لا، الحجاج بعضهم في منى، وبعضهم في مكة يطوف طواف الإفاضة، وهذا مما يقرر معنى جليلا.
وهو أنه ليس من شرط المبيت بـ “منى” استيعاب اليوم كله في منى؛ لأنَّ الحجاج هؤلاء الذين يخدمهم العباس تفرقوا، يعني: هم الآن في مكة، خرجوا من منى، يطوف في مكة ويرجع إلى منى، وهذا يحتاج إلى وقت.
فدل ذلك على أنه ليس من الواجب المبيت في منى تمام الوقت، وإنما الظاهر -والله أعلم- أنه يشرع فيها المقام، يعني: قدرًا يسيرًا يحصل به مسمى البيات، ساعة، ساعتان، ثلاث ساعات، أربع ساعات، هذه كله -إن شاء الله عز وجل- مما يتسامح فيه؛ لأنه يقال: إذا كان الأصل في المبيت بـ “منى” لم يثبت بدليل قوي غاية القوة، فلا ينبغي أن يشدد في الفرع، الذي هو ضابط المبيت، خاصة مع المشقة التي تحصل على كثير من الناس، إذا كان خارجا من منى، بعض الناس جزاه الله خيرا يكون ساكنًا خارج منى، تجده مثلا في أنحاء مكة عنده شقة مثلا أو نحو ذلك، قريب منها في العزيزية أو غير ذلك، ويأتي إلى منى، فيشق عليه، يقال له: امكث اثنتي عشرة ساعة أو امكث إلى نصف الليل، بل يقال -والله أعلم- امكث ما شاء الله، وأنت هنا -إن شاء الله عز وجل- قد بت بـ "منى"؛ لأنه ليس من شرطها المبيت؛ لأنه لا يوجد يدل على اشتراط المبيت بحرفه، وإنما الأمر في ذلك -والله أعلم- على المكث، وقد جاء عن ابن عباس- رضي الله عنه- قولا أبلغ من ذلك أنه قال: "إذا رميت الجمار فبت حيث شئت من مكة"، وكأنَّ ابن عباس يرى أنَّ المبيت بـ "منى" إنما هو سنة وليس بواجب، لكن الصحيح عند أقوال أهل العلم وهو قول الحنابلة -رحمهم الله- أنه واجب، إلا أنه لا ينبغي أن يُشدد في وقته، بل الأمر في ذلك على السعة -إن شاء الله عز وجل-، ويرخص للسقاة، ويرخص للرعاة، ويرخص لسائقي الحافلات كلهم، الآن في الزمن هذا ما عاد فيه رعاة، لكن في سائق باصات، مثلا سيارات، ما لازم أنه يوصل الناس ثم يخرج، ما في بأس يخرج، بل إنه قد يرخص لك حتى في الرمي، فقد رخص لهم النبي ﷺ أن يؤخروا ويرموا يومين عما سبق، يعني: يأتي اليوم الثاني عشر ويرمي عن اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر.
{هل له أن يوكل؟}.
ما في بأس، والصحيح أنَّ له أن يوكل أيضًا في ذلك.
{قال- رحمه الله: (وَعَنْهُ - أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - قَالَ: «جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إقَامَةٌ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَ»)}.
يحسن بنا الآن ونحن في ختام أحاديث الحج، أن نذكر بوجه يسير سياق حجة النبي ﷺ التي ساقها جابر -رضي الله عنه-، وان كنا قد ذكرنا طرفًا صالحًا فيما يتعلق بالطواف، فذكرنا أنَّ النبي ﷺ أحرم من ذي الحليفة، وهذا هو الميقات الشرعي أو الميقات المحدد لأهل المدينة، وقد أحرم النبي ﷺ عقب الصلاة، ولذا قال العلماء -رحمهم الله: يُشرع بوجه عام أن يكون إحرام الإنسان مُتعقبًا للصلاة، سواء صلاة فريضة أو صلاة نافلة، ويشرع له أن يكون على كمال طهارة، فإن كان غُسلا فهو أحسن، وإلا فالوضوء، ولو أحرم على غير وضوء جاز؛ لأنه ليس من شرط الإحرام الطهارة، فإذا فرغ من ذلك لبى لبى بما شاء من النسك الذي يريده، ثم شرع في: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، حتى يبلغ مكة، فإذا بلغ مكة؛ شُرِعَ له أن يبيت بـ "ذي طوى" إن كان قادمًا من جهة المدينة، وكان مرهقًا وفي حاجة إلى المبيت أو نحو ذلك، وأن يغتسل أيضًا؛ لأنَّ النبي ﷺ قد بات به واغتسل، وهذا يُسمى عند العلماء غسل دخول مكة. قالوا: هذا الغسل إنما يشرع للإنسان إذا كان بين غسله لإحرامه وبين غسله لدخول مكة وقت، فإذا لم يكن بينهما إلا وقت يسير جدًا كما هو الحال الآن، نصف ساعة، أو ساعة، أو نحو ذلك فيكفيه الغسل الأول.
فإذا دخل إلى مكة، كان أول ما يقدم إليه أن يستلم الحجر الأسود، ويُشرع له في مثل هذا أن يطوف مضطبعًا، والاضطباع أن يُخرج عاتقه الأيمن في هذا الطواف، فيخب ثلاثة أطواف ويمشي ما تبقى، ويشرع له أن يستلم الركن في كل طواف ويقبله، فإن لم يتيسر؛ أشار له وكبر، حتى يفرغ، فإذا فَرَغَ صَلَّى ركعتين خلف المقام، قرأ فيهما بسورتي الإخلاص، ثم رجع فاستلم الركن إن تيسر له، وإن لم يتيسر خرج من فوره إلى الصفا، فإذا أتى إلى الصفا استقبل البيت الحرام، ودعا الله، وهلله، وكبره.
وقال: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» وما بدأ الله به هو الصفا، ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ فَقَدَّم الله -عز وجل- الصفا.
ثم يقول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو دعاءً طويلاً، ثم يرجع فيقول هذا الدعاء، ثم يدعو، ثم يذهب من الصفا إلى المروة، فإذا بلغ بين العلمين سعى سعيًا شديدًا حتى كان إزاره ﷺ يدور عليه من شدة سعيه، ويقول ﷺ: «لَا يُقطَعُ الأبطحُ إلَّا شدًّ»[7]، والأبطح الذي هو ما بين العلمين.
فإذا أتى إلى المروة صنع على المروة كما صنع على الصفا، ثم يرجع إلى الصفا، حتى يفرغ من سبعة أشواط، بدايتها على الصفا، ونهايتها على المروة، فإذا فرغ من ذلك شرع له أن يحلق إذا كان مُعتمرًا فحسب، وإلَّا قَصَّرَ.
فإن كان قارنًا أو كان مُتمتعا بعمرته إلى الحج شرع في حقه التقصير لا الحلق، حتى يوفيه للحج، ثم إن كان متمتعًا فقد حلَّ من كل شيء، وإن كان قارنًا فإنه لا يجوز له أن يحلق رأسه ولا شعره، ولكن يكتفي بالسعي، فإذا سعى مَكَثَ حرامًا على إحرامه، حتى يكون يوم الثامن، فإذا كان اليوم الثامن -يوم التروية- وهو يوم مسنون بتمامه، حيث إنَّ كل ما فيه من الأفعال، إنما هي مسنونة وليست بواجبة، ويلبي بالحج قبل زوال الشمس، ويقول: لبيك حجًا، هذا للمتمتع والقارن، يقول لبيك حجًا ويلبي، ثم يذهب إلى منى فيمكث فيها، ويصلي فيها الصلوات الخمس، الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، يقصرها ولا يجمعها، ثم يمكث، وقبل زوال الشمس من يوم عرفة بشيء يسير؛ شرع له أن ينفر من منى إلى مزدلفة، النبي ﷺ نفر من منى وأمر بقبته فضربت له بنمرة، لكنه مكث حتى كان قريبًا من زوال الشمس، وما دخل إلى عرفة إلا عند زوال الشمس، فلمَّا زالت الشمس دخل النبي ﷺ فخطب الناس الخطبة الطويلة، خطبة يوم عرفة، ثم أمر بلالا فأذن، فصلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، أي: جمع تقديم بأذان واحدا وإقامتين، وذلك حتى يتفرغ ﷺ للدعاء، ولذكر الله -عز وجل-.
ثم إنه ﷺ استقبل الجبل، وجعل حبل الرماة بين يديه، ثم أخذ يدعو بدعاء طويل، وهو على ناقته ﷺ حتى غربت الشمس.
والظاهر -والله أعلم- أنَّ حج النبي ﷺ قد وافق ليالي باردة، ولم تكن ليالي حارة، فوقف النبي ﷺ يدعو حتى غربت الشمس، فلمَّا غربت الشمس دفع النبي ﷺ من عرفة إلى مزدلفة، وأردف خلفه أسامة بن زيد، دفع الدفع السابق الذي ذكره المصنف -رحمه الله-، «كانَ يسيرُ العَنَقَ، فإذا وجدَ فجوةً، نَصَّ» فلمَّا كان بين منى ومزدلفة، أناخ النبي ﷺ يبول، ثم توضأ وضوءًا خفيفًا ولم يسبغ، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله، فقال: الصلاة أمامك، يعني: نحن الآن منشغلون بقطع هذا الطريق، فلما وصل النبي ﷺ إلى مُزدلفة، وكان وصوله إليها قريبًا من أذان العشاء، أَمَرَ فأذن وصلى المغرب ثم صلى العشاء باذان واحد بأذان واحد وإقامتين، ثم نام ﷺ، ولم يذكر عنه أنه قام الليل ها هنا.
لكن الظاهر -والله أعلم- أنه أوتر وترًا خفيفًا، ثم نام ﷺ حتى كانت صلاة الفجر، فعجلها النبي ﷺ غاية ما يكون من التعجيل، حتى ظن بعض الصحابة أن النبي ﷺ صلاها قبل طلوع الفجر، لم تسمع قول ابن مسعود صلاتان تحولان عن وقتهما، ثم ذكر صلاة الفجر يوم العيد من شدة تعجيل النبي ﷺ لها، فإذًا يشرع للإنسان في مثل هذا اليوم تؤذن ثم تصلي ركعتي ثم الإقامة، وليس هناك انتظار "عشرون دقيقة" أو أكثر، بل السنة التعجيل. لماذا؟ لأنك ستتفرغ الآن للدعاء.
فصلاها النبي ﷺ، وجاءه عروة بن مضرس -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله أكْلَلْتُ راحِلَتي، وأتعَبْتُ نفسي، واللهِ ما تركْتُ مِن جَبَلٍ إلَّا وقَفْتُ عليه، فهل لي من حَجٍّ؟ فقال النبي ﷺ: «مَنْ شَهِدَ صلاتَنا هذه، وَقَف مَعَنَا حَتَّى ندفَعَ، وقد وقف قَبْلَ ذلك بعَرَفةَ ليلًا أو نهارًا، فقد تَمَّ حَجُّه وقضى تَفَثَه»[8]، فقال العلماء -رحمهم الله-: إنَّ الوقوف في عرفة يستمر إلى طلوع الفجر من اليوم العاشر، فمن وقف في أية ساعة من هذه، فإنَّ وقوفه يكون وقوفًا صحيحًا.
ثم إنه ﷺ بعد ذلك دفع قبل طلوع الشمس، قد وقف في المشاعر الحرام، دفع قبل طلوع الشمس، وقد كان المشركون ينتظرون طلوع الشمس ويقولون: "أَشْرِقْ ثَبيرُ، كِيمَا نُغيرُ"[9]، وثَبيرُ جبل في مزدلفة، وأشرق حتى نُغير على منى، فخالفهم النبي ﷺ ودفع قبل طلوع الشمس، فكان أول ما عمل أن أمر بأن تلتقط له الحجارة، كحصى الخذف، فأخذها النبي ﷺ ورمى الجمرة سبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم ذهب ﷺ فنحر بدنه، وكانت مائة، نحر بيده ﷺ ثلاثا وستين، وعلي -رضي الله عنه- يساعده فيها، ثم أمر ﷺ عليًا -رضي الله عنه- فنحر ما غبر، قالوا ثلاثة وستين -والله أعلم- بسني النبي ﷺ.
ثم أمر النبي ﷺ من كل بدنة منها ببضعة، يعني: قطعة، فوضعت له في قدر، فشرب النبي ﷺ من مرقها، وأكل من لحمها، ثم إنه ﷺ دعا بالحالق فحلق شعره، فأمر به أن يحلق جانبه الأيمن، ثم حلق جانبه الأيسر، أمَّا الجانب الأيمن فقد أعطاه النبي ﷺ لأبي طلحة، وأمره أن يعطيه لأم سليم، فكانت أسعد الناس بشعر النبي ﷺ، وكانت إذا أرادت أن تتحف الناس بعثت إليهم بشعرة أو شعرتين من النبي ﷺ.
يقول أنس بن سيرين: قلت لعبيدة السلماني، وهو عبيدة بن محمد، من كبار أئمة التابعين، عندنا شعر من شعر النبي ﷺ، أهداه لنا أهل أنس. فقال: والله لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلى من الدنيا وما فيها، الله أكبر، وشعر النبي ﷺ مما ثبت التبرك به، فقد كان لأم سلمة -رضي الله عنها- جلجل، والجلجل هو القدر الصغير المفتح الأطراف، كان فيه شعرات من شعر النبي ﷺ، فكانت إذا علمت بمريض، غمسته -رضي الله عنها- في ماء ثم بعثت بالماء إليه، فيشربه فيشفى ببركة رسول الله ﷺ.
فالنصف هذا ذهب لأم سليم، والنصف الآخر أَمَرَ النبي ﷺ أبا طلحة أن يوزعه على الناس، فجعل يُصيب الواحد منهم: الشعرة والشعرتان.
ثم إنه ﷺ ذهب إلى البيت فطاف به طواف الإفاضة، وهذا هو الركن العظيم من أركان الحج، ثم إنه ﷺ صلى في مكة، ورجع -والله أعلم- فصلى بأصحابه صلاة الظهر في منى، هذا هو الجمع بين حديث جابر وحديث ابن عمر؛ لأنه قد جاء في بعض الأحاديث أنه صلى في مكة، وجاء في بعض الأحاديث أنه صلى في منى، فالجمع بينهما، أن يقال: إنَّ النبي ﷺ صلاها في مكة، ثم لَمَّا جاء إلى أصحابه صلى بمن لم يصل، وكانت الصلاة سنة في حق النبي ﷺ.
ثم إنه ﷺ مكث يومه هذا كله من غير أن يفعل أعمال من أعمال الحج، قد استوفاها، وحصل له الإحلال الأكبر، ولَمَّا كان اليوم الحادي عشر انتظر النبي ﷺ حتى زالت الشمس، فرمى الجمار الثلاث، يبدأ بالجمرة الأولى فيرميها، ثم يذهب يمين الجمرة فيقف ﷺ ويدعو دعاءً طويلاً بقدر سورة البقرة، ثم يرمي الجمرة الثانية بسبع، ثم ينحرف يسارها، ويدعو ﷺ بدعاءٍ طويل، ثُمَّ يرمي جمرة العقبة من بطنها، أي: من بطن الوادي، ثم ينصرف ولا يدعو ﷺ.
هكذا رمي الجمار في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، فلمَّا رماها ﷺ في اليوم الثالث عشر، أمر أصحابه -رضي الله عنهم- بأن ينفروا وأن يخرجوا، فخرج وجلس في الْمُحَصَّبِ حتى يجتمع إليه كل أصحابه، وهذا في ليلة الرابع عشر، فلمَّا اكتمل أصحابه، ونام النبي ﷺ هجع هجعة، وجاء عن أنس -رضي الله عنه- أنه صلى في الْمُحَصَّبِ الظهر والعصر والمغرب والعشاء، كيف صلى الظهر والعصر؟ بمعنى أنه ﷺ عجَّل الرمي من اليوم الثالث عشر ثم ذهب إلى الْمُحَصَّبِ فجلس به، فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم إنه أقبل في آخر الليل إلى مكة، فقابل في ذهابه ﷺ عائشة، تقول: وهو منحدرٌ وأنا مصعدة، قابلها وهي ذاهبة تريد العمرة، فطاف النبي ﷺ طواف الوداع، ثم رجع فانتظر عائشة -رضي الله عنها- ثم ذهب بأصحابه -ري الله عنهم إلى المدينة، فكانت هذه هي حجة النبي ﷺ، التي هي أكمل الحجات، وقد ساقها جابر -رضي الله عنه- أحسن السياقة.
قال ها هنا عن ابن عمر: («جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ») وهذه ذكرناها وهي في حديث جابر- رضي الله عنه- لَمَّا جاء إلى مزدلفة، ومزدلفة تسمى جمعًا لماذا؟ لأنها كانت تجمع قريشًا بالعرب، قريش ما كانوا يخرجون إلى عرفة؛ لأنَّ عرفة ليست من الحرم، فكانوا يقولون: نحن أهل البيت وساكنوه وقطانه، فلا نخرج من بيت الله، وكانت هذه من الأمور التي خالفوا فيها شعيرة إبراهيم ﷺ.
ولهذا لَمَّا أفاض النبي ﷺ ظنوا أنه سيصنع مثلهم، فمكث النبي ﷺ في عرفة، فإذا فرغ الناس من عرفة، ذهبوا الناس إلى جمع، فوجدوا قريشًا تنتظرهم في جمع سماه: المشعر الحرام، فهي من الحرم، وإنما سميت "جمع" لأجل أنها تجمع الناس.
قال: («بِجَمْعٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إقَامَةٌ»)، وقد جاء عن جابر أنه أذَّن، فإذًا ابن عباس وابن عمر وجابر -رضي الله عنهم- حديثهم متفق، لكن ابن عمر ما ذكر الأذان، والأذان كأنما يقال -والله أعلم-: إنما هو أمر معلوم، إذا كان ثم إقامة، فمن باب أولى الأذان.
(«وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَ»)، وهذا مما يدل على أنَّ المسافر لا يشرع في حقه النوافل، وأعني بالنوافل السنن الرواتب، أي: تسقط عن المسافر كل السنن الرواتب باستثناء سنة الفجر المقدمة، والسبب في ذلك أنه قد جاء عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ أَمَرَ أصحابه ألا يتركوها، وأنه ﷺ ما تركها، وأمَّا بقية السنن الرواتب فإنها تسقط، بخلاف صلاة الليل، فإنها أيضًا لا تسقط، وأنه يشرع للإنسان أن يصليها ولو شيء يسير.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (بابُ المُحْرِمِ يأْكلُ من صيدِ الحلالِ.
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ حَاجَّاً، فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ. فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ، إلَاّ أَبَا قَتَادَةَ فَلَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانَاً، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟» قَالُوا: لا. قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَ».
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟» فَقُلْت: نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ، فَأَكَلَ مِنْهَ)}.
ذكر المصنف -رحمه الله- (بابُ المُحْرِمِ يأْكلُ من صيدِ الحلالِ) وهذا هو ختام كتاب الحج الذي ذكره المصنف -رحمه الله-، أي: هذا الحديث والحديث الذي بعده، وهذا الباب هو آخر باب في (كتاب الحج) وهو باب يتعلق بالصيد، وقد سبق وقررنا أنَّ مكة قد حرمها الله -عز وجل-، والمحرم -بوجه عام- يحرم عليه الصيد، سواء كان في الحرم أو كان خارج الحرم، فمن كان داخل الحرم حَرُمَ عليه الصيد من وجهين:
وجه الإحرام، ووجه الحرم، وإن كان خارج الحرم حَرُمَ عليه من وجه واحد، وهو وجه الإحرام، ولكن يبقى السؤال، وهذه المسألة، أعني مسألة تحريم الصيد على المحرم، هي مسألة مجمع عليها.
قال الله -عز وجل- فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ فهذا نص أو أصل قرآني، وقال الله- عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾؛ فدل ذلك على أنَّ الصيد بوجه عام، ما يجوز اصطياده لمحرم، هذا أمر مجمع عليه بين الأمة.
لكن ثم مسألة أخرى وهي الحلال للرجل المحل الذي لم يحرم، يصيد للمحرم، وقد شاء الله -عز وجل- أنَّ النبي ﷺ وأصحابه خرجوا يومًا في سفرة، فـ (أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ، إلَاّ أَبَا قَتَادَةَ فَلَمْ يُحْرِمْ)، فبصر أبو قتادة -رضي الله عنه- بحمار وحشي، وقال: (خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ. فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ)، وساحل البحر الذي هو الشاطئ، (فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانَ)، وفي بعض الروايات أنَّ الصحابة لَمَّا رأوا الحمر بدأ بعضهم يضحك إلى بعض، لكنهم لم ينبهوا أبا قتادة، فلمَّا فَطنَ إليها حمل عليها -رضي الله عنه- (فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانَ)، والأتان هي أنثى حمار الوحش.
قال: (فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَ) أكل هو وأصحابه المحرمون، قال: (أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟) هُم ظنوا أنَّ لحم الصيد محرم بكل وجه.
قال: (فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَ)، قال: (فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟» قَالُوا: لا. قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَ»).
فدلَّ ذلك على أنَّ صيد الحلال يحل للمحرم إلا في حالتين، الحالة الأولى أن يشير إليه أو يعينه على الصيد. كيف يشير إليه؟ يعني: يكون المحل غافلا فينظر المحرم إلى الصيد، وينبه المحل، فيقول له: انظر الصيد لعلك تصطاده، فيفطن إليه المحل، فإن المحل يجوز له أن يصطاده، ولكن يقال للمحرم: لا تأكل منه، لا أنت ولا غيرك؛ لأن هذا صيد قد صيد بأمر المحرم.
وأمَّا "أن يعينه عليه" فكيف؟ يناوله، ولهذا جاء أنَّ أبا قتادة قال لهم: ناولوني رمحي، فقال الصحابة -رضي الله عنهم: والله لا نعينك عليه بشيء، فلو أعانوه لحرم أيضا عليهم. هذه حالة.
الحالة الثانية: ألم يكن معه محرم، ولكنه صاده من أجل أن يطعم منه رجلا محرمًا، كان معك في رفقة، وما هم موجودون معك الآن؟ أو ما أشاروا إليك، ولكنك لكنك نويت أن تصيده لهم، وليس لأجلك. فها هنا ما يجوز. لماذا؟
لحديث الصعب بن جثامة -رضي الله عنه- الذي سيذكره المصنف -رحمه الله-.
قال: («مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟» قَالُوا: لا. قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟» فَقُلْت: نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ، فَأَكَلَ مِنْهَ). العضد هي اليد، وقد كان النبي ﷺ يحب الذراع، وفيه دلالة على جواز أكل لحم الحمر الوحشية، وهذه المسألة على إباحتها جماهير العلماء -رحمهم الله-.
{قال -رحمه الله: (عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ ﷺ حِمَاراً وَحْشِيَّاً وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي، قَالَ: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَاّ أَنَّا حُرُمٌ».
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «رِجْلَ حِمَارٍ». وَفِي لَفْظٍ: «شِقَّ حِمَارٍ». وَفِي لَفْظٍ: «عَجُزَ حِمَارٍ».
وجه هذا الحديث أنه ظن أنه صيد لأجله، والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله)}.
حديث الصعب بن جثامة -رضي الله عنه- هو الحالة الثانية التي ذكرناها قبل قليل، والصعب بن جثامة من بني ليث، وبني ليث حلفاء لقريش، فلمَّا كان النبي ﷺ سائرًا من المدينة إلى مكة، قابله الصعب وأهدى إليه حمارًا وحشيًا.
انظر المصنف لَمَّا ذكر حمارًا وحشيًا ليس من عادته ذكر الروايات، ولكنه ها هنا قال: (وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «رِجْلَ حِمَارٍ». وَفِي لَفْظٍ: «شِقَّ حِمَارٍ». وَفِي لَفْظٍ: «عَجُزَ حِمَارٍ») والعجز هو مؤخرته. لماذا ذكرها؟
حتى يُبين أنَّ هذا الحمار ميت، يعني: لا يظن أنه حي؛ لأنه لو كان حيًا كان الأمر في ذلك واسعًا، فسأقبله منك، ثم أذبحه فيما بعد، لكن ها هنا لَمَّا ذكر هذه الألفاظ أراد أن يبين أن قوله: حمارًا وحشيًا، أي: حمارًا مصيدًا؛ لأنه قد صاده ميتًا (أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ) أي: فرده النبي ﷺ؛ لأجل أنه علم أو ظن أنَّ الصعب صاده لأجله ﷺ، فلمَّا رأى ما في وجهه، يعني: تغير، والإنسان من الصعب عليه أن تُرَدُّ هديته، من أصعب وأشق ما يكون على الإنسان أن ترد هديته، ويتوجس الإنسان من ردِّ الهدية، ولهذا أمر النبي ﷺ بقبول الهدية وأن يثاب عليها، وقبول الهدية ليس فيها منة، ترى بعض الناس يقول: ما أقبلها، فنقول: إذا كنت ترى المنة؛ فأهدِ أو كافئ عليها، اقبلها منه وكافئه عليها.
قال: (فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي، قَالَ: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَاّ أَنَّا حُرُمٌ»)، فبين له النبي ﷺ أنَّ السبب في رده أنه ﷺ محرم، وقد ظنَّ ﷺ أنه إنما صاده لأجله.
وبهذا نكون -إن شاء الله عز وجل- قد أتممنا شرح كتاب العبادات بتمامه، وكان آخره كتاب الحج، والله -عز وجل- نسأل التمام وحسن الختام، وأن يجعل أعمالنا صالحة لوجهه خالصة، وألا يجعل لأحد فيها شيئًا، وأن يرزقنا وإياكم جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وفتح الله لكم، ونفع بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نستودعكم الله، ونلتقي بكم في مراحل وفي مستويات قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[1] رواه البخاري ومسلم.
[2] أخرجه مسلم (1064).
[3] رواه البخاري (7562).
[4] رواه الدار قطني.
[5] أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211).
[6] رواه البخاري (1635).
[7] رواه ابن ماجه.
[8] أخرجه أبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3043).
[9] أخرجه البخاري (1684).