الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

15406 18
الدرس الخامس

عمدة الأحكام 2

{بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله وبياكم، مرحبًا بطلاب العلم، نرحب بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب عمدة الأحكام للمستوى الثاني، يصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، حياكم الله فضيلة الشيخ.
أهلاً ومرحبًا، حياك الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (بَاب الِاسْتِسْقَاءِ) نستأذنكم شيخنا في القراءة.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال رحمه الله: (بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ «خَرَجَ النَّبِيُّ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ» وَفِي لَفْظٍ: «إلَى الْمُصَلَّى»)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فما زال المصنف -رحمه الله- يسرد لنا الصلوات التي تُشرع لها الجماعة، وقد ذكر الآن صلاة الاستسقاء، وصلاة الاستسقاء إنَّمَا يُراد بها طلب السُّقيا من الله -تبارك وتعالى-، وفي هذا تعليق للقلوب بالله تعالى، وإحالة على إرادته ومشيئته -عَزَّ وَجَلَّ- وربط الناس فيما يتعلق بأمور معايشهم بالأسباب الدينية دون الدنيوية؛ وذلك لأنَّ كثيرًا من الناس قد أصبح الرابط عنده هو الأسباب الدنيوية فقط، فتجد أنَّه إذا أراد الوظيفة، طرق أبوابها الدنيوية، وإذا أراد الصحة، طرق أبوابها الدنيوية، وإذا أراد المال، طرق أبوابه الدنيوية، ولكنه في المقابل يغفل عن طرق الأبواب الأخروية والروحانية، أي: طرق أبواب الله -تبارك وتعالى-.
وصلاة الاستسقاء -معاشر الإخوة والأخوات- من أعظم مَا يُبين ويدل على أنَّ من أراد شيئا، فإنَّمَا عليه أَن يقصد فيه إلى الله -تبارك وتعالى؛ لأنَّ صلاة الاستسقاء إنَّمَا تشرع لحاجة الناس للسقيا، وقد كانت ولا زالت قيام معيشة الناس وأحوالهم بالزروع والثمار، والتي منها يقتاتون ويأكلون، والدواب التي منها يحتلبون ويركبون ويطعمون، ولهذا كان أمر الجدب في الزمان الأول أمرًا شديدًا على الناس، ولا زال هذا الأمر حتى الآن، ولكن حاله في الزمان الأول كان أكثر، فكان الناس إذا أجدبوا وشدَّ عليهم ذلك، وربما هلكت النفوس تضرعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، كما جاء الأعرابي إلى النبي وهو يخطب فقال: يا رسولَ اللَّهِ هلَكَتِ الأموالُ، وانقطَعتِ السُّبلُ، فادعُ اللَّهَ أن يُغيثَنا، فدعا لهم النبي [1]، فدَلَّ ذلك بوجه عام على أنَّ القصد في الاستسقاء يكون إلى الله -تبارك وتعالى- لأنَّه من أعظم ما يُقرب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومن أعظم ما يرفع هذه المصائب، وهذه الفتن والمحن التي تحيق بالإنسان.
إذا كان الأمر كذلك، وكان الإنسان في حاجته إلى الطعام والشراب محتاجًا إلى الله -تبارك وتعالى-، وكان إذا أصابته المسغبة، وأصابه الجدب، فزع فيه إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وفزع فيه إلى الصلاة؛ فإنَّ هذه الهيئة إنَّمَا هي مُستصحبة للإنسان في كل أحواله، ولكن صلاة الاستسقاء هي الصورة المكبرة، وما سواها من مطالب الإنسان وحاجته إنَّمَا هي الصورة المصغرة، ولذا يقال: إنَّ كلَّ من كان محتاجًا إلى أمر من أمور دنياه أو أخرا، فعليه أَن يفزع فيه إلى الله -تبارك وتعالى- ولكن يفزع إليه بماذا؟
يفزع إليه بالصلاة والدعاء، يصلي حتى يحقق الله -عَزَّ وَجَلَّ- له حاجته، كما صلَّى النبي حتى حقق الله -عَزَّ وَجَلَّ- حاجته بالإغاثة، وهذا ليس مما قد يظنه بعض الناس من ابتغاء الدنيا بالعمل الصالح، قال -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود:15].
ظَنَّ بعض الناس أنَّ الإنسان حينما يقصد إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالصلاة، لطلب أمر ما من أمور الدنيا أنه يكون داخلاً تحت هذا المعنى، نقول: لا، وإنَّمَا يكون داخلاً إذا لم تكن صلاته إلَّا لهذا الغرض، وأمَّا إذا كانت صلاته للإخبات لله -عَزَّ وَجَلَّ- والإنابة واستجلاب السبب الديني، كما أنه يستجلب الأسباب الدنيوية، فهذا هو السبب الديني لتحقق مُراده، فإنَّ هذا محمود، والدليل على ذلك صلاة الاستسقاء، حيث يصلي الناس لأجل الغيث، والغيث من أمور الدنيا، ومع ذلك لَم يُعَدّ هذا مما يناقض توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لإنَّك إنَّمَا قصدته بأسبابه.
إذًا هذا المعنى جليل حقيقة أَن يُستصحب، وأن تُجعل صلاة الاستسقاء هي المعنى في مثل هذا، وعلى هذا فكل من ضاقت به دنياه أو ألَحَّت عليه حوائجه؛ فعليه أَن يفزع فيها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالصلاة وبالاستغفار، كما صنعه النبي في صلاته؛ فإنَّه خرج يُصلي بالناس، وكان يستغفر، ولم يزد عمر -رضي الله عنه- لَمَّا خرج للاستسقاء على الاستغفار، فقالوا له: نراك لم تزد على الاستغفار، فقال: "لقد طلبتُ الغيثَ بمَجاديحِ السماءِ الذي يُستنزلُ به المطرُ"[2]، والمجاديح هي النجوم التي كان العرب يُسمونها: مجاديح[3]، والمجاديح هي الاستغفار، وأَن يقر العبد بذنبه، وأن يطلب الغفران من ربه -عَزَّ وَجَلَّ.
قال ها هنا: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ) حديث عبد الله بن زيد المازني -رضي الله عنه- هو الأصل في باب (صلاة الاستقامة)، وهذا في الحقيقة من محاسن هذا الكتاب، لذا كان عمدة هذا الباب هو حديث عبد الله بن زيد، وحيثما ذهب الفقهاء وجاؤوا، فإنَّمَا مردهم يكون إلى حديث عبد الله المازني -رضي الله عنه-، يذهبون ويأتون إلى حديث عبد الله، وكلما اختلفوا في حديث ردوه إلى حديث عبد الله بن زيد المازني، وفيه قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ»[4]، وفي هذا الحديث معان:
المعنى الأول: أنَّ النبي في هذا الحديث كأنَّه قدم الخطبة قبل الصلاة، وهذا معنى من المعاني، ولذا لا بأس أَن تُقدم الخطبة قبل صلاة الاستسقاء أو أن تؤخر لتكون بعدها، فالأمر في صلاة الاستسقاء واسع؛ لأنَّه قد نُقِلَ عن النبي هذا، ونقل عنه هذا.
وقوله: (فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو) ليس صريحًا بالخطبة، ولكنه صريح في الدعاء إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
قوله: (وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ) فيه مشروعية تحويل الرداء، وقالوا: إنَّمَا هذا تفاؤل بتحول الحال، وقد كان النبي «يُعجبُه الفألَ ويكرَهُ الطِّيرَةَ»[5]، والفأل من الطيرة المحمودة، وهو من الأمور التي يغفل عنها الآن كثير من الناس.
الفأل الحسن كما لو كنت خارجًا من بيتك فتسمع رجلاً ينادي ويقول: "يا سالم"؛ فتتفاءل بالسلامة، أو لو كنت مقبلاً على اختبار فتسمع من ينادي ويقول: "يا ناجح"؛ فتتفاءل بالنجاح، وهذا كله من المعاني الحسنة التي كان النبي يحبها، ومما يدل عليه أنَّ النبي قد قال في صلح الحديبية لَمَّا جاءه سهيل بن عمرو: «لقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِن أمْرِكُمْ»[6]. تفاؤلا بسهيل، وكان كما كان.
أمَّا الطيرة المشؤمة فهي التشاؤم، حيث يخرج الإنسان فيرى أمامه من به عرج؛ فيتشاءم به، أو يرى أمامه من به عور؛ فيتشاءم به، أو يرى حادثًا؛ فيتشاءم به، أو كما يفعله كثير من الناس يمشي تتعطل سيارته؛ فيتشاءم ولا يكمل مسيرته، هذا كله من التشاؤم والطيرة التي ردَّها النبي ، وأخبر أنها لا تَرُدُّ مسلمًا؛ لأنَّ الأصل في المسلم أَنه يمضي على أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأن يعلم أنَّ ما أصابه كله خير، وأنه لن يُصيبه إلَّا ما قَدَّر الله -عَزَّ وَجَلَّ- له وعليه.
إذًا (تحويل الرداء) من المعاني التي يُتفاءل بها بتغير الحال، و(تحويل الرداء) أي: يقلب اليمين إلى اليسار واليسار إلى اليمين، هذا هو تحويل الرداء، ويُشرع للإنسان إذا كان مرتديًا لشماغ أو يحوله، أو إذا كان مرتديًا مشلحًا أن يُحوله، ولهذا تعارف بعض الناس على أنَّ صلاة الاستسقاء يخرجون فيها بمشالحهم حتى يسهل عليهم التحويل، ونقول هذا ليس سنة، ولكنه يشرع لمن حضر صلاة الاستسقاء بمشلحه أَن يحوله.
قال: (ثمَّ صلَّى ركعتينِ جَهرَ فِيهما بالقِرَاءَةِ) لم ترد صفة هاتين الركعتين، فذهب جماعة من العلماء إلى أنها: ركعتان كركعتي الجمعة، وقال بعض العلماء: إنها ركعتان كركعتي العيد، والفرق بين ركعتي الجمعة وركعتي العيد في التكبير، حيث يكبر في ركعتي العيد سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس -رضي الله عنه- الذي أخرجه أصحاب السنن.
والأمر في ذلك واسع بحمد الله، فإن صلاها كصلاة العيد فحسن، وإن صلاها كصلاة الجمعة فحسن.
فهو يُصلي ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، وهذا هو الأصل بوجه عام في الصلوات الجماعية، ولهذا في صلاة الكسوف -وهذا نسينا أن نقرره- أَن يجهر فيها بالقراءة؛ لأنَّه قد جاء ذكر الجهر فيها عن غير ما واحد من أصحاب الزهري -رحمه الله-، حيث قال: "جهر فيهما النبي "، كما قاله عبد الرحمن بن نمر والأوزاعي في روايتهما عن الزهري، ولهذا نقول: يشرع للإنسان أَن يجهر في قراءة الكسوف، ويشرع له أيضًا أَن يجهر في صلاة الاستسقاء، مع أنَّه من المعلوم أنَّ صلاة الكسوف صلاة نهارية؛ لأنَّه يتعلق بالشمس، بينما الخسوف صلاة ليلية، ولكن فيهما الجهر.
وصلاة الاستسقاء إنَّمَا هي صلاة نهارية، حيث كان النبي يواعد أصحابه إذا طلعت الشمس وبرز حاجبها، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- عند أصحاب السنن، واعدهم النبي يومًا يخرجون فيه، وهذا -أيضًا- من السنن التي تُشرع، وهي أَن يأتي الإمام الأعظم فيحدد موعدًا، فيقول: أدعو الناس إلى صلاة الاستسقاء في يوم كذا وكذا، فيشرع للناس التهيؤ للخروج في اليوم الذي حدده لهم الإمام.
{قال -رحمه الله: (عَنْ أَنَس بن مالك -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ المسجد يَومَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحوِ دَارِ الْقَضَاءِ، ورسول الله قائم يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رسول الله قائمًا، ثم قال: يا رسول الله، هَلَكَتِ الأموال، وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ الله تعالى يُغِيثُنَا، قال: فرفع رسول الله يديه ثم قال: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا». قال أنس: فَلَا وَالله مَا نَرَىَ فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَينَ سَلْعٍ مِنْ بَيتٍ وَلَا دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلَ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاء انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ. قال: فَلاَ وَالله مَا رَأَينَا الشَّمسَ سَبْتاً. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِن ذَلِكَ الْبَاب فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، ورسول الله قائم يَخْطُبُ النَّاس، فَاسْتَقْبَلَهُ قائمًا، فقال: يا رسول الله، هَلَكَتْ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فادع الله أن يُمْسِكَهَا عنَّا، قال: فرفع رسول الله يديه ثم قَال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ على الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَر». قال: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجنَا نَمشِي فِي الشَّمسِ. قَالَ شريك: فَسَألتُ أَنَسَ بنِ مَالكٍ: أهو الرجل الأول قال: لا أدري)}.
حديث أنس هذا حديث جليل، قد كرره الإمام البخاري -رحمه الله- في غير ما موضع من كتاب الاستسقاء، وانتزع منه كثيرًا من الفوائد؛ لأنَّ هذا الحديث حقيقة من الأحاديث العظام، التي لا تتعلق بباب الاستسقاء فحسب، ولكنه يتعلق به جملة من الأحكام المرتبطة بوضع المأموم والإمام في خطبة الجمعة، ففيه أنَّ النبي دخل عليه رجل وهو يخطب ، وفيه أنَّ الرجل دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء، ودار القضاء هذه إنَّمَا أحدثت بعد وفاة النبي ، والباب بشكل عام عن يسار القبلة، في الجهة الشرقية من مسجد النبي .
قال: (فَاسْتَقْبَلَ رسول الله قائمًا، ثم قال: يا رسول الله، هَلَكَتِ الأموال، وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ الله تعالى يُغِيثُنَ). وفيه أنَّه يجوز للمستمع أن يُكَلِّمَ الخطيب، وقد كان الرجل يأتي إلى النبي فيسأله، فليس هذا من الكلام المنهي عنه في الخطبة، وإنَّمَا الكلام المنهي عنه هو أَن يكلم جاره، وقد جاء أبو ريحانة، عبد الله بن مطر، إلى النبي فَكلمه النبي وأحضر كرسيًا من خشب، فجلس عليه وأخبره وعلمه أمر دينه، وكذلك ها هنا، جاء هذا الأعرابي إلى النبي وهو قائم يخطب، فاستقبل رسول الله قائمًا ثم قال: (يا رسول الله، هَلَكَتِ الأموال) وهي التي نسميها عند الناس الآن "الحلال أو الزروع"، وهذه كلها من الأموال، وقد هلكت بسبب الجدب.
(وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ) أي: أصبح الناس يذهبون ولا يروحون بسبب الجدب، ولعدم وجود الماء؛ فاشتد عليهم الحال.
(فَادْعُ الله تعالى يُغِيثُنَا) فيه دلالة على إيمان هذا الرجل، وأنَّه لَمَّا وقع ما وقع؛ فَزِعَ إلى السبب الديني، وهو دعاء النبي ، ودعاء النبي محل إجابة الله -تبارك وتعالى-، وإذا غاب عنا دعاؤه في هذا الزمن فلا تغيب عنَّا سنته، فإنَّ من استن بسنة النبي وعمل كعمله، فهو حري أَن تُجاب دعوته من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، كما أجاب رسوله ، ولهذا قال بعض أهل العلم: "لا يخرج عبد إلى صلاة الاستسقاء متجردًا لله -تبارك وتعالى- مُتيقنًا بإجابة الله -تبارك وتعالى- إلَّا استجاب الله -عَزَّ وَجَلَّ".
ومن تتبع هدي السلف الصالح في الزمان الأول؛ عَلِمَ أنهم لا يكادون يستسقون إلَّا ويجابون، أولم يكن عمر -رضي الله عنه- إذا أجدب الناس يخرج بالعباس -رضي الله عنه- فيأمره أَن يستسقي بهم!
بعض الناس ظنَّ أنَّ عمر كان يستشفع بالعباس بذاته، فهل هذا صحيح؟
نقول: لا، إنَّمَا كان يأمر العباس أن يدعو هو، فقال: "اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا"[7].
كيف كانوا يستشفعون برسول الله؟
كما فعل الأعرابي، حيث جاء فقال: (فَادْعُ الله تعالى يُغِيثُنَا)، وقال عمر: "وإنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا"، أي: تقدم يا عباس فادعوا الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فدعا العباس -رضي الله عنه- ويؤمن من خلفه، ومن أجل ذلك يقال: إنَّ أكثر الناس اتباعًا لسنة النبي هو أولى أن يُقدم في الاستسقاء، وإذا كان هذا الرجل العالم بسنة النبي المتبع لها من آل رسول الله فنعم ذلك، وهذا حري بالإجابة، وإلَّا فإنَّ اتباع سنة النبي والسير على منهاجه، كفيل أيضًا بإجابة الدعاء.
فإذًا هذه من المعاني التي ينبغي أن تُراعى في صلاة الاستسقاء، وأن يَعلم الإنسان أنَّه كلما كان في خروجه إلى صلاة الاستسقاء أكثر اتباعًا لسنة النبي ، ومن ناحية خروجه فإنَّه يخرج متبذل الثياب، يعني: من يملك ثوبين أحدهما جيد يلبس للمناسبات أو لصلاة الجمع والأعياد، وثياب أخرى تلبسها لَمَّا سوى ذلك، فتلبس الثياب الأقل تواضعا لله -عَزَّ وَجَلَّ، فيخرج الإنسان وقد طأطأ رأسه، واجتنب الطيب؛ لأنَّ هذا ليس موضع طيب، وإنَّمَا هو موضع تذلل وتخشع لله -تبارك وتعالى-.
فإذا خرج بمثل هذه الحالة كان حريًا أَن يجيبه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذه الحالة كما تُستصحب في الاستسقاء؛ فإنها تُستصحب كذلك في كل شيء، في كل ما ينزل بالعبد من النوازل، فتذلل فيها لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وابرأ فيها من حولك وقوتك إلى حول الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقوته، واعتمد على السبب الديني، وهو السبب الأول، أي: هو التضرع إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- والإقرار بالذنب، وسؤال الله -عَزَّ وَجَلَّ- الرحمة، ومن ثمَّ التقرب إليه بالطاعة، وعندها أَبشر بقضاء حاجتك عاجلاً أو آجلاً، كما كان الناس يخرجون فلا تكاد صلاتهم تنفض إلَّا وقد سُقوا.
(فرفع رسول الله يديه) النبي لَمَّا سأله الرجل، رفع يديه، وقد قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «كَانَ النَّبِيُّ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ»[8]، يعني: كان يرفعهما رفعًا شديدًا، وهذا يدلُّ على أنَّ الأصل في رفع اليدين أَن يكون إلى الصدر، عدا صلاة الاستسقاء؛ لأنَّ فيها نوع من التضرع لله -عَزَّ وَجَلَّ؛ ولذا يُشرع للإنسان أَن يبالغ في رفع اليدين فيها.
قال: (فرفع رسول الله يديه ثم قال: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا») والذي نجزم به أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- قد رفعوا أيديهم، لماذا؟
لأنَّه لا يسع الصحابة -رضي الله عنهم- أن يروا النبي على حال ولا يقتدون به، بل لو أنَّ عالِمًا من العلماء قد رفع يديه لرفع الناس أيديهم، فما بالك بإمام العلماء ، وما بالك إذا كان الناس هم صحابة رسول الله ، فهم بالطبع أولى بأن يرفعوا أيديهم.
ولهذا قال العلماء: إنَّه لا يُشرع رفع اليدين في الجمعة إلَّا إذا رفع الخطيب يديه، فإذا رفع الخطيب يديه في دعاء الاستسقاء؛ فإنَّه يُشرع للإنسان أَن يرفع يديه، كما كان النبي يرفعها، وكما كان أصحابه يرفعونها.
أمَّا رفع الإمام أو الخطيب يديه في غير دعاء الاستسقاء فنقول: لا يشرع، لماذا؟
لأنَّ رفع اليدين في خطبة الجمعة خلاف السنة، وقد قال عمارة بن رويبة -لَمَّا رأى ابن الحكم رافعًا يديه على منبر النبي : "قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ"[9]، ولذا نقول: إذا خالفَ الإمام هذا فلا يُشرع لك أَن تخالف.
فالمستمع للخطبة يدعو ويؤمن من غير أَن يرفع يديه، إلا في الاستسقاء؛ لأنَّ النبي رفع يديه فيها.
وَلَمَّا ذكر الصحابي رفع النبي ليديه في صلاة الاستسقاء، مع أنَّ صلاة الاستسقاء لا تتكرر كثيرًا بخلاف صلاة الجمعة، دلَّ هذا على أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- يحفظون سنة النبي كاملة، وما نحتاج إليه يُنقلُ إلينا، وما لم ينقل دَلَّ ذلك على إهماله، وعلى أنه لم يقع من النبي ، وهذا من المعاني التي ينبغي أَن تُقرر.
قال: (فرفع رسول الله يديه ثم قال: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»)، وهذا فيه دلالة على مشروعية الدعاء ثلاثًا، وأنَّ هذا من سنته ، فإنَّه كما جاء عن ابن مسعود: «كَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا»[10]، و «كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلَاثًا وَيَسْتَغْفِرَ ثَلَاثًا»[11]، فيدعو العبد ويثلث الدعاء («اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»).
قال أنس: (فَلَا وَالله مَا نَرَىَ فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ) والقزعة هي السحابة الصغيرة، (وَمَا بَيْنَنَا وَبَينَ سَلْعٍ مِنْ بَيتٍ وَلَا دَارٍ)، وسَلْع هو جبل في المدينة، قال: (فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلَ التُّرْسِ) فيه إشارة إلى ضخامتها لكنها محدودة الحجم، يعني: هي طبقات بعضها فوق بعض، لكنها ليست بكبيرة، قال: (فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاء انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قال: فَلاَ وَالله مَا رَأَينَا الشَّمسَ سَبْت) يعني: أسبوعًا كاملاً، والأسبوع يُسمى: سبتًا، أو يسمى: جمعة، والسبت كدلالة على أنَّه لا يأتي في الأسبوع إلَّا يوم واحدة، وهذا كله من بركة استجابة دعاء رسول الله ؛ لأنَّ من علامات نبوته أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد أجاب دعاءه.
وقد أجاب الله دعاءه أولاً في مكة، لَمَّا دعا على قريش، وقال: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ علَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»[12]، قال: فأخذتهم سنة أهلكت كل شيء حتى أصابهم جوع شديد أو جهد حتى أكلوا الميتة "وكان الرجل ينظر فيما بينه وبين السماء فيرى الدخان، " فأتَاهُ أبو سُفْيَانَ، فَقالَ: أيْ مُحَمَّدُ، إنَّ قَوْمَكَ قدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ أنْ يَكْشِفَ عنْهمْ"[13]، فرحمهم النبي ، وما أخذتهم إلَّا سنة واحدة، وبقي عليهم ست سنوات، لكن رحمة النبي عظيمة، فدعا لهم النبي فمطروا، هذا في مكة، وهذا في المدينة .
قال: (قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِن ذَلِكَ الْبَاب فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، ورسول الله قائم يَخْطُبُ النَّاس، فَاسْتَقْبَلَهُ قائمًا، فقال: يا رسول الله، هَلَكَتْ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فادع الله أن يُمْسِكَهَا عنَّا) الأول كان استسقاءً، والثاني هذا يسمى: استصحاءً، أي: طلب الصحو؛ لأنَّ الأمطار أحيانًا قد تشتد في بعض البلدان، وهذا في الحقيقة من السنن المهجورة، بعض البلدان كبلدان شرق أسيا مثلاً، وإذا تكلمنا عن بلدان إسلامية منها فسنجد باكستان وبنجلاديش، وهذه بلاد أحيانًا تصيبها الفيضانات والغرق الشديد، ولذا ينبغي لأهلها إذا حصل لهم ذلك أَن يستصحوا، أي: يطلبوا من الله -عَزَّ وَجَلَّ- رفع ما هم فيه.
قال: (فرفع رسول الله يديه ثم قَال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا»).
الاستسقاء يكون لطلب السقيا، ولكن الاستصحاء يكون لطلب كف المطر؛ لأنَّ المطر كما يُؤذي انقطاعه، كذلك يضر استمراره، وربما كان ضرره إذا استمر أشد أحيانًا من ضرر الانقطاع، فيؤدي إلى أن يهلك الناس فيه.
فقال هذا الأعرابي للنبي : (هَلَكَتْ الأَمْوَالُ) أي: غرقت، (وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فادع الله أن يُمْسِكَهَا عنَّا، قال: فرفع رسول الله يديه) وفي بعض الروايات: «فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ سُرْعَةِ مَلَالَةِ ابْنِ آدَمَ»[14]، قال: (فرفع رسول الله يديه ثم قَال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا») وهذا فيه دلالة على أنَّ الاستسقاء يجوز أَن يكون في يوم جمعة، ويجوز له أن يقصد إلى صلاة الاستسقاء قصدًا مُطلقًا، يعني: يذهب إلى الصلاة فيصليها، ويجوز له أَن يخرج إلى المصلى، فيطلب من الله -عَزَّ وَجَلَّ- السقيا من غير صلاة، بل دعاء فقط، هذه كلها قد وقعت، وهذه كلها من صور الاستسقاء، أي: إمَّا أَن يستسقي في صلاة الجمعة أو أن يستسقي إلى المصلى، فيقف على رجليه قائمًا يدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويسأله، فهذه كلها من صور طلب السقيا من الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
{هل يشترط أَن تكون صلاة الاستسقاء جماعة؟}
لا يشترط أَن تكون جماعة، ولكن الأولى أَن تكون جماعة، وإلا فلو أنَّ الإنسان صلاها مُنفردًا ما كان عليه في ذلك بأس.
قال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا» هذا دعاء الاستصحاء، و «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا» يعني: تكون قريبة منهم ولا تضرهم.
«اللَّهُمَّ على الآكَامِ وَالظِّرَابِ» الآكام هي الجبال الكبيرة، والظراب الجبال الصغيرة، «وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَر» هذه كلها تنتفع بالماء حتى لو كثر؛ لأنَّه ولو لم يستفد منه ظاهرًا إلَّا أنَّ الأرض تخزنه باطنًا، فكلها مما ينتفع به.
قال: (فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجنَا نَمشِي فِي الشَّمسِ) هذا أيضًا من معجزاته ، ومن سرعة إجابة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لدعاء رسوله .
(قَالَ شريك: فَسَألتُ أَنَسَ بنِ مَالكٍ: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري)
هذا ممَّا يدل على أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا لا يشتغلون بفضول العلم، فما هي العلاقة وما هو المستفاد من معرفة هل هو الرجل الأول أو لا؟ ولذا كان الرد: (لا أدري) وكأنَّه يُنكر على شريك أَن يسأله مثل هذا السؤال، وكأنَّه يقول: ما حاجتك إلى أَن تسأل هذا السؤال؟
{قال -رحمه الله: (بَاب صَلَاةِ الْخَوْفِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبُوا، وَجَاءَ الْآخَرُونَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَقَضَتْ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً، رَكْعَةً»)
}.
شرع المصنف -رحمه الله- في ذكر صلاة الخوف، وصلاة الخوف بوجه عام ليست صلاة مستقلة، يعني: ليس شأنها شأن الصلاة أو صلاة الخسوف أو الكسوف أو صلاة العيدين، وإنَّمَا هي عين الصلوات الخمس المكتوبة، ولكنها صفة من صفاتها أو سبيل من سبل أدائها، وسميت صلاة الخوف نسبة إلى حالها وسببها؛ فإنها إنَّمَا تقع حال الخوف من العدو، ولهذا سميت بوجه عام (صلاة الخوف)، وأصلها أصل قرآني قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء:101]، وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ [النساء:102]، هذه أصل صلاة الخوف في القرآن بوجه عام، فأصلها أصل قرآني، ولكنها إنَّمَا شُرعت مُتأخرًا، فالنبي قد أخَّرَ الصلاة في الخندق حتى خرج وقتها، كما جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، يَومَ الخَنْدَقِ جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقالَ: يا رَسولَ اللهِ،، وَاللَّهِ ما كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ العَصْرَ حتَّى كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ : «فَوَاللَّهِ إنْ صَلَّيْتُهَا، فَنَزَلْنَا إلى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ رَسولُ اللهِ وَتَوَضَّأْنَا، فَصَلَّى رَسولُ اللهِ العَصْرَ بَعْدَ ما غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا المَغْرِبَ»[15]، وقال أهل العلم: كان هذا قبل أن تُشرع صلاة خوف.
فقبل أن تشرع صلاة الخوف كان يجوز تأخير الصلاة حال الخوف إلى حال الأمن، فلمَّا شَرَعَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- صلاة الخوف لرسوله ، كان الأمر على خلاف ذلك، ووجب أَن تصلى وأَن يتم مراعاة أوقات الصلاة بكل حال.
وصلاة الخوف فيها معنيان، المعنى الأول: رعاية الوقت، وأنَّه مُقدم على كل شيء، وأنَّك ما دمت مُدركًا للوقت، وكان عقلك معك، فيجب عليك أَن تُصليها بكل حال.
على سبيل المثال: لو كنت في طريق، وأغلق الطريق عليك بسبب الزحام -كما يحصل في كثير من الأحيان في الرياض وفي غيرها من المدن المزدحمة والمكتظة- وقد أَذَّنَ المغرب، وعلمت أنَّك لا تستطيع الصلاة؛ نظرًا لقرب خروج الوقت، وليس لك مخرج نظرًا للازدحام، نقول: صَلِّهَا ولو كنت جالسًا في السيارة.
{طيب إذا كان مع مجموعة، هل يجوز أن تصلي جماعة؟}
نعم، تجوز الصلاة في السيارة جماعة، وهذا جائز، والأهم أن لا يخرج وقتها؛ لأنَّ مُراعاة الوقت أولى من مُراعاة الهيئة، ولهذا تغيرت هيئة الصلاة في صلاة الخوف إلى مثل الهيئة المذكورة والتي فيها حركة كثيرة. ولم يتغير الوقت، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء:103] ولم يقل: {إن الصلاة كانت على المؤمنين قيامًا}، يعني: لم يذكر الهيئة، وإنَّما ذكر الوقت، فبين أنَّ الأصل في الصلاة هو الوقت، وهذا -يا إخوان ويا أخوات- مما ينبغي أن يُراعى، وأن لا يُستهان بوقت الصلاة بوجه من الوجوه، ولا يُتهاون فيه، فإذا كان الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يُرخص لأحد في أي تهاون في وقت الصلاة، حتى المسافر تراه لَمَّا شرع له الجمع إنَّمَا هو جمع نسبي، أعني: أنه أَخَّرَ الظهر إلى وقت العصر، أو قَدَّمَ العصر إلى وقت الظهر، ما شرع له التقديم والتأخير مُطلقًا وإنَّمَا كان نسبيًا؛ فدلَّ ذلك على مُراعاة الأوقات وعلى وجوب حفظها، هذا أحد المعاني.
والمعنى الأخر وهو معنى جليل، وهو وجوب صلاة الجماعة، فإنَّ صلاة الخوف، لو صلاها العبد وحده لكان أسهل وأيسر، ومع ذلك فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- شرعها جماعة، ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ﴾، فَأُمِرَ النبي في هذه الصلاة بإقامة الجماعة، فدلَّ ذلك على وجوبها، وهذا من أعظم ما استند إليه الحنابلة وعلماء الحديث القائلون بوجوب صلاة الجماعة، قالوا: إذا وجبت في حال الخوف، فهي من باب أولى تجب في حال الأمن، هذه كلها من المعاني المتقررة في صلاة الخوف.
الأمر الأخر؛ قد جاءت صلاة الخوف من وجوه كثيرة، وقد صحت عن النبي كما قال الإمام أحمد: "من ستة أوجه أو سبعة أوجه"، يعني: ست صفات أو سبع صفات، قال الإمام أحمد: "وأنا أختار حديث سهل" -وسيأتي حديث سهل إن شاء الله بعد قليل- وهو الحديث الذي اختاره الإمام أحمد -رحمه الله- لكن للإنسان الذي يُصلي صلاة الخوف كيفما شاء بهذه الصفات الواردة عن النبي ، فنقتصر فيها أو في شرح هذه الصفات على ما ذكره -رحمه الله- ولن نتجاوز ذلك.
 ذكر فيه حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقد كان الأولى بالمصنف -رحمه الله- ما دام انه حنبلي وما دام أنَّه قد ألَّفَ الكتاب على فقه الإمام أحمد -رحمه الله- أَن يُقدم حديث صالح بن خوات عمَّن صلى مع رسول الله صلاة؛ لأنَّ هذا هو سهل بن أبي حثمة، وهذه الصفة هي التي اختارها الإمام أحمد -رحمه الله- لكنه قدَّم حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ويظهر والله أعلم؛ لأنَّه أيسر في الهيئة، وصفتها أنَّ النبي قام بهم وقد قسمهم على طائفتين، طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فكبر وكبروا جميعًا، فصلى بالذين معه ركعة، ثم انصرفوا وذهبوا إلى الطائفة الأخرى، فقاموا بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصفت خلف رسول الله فصلى بهم النبي الركعة الثانية، وقضى كل واحد منهم ركعة؛ لأنَّه صَلَّى مع النبي ركعة، وركعة صلاها منفردًا، هذه صفة من صفات صلاة الخوف، وهي قريبة جدًا من الصفة التي سيذكرها المصنف -رحمه الله- في حديث سهل بن أبي حثمة.
{قال -رحمه الله: (عَنْ يَزيدَ بن رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بن خَوَّاتِ بن جُبَيْرٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُول الله صَلاَةَ ذَاتَ الرِّقَاعِ صَلاَةَ الخَوْفِ: أنَّ طَاِئفة صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةً وجَاهَ العَدُوِّ، فصَلَّى بِالذين مَعَهُ رَكْعَةً، ثُم ثَبَتَ قَاِئماً فَأتموا لأنفُسِهِمْ، ثم انصَرفوا فَصَفُّوا وِجَاهَ العَدو، وَجَاءَتِ الطاِئفَةُ الأخْرَى فَصَلّى بِهِمُ الركعَةَ التي بَقِيتْ ثمَّ ثبت جالِساً وَأَتمُّوا لأنفُسِهمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهم.
الرجل الذي صلى مع رسول الله ، هو سهل بن أبي حَثْمَة)
}
قال ها هنا في النسخة التي عندي: (الرجل الذي صلى مع رسول الله هو سهل بن أبي حَثْمَة) يعني: يريد المصنف -رحمه الله- أن يُبَين لَمَّا قال صالح بن خوات -رضي الله عنه ورحمه- (عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُول الله ) يعني: هو يروي هذا الحديث عن رجل صلى مع النبي وهو سهل بن أبي حَثْمَة.
أول ما في هذا الحديث، أنَّ هذه الصلاة كانت في غزوة (ذَاتَ الرِّقَاعِ)، والمشهور عند أهل العلم أنها وقعت بعد الخندق، وقد قيل: إنَّ صلاة الخوف إنَّمَا شُرعت في غزوة (ذَاتَ الرِّقَاعِ).
الفرق بين الهيئة التي ذكرت في حديث سهل بن أبي حَثْمَة، وبين الهيئة التي ذكرت في حديث عبد الله بن عمر، هو في بقاء المأمومين مع النبي بعد الفراغ من الركعة التي صلوها معه، ففي حديث سهل بن أبي حَثْمَة أنَّ النبي (صَلَّى بِالذين مَعَهُ رَكْعَةً، ثم ثَبَتَ قَاِئماً فَأتموا لأنفُسِهِمْ) فلمَّا فرغوا من الصلاة ذهبوا، ولكن بقي عليهم التسليم، (وَجَاءَتِ الطاِئفَةُ الأخْرَى فَصَلّى بِهِمُ الركعَةَ التي بَقِيتْ ثمَّ ثبت جالِساً وَأَتمُّوا لأنفُسِهمْ) فالإتمام أو كمال الصلاة من هاتين الطائفتين قد وقع خلف النبي .
بينما حديث عبد الله بن عمر، كل واحد صلى ركعة خلف النبي ، والركعة الثانية أين صلاها؟ صلاها في وِجَاه العدو، فهذا اختلاف يسير، ويجوز للإنسان أن يصنع هذا وأن يصنع هذا، وكأنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- اختار حديث سهل بن أبي حَثْمَة، بمعنى: أنَّ هذه الصلاة قد وقعت بتمامها خلف النبي ، والحركة إنَّمَا وقعت منهم بعد إتمام الصلاة.
قال: (ثُمَّ سَلَّمَ بِهم) يعني: لَمَّا قال : "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله"؛ سَلَّمَتْ الطائفتان جميعًا، وهذه أيضًا صفة من صفات صلاة الخوف، وقد قلنا إنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- اختارها لقلة الحركة فيها، وَلِمَا فيها من السهولة واليسر، وهي أيضًا على ما ذكره الإمام أحمد -رحمه الله- هي الموافقة للقرآن، ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ﴾، وبكل حال يجوز للإنسان أَن يصنع من وجوه الخوف ما هو أيسر له؛ لأنها قد تختلف باختلاف الأحوال وباختلاف حال العدو أيضًا.
{قال -رحمه الله: (عن جَابِرِ بن عَبْدِ الله الأنصَارِي -رَضي الله عَنْهُما- قال: شَهِدتُ مع رسولِ الله صَلاَةَ الخَوفِ، فصَففنَا صَفَّيْن خَلْفَ رَسُول الله وَالعَدُوُّ بيننَا وَبَيْنِ القِبلَةِ، فَكَبَّرَ النبي وكبَّرْنا جَمَيعاً، ثُم رَكَعَ وَرَكَعنَا جَميعا، ثُمَّ رَفَعَ رَأسهُ مِنَ الركُوعِ وَرَفَعنَا جَمِيعا، ثُمَّ انحَدَرَ بالسُّجُودِ وَالصف الَّذِي يلِيهِ، وَقَامَ الصَّف المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدوِّ، فَلما قَضَى النبي السُّجُودَ وَقَامَ الصف الذِي يلِيهِ، انحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسجُودِ وَقامُوا، ثُم تَقَدَّمَ الصف المُؤَخَّرُ وَتَأخَّرَ الصَّف المُقَدمُ ثم رَكَعَ النبيُّ وَرَكعنَا جَمِيعاَ، ثمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الركُوعِ فَرَفَعْنَا جَمِيعاً، ثمَّ انْحَدَرَ بِالسجُودِ وَالصَّفُّ الذي يلِيِهِ- الّذِي كَانَ مُؤَخَّراً في الركْعَةِ الأولَى- فَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العدو.
فَلما قَضى النبي السُّجُودَ وَالصَّفُّ الًذِي يليهِ، انْحَدرَ الصف المُؤَخرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدوا، ثم سَلَّمَ النبي وَسَلَّمْنَا جَمِيعاً.
قال جابر: كَمَا يَصنعُ حَرَسُكُم هؤُلاَءِ بِأمَرَائكُم.
ذكره مسلم بتمامه.
وذكر البخاري طرفاَ منه، وأنه صلى صلاة الخوف مع النبي في الغزوة السابعة، غزوة ذات الرقاع)
}.
هذا حديث جابر -رضي الله عنه- وهو أيضًا فيه صفة من صفات صلاة الخوف، وقد قال بعض العلماء -رحمهم الله: إنَّ هذه الصفة إنَّمَا تكون إذا كان العدو مواجها للقبلة، يعني: يحول العدو بينك وبين القبلة، كما في حديث جابر -رضي الله عنه-؛ فإنَّه قال: (والعدو بيننا وبين القبلة)، ولكن بوجه عام الصحيح أَن يقال: إنَّ الأمر في ذلك واسع، سواء كان العدو في وجاه القبلة أو غيرها؛ لأنَّه قد تقرر من حديث صالح بن خوات أيضًا قد كان في غزوة ذات الرقاع، فإنَّ قيل كيف يأتي في حديث صالح بن خوات -رضي الله عنه- قصة غزوة ذات الرقاع على هيئة، وها هنا على هيئة؟
نقول: من المعلوم أنَّ غزوة ذات الرقاع كانت يومًا بتمامه، وقد وقعت صلاة الخوف وتكررت من النبي في أكثر من صلاة، فقد يكون النبي صلى صلاة بصفة حديث صالح بن خوات عن سالم بن أبي حثمة، وصلاة بصفة حديث جابر -رضي الله عنه- وصفة حديث جابر -رضي الله عنه- أنَّ النبي قام فصفهم صفين خلفه، قال: (والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر وكبروا جميعًا، ثم ركع وركعوا جميع)؛ لأنَّ الركوع مأمور فيه، فإنهم ينظرون إلى العدو، (ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود، وانحدر الصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو).
هم صفان خلف رسول الله ، أمَّا الصف الأول فقد سجد مع النبي ، وأمَّا الصف الثاني فإنَّه بعد أن رفع من الركوع لم يسجد، وإنَّمَا قام قائمًا في وجه العدو، فلمَّا فرغ النبي من السجود وقام مع الصف الأول، انحدر الصف الثاني بالسجود حتى يقضوا ما فاتهم من السجود، فلما سجدوا وقاموا، تأخر الصف المقدم، وتقدم الصف المؤخر، وهذا فيه دلالة على فضل الصف الأول بوجه عام، وأنَّ النبي لَمَّا تساوى الصحابة -رضي الله عنهم- عنده في المجيء إلى الصلاة، ساوى بينهم حتى في الصفوف.
قال: (ثُم تَقَدَّمَ الصف المُؤَخَّرُ وَتَأخَّرَ الصَّف المُقَدمُ) أي: تقدموا إلى الصف الأول، وتأخر الصف الأول إلى الصف الثاني، ثم صنعوا مع النبي في الركعة الثانية كما صنعوا في الركعة الأولى.
قال: (فَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العدو، فَلما قَضى النبي السُّجُودَ وَالصَّفُّ الًذِي يليهِ، انْحَدرَ الصف المُؤَخرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدوا، ثم سَلَّمَ النبي وَسَلَّمْنَا جَمِيعا) هذه الصفة كما ذكرنا أنها أيضًا من صفات صلاة الخوف التي يجوز للإنسان أَن يصنعها، وهذه عند كثير من العلماء إنَّمَا تكون إذا كان العدو في المواجهة، يجوز للإنسان أَن يصنعه.
وقول جابر -رضي الله عنه: (كَمَا يَصنعُ حَرَسُكُم هؤُلاَءِ بِأمَرَائكُم) من المعلوم أنَّ أول من أقام الحرس في الزمن الأول هو معاوية -رضي الله عنه-، وذلك بعد عملية الاغتيال التي حصلت له؛ فإنَّه قد تعرض ثلاثة من الصحابة لمحاولات اغتيال في زمن مُتقارب، وهم:
علي -رضي الله عنه- وَتَمَّ مُراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه، حيث قتله عبد الرحمن بن ملجم.
وعمرو بن العاص قد أراد قتله الخارجي، عمر بن بكر، ولكنه قتل خارجة بن حذافة بدلاً منه، وقال فيه القول المشهور: "أردتُ عمرًا وأراد الله خارجة".
وأمَّا معاوية -رضي الله عنه-، فإنَّ الخارجي هَمَّ بطعنه، فوقاه بعض أصحابه، فجاءت الطعنة في مؤخرة معاوية -رضي الله عنه-، وقيل له: إمَّا أن تسحب هذه الشفرة وتكوى، إمَّا أَن تشرب دواء لا تنجب بعده.
قال: أمَّا الكي فلا طاقة لي به، لا أقدر عليه، وأمَّا النسل فإنَّ يشأ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يبارك في يزيد وفي عبد الله، كان عنده يزيد وعبد الله، فشرب هذا وانقطع نسله، أي: ما عاد ينجب، ونجاه الله -عَزَّ وَجَلَّ، فلما كان ذلك وضع ما يسمى بالمقصورة أو الطاق، والمقصورة هي مكان يُصلي فيه الإمام، بحيث لا ينظر إليه الناس، ويصلي معهم جماعة؛ ولهذا كان بعض السلف يكره الصلاة في الطاق. يقول: لأنها تحجب الرؤية، فنقول: هذه حاجة.
الأمر الثاني: أنه كان يُقيم الحرس، وقد كان هذا كثيرًا في زمن بني أمية بعد معاوية -رضي الله عنه-، كان يقيم الحرس فيصلي الحرس معهم، فإذا انخفض هو بالسجود قام الحرس قائمًا ولا ينخفض معه، لأنَّه إذا انخفض لن تكون هناك فائدة، فينتظر حتى يقوم هو، فإذا قام وهوى هو إلى السجود، وبقي الحرس الثانية أيضًا على حاله، يعني: يتناوبون في السجود، قال جابر: (كَمَا يَصنعُ حَرَسُكُم هؤُلاَءِ بِأمَرَائكُم) يعني: أنَّ المقصد من صلاة الخوف إنَّمَا هو أَن يحرس بعضهم بعضًا، فالصف الثاني لَمَّا لم يسجد -السجود هو موطن هجوم العدو- لَمَّا لم يسجد إنَّمَا كان فِعله ذلك لأجل أَن يحرس الصف الأول، وهكذا لَمَّا تأخر هؤلاء وتقدم هؤلاء بوجه عام.
قال: (وذكر البخاري طرفاَ منه، وأنه صلى صلاة الخوف مع النبي في الغزوة السابعة، غزوة ذات الرقاع) الغزوة السابعة، لعلها -والله أعلم- من ترقيم الصحابة -رضي الله عنهم- لغزوات النبي ، فكانوا يرقمونها، فيضعون غزوة ذات الرقاع الغزوة السابعة من غزوات النبي .
{قال -رحمه الله: (كتاب الجَنَائز.
عَنْ أبي هُريرة -رَضِي الله عَنْهُ- قال: «نَعَىِ النَّبيُّ النجَاشي في اليَوْم الذي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ إِلى الْمُصَلَّى فصَفَّ بِهمْ وَكَبَّرَ أرْبَعَا»)
}.
الجنازة بوجه عام من عموم الصلوات، ولكنها لَمَّا كانت تخالفها في الهيئة من حيث أنَّها لا ركوع فيها ولا سجود، ولَمَّا كان يتعلق بها آخر بغير موضوع الصلاة؛ لأنَّه يتعلق بها أحكام كثيرة من ذكر الموت، وأخبار الآخرة وتلقين الميت، وتغسيله، وتكفينه، ودفنه، والصلاة عليه، هذه كلها مسائل تتعلق بالجنازة، فدرج عامة أهل العلم على إفرادها بكتاب، تصبح كتابًا مستقلاً، وهو: (كتاب الجنائز).
والجنازة بوجه عام هي: السرير الذي يوضع عليه الميت، فالسرير الذي يوضع عليه الميت إذا كان الميت موضوعًا عليه؛ سمي جنازةً، فإذا لم يكن كذلك سمي سريراً.
قال: (عَنْ أبي هُريرة -رَضِي الله عَنْهُ- قال: «نَعَىِ النَّبيُّ النجَاشي في اليَوْم الذي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ إِلى الْمُصَلَّى فصَفَّ بِهمْ وَكَبَّرَ أرْبَعَا»)} الحقيقة أنَّ من أعظم نعم الله -تبارك وتعالى- على عباده أن مَنَّ عليهم بهذا الدين الذي يُكرِّم المسلم حيًا وميتًا، ومن أعظم الكرامة للمسلم الصلاة عليه، وهب -يا معاشر الإخوان ويا معاشر الأخوات- أنَّ المسلم لم يشرع له صلاة الجنازة، وإنَّمَا يشرع له دفنه فحسب، دفنه حتى يوارى عن أنظارنا، وحتى تحجب رائحته عن الناس، ما الذي سيفقده المسلم أو العبد بهذا الأمر؟
سيفقد أمورًا كثيرة، من شهود المسلمين لجنازته، وترحمهم عليه، وتعظيمهم لقدره ومكانته، هذه كلها أمور تُراعى في العبد المؤمن، وكلها أمور قد حفظها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لعبده المؤمن، ولهذا مَنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- على العبد: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس:21]، فترى القبر حفظ للميت حرمته، وحفظ حرمته والصلاة عليه تعظيم لقدره، ولهذا شرعها النبي ، فنعى النبي النجاشي في اليوم الذي مات فيه، والنجاشي هو أصحمه بن أبجر وكان مؤمنًا، وهو لم ير النبي ، ولكنه أمن به وصدق به، وهذا من أقوى الأدلة التي تدل على أنَّ النجاشي -ملك الحبشة- مات مؤمنًا، وقد نعاه النبي في اليوم الذي مات فيه، نعاه بمعنى: أنَّه أخبر أصحابه بموته، وهذا يُسمى عند العرب "النعي" وهو من النعي الجائز.
النعي على قسمين، هناك نعي جائز، وهو أَن تخبر أصحابك بموت قريبك، وترسل لهم عبر الواتس، هذا يسمى: نعيًا، وهو بمعنى: أنَّي قد أخبرتكم بموته.
والنعي المحرم هو: الندب والنياحة، أَن يأتي الإنسان فيقول: واصاحباه، واصديقاه، ويرفع بها صوته. نقول: هذا هو النعي الممنوع والمنهي عنه شرعًا.
قال: (في اليَوْم الذي مَاتَ فِيهِ) إنَّمَا جاءه الخبر من السماء؛ لأنَّ الخبر لا يمكن أَن يصل من الحبشة إلى النبي في يوم واحد في ذلك الزمان الأول، لكن جاءه الخبر من السماء من جبريل -عليه السلام.
قال: (وَخَرَجَ إِلى الْمُصَلَّى فصَفَّ بِهمْ وَكَبَّرَ أرْبَعَا) وفيه مشروعية الصلاة على الميت، والتكبير عليه أربعًا، وفيه مشروعية الصلاة على الغائب.
ولعلنا نكتفي بذلك

{نشكركم شيخنا، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفتح لكم، وأن ينفع بكم، وأن يزيدكم عنا خير الجزاء.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 -----------------------------------
[1] أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897).
[2] صعفه الألباني في إرواء الغليل.
[3] جمع مجدح وهو نجم كانت العرب تزعم أنها تمطر به. وأراد عمر رضي الله عنه تكذيب العرب في هذا الزعم الباطل، وبين أنه استسقى بالسبب الصحيح لنزول المطر وهو الاستغفار وليس النجوم
[4] رواه البخاري (1023).
[5] أخرجه ابن ماجه (3536)، وأحمد (8393) باختلاف يسير.
[6] رواه البخاري (2731).
[7] رواه البخاري (3710).
[8] أخرجه البخاري (1031)، ومسلم (895).
[9] رواه مسلم (874).
[10] رواه مسلم (1794).
[11] رواه أحمد في المسند (1/397) عن ابن مسعود، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند (5/290).
[12] رواه البخاري (6393)، ومسلم (675).
[13] رواه البخاري (4824).
[14] رواه البخاري (1014)، ومسلم (897).
[15] رواه البخاري (596)، ومسلم (631).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك