الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

22798 18
الدرس السابع

عمدة الأحكام 2

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وَسَلِّم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله وبياكم معاشر طلبة العلم، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) الذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) المستوى الثاني، والذي يصطحبنا فيه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، حياكم الله شيخ إبراهيم}.
حياك الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{الله يحفظكم، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه وأرضاه-، نستأذنكم شيخنا في البدء.
قال -رحمه الله-: (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا؛ فَقَامَ وَسْطَهَ» )}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد ذكر المصنف -رحمه الله- حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه، وفيه بيان موضع وقوف الإمام من المرأة، وهذا الحديث هو أَصَحُّ ما جاء عن النبي في هذا المعنى، وفيه أنَّ سمرة -رضي الله عنه- ذكر أنه صَلَّى وراء النبي على امرأة ماتت في نفاسها، يعني: أنها كانت نفساء فتوفيت، إمَّا أنَّها توفيت بسبب الولادة، أو أنَّها توفيت بسبب بعد ذلك، وقد جاء عن النبي أنه جعل المرأة تموتُ بجمعٍ شَهيدةٌ ، والجمع يعني: الولادة، فالمرأة التي تلد فتموت في ولادتها فهي من ضمن الشهداء، وهذا مما تبشر به النساء بوجه عام.
قال: «عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا؛ فَقَامَ وَسْطَهَ». بمعنى أنَّ مقام الإمام من المرأة إنَّمَا يكون في وسطها، قالوا: وإنَّمَا ذلك ليكون أستر لها عَمَّن خلفها؛ لأنَّ الوسط هو موضع العورة من المرأة، فيكون حاجبًا لها عمَّن خلفه من المأمومين.
هل ينسحب هذا المعنى على الرجال أو لا؟
قالوا: لا؛ لأنَّه لو كان كذلك لَمَا خَصَّ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ المرأة، فلمَّا قال: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا؛ فَقَامَ وَسْطَهَ»؛ دلَّ ذلك على أنَّ حال الرجل يختلف عن حال المرأة، فتلمسنا ذلك فوجدنا أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- قد كانوا إذا صلوا على الرجل وقف الإمام إلى جهة رأسه أو كتفه، فيقوم الإمام ويضع الميت أمامه إلى جهة كتفه، والمرأة يسحبها حتى يكون توجهه إلى وسطها، هذا هو موضع الجنائز، يُقدم الرجال ويؤخر النساء، كحالهم في صفوفهم.
ولذا قال: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا؛ فَقَامَ وَسْطَهَ»، وهذا بوجه عام على سبيل الاستحباب، وليس على سبيل الوجوب، يعني: يجوز للإمام أَن يقف حيث شاء من المرأة، في وسطها أو في أولها أو في آخرها، والأمر في ذلك واسع، لكنه إذا أراد السنة؛ فإنَّ هذه هي السنة عن رسول الله .
وقد قال بعض العلماء: إنَّه حتى الرجل يُشرع للإمام أَن يقف في وسطه، قالوا: لأنَّنا ليس عندنا عن النبي حديثًا صحيحًا يدفع حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه-، فيصير هذا في حق الرجل وحق المرأة على السواء، وكما قلنا: إنَّ الأمر في ذلك واسع، والصواب في هذا ما قررناه قبل قليل.
{قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ» .
الصَّالِقَةُ: الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عِنْدَ المُصِيبَةِ)
}.
هذه أمور قد كرهها رسول الله ، والكراهة ها هنا ليست كراهة تنزيه، وإنَّمَا هي كراهة تحريم، وهي من الأمور التي كان العرب يفعلونها عند الموت، فقد كان من العوائد المذمومة النياحة، والنياحة المنهي عنها هي ذكر الميت بمحاسنه، ورفع الصوت بذلك، والندب عليه من قول فلان من الناس: وصاحباه وا جبلاه وما في معانيهما، كما قالت ذلك عمرة بنت رواحة، فإنَّ عمرة بنت رواحة -رضي الله عنها- غُشِيَ على أخيها عبد الله، الصحابي الجليل، فظنوا أنَّه قد مات، فصاحت وا جبلاه، وا ناصراه وا عوناه، فلما استيقظ -رضي الله عنه- وأفاق قال: ما قلت لي شيء إلَّا قيل لي: أأنت كذلك؟ يعني: هل أنت غوثها؟ هل أنت جبلها؟
فلمَّا استشهد -رضي الله عنه- لم تنح له، وهذا نوع مما فَسَّرَ به العلماء -رحمهم الله، أنَّ الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، قال بعض العلماء: ليس من قبيل العذاب الذي يلاقيه؛ لأنَّه لا ذنب له، ولكن يقال له: أأنت كذلك؟ وربما كشف له حال أهله فرآهم يبكون فتعذب بهذا البكاء.
فإذًا هذه كلها يجمعها الجزع من أقدار الله -تبارك وتعالى-.
ومن المعلوم أنَّ من تمام التسليم لأمر الله -تبارك وتعالى- وتمام الاتباع اتباع أوامر الله -عَزَّ وَجَلَّ، وترك نواهيه، والتسليم لأقداره، والصبر عليها، ومنزلة الرضا منزلة فوق الصبر، لكن الصبر هو ألَّا يبدر منك فعل قد نهى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عنه، وكل هذه الأفعال "النياحة، الندب، السلق الحلق، الشق" تنافي الصبر، فأمَّا الصَّالِقَة فإنَّ أبا موسى -رضي الله عنه- قد غُشي عليه يومًا بين أهله، فصاحت امرأة من نسائه، فلمَّا أفاق أبو موسى -كما ورد عن أبي بُردة، رضي الله عنه-: "أنا بريء ممن برئ منه رسول الله ، إنَّ رسول الله قد برئ من: «الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ»، والصَّالِقَة حرفت من السلق، والسلق كقوله: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ تناول باللسان أمر يتعلق باللسان، فهو رفع الصوت بالصياح.
هناك أمور قد رخص الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيها عند الموت، يجوز للإنسان أَن يحزن، وأن يُظهر الحزن، تقول عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه الإمام البخاري ومسلم، من حديث عمرة عن عائشة، لَمَّا جاء رسول الله نعي ابن رواحة وزيد وجعفر جلس يُعرف في وجهه الحزن.
نعم. يجوز للإنسان أَن يحزن «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَ»
الأمر الثاني: البكاء، يجوز للإنسان أن يبكي، وأن يُخرج ما بقلبه، بل قد يقال: إنَّ هذا هو الهدي النبوي؛ لأنها مُصيبة، والإنسان يعلم أنَّ الله قد جعل لكل شيء قدرًا، فيضع لكل مقام مقاله، وفي كل حال يلبس لها لباسها، ما ينبغي أَن يموت الميت فيخرج ويبتسم، ولهذا كان مقام النبي أعظم من مقام بعض الصالحين، الذي لَمَّا توفي له ميت أخذ يبتسم ويضحك، فقيل له لم؟ قال أرضى بما رضي الله -عَزَّ وَجَلَّ- به.
نقول: مقام النبي أعظم من ذلك، نعم هو راضٍ بقضاء الله وقدره، لكنه أيضًا يبكي حزنًا على فراق هذا الميت، وهذا نوع من قضاء الميت حقه، يعني: هل يعقل أَن يتوفى والدك أو والدتك ثم تراه ضاحكًا؟ لو فعلت ذلك لقال الناس: إنَّك أحد رجلين، إمَّا أنَّك رجل فاقد العقل، أو أنَّك رجل فرح بفراقهما، لكن البكاء مشروع، بل مسنون، والبكاء حزنا مع دمع العين، قال : «إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمْعِ العَيْنِ، وَلَا بحُزْنِ القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بهذا، وَأَشَارَ إلى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ» ، فاللسان هو الذي يقع به العذاب، فإذا أعظم ما يكون من المنكر هو المنكر اللساني، وهو أقبح ما يكون من المنكرات، نياحة وندب وسلق ورفع الصوت، هذه كلها فضلا -والعياذ بالله- عن منزلة الجزع، وهي أعظم وأكبر، وما يصنعه كثير من الناس ممن أشرب هواه، وأعجب بنفسه، إذا ابتُلِيَ قال: يا رب ما الذي صنعت؟ يا رب لماذا فعلت هذا؟ يا رب لمَ أنا من دون الناس كلهم؟، نسأل الله العافية، أنت كلك ذنوب، ولو أنَّك من خلقت وأنت تعذب إلى أَن تتوفى، لَمَا كان ذلك كثيرًا عليك، نحن نتكلم عن الخلق كلهم، فكيف تستكثر ذلك على الله -عَزَّ وَجَلَّ؟ ثم إنَّه ما الذي يشعرك أنَّ هذا بسبب ذنب؟
قد يكون هذا ابتلاء من الله -عَزَّ وَجَلَّ- يرفعك به، أو يدفع عنك ما هو شر منه، لكن أنت في حمقك وسطحيتك ونظرك البسيط -نظرك إلى موضع قدميك- لا تبصر إلَّا ما هو أمامك، وأنت ابن ساعتك، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يريد لك أكبر من ذلك، هذا من أعظم ما يكون من الاعتراض على أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ، ولذا ينبغي للناس أَن يحذروا مثل هذا المسلك، أي: مسلك الجزع، يا رب ما الذي فعلته؟ أنا ما فعلت شيئًا، أنا ما ظلمت أحدًا!
بل أنت ظالم لنفسك قبل أَن تظلم أحد، وربما ملئت الخلق بالظلم، ولكنك لا تشعر بنفسك، إذا وقعت فيك هذه المصيبة وأردت أَن تتكلم؛ فالجأ إلى الله بالاستغفار، كما صنع أنبياء الله -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:23]، ﴿فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:87]، هذه دعوات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين هم أفضل منك، والذين لو وُزِنت أعمالهم إلى أعمالك لَمَا كانت أعمالك شيئًا عندهم، ولذا كان السلق من أقبح ما يكون من الجذع والاعتراض على أقدار الله -عَزَّ وَجَلَّ.
(«وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ») الحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، فإذا نزلت بها مصيبة، أمرت أن يحلق شعرها، إمَّا حلقته هي أو أمرت بحلقها، حتى تبين للناس أنَّ هذه المصيبة كبيرة جدًا.
(«وَالشَّاقَّةِ») هي التي تشق جيبها، وكل فعل من جنس هذه الأفعال يوهم الجذع على أقدار الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإنَّه داخل فيها؛ لأنَّ الحال يختلف باختلاف الأزمنة، فالزمان هذا قد لا يكون فيه حلق، ولكن يكون فيه تسويد وجه، فنقول: هذا محرم، ويكون فيه لبس السواد وهو محرم لماذا؟
لأنَّه نوع من الجزع، على أي شيء تلبس الأسود؟ قد توفي النبي فما لبس أصحابه السواد.
وكذلك "خمش الوجوه" من الأفعال المحرمة التي تنافي الصبر، وتبين أنَّ المرأة جازعة من قضاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومن قدره، ويلاحظ أنَّ الحديث قد جاء في الصالقة والحالقة والشاقة، مع أنَّه قد يقع من الرجال، ولكنهم قالوا: إنَّمَا جاء في النساء لأنهن أكثر من الرجال في هذا، والأصل في الرجل دائمًا الصبر، خاصة في الزمان الأول، لماذا؟
لأنه يدخل المعارك وقد يقتل بين يديه إخوانه وقرابته، ولهذا لم ينه الرجل عن اتباع الجنائز، ولا عن أَن يدفنها؛ لأنَّ عنده من الصبر في هذا الأمر ما ليس عند المرأة، وهذا أمر فطري لا تُعَابُ به المرأة، فهي لا تعاب على ضعف صبرها، وأعني بضعف الصبر أنَّها نُهيت عن اتباع الجنائز، ونهيت عن زيارة المقابر، ولكن إنَّما تُلام على ما يُنافي الصبر، من نحو هذه الأفعال المنكرة، التي حرمها الله -عَزَّ وَجَلَّ، وحرمها رسوله .
وهذا أيضًا يشمل: سب الدهر والتجزع منه، وقول: الزمان لا خير فيه، وقُبحًا لوجهك يا دهر، وقُبحًا لوجهك يا زمان، ويا دهر ويحك هل أبقيت لي من أحد؟ وأنت والد سوء تأكل الولد، هذه كلها من الجزع من أقدار الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهو جمع بين سب الدهر والجزع من قدر الله، يعني: جمع بين السوأتين، نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- العافية.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الحَبَشَةِ؛ فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ»)}.
رحم الله المصنف ورضي عنه، فإنَّه قد ذكر هذا الحديث في باب الجنائز، حتى يُبين حرمة تعظيم قبور الموتى، وهذا الأمر مما يغفل عنه أحيانًا بعض من يصنف في الفقه، لكن المصنف -رحمه الله- إمام سلفي جليل، وهو الحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله.
ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- لَمَّا اشتكى النبي ذكر بعض نسائه -أم سلمة وأم حبيبة، رضي الله عنهما- فإنَّهنَّ كُنَّ بأرض الحبشة، لأنَّ أم سلمة كانت قد رحلت في الهجرة الأولى إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة، وأم حبيبة كما نعلم قد رحلت مع زوجها عبيد الله حتَّى تنصَّرَ.
ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، هذا اسم الكنيسة، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا من الحبشة، فذكرتا من حُسنها وتصاوير فيها، وهذا هو الشاهد، وهو أنَّ هؤلاء القوم كانوا يعتنون بتحسين أماكن العبادة ووضع التصاوير فيها، فَذَمَّهُم النبي .
فأمَّا تحسين هذه المساجد -أماكن العبادة-؛ فإنَّه قد جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنَّه قال لمن بنى مسجد النبي : "أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ" ، يعني: لا تتخذ الألوان، وقد بناه عمر على ما بناه عليه رسول الله ، وقد ذكر الصحابة -رضي الله عنهم- عن النبي أنَّه قال: «لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يتَباهى النَّاسُ في المساجِدِ» ، وقال ابن عباس: "لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى" ، فالزخرفة والمبالغة في التحسين مذمومة، ولهذا يرى الإنسان أنه لا ينجمع قلبه على مسجد من المساجد إلَّا المساجد التي تكون خالية من هذه الزخارف، خالية من هذه التحسينات، حتى لا ينصرف قلبه عنها، ويشرد بصره في التطلع على حسن هذا البناء وروعته وتطابق السجاد مع السقف، وتطابق السجاد مع أمامه من حوامل المصحف، وما إلى ذلك، فينشغل قلب الإنسان، والنبي لَمَّا صلَّى في خَمِيصَةٍ لها أعْلَام، فَنَظَر إلى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فلمَّا انْصَرف قال: «اذهبوا بِخَمِيصَتِي هذه إلى أبي جَهْم وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أبي جَهْم؛ فإنها أَلْهَتْنِي آنِفًا عن صَلاتي» ، فهذا الأمر مما ينبغي أَن يُراعى في المساجد.
الأمر الآخر: التصاوير، والحمد لله أنَّ -عَزَّ وَجَلَّ- وإن كان قد ابتلى هذه الأمة بالمبالغة في تحسين المساجد، إلَّا أنَّ الله قد حماها من التصاوير، فهذه نعمة عظيمة، ولهذا لا يضع التصاوير إلَّا من شابه اليهود والنصارى، ولهذا كان ثم طوائف من النَّصارى مما يسمون بالطوائف الإنجيلية يتنكرون لهذا المبدأ، أعني: مبدأ التصاوير، ويرون أنه يُنافي العبادة، كيف تتعبد الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأمامك تصاوير؟ قد كان أول الشرك سببه التصاوير، كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- فيما رواه الإمام البخاري، ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرً﴾ [نوح:23]، وهذه أسماء رجال صالحين ماتوا، فأوحى الشيطان إلى قومهم أن صوروا صورهم وضعوها، ففعلوا، قال: فلمَّا مات أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبدت من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فكان هذا هو أول شرك وقع، وكان سببه التصاوير، ولهذا قال عمر -رضي الله عنه- لَمَّا دعي إلى الصلاة في الكنيسة أيام فتح المقدس بيت المقدس، قال: "إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ" ، وبناء عليه فالصلاة في الكنيسة تجوز أو لا؟
نقول: مرهونة بالتصاوير، إن كان فيها تصاوير، فالصلاة لا تجوز فيها، حتى المساجد إن وجدت فيها التصاوير، كما في مساجد بعض الطوائف غير السنية، مثل: الرافضة وغيرهم، تجد فيها أحيانًا التصاوير، صور للحسين وصور لعلي مزعومة.
وعلى هذا فلا تجوز الصلاة فيها إذا كان فيها تصاوير، وإذا لم يكن فيها تصاوير فتجوز الصلاة فيها، ولهذا قال عمر -رضي الله عنه: "إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ"، فلو أزيلت جاز الصلاة فيها.
قال: (فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَ) التصاوير التي كانت عند النصارى بوجه عام كانت لمريم العذراء، وللمسيح ابن مريم، وهي موجودة حتى الآن في كنائسهم، وهي مما سار إليهم من الوثنية، فإنَّ النصرانية إنَّما تلوثت على عهد قسطنطين، وهو الملك المشهور عندهم والذي كان في القرن الثالث الميلادي، وهو كان وثنيًا ثم تنصَّرَ، فحرف النصرانية إلى الوثنية، أي: أدخل في النصرانية شيئًا من الوثنية.
قال: (فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ) وكان مريضًا مرض الموت، فقال: «أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ»)}، فبيَّن النبي حرمة بناء المساجد على القبور، والأمة كلها مجمعة على تحريم بناء المسجد على القبر، والنبي لَمَّا أراد بناء مسجده كان مقبرة للمشركين، فأمر النبي بنبش ما فيها من قبور المشركين، وظن بعض العلماء كالشافعية أنه إنَّمَا أمر بنبش قبور المشركين خشية نجاستهم، ونقول: هذا معنى بعيد، لم يبق منهم إلَّا عظامهم، فأين النجاسة؟ وإنَّمَا أمر بنبشها حتى لا تُبنى المساجد على القبور، فأمر النبي بنبشها فنبشت.
قال أنس: فكان فيه قبور للمشركين، وفيه خريب ونخل، فأمر بالقبور فنبشت، وأمر بالنخل فقطع، وأمر بالخريب فسويت، وهذا معنى متفق عليه بين العلماء -رحمهم الله- بل إنَّ العلماء قد جاوزوا ذلك، فقال: إنه لا يجوز الصلاة حتى إلى القبر، وقد جاء عن النبي أنه قال: «لا تَجْلِسُوا علَى القُبُورِ، ولا تُصَلُّوا إلَيْه» ، وفي بعض الروايات: «لا تصلوا على القبور»، ولكن الأول هو المشهور «لا تَجْلِسُوا علَى القُبُورِ، ولا تُصَلُّوا إلَيْه»، وقد رأى عمر يومًا أنس بن مالك يصلي إلى قبر، فقال: القبر القبر، قال أنس: فظننت أنَّه يريد القمر، فرفعت رأسي إليه فإذا هو يريد القبر" ، وهذا يدل على أنَّ هذا المعنى متقرر، وكله من باب حماية جناب الشريعة.
وقد قررنا سابقًا أنَّ صلاة الجنازة تشرع في القبر، ولكن ليس فيها ركوع ولا سجود، وذلك حتى يُقطع دابر الشرك.
قال: («بَنَوْا علَى قَبْرِهِ مَسْجِدً») وقد أمر النبي بتسوية القبور، وقد قال عليٌّ -رضي الله عنه- يومًا لأَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ: "أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ؟ «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» "، والقبر المشرف هو المرتفع، وفيه دلالة على اقتران التصاوير بعبادة القبور، واقتران التصاوير بالشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، صورة طمستها وقبر سويته، هذه كلها من باب حماية الشريعة.
قال: («بَنَوْا علَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وصَوَّرُوا فيه تِلكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَومَ القِيَامَةِ») سماهم النبي بشرار الخلق؛ لأنهم من أعظم الناس شركًا، ولهذا قالت عائشة -رضي الله عنها: (وَلَوْلا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ) أي: قبر النبي غير بارز، نعم هو في حجرة، ولكن هل رأينا قبر النبي ؟ لم نره بخلاف قبور المسلمين التي نراها، (وَلَوْلا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدً)، ولهذا إذا أورد بعض الناس من الإيرادات أنَّ قبر النبي في المسجد، نقول: نعم، قبر النبي كان في بيت عائشة -رضي الله عنها- وهو محجوب عن المسجد، ولا يصلى فيه، وهو حتى الآن ليس من ضمن مسجد النبي ، ولهذا كان في جانب مسجد النبي ، ومن المعلوم أنَّ المسجد بالإمكان أن يُجَزأ، فلو أنَّ إنسانًا أراد أَن يجعل أرضًا مربعة الشكل وقفًا، وثال: سأقتطع منها هذا الجزء، وهو جزء يسير، سأضعه لي، هل يجوز أو لا؟
نقول: يجوز وما في بأس، فكذلك حال مسجد النبي ، من المعلوم أنَّ قبر النبي في الجهة الشرقية، عند الباب الشرقي، فهو في حافة المسجد، فإذًا هذا ليس بداخل المسجد، هذا القبر في بيت النبي ، ولكن التصق به المسجد.
فإذًا ليس قبر النبي من ضمن المسجد، وليس داخلاً فيه، كما ذهب بعض الناس إلى أنه يتورع، فنقول: هذا من الغلو؛ لأنَّ السلف الصالح -رضوان الله عليهم- تتابعوا على جواز الصلاة في مسجد النبي ، ولم يقل أحد منهم: إنَّ قبر النبي في المسجد، أو أنه يتورع عن الصلاة في مثل هذا المسجد.
قال: («فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَومَ القِيَامَةِ») قد ذكرنا وقدمنا أنَّ المصنف -رحمه الله- قد قدَّم ذلك ليتوقى هذا، ويتوقى أمر رفع القبر، فإذا دفنت الميت فلا ترفع له، وإن سويته فحسن، وإن أردت أن ترفعه فسنِّمه، يقول سفيان التمار: رَأَيت قَبْرَ النبيِّ مُسَنَّمًا" ، ومن المعلوم أن "التمار" هذا كان في أواخر عهد الصحابة -رضي الله عنهم- وهذا يدل على أنَّ هذا الفعل كان من أفعال الصحابة -رضي الله عنهم-، يُسَنَّم ويوضع عليه شاخص حتى يميز به القبر، هذا هو غاية ما يفعل، وما سوى ذلك فيهدم، مثل بناء القبة أو تعظيم الارتفاع، أو وضع الشواخص الكبيرة، كلها تهدم، وجاء في بعض الروايات عنه أن لا يُكتب عليه، وهذه كلها من حماية جناب الشريعة.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْهَا -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ؛ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِد)}
حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا هو كالموافق للحديث السابق الذي ذكرته في قصة أم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- وفيه أنَّ النبي في آخر حياته قد قرر التوحيد، وخشي على أمته من أعظم ما يتوصل به إلى الشرك، وهو عبادة القبور، وعبادة الأولياء، ليس شيء يدخل به على هذه الأمة المحمدية مثل هذا الجانب، يعني: عبادة هذه الأمة للكواكب أو الأفلاك بعيدة، ولكن عبادتها للأولياء والصالحين قريبة جدًا، حتى عبادتها للأشجار والأحجار تعد بعيدة نسبيًا، وربما إذا عبدوا الشجر والحجر عبدوه متجسدًا فيه هذا الرجل، لكن عبادتهم لهؤلاء الصالحين موجودة، وقد خشيها النبي ، ومن رحمة الله بهذه الأمة أنَّه حتى انقضاء القرون الثلاثة المفضلة لم تقع عبادة القبور، ولا تعظيمها، ولا تسريجها، ولا رفعها، حتى أتت الدولة البويهية الرافضية بعد انقضاء هذه الثلاث، القرون الثلاثة المفضلة، فاستولت على الدولة العباسية وبدأت بتعظيم القبور، وتشييد هذه القبور والعناية بها، فبدأت هذه البدعة تتنامى بين الناس، حتى وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه في بعض الأزمنة، أصبحت كأنَّمَا هو الشرك القديم، لها مزارات، ويطوفون بها، ويعبدونها من دون الله ويسجدون، كما ترى الآن في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي، فصرنا نرى للأسف أنها تُقصد كما يُقصد بيت الله -عَزَّ وَجَلَّ-، بل إنهم قد وضعوا لها من الخصائص أعظم مما وضعوه في بيت الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال النبي : («لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ») لو بحث الإنسان عن نصٍّ أحسن من هذا النص فلن بجد، لكن حتى يعلم الإنسان أنَّ المرء إذا أشرب هواه، لا يحول بينه وبين الهوى شيء، وإلا ما الذي تريد أبلغ من هذا النص؟! ثم تأتي تخالفه وتُشَييد القبر على من دون الأنبياء، يلعن النبي اليهود والنصارى لتشييد قبور أنبيائهم، وتأتي أَنت لتشيد قبور من هم سوى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، تُشيد هذه المساجد، وهذه المزارات، تتخذها قربات تتقرب بها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والنبي إنَّمَا حذر من ذلك، وأرشد إليه في آخر عمره؛ لأنَّ النبي كان يعلم أنَّ حال أمته سيؤول إلى ذلك، أولم يقل النبي : «لتتَّبعنَّ سَننَ من كانَ قبلَكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ حتَّى لو دَخَلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه» قالوا: اليَهودُ والنَّصارى؟ قالَ: «فمَن؟» أي: من يكون غير اليهود والنصارى؟
فجاء النبي في آخر حياته محذرًا من أعظم ما يقع فيه اليهود والنصارى، ترى المشابهة التي تقع من الأمة لليهود والنصارى في كثير من الأمور موجودة، كثير من الأمور يوجد مشابهة لليهود والنصارى في هذه الأمة، ولكن لم يحذر النبي من شيء منها كما حَذَّرَ من اتخاذ القبور مساجد؛ لأنَّه يمس العقيدة، وهو يريد حماية جناب الله -عَزَّ وَجَلَّ- جناب التوحيد عن أن يُمس، وللأسف قد عصته هذه الأمة، والعجب أنَّ كثيرًا ممن يعصيه هو الذي يستدل بقوله عند موته: «ائْتُونِي أكْتُبْ لَكُمْ كِتابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَدً» ، يقول: فلم يأتوا به، وقالوا: عندنا كتاب الله. نقول: طيب عندك حديث النبي كالشمس المنيرة، («لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»)، تخالفه وتبني على القبر، ومن العجيب أنَّ هذا الحديث من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ، ومن إقامة الحجة على الأمم؛ لأنه متفق عليه بين أغلب طوائف هذه الأمة، الرافضة والخوارج، كلهم يقولون بهذا الحديث، وهو مروي عندهم، فهو من الأحاديث العظام الثابتة التي لا يُنازع فيها، حتى يُعلم أنَّ دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- مؤسس بالأسس الثقال القوية، التي لا يمكن أن تُهدم، لكن أين الدعوة إلى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ؟ وأين حماية جناب التوحيد؟ ولهذا لا يُثرَّب على كل من يبالغ بالتوحيد، لماذا؟ لأنَّه إنَّمَا يأتسي بما ائتسى به النبي ، كيف؟ النبي نهى عن الحلف بغير الله؛ لأنَّ فيه نوع من التعظيم مع أنه ليس بالشرك الأكبر، ولولا أنَّ النبي ذكر أنه شرك أصغر لَمَا كان يتبادر إلى الناس أنه شرك أصغر، ونهى النبي عن قول: "ما شاء الله وشاء فلان"، ونهى ابن عباس -رضي الله عنه- عن قولهم: لولا البط في الدار؛ لسرقنا اللصوص" قالوا: كلها من الشرك الخفي، فقطعوا هذه الوسائل كلها، فدل ذلك على أنَّ المبالغة في التوحيد مما لا ينبغي أَن يسهل فيه، بالغ في التوحيد بقدر ما تستطيع في حماية التوحيد، وترهيب الناس من الشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا تفتح لهم الباب؛ لأنَّ الناس صراع ما يضاد بالتوحيد؛ لأنَّ الشيطان هو من يقودهم ويؤزهم، والشيطان لم يؤزك على المعصية التي تستغفر منها وتتوب، ولكن سيؤزك على المعصية التي إذا انطلقت منها ما عاد ينفعك شيء إلَّا التوبة النصوح لله -عَزَّ وَجَلَّ، وترك ما أنت فيه.
أمَّا الكبائر فأنت تحت رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومشيئته، والشيطان صاحب اختصاص في بني آدم، هو يعلم ما الذي يقودهم إليه!
كم كان بين آدم ونوح -عليهما السلام؟
عشرة قرون، كانوا كلهم على التوحيد، ليس معنى هذا أنها لم تكن فيهم كبائر، بل كان فيهم كبائر، لكن ما بعث قبلها نبي، كان فيه قتل، وكان فيه زنا، وكان فيه سرقة، وكان فيه ظلم، هذه كلها موجودة، وإلا لو قلنا لم تكن موجودة لقلنا: إنهم كانوا معصومين من الكبائر، فما بُعث إليهم رسل؛ لأنهم لا زالوا بوجه عام على التوحيد، محافظين على المبدأ العام فيما بينهم وبين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فعلم الشيطان أن هذا ما يقنع منهم، وأنه لو قنع منهم بذلك لَمَا وفَّى بعهده الذي عاهد الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء:119] إذا لا يستطيع أن يفي بعهده حتى يُوقعهم في الشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ؛ فزين لهم التصاوير. آتاهم بسورة الشيخ، وأوحى إليهم أن اصنعوا التصاوير، أنا أصورها لكم، كما جاء عن بعض السلف، فصورها لهم كأنَّمَا هي صورة آبائهم، "ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا"، فلمَّا طال الزمان أتى مَن بَعدهم، والشيطان طويل النفس وقد سمى الله -عَزَّ وَجَلَّ- سبيله خطوات، فأتى من بعدهم، وقال لهم: إنَّ من قبلكم كانوا يعبدونهم، ويدعونهم من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ، وبذلك نالوا الحظوة من الله -عَزَّ وَجَلَّ، فدعوهم واستغاثوا بهم فضلوا ضلالاً مبينًا، فكان هذا هو سبيل الشيطان، وهذا هو السبيل الذي دخل به الشيطان على هذه الأمة المحمدية، ولو قال قائل: إنَّه ليس من أمة محجوبة عن الشرك مثل هذه الأمة لَمَا كان بعيد، لِمَاذا؟ لأنَّ كتاب الله بين أيديكم، يا قوم كتاب الله بين أيديكم، وفيه تقرير التوحيد لله -عَزَّ وَجَلَّ- بأقوم دليل، إغلاق كل الوسائل الموصلة للشرك، قطع كل الشفاعات وكل الوسائل إلَّا وسيلة الله -تبارك وتعالى، بين يديكم سنة النبي ظاهرة لعن صريح من النبي ، بين يديكم عمل سلفكم الصالح على مدار ثلاثة قرون وهو والله من أعظم حماية الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهذه الأمة، ومما يدل على فضل هذه القرون الثلاثة المفضلة، أنه لا يوجد فيها شرك، ولهذا تجد العلماء من السلف يتكلمون في كتب العقيدة عن الكتب العقيدة عن الجهمية والمعطلة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والشيعة، لكن الكلام في الشرك الذي هو توحيد الألوهية ما يكاد يذكر، لماذا؟ لعدم وقوعه، وهم إنَّمَا كانوا يتكلمون فيما يقع، والتوحيد عندهم مقرر بأقوم حجة، وبأقوم بينة.
وهناك أمر أيضًا ينبغي أَن يلاحظ، وهو أنَّ الرجل ما يعظم في قلبك حتى يموت، يكون العالم بين يديك فلا تعرف قدره، فإذا توفى بدأ يعظم في قلبك، وهذا مما لا شك فيه أنَّه نوع من إيعاز الشيطان، الذي يضعه في قلب الإنسان، وهو تعظيم الموتى، وإلا فالميت مات وما عاد ترجو منه شيء، ادع له، اذكره بالخير، هو بحاجة إليك أكثر مما أنت بحاجة له، وهذا ينبغي أَن يلاحظه الإنسان، ربما كان الإنسان مع شيخه متأدبا، فإذا مات بالغ فيه، تأخذه العاطفة، وهذا يراه الإنسان بنفسه، يرى علماء كان يعظمهم التعظيم الشرعي، فلمَّا توفوا زاد، وهذا من قذف الشيطان الذي يقذفه في قلب العبد، لماذا؟
لأنَّه سيزيد بك حتى يبلغ بك للغلو، لو تغلو في هذا الصالح وهو حي لَمَا مكنك من ذلك، ورد عليك، لكن توفي خلاص، انظر إلى الغلو الذي وقع في علي -رضي الله عنه- أو فيمن هو خير منه، مثل: ابن مريم -عليه السلام- هل تتوقع لو أنَّ عيسى أو عليا كان موجودًا بيننا سيقع؟ الغلو في علي -رضي الله عنه- لَمّا وقع من السبئية حرقهم -رضي الله عنه، وقال:

لَمَّا رأيت الأمر أمرًا منكرًا ... أججت ناري ودعوت قنبرا

ولكن حينما توفي خلي بين القوم وبين هذا الرجل فأصبحوا يعظمونه ويقدسونه.
الشاهد: كثير من الناس ربما إذا توفي قريبه أدركته العاطفة، فقال: أضع صورته في جوالي، أو أعلقها في بيتي، فأدعو له، هذا مدخل، أقول: إن قريبا لا تذكره إلَّا بصورته لم تصله صلة شرعية، وحقيقة ما أديت الواجب فيه شرعًا، فإذا كان لا يذكرك به إلَّا صورته، فما لا شك فيه أنَّ هذا الرجل حي القدر عندك، فالصورة تمحى، والجوال يغلق فتنساه، وهذا من أعظم مداخل تعظيم الموتى، ولهذا فالصواب أنه وإن قيل بجواز الصور والتصوير الفوتوغرافي والتصوير المرئي، إلَّا أنه يقال: وضع صور الموتى على الجوالات محرم، وعلى ذوي الميت أَن يحذفوها، أولم يقل النبي : («وصَوَّرُوا فيه تِلكَ الصُّوَرَ») صور ماذا؟ صور الميت، لماذا تصورها؟ لأجل أن تترحم عليه، نقول: إذا صليت عليه الجنازة فاذكره في دعائك، وليس وقت الترَّحم عليه يكون وأنت جالس تقلب في جوالك، وربما أنت على معصية، ورأيته فقلت: رحمه الله، وهو ليس بموضع دعاء أصلا، ولا هو بموضع ترحم، ولا يناسب المقام.
وليس موضع الترحم عليه أَن تدخل إلى بيتك، وقد رجعت من عملك وأنت مرهق فترى صورته فتقول: "رحمه الله"، ليس هذا هو المقام، وهذا كله من باب التعظيم المحرم.
هذه التصاوير بلا شك أنها محرمة، وإذا احتاج الإنسان إلى شيء يذكره، فليكتب مثلاً: رحم الله والدي إذا كان صادقًا، والأمر لا يحتاج صورته، فما من شك أنه وضع صورته مما يدخل في قول النبي : («وصَوَّرُوا فيه تِلكَ الصُّوَرَ»).
صحيح لَم يصوروا في المسجد، لكن أيضًا حتى التصاوير في غير المسجد للميت محرمة؛ لأنها كلها من وسائل الشيطان، وإذا أردت أَن تعرف أثر ذلك، فانظر إلى تعظيمك لصورة كل من تقادم به العهد، كيف؟ صورة والد الإنسان أو جده قد ما تكون عزيزة عليه مرة، لكن انظر لو أنه عثر على صورة جدك، ستكون مقدسة؛ لأنها صورة يرى أنها صورة لأصله، وصورة لرجل بعيد العهد، وكلما باعدت الصورة، كلما عظم قدرها وزاد التعظيم، فلأجل ذلك يغلق هذا الباب على مصراعيه، والشرع أغلق هذا الباب ولم يأذن فيه، ولم يرخص فيه، وهذا كله من باب حماية جناب الشريعة، وكله من الأمور التي ينبغي إذا جاءت أبواب الجنائز أن تستشعر وأن تبرز للناس، حتى يعلم أن الفقه -بوجه عام- مرتبط ارتباطًا كاملا بالعقيدة.
ترى -بوحه عام- العلم الشرعي كله علم واحد متداخل ويكمل بعضه بعضًا، ولذا ستجد في الفقه: الحديث والعقيدة والتفسير، وستجد في التفسير هذه الأمور كلها، وهكذا.
{قال -رحمه الله:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ»)}.
هذا حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وهو حديث موافق لحديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- السابق، وفيه أنَّ النبي قال: («لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ») ضرب الخدود هو اللطم على الخدود أو اللطم على الصدور، وإذا كان هذا في المصيبة الحالية التي وقعت بالإنسان في زمنه وكان قريب العهد بها؛ فإنَّ هذا في كل مُصيبة قد تقادمت عليه من باب أولى، ومصيبة بعض الناس في قتل الحسين -رضي الله عنه- أو المصيبة في قتل فلان من الناس، نقول: هذه كلها من أعظم ما يكون من الموبقات، وإذا كان النبي لم يرخص لهذه المرأة في المصيبة التي لا زال حرها في صدرها، يعني: لا زالت حديثة وطرية، فكيف الحال بمن بعدت مصيبته؟ إذا ذكرت مصيبة تسلو بها، فاذكر مصابك بالنبي محمد فأعظم مصاب هو مصابنا بالنبي ، ومع ذلك فإنَّه لا يُشرع للإنسان أَن يلطم أو يشق أو يصيح.
قال: («وَشَقَّ الجُيُوبَ») وهذا ذكرناه وشرحناه.
قال: («وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ») دعوة الجاهلية وما ذكرناها سابقًا يقول: يا سيداه، يا ناصراه، يا ويلاه، وفضيحتاه، ونحو ذلك من هذه الدعوات، وهذه كلها مما يحرم شرعًا.
{قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ شَهِدَ الجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ، قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ».
وَلِمُسْلِمٍ: «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ»)
}.
ختم المصنف -رحمه الله- هذا الكتاب بهذا الحديث عن رسول ، ولَمَّا قرر أنَّ الصلاة على الجنازة من فروض الكفايات، بما ساقه من الأحاديث عن رسول الله ، وعن أصحابه رضوان الله عليهم- أراد المصنف -رحمه الله- أَن يذكر الحديث الثابت عن النبي في فضل هذه الصلاة، مما يدل بوجه عام على أنَّ الأصل في المسلمين التكاتف، وعلى أنَّ الشرع لَمَّا رأى حرمة المؤمن في الصلاة عليه، أراد أَن يندب الناس إلى تكثير الجمع عليه بهذا الحديث، فقال : («مَنْ شَهِدَ الجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ») وأنا أقول: لو لم يرد هذا الحديث عن رسول الله لرأيت أنَّ صلاة الجنازة من أقل ما يكون من الصلوات عليها؛ لأنَّ الإنسان سيقول هذه الجنازة متعلقة بغيري، فما حاجتي إلى أن أصلي عليها! ولكن لَمَّا جاء هذا الحديث عن رسول الله بادر الناس إليها، ولهذا لو تسأل كثيرًا من الناس ممن يصلي على الجنازة التي لا يعرفها، وقلت له: ما سبب صلاتك عليه؟ ماذا يقول؟ يقول: القيراط. لكن لو لم يرد تجد كثيرًا من الناس ربما صلى وانصرف، وإذا أردت المثال على ذلك وقال الإنسان كيف؟ أقول: أنا أخبرك بسنة مؤكدة قريبة من تأكيد صلاة الجنازة، صلاة الجنازة فرض كفاية وليست سنة مؤكدة، يعني: إذا قام بها البعض سقط على الآخرين.
مَنْ مِنَ الناس يصلي السنن الرواتب؟ قليل من يصلون، لكن لَمَّا كان القيراط ها هنا موجودًا، وكان مثل الجبل العظيم؛ حَثَّ الناس، وهذا والله من عظيم رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكذلك تعظيم لقدر المؤمن، لَمَّا أراد النبي أَن يكثر الجمع علم أنه لا يكثر الجمع إلَّا بأجر عظيم، فقال : («مَنْ شَهِدَ الجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ») والقيراط في الحساب هو جزء من أربعة وعشرين جزء، لكن هو مُعرض عنه في هذا المعنى؛ لأنَّه قد جاء تفسيره في الحديث ها هنا، وبعض العلماء قال: القيراط هو الشيء الكثير بوجه عام، وجاء تفسير القيراط بأنه هو الجبل العظيم، وأنَّ أصغرهما مثل جبل أحد، هذا في أجر الصلاة على الجنازة.
قال: («مَنْ شَهِدَ الجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ») هذا الأجر الثاني.
الأجر الأول متحقق بالصلاة عليها، والأجر الآخر متحقق بشهودها حتى دفنها؛ لأنَّه قد وقع الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- في أمرين:
الأمر الأول: ما هو معيار الشهود أو ضابط الشهود؟
الأمر الثاني: ما هو ضابط الانصراف؟
فأمَّا ضابط الشهود؛ فالصحيح عند العلماء هو الاتباع؛ لأنَّه قد جاء في الحديث «من تبعها حتى تدفن»، والاتباع أَن تكون أمامها أو خلفها أو قريبًا منها، ومثل هذا المعنى يتغاضى فيه الآن في الزمان اليسير؛ لأنَّه قد لا يتحقق للإنسان بالدقة. كيف؟
نصلي عليها في الجوامع التي يصلي فيها على الجنائز، على سبيل المثال، صلى عليها في جامع البابطين شمال الرياض، ثم أراد أَن يتبعها، قد تسبقه بمسافة، ثم يلحقها، وقد يسبقها هو ثم تلحقه، هذا كله -إن شاء الله- مما يتغاضى عنه؛ لأنَّه مما يقع من غير قصد، ويتعذر على الإنسان أَن يتبع الجنازة كما يتبع المعرس، هذا صعب، وقد يحدث أيضًا ضررًا في المرور وما إلى ذلك.
{لكن يا شيخ هل ممكن أَن يتحقق هذا إن وضعت في المقبرة وأرادوا أَن يدفنوها؟}
لا، هو الأصل حقيقة هذا الاتباع أَن يكون مثل ما يصلي عليها تخرج وراءها، هذا هو الاتباع الشرعي، من حين ما خرجت من المسجد تخرج وراءها أو أمامها أو قريبًا منها إلى القبر، لكن مثل ما ذكرت أنَّه قد يقع أحيانًا فوات، وقد تصل إليها وتنتظر أحيانًا خمس دقائق أو عشر دقائق، هذا كله -إن شاء الله- مما يتغاضى عنه، ويقال: إنَّ الأجر -إن شاء الله- ثابت، هذا الضابط الأول.
الضابط الثاني: متى وقت الانصراف؟ لأنَّه قد جاء في بعض الروايات «حتى توضع» فظن بعض الناس أنَّ وضعها هو وضعها قريبًا من قبرها، والصحيح في ذلك أنَّ وضعها إنَّمَا هو وضعها في القبر ودفنها، فإذا دفن وسوي ثبت القيراط الثاني.
ليس من شرط ذلك الانتظار الذي يصنعه بعض الناس، نقول هذا سنة، وتسن في حق قرابة الميت؛ لأنَّ حديث عبد الله عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إنَّمَا جاء في قرابته، "أقيموا عندي قدر ما تنحر جزورًا ويقسم لحمها، حتى أراجع رسل ربي"، وهذا جاء في حق القرابة بوجه عام، ومن سواهم يشرع إذا فرغ أَن يترحم عليه وأن يدعو له بشيء أو بدعاء يسير ثم ينصرف، ويكون بذلك قد حقق القيراط، وقد جاء عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن ابن عمر -رضي الله عنه- كان يصلي على الجنازة ولا يتبعها، لماذا؟
لأنَّ عنده الشطر الأول من الحديث، «من شهد جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط» فحدث أنَّ أبا هريرة -رضي الله عنه- يخبر عن النبي أنه قال: «ومَن شَهِدَ حتَّى تُدْفَنَ كانَ له قِيراطانِ» ، فقال ابن عمر: قد أكثر علينا أبو هريرة، يعني: هذا لم أحفظه عن النبي ، ولم يكن الصحابة يردون على غيرهم إلَّا فيما يعارض الأصل، لكن إذا عارض شيء هو حفظه، قد يحتاج إلى من يعضده، فأرسلوا إلى عائشة -رضي الله عنها- وقد كان ابن عمر قد أخذ قبضة من تراب يقلبها في يده حتى جاءه الرسول يقول: إن عائشة تقول: قد صدق أبو هريرة، فرمى بها ابن عمر -رضي الله عنه- وقال: "قد فرطنا في قراريط كثيرة"، فما من شك أنَّ هذا من أعظم ما تلتمس به الأجور، هذا أمر.
الأمر الأخر أنَّ السؤال قد يقع على من صلى على أكثر جنازة، هل تتكرر القراريط؟
نقول: نعم -إن شاء الله- فضل الله واسع والحمد لله، نصلي على أكثر من جنازة؛ لأنَّ النبي قال: «من صلى على جنازة»، فإذا تعددت؛ تعددت القراريط، وإذا تعددت الشهود؛ تعددت القراريط، بعض الناس يصلي على عدد من ثم يخرج؛ فيشهدها جميعا حتى تدفن، يمر على القبور، فما من شك أن هذا من مظان تعدد القراريط، وقد أخبر النبي أنَّ القيراط مثل: الجبلين العظيمين، والقيراط هذا هو ذات القيراط الذي ينقص لمن اقتنى كلبًا، والذي قال فيه النبي : «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لا يُغْنِي عنْه زَرْعًا ولا ضَرْعًا، نَقَصَ مِن عَمَلِهِ كُلَّ يَومٍ قِيراطٌ» ، والقيراط ما هو؟ الجبل العظيم من الحسنات؛ لأجل هذا الكلب، وجبل عظيم من الحسنات لأجل هذه الصلاة على الميت، نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- من فضله.
دعنا نكتفي بذلك -إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ-.
{شكر الله لكم شيخنا المفضال، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفتح لكم، وأن يجزيكم عن طلب العلم خير الجزاء، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نلتقي بكم بإذن الله في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك